الفصل الرابع والثلاثون
النزاع في البستان
14: 32- 42
بين خبر العشاء السرّي وخبر القبض على يسوع، جعل الإنجيليون الثلاثة الأولون المشهد الدراماتيكي الذي حصل في جتسيماني، مشهد النزاع في البستان. سمّاه لوقا "اغونيا" الصراع، الحرب، ليجعلنا حالاً في قلب الصليب. إن الخبر يتعارض تعارضاً غريباً بين الأناجيل وأخبار الآلام. فالمسيح المصلوب يحتلّ مكانة كبيرة في الأخبار الإنجيلية: فأحداث المحاكمة والموت التي طالت بضع ساعات، ترتدي أهمية واسعة. وهي تعطينا مدلول هذه الأحداث وقيمتها المثالية من أجل تلاميذ يسوع. هذا "الصراع" القاسي بين يسوع وأبيه هو واقع فريد في الأناجيل. وسيأتي الصراخ الأخير على الصليب كصدى لهذه السهرة المأساوية في جتسيماني.
تتميّز هذه الساعة عمّا سبقها تميّزاً واضحاً. فالانباءات بالآلام تدلّ على استسلام تام لدى عبد الله المتألم (يسوع) لمخطّط الآب كما تعلنه الكتب المقدّسة: "يجب على ابن الإنسان أن يذهب إلى أورشليم، أن يتألمّ فيها كثيراً، أن يُقتل وفي اليوم الثالث يقوم". أما الإنجيلي الرابع فيدلّنا كيف أن يسوع هو سيّد مصيره. تقبّل من الآب سلطان إعطاء حياته، وهذه الساعة ترتبط بإرادته. وبعد جتسيماني سيكون يسوع صامتاً، كأني به كاهناً يحتفل بمهابة بذبيحته. أما في البستان فنرى الحزن والرعبة يسيطران على الموقف. هذا ما نحاول أن نتأمّل فيه من خلال النصوص الإزائية الثلاثة.
1- الأخبار والحدث
ترد صلاة يسسوع في جتسيماني في الأناجيل الإزائية الثلاثة، بين العشاء السرّي والقبض على يسوع. كما نجد ما يوازي ذلك في يو 12: 27- 28، وبعد دخول المسيح إلى أورشليم. وأخيراً هناك تلميح واضح إلى هذه الصلاة في الرسالة إلى العبرانيين (5: 1- 3). نتوقّف هنا عند الإزائيين ولا سيّما مرقس فنكتشف الحدث ومعناه بالنسبة إلى يسوع وبالنسبة إلى التلاميذ.
أ- الاخبار
أولاً: على مستوى الشكل
إذا القينا نظرة إلى هذه النصوص نجد اختلافات لافتة. يبدو خبرا مر ومت قريبين جداً: وصل يسوع إلى جتسيماني مع تلاميذه. ثم ابتعد عنهم (14: 32؛ مت 26: 36). وأخذ معه بطرس ويعقوب ويوحنا، لكي لا يكون وحده في صلاته (14: 33- 34؛ مت 26: 27- 38). ثم توجّه في كلامه إلى أبيه ثلاث مرّات (14: 35- 36= مت 26: 39؛ 14: 39 = مت 26: 42؛ 14: 41- مت 26: 44). وثلاث مرات عاد إلى التلاميذ الثلاثة، فوجدهم نائمين فوجّه إليهم توبيخه: أتنام يا سمعان! أو لم تقدر أن تسهر ساعة واحدة (14: 37- 38- مت 26: 40- 41، 14: 40- مت 26: 43؛ 14: 41= مت 26: 44). وحين عاد في المرة الثالثة، أعلن أن الساعة التي فيها يسلم إبن الإنسان قد جاءت، وأن الخائن وصل (14: 41- 42- مت 26: 45- 46).
أما خبر لوقا فجاء بسيطاً: لا يذكر مجموعة التلاميذ. لا يتضمّن إلاّ صلاة واحدة إلى الآب وتحريضاً واحداً للتلاميذ. ولكن في هذا الإطار المعرّى، قدّم الإنجيلي إشارتين خاصتين: ذكر العرق الذي تساقط على الأرض كقطرات دم، وهذا ما يدلّ على شدّة الصراع (لو 22: 44). ذكر الملاك الذي جاء يشجّع يسوع في نزاعه (22: 43). تدلّ هذه الحاشية الثانية على أن الآب سمع صلاة ابنه، لأنه بعث له مرسله ليسنده في جهاده. وهكذا أدخل لوقا في خبره فكرة تتحدّث عن الصلاة المستجابة. وهذا ما لا نجده عند مت ومر.
ثانياً: المواضيع المطروحة
وحين ننتقل من شكل الحدث إلى المواضيع المطروحة، نلاحظ تقاربات وتباعدات. ففي مر، تتوسّع صلاة يسوع على التوالي في موضوعين. أولاً، وفي صيغة الخطبة غير المباشرة، نسمع يسوع يصين لكي تعبر الساعة عنه (14: 35). ثانياً وفي الخطبة المباشرة، يطلب يسوع من الآب أن يبعد عنه الكأس. ولكنه في النهاية يسلم نفسه إلى مشيئته: "ليس ما أريد أنا، بل ما تريده أنت" (آ 36).
إن موضوع الساعة وتسليم إبن الإنسان إلى أيدي الخطأة، يعود في نهاية الحدث كما يرويه مر ومت. وهذا يعني أن هذين الإنجيليين أعاراه أهمّية خاصّة. سيتحدّث يو مراراً عن الساعة التي هي ساعة الآلام، بل ساعة المجد. وهكذا يلتقي يوحنا مع مرقس في هذا التفصيل كما في التصميم العام للإنجيل.
لا يشدّد مت على موضوع الساعة، كما فعل مر. وهو يلغي الصلاة في صيغة الخطبة غير المباشرة. وحين يكرّر صلاة يسوع في آ 42، فهو لا يستعيد إلاّ الكلام المتعلّق بالكأس. واختفى كلياً موضوع الساعة في لو الذي احتفظ بالكأس كموضوع توسّله وابتهاله. هنا نلتقي مع عب حيث توسّل يسوع إلى ذاك الذي يستطيع أن يخلّصه من الموت.
لا يُبنى الخبر فقط حول صلاة يسوع وحده في البستان. فبجانب هذا الشخص الرئيسي، الذي يقف تجاه الآب، نجد مجموعة الرسل النائمين في ظلمة البستان. ويشدّد الإنجيليون الثلاثة على هذا التعارض. هناك ارتباط بين مجيء ورواح يسوع وتحريضه الذي يقدّمه بشكل لوم وتوبيخ. نحن هنا أمام مرمى آخر للخبر يبدأ في مر ومت حين يتوجّه يسوع إلى الثلاثة الذين أخذهم معه. "نفسي حزينة حتى الموت. فأقيموا ههنا واسهروا" (آ 34). وعاد بعد الصلاة الأولى فلام بطرس. "أتنام، يا سمعان! إسهروا، وصلّوا لئلاّ تدخلوا في تجربة: الروح نشيط أما الجسد فضعيف" (آ 38). وحين اقترب الخائن في الوقت الذي لم يستطع فيه التلاميذ أن يظلّوا ساهرين، قال يسوع بدعابة مليئة بالسخرية: "الان تستطيعون أن تناموا، وتستريحوا" (آ 41). أحسّ لو هو أيضاً بهذه الحاشية، فأحاط المشهد بوصيّة يسوع التي تتكرّر: "صلّوا لئلاّ تدخلوا في تجربة". ولكن السهر يختفي من أجل الصلاة أمام التجربة. هو يعذر نوم التلاميذ: فكيف يستطيعون أن يسهروا والحزن يثقل عيونهم؟ ويتجنّب أن يجعل من وصيّة المعلّم لوماً وتوبيخاً كما فعل مت ومر.
ب- من الخبر الإنجيلي إلى التقاليد
إن تحليل الأخبار جعلنا نستشفّ مراجع مشتركة أو أقلّه تقاليد استقى منها الإنجيليون. لا شكّ في أنَّ مت عرف نصّ مر وانطلق منه كأساس، فأبرز الرسمة المثلّثة من رواح يسوع ومجيئه، ومن استعادة لصلاته. ولكن لا يبدو أن لو انطلق من مر كنصّ أساسي. قد نكون، كما في خبر العشاء السرّي، أمام تقليد آخر.
لاحظ الشرّاح أننا في مر ومت أمام مقدمتين إثنتين. أولاً: إنفصل يسوع عن تلاميذه (أمكثوا هنا، آ 32). ثانياً: إنفصل عن الثلاثة (تقدّم قليلاً، آ 35). ونجد أيضاً صلاتين. صلاة أولى تدلّ على الساعة (تعبر عنه هذه الساعة، آ 35). صلاة ثانية تدلّ على الكأس وارادة الآب (أجز هذه الكأس، ولكن لا ما أريد أنا، آ 36). وأخيراً، هناك تحريضان للتلاميذ. الأول: لوم يتوجّه إلى بطرس (آ 37). الثاني: فيه أعلن يسوع الساعة لتلاميذه (آ 41: أتت الساعة. في المرة الثانية جاء ولكنه لم يقل شيئاً). إذا فصلنا هذه التكرارات بعضها عن بعض، كان لنا خبران مستقلاّن على أساس الاهتمام بالثلاثة وبطرس، أو على أساس موضوع الساعة.
في الخبر الأول، يتوجّه تحريض يسوع إلى مجموعة التلاميذ، وتكون الساعة موضوع صلاة يسوع. "وصلوا إلى ضيعة اسمها جتسيماني. فقال لتلاميذه: أمكثوا ههنا ريثما أصليّ. وابتعد قليلاً وسقط على الأرض وصلىّ لكي تعبر عنه الساعة إن كان ممكناً. وجاء فوجدهم نائمين لأن عيونهم كانت ثقيلة، فلم يدروا بماذا يجيبونه. وقال لهم: ناموا الآن واستريحوا. ومع ذلك، أتت الساعة وابن الإنسان يسلم إلى أيدي الخطأة".
ويتركّز الخبر الثاني على الثلاثة الذين حضّهم يسوع على السهر من جهة، وعلى الصلاة التي ترتبط يموضوع الكأس. "وأخذ معه بطرس ويعقوب ويوحنا وطفق يرتاع ويكتئب. قال لهم: نفسي حزينة حتى الموت. فأقيموا ههنا واسهروا. وقال: أبا أيها الآب! كل شيء ممكن لديك. أبعد عني هذه الكأس. ولكن ليس ما أريد أنا، بل ما تريد أنت. وجاء فوجدهم نائمين. فقال لبطرس: أولم تقدر أن تسهر معي ساعة. إسهروا وصلّوا لئلا تدخلوا في تجربة. الروح نشيط، أما الجسد فضعيف".
نجد الرسمة عينها في الشكلين: مقدّمة، صلاة، تحريض على السهر. أما خبر لو فيبدو قريباً من الخبر الثاني: صلاة مركزة على الكأس، تحريض على الصلاة. هنا يطرح سؤالاً: كيف نفسرّ الانتقال من تقليد بسيط إلى تقليد في ثلاثة أزمنة كما في مر ومت؟
نلاحظ أولاً أن هذا الشكل المثلّث نهجٌ معروف لدى الإزائيين: التجارب الثلاث التي تفتح (مع العماد) الحياة العلنية. والصلوات الثلاث (بعد الافخارستيا) تشكّل المدخل إلى الآلام. نكران بطرس المثلّث. ثلاثة إنباءات بالآلام تتوزّع الصعود إلى أورشليم. ولكن بشكل أدقّ، هذه الاستعادة المثلّثة تدلّ على حرارة الصلاة. نجدها في تشفّع ابراهيم (تك 18: 16 ي). ونقرأها عند بولس في حديثه عن الصلاة أمام التجربة. قال: "طلبت إلى الربّ ثلاث مرات أن تفارقني" (التجربة) (2 كور 12: 8). لهذا، حين دمج التقليد الخبرين اتبع اتجاه المؤمن في صلاته أمام التجربة. أما هنا فنحن أمام المحنة العظمى التي تعيشها الكنيسة في الليلة التي تسبق ساعة مجيء الربّ. وقد يكون تأليف هذا المقطع قد تأثّر بالصلاة الربّية مع الطلبة الخاصة: "لا تدخلنا في تجربة" (مت 6: 10- 13).
هنا ندرك حياة التقليد الذي نقل إلينا خبر الربّ. فإن هو احتفظ بصلاة يسوع أمام الساعة الآتية وكأس الآلام، ارتدى الجهاد السرّي مدلولاً خاصاً في إيمان الكنيسة. واذا كان قد احتفظ بتحريض يسوع للتلاميذ، نحسّ أنه يعني المسيحيين أيضاً. جعل صلاة الربّ في قالب عرفته الجماعة، ولكنه جعل من صلاة الربّ صلاته. وبعبارة أخرى، إن اعلان تعليم الصليب، والنداء لعيش الساعة الحاضرة على مثال يسوع، هما عنصران في تقليد حيّ طبع بطابعه هذا الخبر كما طبع سائر الاحداث الإنجيلية.
ج- من التقليد إلى الحدث
حينئذٍ يُطرح سؤال: هل استنبطت الجماعة هذا الحدث من أجل بناء الكنيسة؟ مثل هذا السؤال طرح، فاعتبر طارحه أننا أمام "اسطورة سيروية" استنبطتها الكنيسة لتدلّ على الطابع المسيحاني ليسوع!! وقيل في هذا المجال: صاغت الجماعة هذا المشهد انطلاقاً من تذكّرات توراتية (لا سيّما المزامير) لتدلّ على أن آلام المخلّص تتوافق توافقاً تاماً مع مخطّط الله كما تتضمّنه الأسفار المقدّسة!!
وهكذا (تقول هذه النظرية) يكون موقف يسوع نسيج تلميحات إلى مز 31: 32: "وأنا قلت في قلقي: قد انتزعت بعيدا عن عينيك. ومع ذلك سمعت صوت صلاتي حين صرخت إليك". ومز 39: 13: "إسمع صلاتي، يا ربّ، وأصغ إلى صراخي. لا تتصامم عن بكائي". يضع هذان المزموران أمام عيوننا البارَّ المضطهد الذي يصرخ إلى الله في ضيقه ودموعه، فيستجيبه الله ويبعد عنه ضربات مضايقيه. وإن كلمة يسوع "نفسي حزينة حتى الموت" هي مزيج مز 42: 6، 12؛ 43: 4 (لماذا تكتئبين يا نفسي وتقلقين فيّ)، ويون 4: 9 (أنا حزين إلى الموت). فالمرتل يعيش في المنفى وهو يفيض نفسه أمام الله فيستعيد الردّة (أو: القرار): "لماذا تكتئبين، يا نفسي"؟ وفي يونان، نجد تشكي النبي الذي تعب من الحياة وتمنّى لنفسه الموت (يون 4: 3؛ رج 1 مل 19: 4 ووضع إيليا) لأن حَمْل كلمة الله صعب. وقد تستند عب 5: 9 إلى مز 116 حيث تسمع صوتاً يطلب الخلاص من الموت.
ورقاد التلاميذ هو "أسطورة" من أجل بناء الجماعة. وُلد انطلاقاً من مز 3: 6 (أنام وأرقد. وأستيقظ: الربّ عضدي) و 4: 9 (في سلام أنام وارقد، وأنت يا ربّ في طمأنينة تجعلني)، حيث نجد موازاة بين صراخ يعلن أن الله يستجيب ونوم في قلب المحنة.
أما الدعوة إلى السهر والصلاة أمام التجربة، فهي موضوع معروف في الفقاهة المسيحية الأولى. ونحن نجدها في الأناجيل الإزائية (13: 33- 37؛ لو 12: 35- 37؛ مت 24: 43- 44؛ 25: 1- 13؛ لو 21: 64- 63)، في الرسائل البولسية (1 تم 5: 1- 11؛ 1 كور 16: 13- 14؛ روم 13: 11- 14؛ كو 4: 2؛ أف 6: 18) وفي رسالة بطرس الأولى (5: 6- 10).
ماذا نقول في هذه النظرية؟ هناك واقع أساسي من حياة يسوع. وقد انطلق منه التقليد مستنداً إلى البرهان الكتابي فدوّنه ولم يستنبطه. إنه أول محاولة لاهوت مسيحي قام بإعطاء فكرة عن تماسك مخطّط الله وحكمته. ثم بيّن أن المسيح أتمّ الشريعة والانبياء والمزامير. وقد انطبقت هذه البراهين بشكل خاصق على الحدث الذي "يشكك" المؤمن، عنيت به الآلم والصلب في حياة المسيح. لهذا نفهم أن البعض أناروا صراع يسوع في جتسيماني بمزامير البار المتألم، وهو كتاب كان صلاة الجماعات المسيحية الأولى لا سيّما في وقت الاضطهاد. ونحن نرى مثلاً كيف استعمل سفر الأعمال مز 2 كصلاة توسّل في زمن الاضطهادات (أع 4: 24- 30). ولكننا لا نقول إن هذه المزامير ولّدت خبر الآلام. بل إن أحداث الآلام ذكّرت المؤمنين بهذه الصلوات فطبّقتها على المسيح.
ونتساءل: كيف استطاع البرهان الكتابي أن يستنبط من لا شيء مشهداً لا يتوقّعه أحد مثلاً الصلاة في جتسيماني؟ فثقل الايمان الفصحي يأخذنا في خطّ آخر. هنا نتذكّر التحوّلات التي تمت في الإنجيل الرابع الذي تحدّث بالأحرى عن الآلام المجيدة. وإن لوقا أحل مز 31: 6 (يا ابت، في يديك استودع روحي) محل مز 22: 2 (إلهي إلهي، لماذا تتركني) كصرخة يسوع الأخيرة على الصليب (رج لو 23: 46، مر 15: 34). ولا نفهم كيف حاول الإنجيليون أن يعذروا التلاميذ حين رأوهم ينامون في صلاة يسوع. مثل هذا التفصيل يصح ولا شكّ لارشاد حياتي. فلو لم يفرض هذا المشهد نفسه على ذاكرة الشهود، لقبل به إيمان الكنيسة بصعوبة، ومسيحها يتجرّد من كل سمات بشرية.
إذا كنا لا نستطيع إلاّ أن نقبل بالطابع التاريخي لهذا الحدث، نتساءل: متى حصل في حياة يسوع، ويو يختلف عن الإزائيين في تحديد موقعه؟ هنا نعرف أن الإنجيليين كثّفوا في مشهد واحد أحداثاً عديدة. فيسوع لم يأتِ مرة واحدة لكي يصليّ في بستان الزيتون. فنحن نقرأ لو 22: 39: "خرج يسوع ومضى كعادته إلى جبل الزيتون، وتبعه تلاميذه". فلو ذهب يسوع مرة واحدة، فكيف عرف يهوذا أن يسوع هو في هذا الموضع؟ وهكذا نستطيع القول إننا أمام "حفلات" صلاة ليسوع في بستان الزيتون. ولا نحاول بعد ذلك أن نحدّد موقع هذه الصلوات. فالإنجيليون لا يقدّمون سيرة يسوع، كما في تقرير صحافي. بل شهادة عن يسوع تكون مثالاً للكنيسة.
2- مدلول جتسيماني
أ- التجربة المسيحانية
هناك تشابه بين حدث جتسيماني وخبر تجارب يسوع. ثم هناك حاشية نقرأها في لو 4: 13: "إبتعد عنه إبليس حتى الزمن المحدّد". هذا الزمن هو ذاك الذي فيه يغربل الشيطان إيمان التلاميذ (لو 22: 31). ساعة يدخلون هم بأنفسهم في التجربة. ويتحدّث الإنجيل الرابع عن ساعة سلطان هذا العالم الذي يتملّك الخائن (يو 13: 27)، يدخل فيه. هي الساعة التي يكون يسوع وحده ويتفرّق تلاميذه (يو 16: 32).
ولكن هل جرّب التلاميذ وحدهم؟ كلا. فإن عب 4: 15 تقول عن المسيح إنه جرّب في كل شيء ما عدا الخطيئة. وقد لاحقت التجربة يسوع حتى الموت. فحين يتحدّث عن حزنه حتى الموت، أما يفهمنا أن هذه التجربة تشبه الرغبة في الموت التي أحسّ بها الانبياء في محنتهم (نتذكر إيليا).
نحن في الواقع أمام شكل جديد للتجربة المسيحيانية: التهرّب من الموت على مثال عبد الله المتألمّ، التهرّب من طرق الله.
ب- تخلي الآب
ونلقي ضوءاً على نداء يسوع السرّي إلى الآب في صراخه الأخير على الصليب: "إلهي إلهي لماذا تركتني" (14: 34؛ مت 27: 46)؟ هذه الصلاة التي احتفظ بها الإنجيليون في صيغتها الأرامية، تحمل رنّة مأساوية، وتجعلنا في الحقيقة العارية. هذه الصلاة هي امتداد لصلاة يسوع في الحزن، في الصراخ والدموع لا بستان الزيتون. ولكن ماذا نعني حين نقول إن الآب "تخلى" عن ابنه؟
إعتبر البعض أننا أمام محنة صوفية مستيكية. بالصليب أخذ يسوع على عاتقه دينونة الله التي تعاقب الخاطئ الذي يعيش التخلي عن الله والانفصال من الآب. ورأى آخرون ان حزن يسوع تفجّر حين رأى نتيجة عمله إلى زوال: تركه تلاميذه أو أوقفوا.
ولكن هل نفسرّ صراخ يسوع على الصليب خارجاً عن قرائنه؟ هل نقرأ آية واحدة ولا نضعها في مز 22 كله؟ إذا كان يسوع يصليّ فبالنظر إلى ما يشعر به: إتخذ صوت المسكين الذي يمرّ في المحنة. يجب أن لا نفرط في إبراز القوة الدراماتيكية في هذا الصراخ. أما لوقا فقد أحل محله صلاة الاستسلام للنوم: "في يديك استودع روحي". نحن أمام مز 31: 6 الذي هو أيضاً صراخ الأمل في المحنة. إذا كان مز 22 مأساوياً في رنّته، فهو يشير أيضاً إلى الرجاء في حياة المسكين، وإلى عمل يدوم مع الربّ.
في جتسيماني احتفظت الجماعة الأولى بصلاة دراماتيكية تلقتها من شفتي يسوع. وكان هذا التوسّل توسّل البار الذي يمز في المحنة، ولكنه يستسلم إلى الله واضعاً ثقته فيه. في هذا المعنى يكون صراخ الصليب صدى للصراع في جتسيماني حيث فتح الابن إرادته على إرادة الاب. هذا التوسّل يفترض أمانة الآب لابنه الذي يتمّ عمله وحبّه له.
ج- الصلاة أمام الموت
عبرّ يسوع ببساطة أمام أبيه عن الضيق الذي يشعر به أمام الموت وعذاب الصليب. إنه إنسان حقيقي، وما يحسّ به الإنسان يحسّ به يسوع. إذن، هو خوف من الموت. و "ثورة" البريء أمام ظلامة يتحمّلها.
إن رسمة صلاة يسوع في جتسيماني هي رسمة صلاة المؤمن أمام الموت. وإن نصّ مر يشتمل على مختلف مراحل هذه الصلاة: أولاً: الاقرار بسلطان الآب: أبا، أيها الأب. كل شيء ممكن لديك. ثانياً: التعبير عن التوسّل والطلب: أبعد عني هذه الكأس. ثالثاً: الاستسلام لإرادة الله: لا ما أريد أنا، بل ما تريد أنت.
لقد تأثّر التقليد الإنجيلي بأسلوب الصلاة المسيحية. ولكن الصلاة المسيحية تأثّرت بصلاة يسوع. يقول لنا لو 11: 1 ي إن يسوع كان يصليّ في موضع ما، فطلب منه تلاميذه أن يعلّمهم الصلاة. رأوه يصليّ، حاولوا أن يدخلوا طريقته في الصلاة في حياتهم. لا شكّ في أن يسوع انطلق مش محيطه، واستعمل المزامير، ولكنه حمّلها معنى جديداً لأنه وحده الابن الوحيد، ولأنه والآب واحد.
خاتمة
وهكذا نلاحظ في خبر النزاع نقطتين أبرزهما التقليد. الأولى: اهتمام الكنيسة بصلاة يسوع بالذات. الثانية: اهتمام الكنيسة بالتحريض الذي أعطي للرسل. ففي صلاة يسوع، أدركنا أمرين شدّد عليهما الإنجيل: الصلاة أمام الساعة. والصلاة التي تعبرّ عن الصراع وتنتهي بقبول إرادة الآب. وإذا زدنا على هذين الموضوعين تجربة التلاميذ، نكون قد أحطنا بحدث نزاع يسوع في البستان، حيث سيكون موتُه الساعةَ التي فيها يُقهر العدوّ الأخير الذي هو الموت. فهذا الموت دخل في مخطّط الحياة، وصرخة يسوع بما فيها من حزن ستجد جواباً لها في فرح القيامة