الفصل السادس والثلاثون: يسوع أمام المجلس

الفصل السادس والثلاثون
يسوع أمام المجلس
14: 53- 65
إن المشهد الذي فيه يُدان يسوع ويُحكم عليه أمام السنهدرين، أو مجلس اليهود الأعلى، هو ذروة هامة في خبر الحاش لدى مرقس. وارتباطه بالحدث السابق لا يطرح مشكلة، لاننا نتجاوز فقط ست آيات (14: 47- 52) لكي نجد اتصالاً طبيعياً. ففي آ 53 يرتبط فعل "إقتادوا، ذهبوا ب" مع فعلين في آ 46: "ألقوا أيديهم، أمسكوه". لا يجب أن "يقاد" يسوع حالماً "يوقف". أولاً: لأن ما حدث لخادم عظيم الكهنة يُعلم القارئ أن "وضع اليد" على يسوع يكلّف غالياً. ثانياً: لا يقاد يسوع أمام القضاة دون أن يقول ما يجب ان يقوله: جواب ثابت واحتفالي وضعَ الأمورَ في نصابها. وهكذا نكتشف عند مرقس سيادة يسوع على نفسه، وهذه السيادة تدلّ على كيانه العميق في هذا الظرف. إنه لا يتصّرف بشكل منفعل". المبادرة هي في يده. إنه الفاعل الأول.
إن هذا الحدث يشكّل مع حدث "جحود بطرس" (14: 66- 72) كتلة واضحة. بسبب وحدة المكان (في بيت عظيم الكهنة). ولأن المقدمة في 14: 53 (وذهبوا بيسوع إلى رئيس الكهنة) تجد ما يقابلها في 15: 1 حيث يدخلنا النصّ إلى إطار مكاني، ويجعلنا نعبر مرحلة جديدة.
يحيط بالخبر الذي نقرأ الآن مقدمة (آ 53) وخاتمة (آ 65). تشير المقدمة إلى انتقال يسوع من جتسيماني إلى بيت رئيس الكهنة، حيث تلتئم المجموعات الثلاث التي تكوّن السنهدرين. وترسم الخاتمة مشهد المعاملات السيئة التي أصابت يسوع بعد الحكم عليه. وجاءت آ 54 بشكل معترضة تعلن نكران بطرس ليسوع وتهيئ القارئ لهذا الأمر المؤلم. أما آ 55- 64 فتصوّر مشهد المحاكمة أمام المجلس فتشكّل كتلة يشرف عليها موضوع "موت" يسوع: "قضى الجميع عليه بأنه يستوجب الموت" (آ 64). هذا في النهاية. ولا المدخل: "طلبوا شهادة؟ على يسوع ليقتلوه" (آ 55).
1- المقدمة (14: 53)
يبدأ الحدث بتحديد المكان الذي نرى فيه يسوع. سمّي هنا منعاً لكل التباس. اقتيد يسوع "لدى رئيس الكهنة"، أي إلى دار رئيس الكهنة، كما تدلّ على ذلك آ 54 (دار رئيس الكهنة). لا اسم لرئيس الكهنة عند مرقس. أما يوحنا فيذكر حنان وقيافا. ما همّ القراء اليونان والرومان إن عرفوا اسم قيافا أم لا؟
في دار رئيس الكهنة التأم "كل رؤساء الكهنة والشيوخ والكتبة". أي المجموعات الثلاث التي تؤلّف السنهدرين. نجد لفظة "كل". حضور كامل. إذن، كلهم مسؤولون ولا يمكن التهرّب. كلهم حاكموا يسوع وحكموا عليه كما سنقرأ في نهاية المشهد، في آ 64: "قضى الجميع عليه". وفي 15: 1، سيذكر "كل" المجلس في اجتماع الصباح. اما الان، وحسب ترتيب النصّ، فقد تتم الإجتماع على أثر توقيف يسوع. جاؤوا به إلى هنا. الأمر مهتم جداً. لهذا جاؤوا كلهم... ولكن الجلسة الرسمية لا تكون في الليل، بل في الصباح.
2- نحو انكار بطرس (14: 54)
وأقحم مر آية تستبق بداية الحدث المقبل. غير إن هذه الطريقة توافق النهج الأدبي عند مرقس. رج 3: 20- 21 (آ 22- 23) 31- 35؛ 5: 21-24 (آ 25- 34) 35- 43؛ 11- 14:12 (آ 15- 19) 20- 25؛ 14: 1- 2 (آ 3- 9) 10- 11؛ 14: 53 (54) 55- 56 (66- 72). ما توخّاه مر هو أن يدلّ على التزامن بين مشهد السنهدرين ومشهد انكار بطرس. وهكذا بدا تعارض دراماتيكي: ساعة كان يسوع يعلن عن شخصه أمام قضاته، كان تلميذه الأول (1: 16) ينكره انكار الجبناء.
فبطرس لم ينقطع عن يسوع. مع أنه لم يشذّ عما فعله الآخرون، فهرب في جتسيماني، ها هو الان يعود و"يتبع" يسوع كما في الماضي (1: 8). نحن هنا أمام ضرورة تهيّئنا لكي نرى السقوط الذي سيرُوى فيما بعد. غير أن بطرس يتبع يسوع "من بعيد" (ابو مكروتن). تفصيل فيه بعض المداعبة، وهو يشدد على فطنة التلميذ (من أجل الهرب إذا اقتضى الأمر) كما ينبئ مسبقاً بأمانته المقبلة! هذا الواقع هو صدى لما في مز 38: 12: "أصدقائي ورفاقي وقفوا بعيداً مني". تصّرف بطرس بهذا الشكل فأتمّ الكتب دون أن يدري.
وبالرغم من ذلك، ها هو يرافق يسوع "حتى داخل دار رئيس الكهنة". إن لفظة "أولي" تعني الدار، القصر، البيت. وتعني الرواق وداخل البيت. عادة يستعمل مر المعنى الأول. في 15: 16، يتكلم النصّ عن "قصر" الحاكم (رج يو 18: 15: الرواق الداخلي)، عن "قصر الوالي". والمقطعان اللذان يوردان "أولي" (14: 54، 66) يرتبطان إرتباطاً وثيقاً بحيث لا نتصوّر أنه بالإمكان أن ننتقل من معنى إلى آخر (هناك من يقدّم الرأي المعاكس). لهذا، فحين نفهم هذه اللفظة كما في 15: 16، نصل إلى طوبوغرافيا معروفة للأحداث. تبع بطرس يسوع إلى داخل القصر. هنا، في "الطابق" السفلي (كاتو، 14: 66) توجد فسحة (تخيّل مرقس سلّماً يصل إلى قاعة المحكمة في قصر رئيس الكهنة) يصل إليها الإنسان عبر رواق (بروأوليون، 14: 68). هذا ما يسقى الدار الداخلية التي لا سقف لها، وفيها نستطيع أن نشعل النار.
نلاحظ هنا على المستوى اللغوي أربعة أشياء. الأول: هناك من رأى في نكران بطرس ليسوع "أداة" طرد بها وحي يسوع عن نفسه. لا نشدّد كثيراً على التوازي. أنكر بطرس يسوع ثلاث مرات. ولكن يسوع شهد لنفسه أمام المجلس مرة واحدة. غير أن المرحلتين السابقتين تتكوّنان من شهادتين. الثاني: لا نستطيع إن نربط 1: 18 (تركا الشباك وتبعاه) مع احتجاج بطرس في 14: 29 (حتى ولو شكّ فيك جميعهم، فأنا لا أشكّ). فيسوع سيبيِّن حالاً أن ما يقوله بطرس لن يثبت. الثالث: نجد في آ 54: تبع "اناكوليتاين". بمعنى التصق بيسوع كالتلميذ بمعلّمه. رج 1: 8؛ 2: 14؛ 6: 1؛ 8: 34 (مرتين)؛ 10: 21، 28، 32، 52؛ 14: 54؛ 15: 41. الرابع: نجد صدى لهذا المقطع من مز 38: 12، خلال الحديث عن النسوة الجليليات في 15: 40: "ينظرن من بعيد".
لوحة بسيطة. وهي تتميّز عن الدراما التي تحدث قريباً من هنا. جلس بطرس مع خدم رئيس الكهنة، لا مع الشرطة التي أوقفت يسوع، وانتظر نهاية المحاكمة. لا هذا الإطار نجد الخادمة التي ستطرح السؤال على بطرس. فالنار المشتعلة جعلتها تتعرّف إلى وجه بطرس.
3- المحاكمة (14: 55- 64)
إن موضوع الموت يحيط بالحدث الذي نصل إليه الآن. وهو يتوسّع حسب ثنائية متقابلة: طلب وجد. طلب القضاة شهادة "ليميتوا" يسوع، وبعد أن فشلوا (لم يجدوا) وصلوا إلى النتيجة التي أرادوها فأعلنوا أن يسوع "مستوجب الموت". هذه هي دينامية هذه القطعة المقسومة ثلاثة أقسام. الأول (آ 55- 59) يصوّر طلب شهادة تتهم يسوع. ولكن عبثاً. في الثاني (آ 60- 62) حصل رئيس الكهنة على ما يوازي هذه الشهادة من فم يسوع نفسه، وذلك بعد أن سأله. في القسم الثالث (آ 63- 64) تباحث المجلس وحكمَ بالموت على يسوع. ذاك كان هدف الإجتماع منذ البداية.
أ- طلب شهادة ضدّ يسوع (آ 55- 59)
أعلنت آ 55 بشكل إجمالي العمل الذي ستفصّله آ 56- 59. يذكر النصّ "عظماء الكهنة وكل المحفل" (أو: كلّ المجلس). لماذا ذُكر فقط "رؤساء الكهنة" من بين المجموعات الثلاث التي تكوّن المجلس الأعلى (ق 14: 43- 53؛ 15: 1)؟ ربما أراد مرقس الإيجاز. ولكننا نجد أن هذه الفئة تُذكر دوماً في الدرجة الأولى، ومرات وحدها (14: 10؛ 15: 3، 10، 11) حين يتدخّل أعضاء المجلس في أخبار الحاش (14: 1، 10، 43، 53؛ 5 1: 1، 3، 10، 11، 31). إذن، من الواضح أن مر يعتبر رؤساء الكهنة المسؤولين الرئيسيين في ملاحقة يسوع هذه.
غير أنه لا يستبعد "كل السنهدرين"، وبالتالي فهو يشدّد على الطابع الرسمي لجلسة المحاكمة، كما لخاتمتها بالحكم على يسوع. ونعرف أيضاً أن هذه المحاكمة هي هزء بالقضاء: لم يكن هدفها إعلان حكم عادل، بل "قتل" يسوع. هذا ما كانت تطلبه السلطات اليهودية منذ بعض الوقت (14: 55؛ رج 11: 18؛ 12: 12، وكذلك 4: 11 ب)، وقد سنحت لهم الظروف الان لكي يحقّقوه. ولكنهم "أتمّوا" هكذا من دون أن يعلموا نبوءات يسوع، ونبوءات الكتب المقدّسة (8: 31؛ 9: 31 مرتين؛ 10: 34؛ رج 12: 5، 7، 8. مع فعل "أبوكتايناين").
إن سمات البار المتألمّ الذي يهدّده أعداؤه بالموت (مز 38: 13؛ 54: 5؛ 63: 10؛ 70: 3؛ 86: 14؛ 109: 16) تطبّق على المسيح، ويسوع يجعلها تعيش من جديد في شخصه. وهذا ما نشهده في مشهدي شهود الزور. فالمزامير تورد تشكيات أولئك الذين يقاسون المصير عينه. مثلاً، مز 26: 12: "شهود زور (غير عادلين) وقفوا في وجهي، والظلم كذب لأجل منفعته" (حسب السبعينية). "وقف شهود الزور وسألوني عمّا لا يعرفون" (مز 34: 11 حسب السبعينية). هناك تقارب على مستوى الألفاظ بين المزامير والنصّ الإنجيلي (ق كذب "ابسوساتو" في مز 26: 12 حسب السبعينية؟ شهود الزور في مر 14: 56- 57؛ "وقف" في مز 34: 11 ومر 14: 57)، وهذا ما يدلّ على الروح الذي كتب فيه هذا المقطع.
ولكن بأي منطق تنظّم؟ نقول أولاً إننا أمام موجتين متلاحقتين من الشهادات. لهذا يجب أن نستبعد قراءة ترى في آ 56 محاولة إجمالية سنرى عيّنة منها في آ 57- 59. هذا ما نبرهن عنه حين نلاحظ أن عبارة آ 59 (ولكن حتى هكذا لم تتّفق شهادتهم) تفترض شهادات أخرى وهي التي سبق النصّ وأوردها. فالمجموعة تنطلق من العام إلى الخاصّ (كثيرون... ثم بعض) وتخلق تدرجاً معكوساً: فبعد الشهادات الكاذبة التي نجهل أصلها تأتي شهادة "ضخمة" هي الكلمة على الهيكل. والكل كل شيء يصبح حالاً كلا شيء بسبب تضارب الشهود. حسب ردّة واحدة: "لم تتفق شهادتهم" (آ 56، 59).
نحن نفهم هذا التعارض وعدم الإتفاق بسهولة في الحالة الأولى حيث نفترض أن الشهادات الكثيرة تضمنت أموراً مختلفة. أمّا في الحالة الثانية، فالأمر أقل وضوحاً لأنه لم يرد إلا كلمة واحدة ليسوع. لا نستطيع أن نملأ الفجوة فنفترض أن عدم التوافق يعود إلى أشخاص آخرين غير الذين شهدوا: بل من الواضح أن الألفاظ الثلاث في آ 57- 59 (البعض، هم، هم) تدلت على الأشخاص عينهم. وبعبارة أخرى، إن الذين أوردوا الكلمة عن الهيكل هم نفسهم الذين لم تتفق شهادتهم.
ولا نستطيع أن نحدّد الإختلاف بين شقّي الكلمة على الهيكل، فيكون لنا مع واو العطف (كاي) إعلانين مختلفين: واحد عن دمار الهيكل، وآخر عن بنائه أو إعادة بنائه: إن توازياً وثيقاً يضمّ هذين العنصرين بشكل لا ينفصل. هل فكّر مر في عدة نسخات لهذه الكلمة؟ هو لا يقول لنا. ولكن ما هو أكيد هو أنه لا يريد أن يُحكم على يسوع بسبب هذه الكلمة وهذه الشهادة، بل فقط بسبب جوابه على عظيم الكهنة. وإذ أراد الوصول إلى أهدافه، إستعمل مرة ثانية موضوع تعارض الشهود الذي ذُكر في آ 56.
ومع ذلك، إن اعتبرنا مقاطع أخرى في مر، يُطرح سؤال: حسب النصّ، قرار الشهود هو شهادة زور. فبأي معنى؟ هل هو كذب بالنسبة إلى المضمون أم بسبب التفسير الذي أعطاه الشهود؟ ويعود السؤال فيما بعد (15: 9: يا ناقض الهيكل وبانيه في ثلاثة أيام) في الحديث عن أقوال الهزء على الجلجلة: هناك يستعيد "المارون" (العابرون) بشكل موجز الانباء الذي نُسب إلى يسوع خلاله المحاكمة. يصبح هذا السؤال شرعياً حين نفهم أن تمزّق حجاب الهيكل (15: 38) هو نتيجة مباشرة وفجائية لموت يسوع، وأن هذه المعجزة تفسرّ كرمز إلى الدمار. في هذه الحالة نظنّ أن إعلان الشهود أمام المجلس قد يتضمّن بعض الحقيقة.
من الواضح أن شهادته "جعلت" يسوع يقول إنه يريد دمار هيكل هيرودس، هيكل الحجر. لن ندهش في هذه الظروف أن نقرأ أن هذا التقرير هو شهادة زور، لأن الضلال واضح (رج 11: 17؛ 13: 2). ولقد عرف الناس في زمن مرقس، أن يسوع مات منذ عقود من السنين ولم يدمّر الهيكل. ولكن للكلمة معنى آخر غير التدمير المادي. ونستطيع هنا أن نرى عيّنة من الوسائل الدقيقة التي استعملها مرقس. يبدو أنه استعمل في هذا المقطع المداعبة القريبة من السخرية. فاعداؤه يقولون، دون أن يدروا، كلمات من أجل يسوع، ولكنه يستحقّ هذا اللقب لأنه المسيح. هناك تقاسم الجلاّدون ثيابه واقترعوا عليها (15: 24) فقد أتموا الكتب المقدسة التي أنبأت نجذا العمل. وحين تلقّى عن شفاه عظماء الكهنة والكتبة، على الجلجلة، كلام التحدي (15: 32: لينزل الآن المسيح، ملك إسرائيل، من على الصليب)، نكتشف لقباً دلّ به المسيحيون على مخلّصهم. ثم إن حركات الهزء وهزّ الرؤوس لدى المارين (15: 29) تحقّق ما أنبأت به الكتب المقدسة.
وبشكل إجالي، إن قاتلي يسوع، شأنهم شأن "رؤساء هذه العالم" (1 كور 2: 8)، هم فاعلون لا يدرون لخلاص يحمله يسوع. وهكذا فعلوا حسناً دون أن يدروا، أولئك الشهود الكذبة الذين دعاهم أعضاء المجلس. ففي نظر مرقس وحسب الإيمان المسيحي، قد ألغى يسوع بموته شعائر العبادة الذبائيحة لدى اليهود، وجعل من الهيكل بناء عفّى عليه الزمن. ونستطيع أن نكمّل التلميح ونضمّن الكلمة حول إعادة البناء "في ثلاث أيام"، صورة عن قيامة يسوع. بل نحن بالأحرى أمام "أطول" فترة من الزمان يحتاجها يسوع. هنا نذكر أن العبارة التي نقرأها هنا في آ 58 (ديا تريون هامارون) والتي نسمعها على شفاه المارين على الجلجلة (إن تريسين هامارايس) ليستا ما نقرأ في مر وسائر أسفار العهد الجديد للدلالة على المسافة التي تفصل موت يسوع عن قيامته. نجد: "بعد ثلاثة أيام" (8: 31؛ 9: 31؛ 10: 34: ماتا ترايس هاماراس) أو "اليوم الثالث" (مت 16: 21؛ 17: 23؛ 20: 19؛ لو 9: 22؛ 24: 7، 46؛ أع 10: 40؛ رصد لو 24: 21: تاي تريتاي هاماراي. أو تاي هاماراي تاي تريتاي في لو 18: 33؛ 1 كور 15: 4).
لا شكّ في أن مر يعتبر ذبيحة يسوع مقبولة لدى الله، وأنه يرى في القيامة كفالة لهذا القبول. ولكننا نخطئ إن فسرّنا هذا الإنباء مستلهمين يو 2: 19 حيث فعل "اغايراين" (يحمل معنيين مثل العربية أقام، رفع البناء. أقام الإنسان من الموت) يتضمّن تلميحاً لا نستطيع أن نستخلصه من مر. أما هنا فنجد فقط يقيناً بأن يسوع أحل عبادة (جديدة) محلّ عبادة (قديمة)، مع النتائج الجماعية التي تفترضها في تاريخ الخلاص.
ويُزاد على ذلك حاشية هجوميّة. فالهيكل الذي سيدمّر هو بناء قد صنعته "أيد بشريّة". ويعارضه هيكل "لم تصنعه أيد بشرية" (اخايروبوايتوس). الصفة الأولى تعود إلى السبعينية وتتضمّن رنة سلبية. هي تعني الأصنام (لا 26: 1، 30؛ أش 2: 18؛ 10: 11...) التي هي صنع البشر (نتذكر هنا كلام اسطفانس في أع 7: 49- 50). لا نستطيع أن ننسب إلى مرقس شجباً لهيكل أورشليم وكأنه موضع عبادة الأصنام (حز 8: 5- 16): فموقف يسوع وأقواله في 11: 15- 17 تعارض هذا الموقف. ولكننا لا نستطيع أن ننكر إمالة من الإحتقار تدخلها هذ اللفظة في كلمة يسوع كما أوردها الشهود أمام المجلس، تعارضاً مع العبادة الجديدة التي خرجت من ذبيحة المسيح.
ويتولّد سؤال أخير من مقابلة بين ما قاله الشهود في المحكمة وتردّد عند صليب يسوع من جهة، وبين نبوءة يسوخ حول دمار الهيكل في مقدّمة الخطبة على نهاية العالم من جهة ثانية (13: 2). للوهلة الأولى تبدو هاتان المعطيتان متعارضتين: فحسب 14: 58 و15: 29 "اعتبر" يسوع أنه يهدم الهيكل ويبني آخر من جديد. في 13: 2، يعبرَّ عن اعلان دمار الهيكل بأفعالى في صيغة المجهول: لا يقول يسوع إنه معنيّ بهذا الدمار، ولا يتحدّث عن إعادة بناء. فالدمار هو فعل الرومان وهذا ما يعرفه قرّاء مر. وهكذا نكون أمام اشارة تفصل المعطيتين: إن بقيت حقيقة أساسية في الكلمات التي قيلت في المجلس وعلى الجلجلة. وإن كان مرقس واعياً أن يسوع وضع بموته حداً للهيكل وعبادته، فهذه النهاية ليست تلك التي ينبئ بها يسوع حين يعلن: "لن يبقى حجر، بل يدمّر كله" (13: 2). ففي الحالة الأولى لسنا أمام دمار مادي. وفي الثانية، يبدو المدلول واضحاً ولا شلث فيه.
ونتابع البرهان. في 13: 2 أعلن يسوع دمار "هيارون" أي المجموعة التي تكوّن الأبنية المقدّسة والأروقة. أفا في خبر الحاش (14: 58؛ 15: 29، 38) فالدمار هو دمار "ناوس" أي المعبد بحصر المعنى، وهو يشمل القدس (المكان المقدس) وقدس الأقداس (أي: أقدس مكان في الهيكل، يدخله رئيس الكهنة مرة في السنة). إن معنى هاتين اللفظتين في مر واضح جداَ: "هيارون" هو مفتوح للجميع. وهو الإطار لأعمال عديدة. أمّا "ناوس" المذكور وحده في خبر الحاش، فلا يدخله أحد، ولا يستطيع أن يعمل فيه عملاً.
مقابلة على مستوى اللفظتين. هناك مقابلة أيضاً على مستوى السياقين. فالدمار المعلن في 13: 2 هو جزء من أحداث نهاية العالم. ولا يمكن أن نشكّ أن (في نظرة مر) الزمن الذي في يخسر الهيكل علّة وجوده يتقبل مدلولاً اسكاتولوجياً. فليس هذا هو السياق الخاص بالعمل الفدائي الذي فيه يدخلنا خبر الحاش (الآلام) حين يشير (أو يرمز) إلى دمار "ناوس".
أخيراً، إن النبوءة الواردة في 14: 58، و15: 29 قد قيلت (كما يظن) في العلن. فالشهود أكدوا: "سمعناه يقول". ونفترض أن الأمر كان كذلك بالنسبة إلى المارين على الجلجلة. مقابل ذلك، فالإنباء في 13: 2 هو كلمة باطنية، شأنه شأن الخطبة التي تلي (13: 4 ب). بمعنى أنه يتوجّه إلى التلاميذ وحدهم. وهذا ما يدفعنا إلى الإعتقاد بأن المعطيتين في (رأي الإنجيلي) تتطلّعان (رغم تشابههما) إلى واقعين، وتقدمان تعليمين مختلفين يكون فيهما الهيكل على مستويين اثنين.
ب- علّة للحكم على يسوع (آ 60- 62)
إعتبر عظيم الكهنة أنه وجد علّة للحكم على يسوع. وهكذا يتوسّع القسم الثاني من المشهد في سؤالين يتبعهما جوابان: السؤال الأول يجابه بالصمت، فيتبعه السؤال الثاني الذي يتميّز عن الأول بخطورته وشكله الإحتفالي. ويبدو النصّ الإجمالي بشكل متعارض، فيبرز العلة الحقيقية للحكم على يسوع بالموت.
ويبرز وجه عظيم الكهنة المهيب وسط المحفل، فيضع يده على القضيّة. أمّا مرقس الذي لم يعتد أن يحدّد هوية الأشخاص الذين يحدثنا عنهم، فكرّر ثلاث مرّات (آ 60، 61، 63) أنه يتحدّث عن "عظيم الكهنة".
ويتألف السؤال من جملتين. الأولى هي دعوة مباشرة إلى الجواب يعبرّ عنه بشكل إستفهام (أما تجيب. أي: أليس لك شيء تجيب به؟). والثانية تعني لا ما قاله الشهود (في هذه الحالة، لا معنى للسؤال لأن عظيم الكهنة قال ما قاله الشهود) بل بُعد هذه الأقوال: "ماذا يعني هذا الذي يشهد هؤلاء الناس به عليك"؟
لا شكّ في أننا أمام سؤالين بسبب البناء الغراماطيقي في اللغة اليونانية. ثم نجد توازياً لا لبس فيه في استجواب بيلاطس في 15: 4. وأخيراً، أن مر بشكل عام يهتم بالأسئلة المزدوجة (1: 24- 27؛ 4: 21، 40؛ 9: 19؛ 12: 14).
توخى السؤال في هذا الخبر أن يدفع يسوع إلى جواب يسكت بعده. وهكذا يبرز الموضوع الكتابي حول صمت البار المضطهد (مز 38: 14- 15؛ 39: 10؛ أش 53: 7؛ إر 11: 18. لقد إرتبط الموضوع بالمسيح). غير أن هذا الصمت يبرز الإعلان الكبير الذي يليه. هذا الإعلان يردّ على سؤال جديد (بالين، يرد 28 مرّة عند مر) (سأله أيضاً). موضوعه محدّد ولا مواربة فيه: "هل أنت المسيح، ابن المبارك" (أي: ابن يهوه؟ رج آ 62: القدرة. قد نكون أمام عبارة: تبارك اسمه)؟ هذا هو السؤال النهائي الذي يتبعه جواب يسوع والحكم بالموت.
يتطلّع هذا السؤال إلى هوية يسوع كمسيح (هناك اختلافة: المسيح. رج لو 22: 70) وابن الله. هذان اللقبان يعرفهما القارئ منذ البداية (يسوع المسيح ابن الله). أقرّ بطرس أن يسوع هو "المسيح" في 8: 29. وهناك إعتراف مسيحاني يتضمنه هتاف يوم الشعانين (11: 9- 10) ونداء يسوع على أنه "ابن داود" بفم بان طيما (10: 47- 48). ثم إن الله بنفسه أعلن يسوع ابنه (1: 11، في العماد؛ 9: 7 في التجليّ). ونجد أيضاً تلميحين لا الخط عينه (12: 6: ابنه- مثل الكرّامين، 13: 32: لا يعرفهم الابن). عاد مر فجمع اللقبين هنا بسبب الموقف الإحتفالي المهيب. إن اللقب الثاني الذي هو مركزيّ في مر يحدّد الأول ويوسّعه ليرفعه على مستوى من التسامي لا يملكه في ذاته.
ويتساءل القارئ: من أين جاء عظيم الكهنة بمواد سؤاله؟ هناك من عاد إلى مثل الكرّامين القتلة الذي توجّه في الهيكل أمام فئات السنهدرين الثلاث، أي عظماء الكهنة والكتبة والشيوخ (11: 27؛ 12: 1). وقد أدركوا عبر المثل أن يسوع اعتبر نفسه "الابن الحبيب" لله (12: 6). احتفظوا بهذ التسمية واستعملوها في المحكمة ليتهموا يسوع ويحكموا عليه بالموت.
ولكن صعوبة هذا الإقتراح لا تأتي فقط من نوعيّة تطبيق المثل، بل من ردّة فعل السامعين التي يصوّرها 12: 12 ج: ما "فهمه" هؤلاء السامعون ليس أن يسوع اعتبر نفسه ابن الله، بل أن هذا المثل يعرّض بهم. وفي عبارة أخرى يدلّ هذا المثل على البُعد الهجومي تجاه إسرائيل التاريخي الذي يتواصل في رؤسائه الحاليين. بسبب هذا الإتهام، أرادوا أن يسكتوا ذاك الذي تلفّظ به. أجل، لما يفهم عظماء الكهنة أن يسوع نسب إليهم مقتل الابن، لأنهم قررّوا حالاً أن يتخلّصوا منه، وهكذا يعطونه الحقّ دون أن يعلموا. وهكذا لا نستطيع أن نستنتج أن عظيم الكهنة عاد إلى ما سمعه في الهيكل حول مثل الكرّامين القتلة.
هل نجد جواباً ملائماً في السياق المباشر؟ هناك من يقول: نعم. في مقال الشهود. فحسب هؤلاء أعلن يسوع أنه سيدمّر الهيكل ويبني غيره من جديد. واستخرج رئيس الكهنة استنتاجاً: إذن، يحسب يسوع نفسه المسيح. ولكننا لا نجد إلا ترجوم زكريا الذي ينسب إلى المسيح بناء الهيكل. ثم إن هناك اعتراضاً أساسياً يلد من الخبر نفسه: فبين شهادة الشهود والاستجواب الثاني لدى عظيم الكهنة، هناك عنصر (14: 60- 61 أ) يمنعنا أن نفهم السؤال متضمناً استنتاجاً: "إذن، هل أنت المسيح ابن المبارك"؟
في الواقع، هذا السؤال غير المهيّأ ليس وحده لا مر. ففي الخبر الموازي لهذا المشهد أمام بيلاطس، بدأ الوالي بدون مقدّمات استجوابه (15: 2) دون أن نعرف كيف وصلت إلى اذنه اعترافات يسوع بأنه "ملك اليهود". ولكننا نلاحظ في الإستجوابين اننا أمام سؤالاً. وهذا يعني بعض الجهل. في الوقت الحاضر، إذا كان عظيم الكهنة عرف من مرجع كيد وبدون شكّ أن يسوع أخذ لقب المسيح ابن الله، فالسؤال لا يفرض نفسه. فحين عبرّ عنه عظيم الكهنة في الإستجواب مع بعض الشكّ الذي يتوافق مع إنجيل لا يجد فيه يسوع (ما عدا حلقة التلاميذ) إلا عيوناً عمياء وآذانا صماء وقلوباً منغلقة قاسية (4: 11- 12)، لا شكّ في أن خبراً وصل إلى سماع عظيم الكهنة، وهو خبر يحدّد القارئ جذوره في تظاهرة الشعانين (11: 9)، ولا لجوء يسوع إلى داود ليثبت كرامته كالمسيح الربّ (12: 35- 37). غير أن هذا الخبر لا يؤول إلا إلى سؤال. وهو لا يتعدّى قاعدة السرّ الذي يحيط بشخصية يسوع للذين في الخارج. فأول شخص من خارج حلقة التلاميذ سيعرفها ويعلنها هو قائد المئة على الجلجلة (15: 39): "في الحقيقة، هذا الرجل هو ابن الله".
في منطق هذا الإستجواب، كان سؤال عظيم الكهنة فخاً. وهدفه أن يدفع يسوع ليعلن ألقاباً تحكم عليه. وهذا ما فعله يسوع بدون أي تحفّظ. "اغو ايمي"، أنا هو (رج أش 41: 4؛ 43: 10، هو يهوه في اليونانية، هذا ما ستفهمه الكنيسة فيما بعد، لا عظيم الكهنة في تلك الساعة). ذاك كان جواباً مباشراً لا مواربة فيه: هل أنت؟ أنا هو. ودذ الإنجيلي بذلك أن يسوع قد حكم عليه بالموت في المجلس لأنه المسيح، ابن الله. هذان اللقبان لا يتضمنان مصيراً مجيداً إلا بالعبور في الألم الفدائي. ف "الابن الحبيب" قد "أرسل" أولاً إلى الموت، وقبل أن يضحي "حجر الغلقة" (12: 6، 10- 11). والمصلوب الذي سيموت في ذلك الوقت هو الذي يعلنه قائد المئة "ابن الله" (15: 39).
غير أن الجواب يتواصل. قال يسوع: "سوف ترون ابن الإنسان جالساً عن يمين القدرة وآتياً مع سحاب السماء". هذه الجملة هي مزيج بين تذكّرين كتابيين عرفهما الكتّاب المسيحيون الأولون وطبّقوهما على يسوع: واحد يعود إلى مز 110: 1 (إجلس عن يميني) وآخر إلى دا 7: 13 (أتى مع سحاب السماء). يشدّد الأولى على تمجيد يسوع لدى الله تمجيداً يرتبط بقيامته. والثاني هو التعبير عن مجيئه الثاني الظافر الذي يضع حداً للدهر الحاضر.
ويُطرح سؤال حول علاقة هذا الجزء الثاني من جواب يسوع مع الجزء الأول. رأى بعضهم توضيحاً يزيل تفسيراً خاطئاً لما سمبق. على المستوى اليوناني، يسوع هو "الإنسان الإلهي" (تيوس أنر). على المستوى اليهودي، قد يكون لقب المسيح أثار تذكّرات خطرة حول السلطة السياسية. وهكذا نكون في الحالتين أمام شرح يبدو كما يليّ: أجل، أنا المسيح ابن الله. ولكن يجب أن نتفاهم على معنى هذه الألقاب. والجزء الأول من الجواب احتاج أقله إلى تحديد لما يعني يسوع بلفظة "المسيح". وحين أجاب يسوع نظر فقط إلى عودته الأخيرة.
غير أن هذه التفاسير تصطدم بعنصر حاسم في النص: إن فعل "تَرون" يدلّ على أن هذه الكلمات توجّه إلى المجلس وتشير إليه. ومن خلال المجلس، القارئ. نحن أمام خبرة مميقوم بها المجلس الذي يمثل أمامه يسوع، خبرة ابن الإنسان الذي يمجّده الله آتياً من السماء على الأرض. وهكذا لا نكون قي هذا الجواب مع إعلان لاهوتي عن المدلول الدقيق للمسيح وابن الله.
ولكن رغم هذا التمييز الظاهر، ابن الإنسان هو يسوع نفسه. هذا ما نراه في الأناجيل وهنا في إطار جلياني يرتبط بسياق العودة المجيدة. فالمحكمة التي يقف أمامها يسوع قد أقسمت على هلاكه. والسؤال الذي طرحه عظيم الكهنة لا يتوخّى إلا الحصول على علّة للحكم عليه بالموت. في البدء، لم يتهرّب يسوع، بل أجاب بجرأة على السؤال: أجل، هو حقّاً المسيح وابن الله. ولكنه تابع: أنتم لا تسألوني إلا طلباً لهلاكي، ستكونون شهوداً لانتصاري. وهكذا أعاد يسوع الأمور إلى حقيقتها. هذا هو "انتقامه".
إنما يُطرح اعتراض على هذا التأويل، يقول إن الإعلان النبوي للحكم يأتي قبل الوقت في النصّ. ففي مر كما في مت، حُكمُ المجلس هو نتيجة اعلان يسوع. نتصوّر عادة كلام تهديد على القضاة بعد حكمهم بالموت، على مثال ما جُعل على شفتي يسوع بعد توقيفه. تفسيرٌ مناسب (15: 48- 49؛ مت 26: 52- 56). ولكن مثل هذا التهديد (كما في 14: 62 ج) قد يكون جعل بعد أن يعلن المجلس حكمه لا قبل. ثم إن هذا القول جزء لا يتجزّأ من جواب يسوع على سؤال عظيم الكهنة: فهذا المسيح (هو ذاته) وابن الله يتدخّل كابن الإنسان في مجيئه بعد تمجيده من عن يمين الله. فالملخّص الكرستولوجي الذي تكوّن على هذا الشكل لا يمكن أن يتمزّق. ثم إنه يجب أن نأخذ بعين الإعتبار فعل "ترون" بما فيه من تهديد. فالقضاة لن يكونوا مجرد "شهود" للمجيء (بل سيُدانون). أما القول بأن يسوع لم يحُكم بعد عليه، فهو يعني أننا ننسى أنه حكم عليه منذ زمان طويل في مخطط خصومه، وان هذه المحاكمة لا تتوخّى إلا القضاء عليه (14: 55). إن تجاوز الترتيب المنطقي للأحداث أمر عادي، هذا إذا اعتبرنا أننا أمام شهادة إيمان، لا أمام تقرير يورد دقيقة بعد دقيقة ما حدث ليسوع في آلامه (هنا نلاحظ أن اسطفانس لا ينتظر الحكم عليه لكي يحكم على قضاته، أع 7: 51- 53).
ج- التشاور والحكم (آ 63- 64)
وقام عظيم الكهنة بفعلة لها جذورها في التوراة وفي المشناة: مزّق ثيابه (في الأصل علامة الحزن، 2 صم 1: 11؛ 2 مل 2: 12: ثم رفض موقف تجديفي، 2 مل 8 1: 37؛ 19: 1). إنها فعلة طقسية، وليست علامة للغضب أو القرف. ولكن بمَ يقوم التجديف؟ هنا يختلف الشّراح.
التجديف هو عمل يسيء إلى كرامة الله، بشكل مباشر أو غير مباشر. ماذا يقول الرابانيون في ذلك؟ تارة يحصرون التجديف باسم الله (لا 24: 10- 16؛ عد 15: 30)، بالتلفظ بالاسم المربع الحروف (ي 5 و5). طوراً يطبّق التجديف على عبادة الأصنام، ومرّة ثالثة، المجدّف هو الذي يتحدّث عن التوراة (الشريعة) بدون إحترام.
ويطرح السؤال بالنسبة الينا، ما الذي يعتبر تجديفاً في الكلمات التي تلفظ بها يسوع؟ القسم الأول من كلامه يعطي معنى مقبولاً في اذن اليهودي. فهناك أشخاص اعلنوا نفوسهم "مسيح"، "ابن الله"، دون أن يُتّهموا (2 صم 7: 14؛ 1 أخ 17: 13؛ مز 2: 7). وجلوس ابن الإنسان عن يمين الله يدلّ على تسام رفيع، ولكنه لا يعني اللاهوت.
اعتبر بعضهم أن يسوع تعدّى على وظيفة الهية حين نسب إلى نفسه وظيفة الديان الاسكاتولوجي، ولهذا اتهم بالتجديف (مت 13: 41- 42؛ 25: 31- 46؛ لو 21: 36؛ أع 10: 42؛ 17: 31؛ 2 تم 4: 1؛ 1 بط 4: 5؛ يو 5: 22، 27: يسوع هو الديّان). غير أن هذا الموضوع الذي يظهر هنا أو هناك في مر 8: 38؛ 13: 26- 27، ليس ببازر حقّاً، ولم يكن يشدّد في تلك المناسبة على وظيفة خاصة بالله تنسب إلى ابن الإنسان.
ولكن لا يطرح السؤال على هذا الشكل. فمن هو الذي يكتب ولمن يكتب؟ هو مسيحي يكتب لمسيحيّين. وحين ننطلق من هذا اليقين، تتوضّح أمور عديدة. ما نريد أن نقوله: إن كان لقبي "مسيح" و"ابن الله" يرتديان على شفتي يسوع (كما في الأناجيل) المعنى الذي لهما لدى المسيحيين. وإن كان عظيم الكهنة يتلقى في الواقع اعتراف إيمان مسيحي. في هذه الحالة ما قاله يسوع يعتبر تجديفاً بالنسبة إلى اليهودي. فقد سبق ليسوع وشكّك كتبة كفرناحوم الذين اعلنوا أنه "جدّف" لأنه غفر الخطايا (مر 2: 7). تلك هي ردّة فعل المجلس ورئيسه، وهي صدى لانتقاد اليهود الأساسي تجاه الإيمان المسيحي (وسيقول المسيحيون إن عظيم الكهنة جدّف حين لم يتعرّف إلى يسوع كابن الله. ولكن الإيمان طريق طويل يتطلّب استعداد القلب).
واستعاد الإنجيل الرابع هذا الكلام حين جعل اليهود يعلنون في ظرف آخر: "لسنا نرجمك من أجل عمل صالح، بل من أجل تجديف، فأنت إنسان وتجعل نفسك الله" (10: 33: قد يكون النصّ متأثراً بمرقس 14: 64). في كل هذه الحالات، هو إيمان الكنيسة الكرستولوجي الذي يعبرّ عن ذاته في فم يسوع وأعماله. ولا يمكن أن يكون الأمر إلا هكذا حين نعرف الهدف الذي يرمي إليه الإنجيليون.
فالنقد والإتهامات التي تواجه الإنجيليين تدلّ، عبر اليهود الذين عاصروا يسوع، على عداوة الذين سيحاكمون فيما بعد أتباعه على المستوى الديني. حُكم على يسوع لأنه أعلن الإيمان المسيحي. ففي قاعة المحكمة في السنهدرين، يجري مسبقاً جدالا جوهري يتم في القرن الأول المسيحي فيجعل اليهود تجاه المسيحيين.
قبل أن نقدّم اعتراضاً على هذا الإقتراح، نودّ أن نقول كلمة حول لباس رئيس الكهنة الذي تمزّق. إن اللفظة اليونانية هي "خيتوناس" (في العربية الآتية من السريانية: الكتونة أو القميص) لها معنى عام، ولا تدلّ على اللباس الليتورجي الذي يرتديه عظيم الكهنة في الإحتفالات الكبرى. فهذا اللباس كان الرومان يحتفظون به في قلعة انطونيا من سنة 6 حتى سنة 47 ب م. وهذا اللباس لا يمزق كما تقول الشريعة (لا 10: 6؛ 21: 10). ثم إن رئيس الكهنة لا يرتديه إلا داخل الهيكل، كما يقوله حز 42: 14؛ 44: 19.
ونعود إلى الإعتراض: في الخبر، لا يلي الإعتراف بالهوية حالاً الإتهام بالتجديف. فبين الاثنين دخل اعلان عن ظهور ابن الإنسان الأخير. نجيب: إذ "انتقم" يسوع من أعدائه، اكتفى بأن يعرض الإيمان الاسكاتولوجي في جوهره لدى المسيحيين الأولين. فجزئا جواب يسوع لعظيم الكهنة يشكلان عنصرين لا ينفصلان في الإيمان الذي يكرز به مرسلو الإنجيل والذي لخّصه بولس منذ سنة 50 في 1 تس 1: 10. أما اليهود فقد عارضوا في مجملهم هذا التعليم، بل رفضوه.
في هذه الظروف نفهم كيف أن جماعة المجلس الأعلى لفظوا بالإجماع (بنتس، جميعاً) الحكم بالإعدام بعد أن طلب عظيم الكهنة من يسوع بأن يحدد موقفه. هنا، لا نقول إن ما تورده الأناجيل يعكس بشكل مباشر معطيات الإيمان المسيحي. فالعكس هو الصحيح. ولكن لا ننسَ أن الأناجيل دوّنت أيضاً كجواب على وضع يعيشه المسيحيون، فقدّمت نتيجة تأملهم في حياة يسوع ولاسيّما في آلامه وموته. لهذا نجد في طبقة أولى شخص يسوع المسيح. وفي طبقة ثانية تأمّل الجماعة التي لا تنفصل عن يسوع. وفي طبقة ثالثة نجد عمل الإنجيلي. وفي هذا النصّ عن مثول يسوع أمام المجلس، نفهم "تجديف" يسوع من خلال تصّرفه "الحر" في العالم اليهودي، ومن خلال إيمان الجماعة المسيحية في القرن الأول المسيحي.
وهكذا وصل المجلس إلى الهدف الذي وضعه أمامه منذ بداية الجلسة (آ 55): "كانوا يطلبون علة ليقتلوه". فالمهم موت المسيح، والباقي هو شكليات. جاءت شهادات الزور، ولكن لم يحسب لها حساب. فقدم يسوع "علّة" الحكم عليه بالموت. وهكذا عمل من أجل تحقيق نبوءة تلفّظ بها (10: 33: يسلمّونه، يحكمون عليه بالموت، ق مع 14: 64). أما أهل المجلس فصاروا أداة غير واعية لمسيرة تمرّ في الصليب، ولكنها تنتهي في المجد.
4- مشهد الهزء والإحتقار (14: 65)
إذا تتبعنا مر، لا شكّ في أن أهل المجلس أبقوا على يسوع حيث هو وبدأوا بمشهد الهزء والإحتقار كخاتمة للمشهد السابق، مشهد المحاكمة. ولكن حين كتب الإنجيلي "بدأ البعض يبصقون عليه"، بدا وكأنه يختار بعض الأعضاء في هذا المجلس الرفيع. وقد ساعدهم بعض "الخدم" (هيبراتاي) الذين جاؤوا يتمون التحقير الذي خضع له يسوع. فالبصاق واللطم جزء من برنامج البريء المضطهد كما يجسّده عبد يهوه المتألم في أش 50: 6 حيث تعرّف الإنجيلي إلى سمات المسيح المتألمّ.
من أين جاء "الخدم" الذين ذكروا أيضاً في 14: 54؟ هنا يجب أن نفترض مع مر أن أهل المجلس فتحوا باب قاعة المحاكمة ليتيحوا للخدم بأن يدخلوا. أما بالنسبة إلى اللطم، فنستطيع أن نعود إلى السبعينية. إلى فعل "كولافيزاين": لطم (بقبضة اليد). في المعنى المادي في مت 26: 27. وفي المعنى الرمزي في 2 كور 12: 7. ولا المعنى الموسّع (جلد، أساء المعاملة) في 1 كور 4: 11؛ 1 بط 2: 20. ولفظة "رابيسما" (ترد في العهد الجديد هنا وفي يو 18: 22؛ 19: 3)، والفعل "رابيزاين" (مت 5: 39؛ 26: 67) يدلاّن على ضربات العصا. هذا المعنى ممكن في مت 26: 67؛ يو 18: 22؛ 19: 3 لا في 5: 39 (حيث يذكر الوجه). لقد تطوّر معنى الكلام من الأدب الكلاسيكي وصار يعني الصفعة.
ونعود إلى المشهد الذي يرتبط بالسياق، دون أن نتوقّف عند منطقه الداخلي. فحين فرض أهل المجلس، على يسوع بأن "يتنبأ"، هذا يعني أنهم نسبوا إليه لقب نبوي، أو أنه تصرف أقله بهذا الشكل. لا شكّ في أن الإنباءات والأقوال النبوية التي تلفّظ بها يسوع، قد تلفّظ بها فقط أمام تلاميذه (8: 31؛ 9: 1، 31؛ 10: 33- 34؛ 13: 1- 17؛ 14: 9، 18- 21، 30- 31). ولكن في 6: 4 طبّق يسوع على نفسه أمام الجميع قولاً يجعله مماثلاً للأنبياء. وقال الشعب عنه إنه "أحد الأنبياء" (8: 4). ثم إن أهل المجلس أنفسهم سمعوه يعلن مجيئه في مجد ابن الإنسان الممجّد من عن يمين الله (14: 62).
إذن، إن سياق الإنجيل يبرّر فرضهم على يسوع بأن يتنبأ. هنا نبقى على المستوى السطحي للأمور. أما مر فيجعلنا في إطار أقوال وأعمال الهزء التي تتوزّع خبر الآلام: إن هؤلاء القضاة الأردياء، يقرّون (من دون أي يدروا) بواقع لم يؤمنوا به. أجل، يسوع هو النبيّ. وسيهزأ الجنود الرومان بيسوع ويسمونه "الملك" (15: 17- 19). إنهم يقرّون بالحقيقة دون أن يدروا. بالإضافة إلى ذلك، فرضوا عليه أن يتنبأ ليهزأوا به، ساعة كان بطرس يحقق بنكرانه نبوءة قالها عنه يسوع في 14: 30: "قبل أن يصيح الديك مرتين تنكرني ثلاث مرّات".

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM