الفصل الخامس والثلاثون: القبض على يسوع

الفصل الخامس والثلاثون
القبض على يسوع
14: 43- 52
بعد انتقالة سريعة (14: 43 أ)، يتوسّع خبر القبض على يسوع في أربع لوحات يشرف عليها على التوالي: يوضاس (آ 43 ب- 45). الفرقة (آ 46- 47). يسوع (آ 48- 49). التلاميذ (آ 50- 52). نجد بين الداخلين في هذه الدراما اثنين يسميّان باسميهما: يوضاس، يسوع. وهناك اثنان (الفرقة، التلاميذ) يجب أن يبحث عنهما القارئ في سياق النصّ. هم "هؤلاء" (هوي دي) الذي يوقفون يسوع. و"جميع" (بنتس) الذين هربوا. وهكذا يبرز شخصان، ويبقى الآخرون بدون اسم. هذا لا يعني أن دورهم في هذا الخبر غير مهمّ. دورهم يوخه الأنظار إلى الشميم الرئيسيين: يوضاس الذي يقود الفرقة. يسوع الذي يشرف على الوضع فيختلف عن التلاميذ الذين هربوا.
في اللوحة الأولى واللوحة الرابعة، "الممثلون" هم التلاميذ: يوضاس يسلّم يسوع. والآخرون يتركونه. هذا الإطار يعطي المقطع كله وظيفة إرشادية كما في مشهد نكران بطرس ليسوع. ولكن بين هذين الطرفين، يواجه يسوع عمل الشرطة بخطبة يدافع فيها عن نفسه، وهكذا يتبرّر موقفه المنفعل في هذا الظرف لدى القرّاء.
وهكذا نكتشف منذ الآن المرمى المزدوج للخبر. الأوك: تحذير المسيحيين من خطر الاقتداء بيوضاس وسائر الرسل. الثاني: تقديم خبر الحاش لا إطار لاهوتي.
1- اللوحة الأولى: يوضاس (14: 43- 45)
تتوزع اللوحة الأولى حسب تسلسل دائري. الحاضر (آ 43)، الماضي (آ 44: كان قد أعطاهم)، الحاضر (آ 45). شخص يوضاس هو دائماً فاعل الفعل المعلوم. إنه سيد العملية "الحربية". أما الفرقة فتكتفي بأن تكون معه" (آ 43 ب). لم يعطها فقط "علامة"، بل أوامر (آ 44 ب ج). فالشرطة تنتظر إشارة منه لتلقي القبض على يسوع.
نقذم هنا ملاحظتين لغويتين. الأولى، لا نستطيع أن نعارض بين "ممثلين" نعتبرهم معروفين وممئلين "مجهولين" يمثلون ذاك الذي ضرب بالسيف (14: 47) أو الشاب الذي هرب عرياناً (آ 51- 52). في الواقع، لا تسقي آ 50 الهاربين "تلاميذ". تقول فقط: تركه الجميع وهربوا. إذن، على المستوى الأدبي، نبقى في ما هو "مجهول".
في آ 43 نجد "أوخلوس" بدون أل التعريف. هي لا تعني "الجمع" (الشعب) كما في مر عادة بل تعني "فرقة"، "زمرة". هذا المعنى معروف في الأدب اليوناني الكلاسيكي في معرض الحديث عن الجنود. نجد هذا المعنى في ما يوازي مر 14: 43 في مت، لو. رج أع 1: 5؛ 6: 7.
إنطلق بعضهم من لفظة "معه" في آ 33 (رج أيضاً 3: 14: ليكونوا معهم). فعارض بين انتماء يوضاس إلى مجموعة الاثني عشر وواقع جديد هو أنه صار دليلاً للذين قبضوا على يسوع.
قدّم لنا الإنجيلي "يوضاس" على أنه "أحد الاثني عشر". نحن هنا أمام ملاحظة دراماتيكية تحرّك عاطفة القارئ حول ما يُنتظر من مثل هذا الرجل. سبق النصّ ونئهنا إلى ذلك حين قدّم لنا لائحة الاثني عشر (3: 19: ذاك الذي أسلمه). ولكنه قرأ ذات العبارة التي وجدها هنا في الحاشية حول مسعى يوضاس لدى عظماء الكهنة (14: 10) وفي إعلان يسوع خلال العشاء الأخير. إن الذي سلم المعلّم هو "واحد يغمس يده معي في الصحفة" (14: 20). كرّر الإنجيلي وألحّ فتوخّى بذلك أن يؤثّر على القارئ: أبرز التعارض البغيض بين انتماء "الشخص" إلى حلقة أخضاء يسوع، والعمل الذي سيتمّ قريباً.
وعبرّ مرقس عن هذا العمل بفعل "باراد يدوناي" (أسلم). وحين طبّقه على حاش (آلام) يسوع (3: 19: 9: 31؛ 10: 33 مرتين؛ 14: 10، 11، 18، 21، 41، 42، 44. في 1: 4 نحن أمام "حاش" يوحنا المعمدان. وفي 13: 9، 11، 12، أمام آلام التلاميذ. في 4: 29؛ 7: 13 نحن أمام معنى آخر) توافق مع استعمال مجذّر في اللغة المسيحية القديمة. فتأثير أش 53 ظاهر هنا (أش 53: 6، 12، حسب السبعينية، نقرأ "باراديدوناي 3 مرّات" وكذلك تأثير بولس في روم 8: 32 (أسلمه عنّا جميعاً)؛ وغل 2: 20؛ 1 تم 2: 6؛ تي 2: 14.
في هذا الإستعمال للفعل عند مرقس (وتبعه متّى ولوقا)، نجد ثلاثة تيارات. الأول (9: 31؛ 10: 33؛ 14: 41). نجد صيغة المجهول (المجهول الإلهي). الله هو الذي "يسلّم" يسوع، أي يعدّه للموت حسب المخطّط الذي رسمه في الكتب المقدّسة (14: 21 أ، 49 ب). الثاني يعبرّ عن عمل يوضاس الذي "سلّم" يسوع إلى السلطات اليهودية (3: 19؛ 14: 10، 11، 18، 21، 42، 44). الثالث: السلطات اليهودية تسلّم يسوع إلى الوثنيين (10: 33؛ 15: 1، 10)، وبهم إلى الموت (15: 15). هذا التطبيق المثلّث في كتاب واحد له معناه، وهو يفهمنا أن أمر الله يتمّ من خلال عمل البشر، وهذا ما نفهمه بشكل خاصّ في وضع يوضاس الذي يخدم (رغماً عنه، مثل إخذة يوسف بن يعقوب) بدوره البغيض، قصد الله الذي يتجاوزه.
ولكن يوضاس الذي هو على المستوى البشري العلّة المباشرة هو في الواقع أداة بين يدي رؤساء اليهود. هذا ما نعرفه منذ 8: 31 وأول إنباء بالآلام. فالآلام تنسب إلى الفئات الثلاث التي تكوّن السنهدرين (المجلس الأعلى). الشيوخ، عظماء الكهنة، الكتبة. ويتجدّد الإنباء بطريقة أكثر إيجازاً ولكل بشكل مساوٍ في 10: 33 (عظماء الكهنة والكتبة). ثم نراهم هم أنفسهم يعملون. أولاً، في مسعاهم لكي يهلكوا يسوع (11: 18؛ 12: 12؛ 14: 11 ب). ثانياً، في تحقيق قصدهم (14: 43، 53؛ 15: 1).
أبقى مرقس على الارث التقليدي الذي يعطي عظماء الكهنة الدور الأكبر في محاكمة يسوع (في خبر الحاش نجدهم وحدهم أو أقله في رأسلا اللائحة، 14: 1، 10، 53؛ 15: 1، 3، 10، 11، 31). ولكنه لم ينسَ أن يجعل الفئات الثلاث تعمل معاً في مشروع القتل في ترتيب مختلف: الشيوخ، عظماء الكهنة، الكتبة (8: 31). وفي الساعة التي دين فيها يسوع وأسلم بيدهم إلى بيلاطس، يتحدّث النصّ عن "كل السنهدرين"، كل المجلس الأعلى (14: 55؛ 15: 1)، ولا يتوقّف عند مسؤولية هؤلاء أو أولئك. كلهم جاؤوا يسلّمون يسوع إلى بيلاطس. كلهم مسؤولون عن موت يسوع. فمثل الكرّامين القتلة رُوي لعظماء الكهنة والكتبة والشيوخ، رُوي للسنهدرين، وفسرّ ففهم السامعون فهماً كاملاً بُعده. وهذا ما ولد عندهم المشروع بالقبض على يسوع (11: 27؛ 12: 1- 12).
إن إرسال الفرقة المسلحة من قبل السلطات اليهودية، يعيدنا إلى محاولة طويلة الأمد تتبّعَ قارئ مرقس مراحلها. أما التلميح إلى "العلامة" التي اتُفق عليها (14: 44) فهي تعود إلى الماضي المباشر والقريب، وتفترض حواراً سابقاً بين يوضاس وأولئك الذين يقودهم إلى يسوع. غير أن هذا الحوار لم يكتفِ بالتوافق على حركة وإشارة. هناك تدرّج داخل معترضة، نعرف فيه أن يوضاس أعطى توجيهات محدّدة للفرقة وكلّمهم كما يكلّم "القائد" جنوده: "أمسكوه وخذوه في حراسة شديدة".
"العلامة". في اليونانية: "سيسامون". علامة مميّزة. علامة يتفّق عليها. لفظة لا ترد إلا هنا في كل العهد الجديد. عرفها الأدب اليوناتي الكلاسيكي كما عرفتها السبعينية (قض 20: 38، 40؛ أش 5: 26؛ 49: 22؛ 62: 10). هناك التباس في الجملة مع الضمير "اوتويس". فالضمير لا يرتبط بفعل "قال" بل "أعطى". أما مت 26: 48 أ فأزال كل التباس إذ بدّل محل الضمير. ثم إنه استعمل "سامايون" ليتحدّث عن "العلامة".
"أمسك" في اليونانية: "كراتاين". بمعنى أوقف، قبض على، سجن كما في 3: 21؛ 6: 17؛ 12: 12؛ 14: 1، 46، 51؛ مت 14: 3؛ 21: 46؛ 26: 4، 48، 55، 57؛ أع 24: 6؛ رؤ 20: 3. طلب يوضاس من أجل يسوع حراسة مشدّدة (اسفالوس) كما أراد قضاة مدينة فيلبي حراسة مشدّدة لبولس (أع 16: 23).
إن "العلامة" المتفّق عليها هي قبلة. وهذه القبلة هي ذروة هذه اللوحة الأولى (14: 45). والإسهاب المرقسي هنا يعطي نتائجه ففعلا الحركة في آ 45 (وصل، اقترب) يهيّئان فعلة يوضاس ويبرزان خطورتها. ونادى يوضاس: رابي. هكذا أراد أن يكرّم المعلّم. وقبّله "بحرارة" (كما يقول الفعل اليوناني). فالقبلة الجامدة مثل القبلة الليتورجية، والقبلة التي تعطى بطرف الشفتين لن يكون لها الطابع البغيض والضروري لكي يؤثّر على القرّاء ويحرّك فيهم قرفاً يبعدهم عن القيام بعمل مماثل.
لا حاجة إلى شرح مطوّل عن البعد الدقيق لهذه القبلة، مستلهمين العادات الجارية بين المعلّم وتلميذه. إن لقب "رابي" لا ينحصر في الملافنة والمعلّمين الكبار. فنحن نجده في مرقس على شفاه التلاميذ (9: 5؛ 11: 21؛ 14: 45)، بل عند أعمى أريحا في اختلافة هي "رابوني" (10: 51).
ولكن ما يوافق طريقة التأليف عند الإنجيليين، هو العودة إلى العهد القديم وإلى القبل الماكرة التي يذكرها: قبلة يوآب. "أمسك بيده اليمنى لحية عماسا ليقبّله". ولم يأخذ عماسا حذره من السيف في يد يوآب (2 صم 20: 9- 10؛ رج تك 27: 26- 27 وقبلة يعقوب لعيسو؛ أم 7: 13؛ 27: 6؛ سي 29: 5). وجاء تفسير لقبلة عيسو ليعقوب (تك 33: 4) كما يلي: شفاه حارّة وقلب رديء (أم 26: 23). ما أراد أن يقبّله، بل أن يعضّه. وهناك من رأى في هذه القبلة تطبيقاً لنصّ مز 41: 10 (حسب السبعينية): "حتى صديقي الذي وثقت به". ولكن نصّ المزمور هذا لا يرتبط فقط بالقبلة، بل بمجمل مسعى يوضاس (رج 14: 18؛ يو 13: 18؛ رج أيضاً مت 28: 23؛ لو 22: 21).
كل هذه التذكّرات تقود "الراوي" ليدلّ على أن يوضاس من خلال التعبير عن العاطفة والإحترام، جعل منذ الان المعلّم في طريق العذاب، وحوّل علامة الحياة إلى علامة الموت. لا نجد في مر أية قبلة يعطيها التلاميذ ليسوع. لهذا بدت فعلة يوضاس فعلة فريدة. ولهذا بدت بغيضة جداً.
2- اللوحة الثانية: الفرقة (14: 46- 47)
مع آ 46 يختفي يوضاس بشكل نهائي من إنجيل مرقس. هنا تبدأ الفرقة وحدها بالعمل وتبدو اللوحة هنا في شقّين.
الأول يصوّر توقيف (القبض على) يسوع مع عودتين إلى السياق السابق. العودة الأولى بفضل فعل "أوقف، قبض". نفهم أن الجنود هم ينفّذون الدور الذي أعطي لهم (آ 44: أمسكوه). العودة الثانية تتيح لنا أن نلاحظ أن ما قاله يسوع في 14: 41 يتحقّق الآن حرفياً. حين نقرأ "وضعوا أيديهم عليه". نفهم أن يسوع، منذ الآن، وحسب كلماته عينها، "أسلم إلى أيدي الخطأة" (14؛ 41 ج). رغم الغموض الذي يكتنف فاعل الأفعال في آ 46، فالعمل هو بلا شكّ عمل الفرقة المذكورة، في آ 43. ولكن غياب الأسماء يبرز اسماء المجموعة الخاضعة لأوامر يوضاس الذي ذُكر اسمه وحده.
والشقّ الثاني من هذه اللوحة (آ 47) يقول: إن واحداً من الذين كانوا هنا، استلّ السيف، ضرب عبد رئيس الكهنة، وقطع له أذنه. إن هذه الأفعال الئلاثة مع لفظة "اوتاريون" (تصغير اوتيون، الاذن) لا توجد إلا هنا في مرقس. وقد ترتبط بتذكّر بيبلي، مز 36: 14 (حسب السبعينية): "الشرير يستلّ سيفه ليذبح السالك سواء السبيل".
قد يكون صاحب هذا العمل أحد رجال الفرقة الذين جاؤوا ليقبضوا على يسوع. ولا يمكن أن يكون أحد تلاميذه. فالنصّ لا يتكلّم حتى الآن إلا عن رجال الفرقة. أما التلاميذ الذين تجاهلهم الراوي حتى الآن، فسوف نراهم في اللوحة الرابعة. ثم إن عبارة "واحد من الحاضرين" (باريستاناي) أو ما يشابهها لا تدلّ في خبر الآلام (14: 47، 69، 70؛ 15: 35، 39) على رفاق يسوع، بل على أشخاص آخرين تحدّدهم القرائن. ثم إن الخطبة التي يلقيها يسوع في آ 49 على الفرقة تحمل الضمير "هم" (كلّمهم) الذي يعود إلى الحاضرين هنا. وأخيراً، السيف هو سيف أحد رجال الشرطة، لأن لا شيء يدلّ على أن التلاميذ كانوا مسلّحين. هناك خلط بين انجيل وآخر، بين مر وسائر الأناجيل (مت 26: 52- 54: كانوا مع يسوع؛ لو 22: 51؛ يو 18: 11). نحن هنا بلا شكّ أمام تقليدين، فلا حاجة إلى التوسّع في موضوع عدم الفهم عند التلاميذ في هذه المناسبة، والمقاومة التي لا طائل منها.
إن الذي ضرب بالسيف هو غير ذاك الذي أمسك يسوع. ففي آ 47 قد تبدّل فاعل الفعل. ولكن يبقى أن نعرف وظيفة هذا الحدث في الخبر. نلاحظ أولاً أن الضارب والضحيّة هما من "حزب" واحد، من أعداء يسوع. أرسل مع رفاقه إلى الجسمانية بأمر من "عظماء الكهنة والكتبة والشيوخ" (آ 43)، وهو مجلس يرأسه عظيم الكهنة كما سنعرف فيما بعد (14: 53، 60- 63). أرسل "الضارب" فجرح "خادم رئيس الكهنة". هو لم يرد أن يفعل ما فعل. وعمله ليس بالعمل المجيد. ثم إن الضحيّة ليست تلك التي أراد أن يؤذيها الضارب. ثم، حسب شهادات قديمة، عار على الإنسان أن تقطع أذنه. وفي العالمي اليهودي، لا يستطيع من قطعت أذنه أن يمارس الوظائف المقدّسة. ولقد بدأ العقاب في أولئك الذي يريدون أن يقبضوا على يسوع (ظاهرة إنتقام).
3- اللوحة الثالثة: يسوع (4: 48- 49)
وتتواصل روح "السخرية" مع ظاهرة الإنتقام في الخطبة التي وجّهها يسوع إلى الذين جاؤوا يقبضون عليه.
لم يذكر اسم يسوع منذ 14: 30. وها هو يسمّى الآن. إنه يفرض نفسه بإجلال ومهابة ليتلو كلمة الدفاع الوحيدة التي ينسبها إليه الخبر المرقسي عن الآلام. فالفرقة، وعبرها أولئك الذين أرسلوها، سمعوا كلاماً يقول: لا فائدة من استعمال كل هذه الوسائل (سيوف، عصي. فى آ 48، نعود إلى ذات الأسلحة التي ذكرت في بداية الحدث) للقبض على إنسان، وكأنه لصّ (ليستس: له معنى عام. السارق في الشارع، الذي يقتحم البيت، القاتل، العضو في زمرة). كان يمكنهم أن يمسكوا يسوع وهو يعفم في الهيكل (هذا ما قاله مرقس فيما قبل: 12: 35). هنا نجد "فجوة" فيها بعض اللوم، نستطيع أن نفهمها.
فمن قرأ الإنجيل ظهر له بوضوح أن الذي منع السلطات من القبض على يسوع هو الخوف من مواجهة عداوة الشعب الذي كان راضياً عنه. إذن، كان الرؤساء جبناء متخاذلين.
نية هجوميّة. نية دفاعية (ابولوجيا). نجدها في نهاية هذه الخطبة القصيرة حيث يستعمل يسوع البرهان الكتابي الذي سبق واستعمد" على دفعتين في مر لكي يبرّر الآلام (9: 12: مكتوب أنه يتألّم كثيراً؛ 14: 21). وفي النهاية، لقد أراد الله نفسه هذه الدراما. والتعبير عن إرادته نجده في الكتب. ويسوع قد سبق له ووافق كل الموافقة (14: 36). أي نصّ يعود إليه مرقس هنا؟ ليس من نصّ محدّد، بل عودة إجمالية تدلّ على اللاهوت الذي يقدّمه مرقس عن إرادة الله الخلاصية التي تتجلىّ من خلال أعمال البشر وما فيها من سوء.
4- اللوحة الرابعة: التلاميذ (14: 50- 52)
وينتهي الحدث في هرب يتئم على "مرحلتين" يعبز عنها في كل مرّة فعل "فيغاين" (آ 50، 52: تركه الجميع وهربوا... هرب عرياناً). الهرب الأول يشير إلى التلاميذ. لم يُذكروا بوضوح العبارة، ولكن لا ش في ذلك. فليس الهاربون هم الشرطة الذين جاؤوا يقبضون على يسوع فلم يجدوا أية مقاومة. إذن، الهاربون هم التلاميذ الذي يحدّثنا السياق عن وجودهم هنا في 14: 32، 37. ثم من قرأ 14: 27 حيث يستعمل يسوع زك 13: 7 فيعلن بشكل احتفالي تشتت أخصائه (أضرب الراعي فتتبدد الخراف)، يفهم من هم الهاربون "الشجعان".
ندرك هنا، بدون تحديد آخر، موضوعاً كتابباً صار اعلاناً مسيحانياً، هو موضوع التخليّ الذي يكون البار ضحيّته (مز 31: 12؛ 38؛ 12؛ 88: 9، 19). لا يريد مرقس أن يوفّر أولئك الذين ألّفوا "جوقة" مع بطرس وأعلنوا "كلهم" أمانة لا عودة عنها، ولو كلفتهم هذه الأمانة الموت مع يسوع (14: 31). أما الآن "فكلّهم" تركوه وهربوا. هم الذين لا الماضي تركوا "كل شيء" ليتبعوه. والآن تركوا أمانتهم وكلمة قالوها، بل تركوا ثيابهم من أجل الهرب (10: 28؛ رج 2 تم 4: 16).
لقد تخلّوا عنه، حسب ما أعلن يسوع مسبقاً (14: 37). "فكلهم" تشكّكوا. إذن، فقدوا الإيمان به (رج 4: 7؛ 6: 3. فالشكوك لا يعني فقط الإنزعاج بل السقوط والجمود). كان الخوف الطريق إلى اللا إيمان والكفر. نحن هنا أمام درس للقرّاء المسيحيين الذين يعتدّون بنفوسهم. هنا نقول إن لا علاقة بين هذا "الهرب" والموعد الذي ضربه يسوع لتلاميذه (16: 7؛ رج 14: 28). إن مرقس لا يدافع عن هربهم.
وتأتي في نهاية المقطوعة حاشية هي "حدث" الشاب الذي كان يتبع يسوع. أمسك، فهرب تاركاً الرداء (أو الغطاء، سندون في اليونانية. لسنا هنا أمام قميص. رج مت 27: 59: "شرشف نقي" الذي كان يغطّيه. هنا تنوّعت الشروح.
* إنه الإنجيلي نفسه يوقعّ إنجيله. ولكن إلامَ يستند قائل هذا القولي؟
* أورد مرقس هذا التقليد ليكون له شاهداً لأحداث يكفل صحّتها. وذلك كما سيعطي دوراً مماثلاً لسمعان القيريني، والد الاسكندر وروفس (15: 21). وللنسوة اللواتي شاهدن قبر يسوع ودفنه (15: 41، 47). ولكن ما ينتظر من هؤلاء الأشخاص المذكورين والمعروفين في الجماعة الأولى، لا يتحقّق في الوضع الحاضر حيث الشاب لا اسم الله، فيضيع في ظلمة الليل. ثم كان باستطاعة التلاميذ ان يقوموا بهذه الشهادة بما فيه الكفاية.
* عاد بعضهم إلى الكتب المقدسة (عا 2: 16) التي تحقّقت. قال النصّ العبري: "الجبار القويّ القلب بين الجبارة، يهرب عرياناً في ذلك اليوم". ولكننا نقرأ في نصّ السبعينية: "يجد قلباً بين القوات، العريان يُلاحق في ذلك اليوم". ولكن عاموس لا يتكلّم عن شاب ولا يتحدّث النصّ اليوناني عن هرب. ثم إن نصّ عاموس لا يلعب دوراً في البرهنة المسيحانية عند المسيحيين ولا في التذكرات الجليانية (لا أثر له في مر 13: 14- 16 وز). وهكذا يرى الشّراح في هذا النصق رمزاً إلى "ضيق" "الأزمنة الأخيرة".
* نظرة كرستولوجيّة وفصحيّة. يرتبط الشاب بيسوع ارتباطاً وثيقاً (تبع يسوع: "أوقف"، مثل يسوع). وكما أن يسوع سوف يلفّ ب "سندون" (15: 46)، كان الشاب مغطى "برداء" (سندونا). ثم إن النسوة رأين أيضاً على القبر "شاباً" (نيانسكوس) في صباح القيامة. وكان "مرتدياً (ذات اسم الفعل في 14: 51) ثوباً أبيض" (16: 5). وأخيراً هرب الشاب من جتسيماني كما هربت النسوة من عند القبر (الفاعل ذاته في 14: 52؛ 16: 8). ما هي العلاقة بين كل هذه التقاربات؟ ولماذا الحديث عن الهرب؟
* ماذا نقول في النهاية؟ ما زلنا أمام سرّ. لا شكّ في أن لهذا الخبر معناه في مر. وكذلك نقول عن التفاصيل، لا سيّما وأن الشاب كان "يتبع" يسوع "مع" سائر التلاميذ (رج استعمال "تبع" في 5: 37، ولكن المعنى الأهم: 1: 18؛ 2: 14؛ 6: 1؛ 8: 34؛ 10: 21، 28؛ 15: 41) ونلاحظ أن الشاب، شأنه شأن يسوع (آ 46)، قد "أوقف (فعل كراتين في كلا الحالين). وهو بذلك يشارك يسوع في مصيره. ولكن هنا تتوقّف المقابلة مع يسوع. فالشاب يلتقي مع التلاميذ الذين هربوا. لم "يُفزعهم" أحد. الخوف وحده جعلهم يهربون. أما الشاب فأمسك، غير أن هربه (وُصف بشكل سلبيِ مثل هرب التلاميذ) يشبه موقف المسيحيين الذين رفضوا بجبانة أن "يسلّموا" (13: 11- 12) على خطى معلّمهم.
ونزيد ملاحظة أخيرة: إن عري الشاب (ذكر مرتين) لا يقابل "عري" يسوع. لاقد شدّد مرقس في خبر الآلام على ثياب يسوع (15: 17- 20، 24)، ولكنه لا يقول إن يسوع صُلب عرياناً.
وهكذا يبدو هذا الخبر القصير لمن يريد أن يقرأه على ضوء مر، يبدو إشارة تكمّل الدرس المشرف على خبر القبض على يسوع. وجّه الخبر إلى المسيحيين المجرّبين الذين في ضعفهم (14: 38) سقطوا في الجحود. فقيامة يسوع سوف تجدهم عند القبر يحملون الشهادة إلى الآخرين.
خاتمة
وتواجه "الخصمان"، ابن النور وابن الظلمة. تواجه يسوع ويوضاس. دلّت الفرقة المرافقة ليسوع على "شجاعتها" فقبضت على يسوع. أما التلاميذ الذين رافقوا يسوع، فدفعهم الخوف والجبانة إلى الهرب. ذاك مو وضع كنيسة مرقس التي لقيت الاضطهاد بشكل خاصّ لا أيام نيرون الامبراطور. تغلّب عليها الخوف، وبعض أفرادها جحدوا إيمانهم. ولكن، كما قام يسوع وجمع "في الجليل" تلاميذه، ها هو يعود إلى كل جماعة له في العالم، فيجمع أبناءه كلهم: أولئك الذين صمدوا، وأولئك الذين لسقطوا. إنه عالم بصعفنا، وهو لا يزال يستقبلنا في كنيسته، بل يرسلنا إلى العالم أجمع

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM