الفصل الثالث والثلاثون: العنياء المصحي

الفصل الثالث والثلاثون
العنياء المصحي
14: 17- 31
هنا نتحدّث عن الجماعة التي ستلتئم من أجل العشاء الأخير، ولكنها ما تعتمّ أن تتشتّت حين يُضرب الراعي. هي متتالية تتألّف من ثلاثة مشاهد. يجري الأول كلّه داخل مجموعة الاثني عشر: خبر التأسيسي الافخارستي (14: 22- 25). ويحيط به من جهة إعلان الخيانة (14: 17- 21)، ومن جهة ثانية تشكك الجميع وإنكار بطرس لمعلّمه (14: 26- 31). ويجري المشهد الثاني في جتسيماني. ويصوّر الثالثُ مجيء يوضاس والقبض على يسوع. وهكذا يتداخل خبر العشاء الفصحي مع خبر الحاش والآلام. فما يعيشه يسوع خلال هذه الليلة في "السرّ" سيعيشه يوم الجمعة العظيمة في الحقيقة والواقع.
نتوقّف هنا عند المشهد الأول الذي فيه يقدّم ابن الإنسان ذاته. ولكن هل يفهم الإنسان عطية الله له؟ تشكّك التلاميذ بانتظار أن يهربوا بعد مشهد النزاع.
1- نظرة عامّة
ونصل إلى إشارة جديدة تدلّ على الوقت. هي الأولى في التحريض الأخير حول نهاية الأزمنة (13: 15): "ولما كان المساء". ظهرت هذه العبارة منذ المرحلة الأولى في الإنجيل لتدلّ على تجمّع المرضى "عند باب"، عند باب المدينة حيث يلتقي الناس (1: 32- 33). وعادت في المرحلة الثانية (4: 35، قبل تسكين العاصفة، وما فيها من إشارة إلى موت يسوع، النائم على وسادة). وفي المرحلة الثالثة (6: 47) ساعة أظهر يسوع قدرته على البحر أمام تلاميذه الخائفين واللامؤمنين. بل تعذاهم ليسير أمامهم كالمعلّم أمام تلاميذه. جابه البحر (علامة الشر) ودلهم على الطريق، ولكن بدل أن يصلوا إلى بيت صيدا، أفضوا إلى جنسارت. لم يتبعوا يسوع إلى حيث شاء.
في المرحلة الخامسة، وبعد دخول أورشليم في إحتفال نقرأ: أقبل المساء فخرج يسوع إلى بيت عنيا مع الإثني عشر. وفي آ 19: ولما أقبل المساء، خرجوا من المدينة. هكذا يشدّد يسوع على المسافة التي تفصله عن الهيكل. بل هو أراد أن يبتعد عن الهيكل. فساعة خرابه قريبة من أجل هيكل آخر هو جسده الذي يصبح في موته وقيامته موضع لقاء الله بالبشر. وفي 15: 42، أقبل المساء الذي يرافق دفن يسوع. أما هنا (14: 17)، فالمساء هو الساعة التي فيها يجتمع الاثنا عشر ليعيشوا سرّ موت يسوع وقيامته من خلال المشاركة في الخبز والخمر في ليلة الوداع. وهو أيضاً الساعة التي فيها ينكشف إنقسام الرسل وعدم أمانتهم. إنهم باكورة الجماعة المسيحية (3: 14، 4: 10؛ 9: 35).
إن واحداً منهم. لا يذكر إسمه هنا، بل يُقال إنه الخائن، بفضل تلميع إلى الكتب المقدّسة. قال مز 41: 10 وهو مزمور المريض الذي يتخلى عنه أحبّاؤه: "حتى صديقي الذي وثقت به واكل خبزي، رفع عقبه عليّ، إنقلب عليّ". "بدأوا" يحزنون، لأنهم أحسّوا كلّهم انهم معنيون بهذا الإنباء. إكتشف كل واحد منهم أنه قد يخون المعلّم: "العليّ أنا"؟ عند مت، أجاب يسوع على سؤال يوضاس (26: 25: أنت قلت). وفي يو 13: 26، عن الخائن بواسطة اللقمة التي وصلت إليه: "الذي أعطيه اللقمة التي أغمسها".
وجعل مر الريبة تشرف على المجموعة، وكأنه يدعو القارئ هو أيضاً لكي يكشف القناع عن نفسه. أما لو 22: 21- 23، فقد ترك إعلان الخيانة إلى ما بعد التأسيس الافخارستي. قد جعله مقدّمة لجدال التلاميذ حول المقاعد الأولى، وتعليم يسوع عن الخدمة (لو 22: 24- 27؛ رج مر 10: 42- 44).
إن ابن الإنسان يسير في طريق الألم (14: 15؛ رج 9: 12). وهو يخضع للمهمة التي استشفتها الكتب المقدّسة في عبد الله المتألمّ كما في أش 53. و"بكاء" يسوع على "ذلك الرجل"، هو تأسّف وخيبة أمل، وليس "حكماً بالهلاك الأبدي"، كما يظنّ البعض. فيسوع لا يحكم على الأشخاص، وهو لم يأتِ ليدين، بل ليخلّص (الدينونة تتمّ في مجيئه الثاني). بل يحكم على فعل الخيانة، كما سيحكم على شكّ التلاميذ فيه (9: 42): إن تسليم ابن الإنسان أمر شنيع جداً. يا ليت الذي يقوم به لم يولد!
وفي جماعة من "الخائنين" تفوّه يسوع بكلمات حوّلت الفصح اليهودي إلى إحتفال مسيحي. إستعاد ما يُفعل في كسر الخبز من أجل الكثيرين: "أخد خبزاً، بارك، كسر، وأعطاهم" (14: 22: رج 6: 41). "أخذ كأساً، شكر، أعطاها" (14: 23؛ رج 8: 6). فعلتان تنتميان إلى طقس العشاء الفصحي عند اليهود. ولكن لا يُقال هنا شيء عن الحمل المذبوح والمشويّ. فيسوع لا يحتفل بتذكّر سابق. بل يحقّق الفصح بعد أن صار هو "الحمل" الذي يبذل حياته فدية "عن الكثيرين" (14: 24؛ رد 10: 45).
أعطى جماعته التي تسلّم جسده وتسفك دمه، أعطاها أن تأكل موضوع خيانتها. فهي لن تستطيع أن تجد وحدتها ومصالحتها إلاّ إذا "هضمت" (كما يهضم الطعام ويتحوّل فينا) فعل حبّه، وتسلّمت منه عهد غفرانه.
حين كان اليهودي يتسلّم لقمة الخبز وكأس الخمر، كان يرى فيهما عطية الله. وكلمات يسوع التي ترافق هاتين الفعلتين عينهما، تدلّ على معني موته. من أجل البشر يسلم جسده، يسلّم ذاته كله، يسلّم حضوره. ويسلم دمه، يسلّم حياته، لأن الدم هو الحياة. وعطية الجسد والدم تشير إلى ذبيحة يقبلها الله وهو الذي اتّخذ مبادرتها. وموت يسوع يكون تحقيقاً تاريخياً لهذه التقدمة التي بها تتسلّم الجماعة الوعد بملكوت الله. أتمّ يسوع عهد البرية الذي به صار العبرانيون شعب الله (خر 24: 8). لهذا، فهو يستطيع أن يعلن يوم الوليمة المسيحانية حيث يسيل الدم الجديد من أجل الخلاص الشامل، وحيث يشارك التلاميذ يسوع في مائدة الله.
وإنتمت صلاة المزامير إلى الطقوس الفصحية: بعد كأس الخمرة الثالثة، كانوا ينشدون القسم الثاني من مزامير "هلّل" (155- 118). لهذا، ما إن انتهى الاحتفالي، حتى انتقلت المجموعة الصغيرة إلى جبل الزيتون. من هناك جاء يسوع إلى المدينة المقدّسة (11: 1). وهناك ألقى خطبته عن نهاية العالم (13: 3). وقبل أن تلتئم هذه الجماعة بشكل نهائي في الملكوت، ستحسّ بضعفها وهي التي تجد تماسكها في يسوع: إن خبرة الشك والعثار (14: 27- 29)، وخبرة التشتّت والهرب (14: 27)، وخبرة الإنكار (14: 30- 31)، سوف تعلّمها أن يسوع وحده هو الذي يجمعها. فكلّهم، بمن فيهم بطرس ورغم إحتجاجاته التي استعادها الآخرون، كفهم سوف يختبرون في هذه الليلة الواقع الأكيد.
أمام سرّ خطيئة التلاميذ، إستعادت الكنيسة الأولى الكتب المقدّسة لكي تسند إيمانها في رحمة الله. إستعادت النبي زكريا الذي أعلن أن الله يضرب راعي شعبه فيعود الضعفاء والمشتتون إلى نفوسهم ويرتدّون (زك 13: 7). مثل هذا الكلام يعيد الثقة إلى الخاطئين. فقد وُعد التلاميذ بأن القائم من الموت سيسبقهم إلى الجليل (14: 27؛ رج 16: 7)، كما سبقهم على طريق أورشليم (10: 32). سيكون حاضراً معهم، وسيكون حضوره دائماً.
ولكن بانتظار ذلك، هذه ليلة الشكوك والنكران التي تغطّيهم جميعاً مع بطرس. كشف له الرب إعتداده بنفسه وطمأنينة كاذبة إستند إليها، فأعطاه الأمل: إن صوت الديك سيدعوه إلى الندامة والتوبة، فيكون له صورة مسبقة عن صباح القيامة.
ونتوقّف الآن عند المقطوعات الثلاث في هذا المشهد: إعلان الخائن (14: 17- 21). العشاء الأخير ورسم الافخارستيا (14: 22- 25). تشكّك التلاميذ وإنكار بطرس (14: 26- 31).
2- إعلان الخائن (14: 17- 21)
أ- النصوص الموازية
قبل أن نتوقّف عند تفاصيل النصّ ومعانيه، نقدّم نصوص المتوازية:
مت 27: 20- 25 مر 4 1: 17- 21 لو 22: 14، 21- 23
20- ولما كان المساء 17- ولما كان المساء 14- ولما أتت الساعة
اتكأ أقبل إتكأ
مع التلاميذ الانني عشر مع الاثني عشر مع الرسل
21- وفيما هم 18- وفيما كانوا متكئين
يأكلون يأكلون
قال: قال يسوع:
الحقّ أقول لكم الحق أقول لكم
21- ومع مذا
إن واحداً منكم إن واحداً منكم فها إن يد
سيسلْمني سيسلّمني الذي يسلّمني
واحداً يأكل معي على المالدة معي
22- فاستولى عليهم حزن شديد فاستولى عليهم الحزن
وأخذ كل واحد وأخذوا يقرلون له
يقول له واحداً فواحداً
العلي أنا العليّ أنا؟
يا رب؟
23- فأجاب وقال 20- فقال لهم
هو واحد من الائني عشر
ان الذي غمس يده واحد يغمس يده
معي في الصحفة، معي في الصحفة
هو الذي يسلمني
24- ان ابن البشر ماض 21- ان ابن البشر ماض 22- إن ابن البشر ماض
بحسب ماهو مكتوب بحسب ماهو مكتوب بحسب ماهو محتوم
ولكن ويل لذلك الرجل ولكن ويل لذلك الرجل ولكن ويل لذلك الرجل
الذي به يسلم الذي به يسلم الذي به يسلم
ابن البشر ابن البثر
فلقد كان خيراً فلقد كان خيراً
لذلك الرجل لذلك الرجل
أن لايولد أن لايولد
25- فأجاب يهوذا 23- فطفقوا يسألون
الذي كان مزمعاً أن يسلمه: بعضهم بعضاً:
العلي أنا، رابي؟ من تراه
قال له: أنت قلت يقدم عل هذا العمل!
ب- قراءة تفصيلية
"ولما كان المساء" (آ 17). ويدخل الإنباء عن خيانة يوضاس (يهوذا) بشكل مفاجئ في الخبر. كنا ننتظر ذكراً لعودة التلميذين وما أعدّا، أو حديثاً عن العشاء بعد آ 16. نحن في الواقع أمام وحدتين منفصلتين تبدأ كل منهما (وإن بشكل مختلف) بهذه العبارة: فيما كانوا يأكلون (آ 18، 22). يبدو أن آ 17- 21 أقحمت بين آ 16 وآ 22. فماذا عن تاريخها؟
قال يوحنا بوضوح إن يسوع يعرف ما في الإنسان (2: 25)، وإن يسوع عرف طباع يوضاس منذ مدّة طويلة (6: 70- 71). ولكن ما تجدر الإشارة إليه في هذا الإنباء هو أن يوضاس لم يُذكر ولم يحُكم عليه. ولا شيء يشير أنه سيكون الخائن. إن لو 22: 23 ينهي كلامه بأن التلاميذ "طفقوا يسألون بعضهم بعضاً من تراه فيهم يقدم على هذا العمل"؟ أما في يو 13: 21- 30، فإن يسوع يدلّ التلميذ الحبيب خفية على الخائن، ثم يقول ليوضاس (آ 27): "ما أنت فاعله، فافعله عاجلاً". وأشار مت 26: 25 إلى سؤال يوضاس: "العليّ أنا، يا ربّ"؟ فأجابه يسوع: "أنت قلت". نفهم من خلال الخبر المتاوي أن هذا الحديث القصير كان وشوشة بين يسوع ويوضاس فلم يسمعه أحد غيرهما. وهذا صدى للتقليد اليوحناوي الذي يقول: "لم يفهم أحد من المتكئين" (13: 28).
"ولما كان المساء". نحن أمام عشاء الفصح الذي يتمّ بعد غياب الشمس وبداية 15 نيسان. "الاثني عشر". قد يكون التلميذان عادا (آ 13). أو نكون أمام عبارة إصطلاحيّة. في سائر خبر الحاش، ترد هذه اللفظة في عبارة "واحد من الاثني عشر" (14: 10، 20، 43).
"كانوا متكئين". كان الفصح في الأساس (خر 12؛ 11) يؤكل بعجلة ووقوفاً. ولكن فيما بعد، تبدّلت القاعدة، وصاروا يجلسون، بل يكادون ينامون، علامة تحرّرهم من العبودية. ولكن هذا الفعل لا يكفي ليدلّ على الطابع الفصحي لهذا العشاء. ففي كل وليمة، كان المشاركون فيها يتكئون (2: 15؛ 6: 26؛ 12: 39؛ 14: 3؛ مت 22: 10؛ لو 5: 29؛ 14: 8، 10).
"الحقّ أقول لكم". طريقة إحتفالية تدلّ على أهميّة ما سيقوله يسوع. "واحد يأكل معي". هنا تلميح إلى مز 41: 9 كما فهمه يو 13: 18. هذه العبارة التي تأتي في جملة إعتراضية، تغيب من بعض المخطوطات، ولا نجدها في مت الذي تهمّه الإشارة إلى النصوص الكتابية. فقد يكون مر عاد إلى يو. إن يو 13: 21 إستعاد قول مر 14: 18 (واحد سيسلّمني) وألغى هنا العبارة الكتابية (واحد يأكل معي) بعد أن وضعها في 13: 18. بدا نصّ لوقا مستقلاً. حدّثنا عن الساعة التي فيها جاء يسوع "فاتكأ وأتكأ معه تلاميذه" (22: 14). وبعد الكأس الأولى (آ 15- 18) جاء الإنباء بالخائن مختلفاً: "ها إن يد الخائن معي على المائدة" (آ 21).
"فاستولى عليهم الحزن" (آ 19). إضطرب التلاميذ جداً لهذا الشرح داخل الجماعة. نقرأ في اليونانية "اركسانتو"، أي بدأوا يحسّون بالحزن. بدأوا يدركون هذا الواقع الأليم. "واحداً فواحداً". عبارة معروفة في العالم السامي وفي العالم اليوناني (لا 25: 10؛ مت 26: 22). "العليّ أنا"؟ "أنت قلت". جواب محيّر. لم يفهمه أحد. وهكذا لا يستطيع التلاميذ أن يتهموا أحداً. بعض المخطوطات زادت: "وقال آخر: هل أنا حقاً"؟ وزاد مخطوط واحد لفظة "رابي" على السؤال. وفي نص مت: "معلّم".
"فقال لهم" (آ 20). أجاب يسوع ولم يتهم أحداً. أما كلمته "واحد يغمس يده" (كلهم يغمسون يدهم) فتدلّ على خطورة الخيانة وشناعتها. "غمس" (امبابتو) يرد هنا وفي مت 26: 23. ليس لفظة كلاسيكية، ولا نجده في السبعينية. جاء نص مت مختلفاً بعض الشيء: "ذاك الذي يغمس يده في الصحفة، هو الذي يسلّمني". أما في يو 13: 26، فنقرأ: "الذي أعطيه اللقمة التي أغمسها في الصحفة". حتى هنا، لا إشارة واضحة إلاّ للتلميذ الحبيب الذي لم يفهم على كل حال كيف ستكون هذه الخيانة وهذا التسليم.
"ابن البشر يمضي" (آ 21). يرد الفعل مراراً في يو 8: 14، 21، 22؛ 13: 3، 33؛ 14: 4، 28. يدلّ على أصل يسوع وعلى عودته إلى أبيه. إذن، هو لا يذهب إلى البعيد، إلى المجهول، بل يمضي إلى أبيه. "على حسب ما هو مكتوب". هنا نجد الرباط بين موت يسوع كمصير أعدّه الآب وقبله يسوع قبولاً حراً، وشّر أراده البشر. لم يكن يوضاس مجرّد أداة. فمسؤوليته واضحة في ما عمل. لا يقول مر ولا مت ما هو مكتوب هنا بالنسبة إلى يسوع. ولكننا سنجده لا خطب بطرس بعد العنصرة.
ج- إعتبارات لاهوتية
يقع إعلان الخيانة في إطار العشاء الفصحي الذي تحدّثنا عن تهيئته في الفصل السابق. وهو يرد في الأناجيل الأربعة الذين قد يختلفون على زمن العشاء وعلى طبيعته. ولكنهم تسلّموا من التقليد، على ما يبدو، أن يوضاس سيسلّم معلّمه بعد أن يكون أكل معه: هذا ما يورده مت ومر فيبدو نصّ الواحد قريباً من الآخر. عند لو، جاء إعلان الخيانة بعد العشاء، وكأن الإنجيلي يريد أن يقول إن الخائن شارك في وليمة العهد الجديد (22: 20- 21). ولكن هناك شيئاً نلاحظه عند لو كما عند مر: لا يذكر إسم يوضاس، ولا يشُار إليه. من هنا كان هذا الاضطراب العميق عند التلاميذ (14: 19؛ لو 22: 23). وكان الأمر كذلك عند مت في البداية (26: 22). ولكن في آ 25، دلّ يسوع على يوضاس عبر السؤال الذي طرحه هذا. أضاف مت هذه الآية (آ 25) على التقليد لئلاّ يظنّ القارئ أن يسوع لم يكن متأكّداً من هوية الذي سمّاه "واحداً منكم".
وراح يوحنا أقل من هذا وكثر من هذا. أقلّ، لأن جواب يسوع إلى "التلميذ الحبيب" لا يتوجّه إلى هذا التلميذ، وهذا ما يفسر دوام حيرة التلاميذ (13: 22، 28- 29). وأكثر، لأن يسوع (حسب يو) هو الذي يوجّه مسيرة الأحداث. فحين أعطى يسوع اللقمة ليوضاس، لم يكن عمله فقط علامة للتلميذ الحبيب (13: 26 أ)، بل فعلاً له فاعليته (آ 26 ب- 27).
إذن، تطوّر الخبر من مر إلى يو مروراً مع مت، في اتجاه يزيد الوضع قلقاً واضطراباً. إن كان مت قد أراد أن يقنعنا بشكل خاص بعلم يسوع التام، فإن يو يبيّن لنا أن يسوع يشرف على مسيرة الدراما التي يعيشها. فإنه يصعب علينا أن نقبل بما في آ 27، وإن لطّفنا من بُعدها إنطلاقاً من آ 12.
لم يذكر يسوع إسم الخائن ليعطيه السانحة الأخيرة للعودة عن ضلاله. هو لم يخسر بعد كل شيء، لأن صداقة معفمه له لم تتبدّل. إنه ما زال "واحداً من الاثني عشر"، "واحداً منكم"، "الذي يأكل معي"، الذي "يغمس يده معي في الصحفة". كل هذا هو نداء من قبل يسوع إلى يوضاس. ونلاحظ هنا الاختلاف بين مت ومر. قال يسوع في مت 26: 23: "ذلك الذي يغمس يده معي في الصحفة، هو الذي يسلّمني". هناك ثلاثة تفاصيل نتوقّف عندها. (1) ألغى مت "أحد الاثني عشر" (رج مر 14: 20). (2) إستعمل الماضي ليدلّ على أن عمل يوضاس هو عمل عابر وليس عادياً. (3) وشدّد مت على العمل: "هو الذي يسلّمني". وهكذا أعلن مت في آ 23 ما سنقرأه في آ 25 (أنت قلت). وهكذا صار قريباً جداً من يو.
وتحفّظُ مر له معناه هنا، لا سيّما وأنه يعرف أن يبرز معرفة يسوع السابقة عندما يشاء (آ 13- 16). إنه إنعكاس لتحفّظ المعلّم الذي تلهمه الإرادة بأن يعطي ليوضاس المهلة الأخيرة. ما دام لم يذكر اسمه فمصيره لا يزال مفتوحاً. لا شكّ في أنه قرّر أن يخون. ولكنه يستطيع أن لا يخون. أمّا عند مت ويو، فنحسّ و كأن "ختماً" وضع على مصير يوضاس، فلا يستطيع أن يبدّله.
أما آ 22 التي نجدها في مت، وجزئياً في لو (مع ألفاظ مختلفة) فليست بلعنة بل رثاء وبكاء يحمل النداء الأخير إلى العودة. فالنصوص التي تبدأ بلفظة "الويل" (13: 17؛ 1 كور 9: 16..) وإن كان فيها التهديد، فهي في الوقت عينه تنبيه ونداء.
3- عشاء الرب (14: 22- 25)
أ- النصوص الإزائية
مت 26: 26- 29 مر 14: 22- 25 لو 22: 15- 20
26- وفيما هم يأكلرن 22- وفيما هم يأكلون 15- وقال لهم: إشتهيت
أن آكل...
أخذ يسوع خبزاً أخذ يسوع خبزاً 19- ثم أخذ خبزاً
وبارك ثم كسر وبارك ثم كسر وشكروكسر
وأعطى التلاميذ قائلاً وأعطاهم قائلاً وأعطاهم قائلاً
خذوا كلوا خذوا
هذا هوجسدي هذا هو جسدي هذا هو جسدي
الذي يبذل لأجلكم
إصنعرا هذا لذكري
27- ئم أخذ كأساً 23- ثم أخذ الكاس 20- وكذلك الكأس
وشكر وشكر من بعد العشاء
وأعطاهم وأعطاهم
قائلاً قائلاً
إشربوا منها فشربوا هذه الكأس هي
كلكم كلهم
24- وقال لهم
فإن هذا هو دمي هذا هو دمي
دم العهد دم العهد الجديد العهدالجديد بدمي
الذي بهراق الذي يهراق الذي يهراق
عن كثيرين عن كثيرين من أجلكم
لمغفرة الخطايا
29- وأقول لكم: 25- الحق أقول لكم: 18؛- فإني أقول لكم:
لن أشرب بعد لن أشرب بعد لن أشرب بعد
من عصيرالكرمة من ثمرالكرمة من ثمرالكرمة
إلى اليوم الذي إلى اليوم الذي إلى
فيه أشربه معكم أشربه فيه
جديداً جديداً أن يأتي
في ملكوت أبي في ملكوت الله ملكوت أبي
ب- قراءة إجمالية
أولاً: العشاء الأخير والعشاء الفصحي
نقدّم الملاحظات التالية:
* لا نحاول أن نفصل العشاء الأخير عن العشاء الفصحي. فهذه الصورة الفصحية باقية في 1 كور وفي سائر رسائل بولس من خلال إشارات وتلميحات (رج 1 كور 11: 23 ي).
* لا نستطيع أن نفسرّ إستمرار الموضوع الفصحي إن توقّفنا عند الخلاف بين يوحنا وبين الإزائيين، حول زمن الاحتفال بالفصح. فهناك عشاء ديني قام به المعلّم مع تلاميذه.
* كانت أبحاث عند الاسيانيين دلّت على أن يسوع وتلاميذه تبعوا الكلندار الخاص بهم، لا الكلندار الرسمي. فإن كان الأمر هكذا، لا نفهم أن يكون يسوع قد أراد أن يمارس الفصح في أورشليم بشكل سرّي.
* إن عبارة "حمل الله" التي نجدها في يو، 1 بط، رؤ، لا يمكن أن تفسرّ حتى وإن رفضنا تماهي العشاء الأخير مع العشاء الفصحي. مهما كانت الافكار حول حمل الفصح في أيام يسوع، لا يمكننا إلاّ أن نتذكّر كلام بولس الرسول في 1 كور 5: 7: "إن المسيح، حمل فصحنا، قد ذبح".
والسمات التي ميّزت العالم اليهودي في أيام يسوع هي الصلاة، الشكر على المشاركة في المائدة وعلى ما أعطينا من طعام. فربّ البيت (يجلس إلى رأس المائدة) يأخذ الخبز ويكسره. ويقول: "مبارك أنت أيها الرب إلهنا وسيد الاكوان. تخرج الخبز من الأرض". وفي النهاية: "مبارك أنت يا إلهنا لأجل صلاحك الذي شاركنا فيه". وبعد الجواب، يأخذ المترئّس "كأس البركة" ويتلو صلاة الشكر من أجل خيرات الله التي عمّت الأرض. ويأتي الجواب: آمين.
عاش يسوع المشاركة في العشاء الأخير مع عائلته الجديدة التي حلّت محل العائلات التي يجب أن ينساها (10: 29- 30). وهو في الوقت عينه رأسُ هذه العائلة الجديدة والمترئّس لمائدتها (3: 34؛ مت 10: 35) مع كل هؤلاء "التلاميذ الجدّد" (المتجدّدين) الذين دعاهم لكي يتبعوه (10: 21؛ مت 10: 25). في هذا السياق نرى معنى حضور الخطأة والمهمّشين. بالنسبة إليه، قد حلّ زمن الخلاص الاسكاتولوجي، قد حلّ زمن الغفران. هذا ما نعِمَ به زكّا (لو 19: 1- 10). وهذا ما أثار غضب الفريسيين (مر 2: 16).
ماذا أردنا أن نفهم أهميّة المشاركة في الطعام (مع البركة) نتذكّر أقوال بولس: من رفض المشاركة في المائدة رفض الله (روم 14: 1- 15: 3؛ غل 2: 11- 21). غير أن هذا ينبع مما يرمز إليه العشاء الأخير. وليس لهذا العشاء بُعد إسكاتولوجي وحسب (مر 14: 25)، بل هو يجمع كل غنى يسوع في رسالته: إعلان بطرس لمسيحانيّة يسوع (8؛ 29). ومجيء ملكوت الله يرتبط بالخلاص المسيحاني والغفران. ومدلول الطعام المشترك كعلامة الوحدة والسلام، يجعلنا في إطار مسبق من البركات.
ج- خبر العشاء الأخير
إن أقدم خبر للعشاء الأخير وأول تفسير لمدلوله نجده في بولس (1 كور 11: 23- 25)، وإن كانت بعض السمات اللغوية سابقة لبولس. فالرسول نفسه يقول لنا إنّه تسلّم تقليداً نقله إلى جماعة كورنتوس (1 كور 11: 23). وهذا التقليد يثبت البنية الجوهرية لما قلناه عن المشاركة في المائدة. نتسلّم الخبز المكسور قبل الشكر على الطعام والمشاركة في الكأس "بعد العشاء" طلباً للبركة بعد الطعام، وقي الوقت عينه، ترك النموذج (أخذ، شكر، كسر، أعطى) الأولاني للإفخارستيا طابعه على معجزات تكثير الأرغفة في أناجيلنا (مر 6: 30- 44 وز؛ 8: 1- 10 وز).
لا شكّ في أننا معنيّون أولاً بالنسخة المرقسية، ولكق هناك سمات في مت ولو يجب أن نعيرها إنتباهنا. يبدو نصّ مر قريباً من مت (في اللغة اليونانية)، مع تبديل في صيغة الفعل (14: 22) والغاء مت 26: 28 (لمغفرة الخطايا). وبدا لو 22: 19- 20 قريباً جداً من 1 كور 11: 23- 25. وتختلف النصوص الإزائية عن نص بولس في ثلاثة أمور. (1) يتفقون على القول بأن يسوع قابل بين الخبز المكسور وجسده. (2) يتفقون على القول بأن يسوع قابل بين الخمر ودمه، وأعلن أن العهد الجديد قد تدشّن عبر هذا الدم. (3) يتفقون على القول بأن جسده ودمه قدّما من أجل الجماعة، من أجل الكثيرين.
هذا التوافق اللافت، ولا سيّما على التعابير الليتورجية كما نجدها في بولس وعند الإزائيين، يعود إلى تقليد عرفته الكنيسة في أولى أيامها. وهذا التقليد يعود إلى زمن يسوع نفسه.
د- العشاء الأخير والتقليد اليهودي
إن هذا العشاء الأخير يختلف عن كل ما سبقه في حياة يسوع. وان ارتبط خبره بمعجزات الأرغفة في الأناجيل الأربعة. أولاً، لقد انحصر هذا العشاء في حلقة حميمة، حلقة الاثني عشر. ثانياً، إرتبطت الكلمات التي قيلت فيه بالشكر قبل الطعام وبعده. ثالثاً، أعلنت هذه الكلمات الآلام الآتية (الدم المهراق). رابعاً، لم يدهش الرسل لهذه الكلمات كما دهشوا حين أَعلن يسوع خيانة يهوذا (يوضاس).
كل هذا نفهمه حين نضع العشاء الأخير في إطار وليمة حمل الفصح. وكل هذا نوجزه فيما يلي. (1) تطلب فريضة حمل الفصح (خر 12: 26- 27؛ 13: 8) أن يشرح ربّ العائلة في كل إحتفال أسباب الإجتماع، ويذكّر الحاضرين بافتداء الشعب من العبودية. (2) في زمن يسوع، كانوا يأتون بآلاف الحملان إلى رواق هيكل سليمان في أورشليم، ويذبحونها بعد ظهور بدر نيسان. وهكذا يتذكّرون خلاص العبرانيين من مصر حسب خر 12: 21- 25. (3) يبدأ عشاء الفصح بعد غياب الشمس، في العائلة أو في مجموعة صغيرة، مثل مجموعة يسوع وتلاميذه. يبدأ الطعام بتذوّق الأعشاب المرّة والثمار المتبّلة. يؤتى بالحمل المشوي ولا يؤكل ساعتها. فيفسرّ رب البيت حمل الفصح، الخبز الفطير، الأعشاب المرة (رج أع 22: 3). (4). الفطير يدلّ على عجلة العبرانيين حين تركوا منفاهم، أو على خبز الضيق (مز 80: 5)، أو على البركة المنتظرة في الزمن الآتي.
هـ- معنى أقوال يسوع
كيف نفهم أقوال يسوع؟ ان عبارة "الجسد والدم" (أو اللحم والدم، يو 6: 53) تدلّ على أننا في مناخ ذبائحي. وهذا ما نقوله أيضاً عن فعل "يهراق" الذي يرتبط بالعهد (خر 24: 8). ولا نستطيع أن نفهم لغة يسوع الذبائحية دون العودة إلى حمل الفصح. وهذا ما يتمّ في الموت، وهو موت يدخلنا في العهد (الميثاق) الجديد.
فلَو لم يُشر يسوع إلى حمل الفصح، لما استطاع المسيحيون الأولون أن يتكلّموا عن حمل الفصح المسيحي. فإن 1 كور 5: 7- 8 تقدّم لنا مع الخبز الفطير العيد الاسكاتولوجي الذي بدا فيه يسوع كالحمل الذي ذُبح.
ويصوّر موت يسوع الذبائحي في مراجعنا كذبيحة بدليّة. تبع مر مت حين قال: يهراق من أجل الجماعة. أما لو فتبع بولس وقال: "يُبذل لأجلكم". وتحدّث يوحنا عن الجسد الذي يُعطى "لحياة العالم" (6: 51). وهكذا صار حمل الفصح في زمن يسوع عيداً فوق ذبيحة. وانضمت إلى هذا العيد الأفكار الذبائحية العائدة إلى العهد القديم، بما فيها من تكفير. وقد استعمل بولس عبارة "مات لأجل خطايانا" ليصوّر عمل يسوع (1 كور 15: 3؛ رج روم 6: 10). وأورد لنا التقليد اليوحناوي تسمية المعمدان ليسوع: "حمل الله الذي يرفع خطيئة العالم" (1: 29، 36).
و- قراءة تفصيلية
"وفيما هم يأكلون" (آ 22). يبدو أننا هنا أما قطعتين منفصلتين وقد جمعهما التقليد: آ 18- 21 ثم آ 22- 25. نجد لفظة "يأكلون" في المقطعين، ولكن لا نعرف القطعة التي سبقت الأخرى. إن عبارة العشاء الأخير في 1 كور 11: 23- 26 تبدو خبراً منفصلاً يبدأ: "في الليلة التي أسلم فيها (غابت الأداة "دي" ثم "غار" من مر، فأعتبرنا أنه يعود إلى تقليد فلسطيني). "أخذ الخبز". قد يكون خبزاً فطيراً أو خبزاً فيه خمير. "شكر" (أولوغاساس). رج 6: 41. في المعنى الأصلي: بارك. قال: مبارك أنت يا الله. أما لو 22: 19 فاستعمل لفظة "أوخارستاساس" (من هنا الافخارستيا) كما استعملها مر 8: 6 (إطار تكثير الخبز من أجل الوثنيين الآتين من العالم اليوناني) وبولس في 1 كور 11: 23.
"وكسره" (كلاوو). رج 8: 6، 19 (رج كسر الخبز في أع 2: 42). "وأعطاهم". هو يسوع الذي يعطي، لا التلاميذ كما في 6: 41 و 8: 6. وزاد مت 28: 26: التلاميذ (أعطى التلاميذ كما في تكسير الأرغفة). "خذوا هذا". وزاد مت: "كلوا". وزادت بعض المخطوطات المرقسية "كلوا". وقالت مخطوطة لاتينية: "وأكلوا منه كلّهم". "هذا هو جسدي". هي العبارة الأقصر. زاد بولس: "الذي من أجلكم" (1 كور 11: 24). وتبع لو التقليد البولسي فكتب: "الذي يبذل من أجلكم" (22: 19). ان لفظة "جسدي" تدلّ على عمل يصل بنا إلى الموت. هذا الخبز يؤخذ ويؤكل.
"وشكر" (آ 23). رج 8: 6. هناك من يماثل بين هذه الكأس وكأس البركة الثالثة في عيد الفصح. ولكن هذا الأمر ليس بأكيد. ذكر مت ومر فقط كأساً واحدة. وهذا ما جعل بعض الشّراح يقولون إن العشاء الأخير لم يكن "عيد الفصح". عاد لو إلى كأسين. ولكن كلامه لا يحلّ المشكلة. "فشربوا جميعاً". هذا يعني أننا أمام كأس واحدة. قال مت 26: 27: "إشربوا من هذا كلكم". لسنا هنا أمام هجوم على ممارسة غير معروفة عندنا. بل مشاركة في بركة "العهد الجديد".
"دمي للعهد" (آ 24). رج خر 24: 8: كانوا يرشون المشاركين في الذبيحة بالدم فيمنحونهم بركات عهد سيناء. رج زك 9: 11. إن حياة يسوع قد أعيدت إلى الله فقبلها. ثم قدّمها للبشر. هذه الخمر ليست فقط رمزاً إلى دم العهد، بل هي علامة وسرّ به نتقبّل العهد ونغتذي منه (خر 24: 11). ويظهر رباط آخر هنا مع حمل الفصح: الرب افتدى شعبه من العبودية، وهو فداء يرمز إليه دم الحمل. والآن، في نهاية الأزمنة، كرّس شعب العهد الجديد في دم يسوع من أجل حياة جديدة.
"العهد"، الميثاق (دياتيكي). رج مت 26: 28؛ لو 1: 72؛ 22: 20؛ أع 3: 25؛ 7: 8، روم 9: 4؛ 11: 27؛ 1 كور 11: 25؛ 2 كور 3: 6، 14؛ غل 3: 15، 17؛ 4: 24؛ أف 2: 12؛ عب 7: 22؛ 8: 6، 8، 9، 10؛ 9: 4، 15، 16، 17، 20؛ 12: 24؛ 13: 20؛ رؤ 11: 19. في اليونانية الكلاسيكية، تدلّ اللفظة على "إرادة" الإنسان، "وصية" الإنسان. نجد هذا المعنى أيضاً في البرديات. وقد يكون هذا هو المعنى في عب 9: 15، 16، 17. في العهد الجديد وعبر السبعينية، المعنى هو "العهد والميثاق" (بريت في العبرية). لهذا السبب نفهم اللفظة في العهد الجديد وكأنها تتضمن "ملكوت الله".
إن الكلمة اليونانية في العهد الجديد تتفرّع مباشرة من العهد القديم. وكانت لفظة في اليونانية الكلاسيكية تدلّ على العهد هي "سونتاكي". ولكنها بعيدة عن مدلول الاتفاق المتبادل كما في العبرية. ففكرة العهد (أو: الميثاق) الجوهرية في العالم العبري خاصّة، والعالم الشرقي عامّة، هي علاقة خضوع: الشعب التابع للربّ يرتبط بطاعة تجاه الله خالقه وحاميه. عرف إسرائيل أن الله اختاره ملكاً خاصاً له، لهذا ارتبط به برباط الثقة. وما دلّ على العهد بين الله والشعب هو دم العهد (أولاً في الختان. ثانياً: في عهد سيناء). وهكذا ربط يسوع ما فعله بدم العهد.
"يهراق" (إكخينومنون). رج 10: 45؛ مت 23: 35؛ 26: 28؛ لو 5: 37؛ 11: 50؛ 22: 20؛ أع 1: 18؛ 10: 45؛ 22: 20؛ روم 5: 5؛ يهو 11. هو إسم الفاعل المستعمل في معنى المستقبل. "عن كثيرين". أي: عن الجماعة. هكذا فسرّت لفظة كثيرين في العالم الإسياني. وهكذا تلتقي الجماعة مع ما قيل في لو 22: 19: "لأجلكم" (أنتم الجماعة). وزاد مت 26: 28: "لمغفرة الخطايا". إن علاقة الغفران مع العهد الجديد ظاهرة في إر 31: 31- 34. لكن لا ننسَ أننا لا نجد في إر إشارة إلى ذبيحة دموية. أما الرابانيون، فجمعوا "الدم" إلى "العهد" وتحدّثوا عن الختان. أما يسوع فأراق دمه من أجل إسرائيل الجديد وهكذا دشّن عهداً جديداً من أجل جماعة العهد التي أسّسها.
"الحقّ أقول لكم" (آ 25). نجد في مت ومر توازيات في القول الاسكاتولوجي. ومع بولس، في خبر تأسيس الافخارستيا نقرأ: "تعلنون موت الربّ إلى أن يأتي" (1 كور 11: 26). وخبر لوقا (22: 16) تسبقه العبارة التالية: "أقول لكم: لن آكل منه مجدّداً إلى أن يتمّ في ملكوت الله". نحن هنا أمام فكرة تعود إلى العالم اليهودي. ففكرة الوليمة "المسيحانية" في ملكوت الله نجدها في العهد الجديد (مت 8: 11؛ لو 14: 15؛ 22: 29؛ رؤ 19: 9) وفي نصوص عبرية ويهودية (أش 25: 6؛ أخنوخ الأول...). وثمر الكرم يدلّ في العالم الساميّ على الخمر (تك 40: 17). وكذا نقول عن عبارة "حتى اليوم".
4- تشتت الخراف ونكران بطرس (14: 26- 31)
أ- النصوص الإزائية
مت 26: 30- 35 مر 14: 26- 31 لو 22: 33- 34
30- ثم سبّحوا 26- ثم سبّحوا
وخرجوا وخرجوا
إلى جبل الزيتون إلى جبل الزيتون
31- حيئذ قال لهم 27- فقال لهم
يسوع يسوع
كلكم تسقطون كلكم تسقطون
بسببي
في هذه الليلة
لأنه مكتوب لأنه مكتوب
سأضرب الراعي سأضرب الراعي
فتتبدّد خراف فتتبدّد الخراف
القطيع
322- ولكن متى قمت 28- ولكن متى قمت
أسبقكم إلى الجليل أسبقكم إلى الجليل
33- أجاب بطرس 29- وبطرس
وقال له: وقال له:
لو سقط الجميع لوسقط الجميع
بسببك
ماسقطت أنا ماسقطت أنا!
البتة!
34- فقال له يسوع 30- فقال له يسوع: 34- يا بطرس
الحق أقول لك الحق أقول لك إني أفول لك:
إنك إنك اليوم إنه اليوم
في هذه الليلة في هذه الليلة
وقبل أن يصيح الديك وقبل أن يصيح الديك لايصيح الديك
مرتين
تنكرني تنكرني حتى تنكر
أنت
ثلاث مرات ثلاث مرات ثلاث مرات
أنك تعرفني
35- قال له بطرس: 31؛ فتمادى قائلاً: فقال له
لو اضطررت لو اضطررت أنا مستعدٌ أن أمضي معك
إلى السجن
ما أنكرتك ما أنكرتك وإلى الموت.
وهكذا قال وهكذا قالوا
أيضاً جميع جميماً
التلاميذ
ب- قراءة إجمالية
دوّن مت ومر هذا الخبر القصير مع آ 26: "ثم سبّحوا وخرجوا إلى جبل الزيتون" (مت 26: 30). يكاد يتألّف هذا الخبر كله من أقوال ليسوع: إيراد من زك 13: 7. وعد بأنه يسبق التلاميذ إلى الجليل، إحتجاج بطرس، إنباء بسقوط بطرس. وينتهي هذا كله بتكاتف التلاميذ مع بطرس في احتجاجه. يبدو النصّ منسوجاً نسجاً محبكاً، ما عدا آ 28 التي تبدو وكأنها أقحصت إقحاماً. إن قرب هذه المقطوعة من خبر النكران (14: 54، 66- 72)، يدلّ على الأصل البطرسي لهذا التذكّر مع التدرّج السيكولوجي من آ 29 إلى آ 31. قدّم لو 22: 31- 34 ويو 13: 36- 38 الانباء بالإنكار في داخل محادثة العشاء الأخير، ولكن في كلا الحالين، شدّد كل إنجيلي على فظاعة إمكانية الإنكار.
وماذا عن العلاقة بين مر ومت؟ إن مر 14: 26 ومت 26: 30 متشابهان. أما مر 14: 27 فقد أوجز مت 26: 31. ألغى "بسببي في هذه الليلة". وإيراد زكريا يختلف إختلافاً طفيفاً. إن آ 28 في مر شبيهة بما في مت 26: 32. وآ 29 هي قريبة تقريباً مما في مت 26: 33. ونقولا الشيء عينه عن آ 30 (مت 26: 33). والآية الأخيرة في مر تبدو كخبر يورده شاهد عيان، ويبدو مختلفاً بعض الشيء عن نصّ مت. أما نسخة لو 22: 31- 36، فلا تتضمّن تقريباً أي تقارب على مستوى الألفاظ، ما عدا آ 34 ب. نجد إحتجاج بطرس، ولكن لا كما في مت ومر من إحتداد.
ويطرح إستشهاد العهد القديم في آ 27 سؤالاً. مع أن رسالة يسوع تعود إلى إعتباراته حول الراعي والخراف (6: 34؛ مت 15: 24؛ 25: 31- 46؛ لو 12: 32؛ 15: 3- 7؛ يو 10: 10)، فالتلمحيات المرقسية إلى التوراة تبدو ضعيفة تجاه ما يقوله مت. فكيف يستعمل مر هنا إيراداً كتابياً مع أنه يسير بموازاة مت؟ قد نكون هنا أمام تهيئة لدور بطرس في 16: 7. وقد تنتمي آ 27، وآ 29 إلى الإطار ذاته.
نحن في وضع ستتشتت فيه مجموعة التلاميذ الصغيرة، بسبب ما يحصل لراعيها. ولكن يسوع سوف يجمعها من جديد بعد انتصاره، ويقودها إلى الجليل. غير أن فعل "بروأغو" (سبق) ينقصه المعنى الثابت. فهو في 6: 45 يعني ببساطة: سار في المقدمة، قاد. وعُرض موقفان. الأول، يرتبط هذا القول بظهور يسوع القائم من الموت لتلاميذه في الجليل، سواء كان ذلك إنباء لم يتمّ حول قيادة تلاميذه إلى هناك، أو نبوءة بعد الحدث الذي يعكسه هذه الظهورات. والموقف الثاني يعتبر القول إنعكاساً لاهتمامات مر ومت بالجليل، بينما اهتم لو بأورشليم. بل نحن أمام تحريض للجماعة لتبقى أمينة للرسالة كما علّمها يسوع.
ج- قراءة تفصيلية
"ثم سبّحوا" (آ 26). إذا كان الإحتفال مرتبطاً بحمل الفصح، فالنسيج هو مزامير "هلّل" (113- 118) التي ما زالت مستعملة قي الطقوس اليهودية كما كانت في زمن يسوع. "وخرجوا". نشير هنا إلى أن الاحتفال بالفصح لم يكن محصوراً في مكان محدّد. كانوا يأكلون الطعام في مكان، ثم ينشدون الصلوات والمدائح في مكان آخر. فالمهم أن يبقى الحاضرون معاً.
"كلّكم تسقطون". تشكون. تعثرون. تضعفون. فعل "سكنداليزو". نجده مراراً في مت ومر. نحن في بداية فخ يمكن أن نسقط فيه. "أضرب الراعي". رج زك 13: 7. هذا هو تأمّل الجماعة الأولى التي تعيش التشتّت والاضطهاد في أيام مرقس.
"ولكن بعد أن أقوم" (آ 28). تُبنى العبارة مع "ماتا" (بعد). جعل مت "دي" بدل "ألا" (ولكن). هناك عودات كثيرة إلى القيامة (8: 31؛ 9: 9؛ 10: 34؛ 16: 6). لا نجد هذا القول في لو الذي احتفظ بتقليده الخاص بالظهورات في أورشليم. ونشير إلى أن هذه الآية سقطت من إحدى البرديات. ويبقى الغريب في هذا القول أن بطرس لا يعود إلى الإنباء في آ 28.
إتفق مت ومر على القول "الجميع"، كل منكم. وتصّرف بطرس وكأنه حالة شاذّة. كأنه ليس كالآخرين. لو سقط الجميع، أنا لا أسقط.
"فقال يسوع" (آ 30). لم يكتفِ يسوع بالتشديد في شكل إحتفالي (الحقّ أقول لك)، بل أبرز شخص بطرس مع الضمير المنفصل: أنت. "أنت، اليوم، هذه الليلة". "تنكرني". رج 8: 34. أدخل لو هذا القول بشكل إنباء: تنكر أنك تعرفني. وسمّاه باسمه: "بطرس".
"لو اضطررت" (آ 31). إختلف مر بعض الشيء عن مت الذي أكتفى بهذه العبارة: "فقال له بطرس". أما مر فقال: "تمادى". قال أكثر من مرّة. وهذا التكرار يدلّ على ضعفه. أجل إحتدّ بطرس في تأكيده. وفعلَ مثله سائرُ التلاميذ. وهكذا دفع بطرس الآخرين بحماسه.
د- المعاني اللاهوتية
أورد يسوع زك 13: 7 فتحدّث عن تلاميذه الذين يتركونه ويتفرّقون. أضرب الراعي فتتشتت الخراف. يسوع هو الراعي المسيحاني. وعمله أن يجمع شعبه، خرافه، وهذا عمل إسكاتولوجي خاصّ بالمسيح. غير أن الراعي سيُضرب، ومجموعة الاثني عشر سينفرط عقدها بسبب الشكوك والعثار. نحن أمام الشكوك الذي "يسبّبه" يسوع. يكمن هذا العثار في الضعف والذلّ والموت لدى المسيح الذي اعتبروه يصل إلى المجد دون أن يمرّ في الموت.
ولكن في هذا الضعف وفي هذا الموت تتمّ إرادة الله من أجل مسيحه. لذلك، هو الله الذي "يضرب" مسيحه. الله هو الذي يضرب الراعي. هنا نتذكّر صيغة المجهول لفعل "باراديدومي". أسلم. من أسلمه؟ الله (9: 31؛ 10: 33؛ مت 26: 2، 45).
إن هذا الشك الذي عاشه الرسل لم يكن وليد تحليل منطقي بين فكرة المسيح المجيد وفكرة موته. ولكن حين أوقف معلّمهم استولى عليهم الخوف. فهربوا وتشتّتوا. لكن يبقى أن هذا الخوف هو وليد رفضهم المتواصل بأن يقبلوا ما يقوله يسوع لهم، وليد ضعفهم وعجزهم عن فهم الانباءات بالآلام. فحين يفهمون هذا التعليم ويقبلون به، يعرفون كيف يقبلون الموت هم وبطرس.
وهكذا، إن بدا "التجمّع" مهدّداً بسبب موت يسوع، ومعاداً من جديد بقيامته، فهو في الواقع يرتبط بهذا الموت بحيث إن القيامة لا تؤمّنه، بل تشهد له. فإذا أخذنا موضوع الراعي عند الإزائيين أو في يو، فهذا هو التعليم الذي يُعطى لنا. ففي مر 6، أحسّ يسوع بالشفقة تجاه الجمع الذي يبدو كخراف لا راعي لها (6: 34). فهو يطعمها. ولكن التنظيم الذي تصوّره آ 39- 40 والذي يذكّرنا بتنظيم إسرائيل في البرية، يتعارض مع الفوضى التي تشير إليها آ 34 وتحرّك منذ الآن فكرة التحرّك الاسكاتولوجي. ويوحنا الذي قد يكون لمّح إلى هذا التجمّع في خبر تكثير الأرغفة (6: 14- 15) يمدّ تفكيره في هذا الموضوع في الخطبة حول خبز الحياة (جسدي يُعطى لخلاص العالم) وفي مثل الراعي الذي يبذل حياته ليكون لخرافه الطعام، لتكون لهم الحياة (ف 15).
خاتمة
إن إعلان خيانة يهوذا وإنكار بطرس يحيط عند مت ومر بالمقطع المتحدّث عن العشاء السريّ. هكذا يُلقى ضوء على خبر الحاش والآلام. قيل لم يكن بطرس ولا يوضاس حراً إذا كان يسوع قد عرف أن الأولى سوف ينكره والثاني يخونه. هما ليسا حرّين لأنهما علقا في شبكة نسجاها فسجنا نفسيهما فيها. وعلى مستوى مر، إن عمى التلاميذ سيقودهم إلى الوضع الذي سوف نراهم فيه: تركوا يسوع كلّهم وهربوا. والقارئ الذي يتأمّل حياته قد يتساءل عن الطريقة التي بها صوّر الإنجيلي الأمور. بما أن يوضاس وبطرس والآخرين أغلقوا الطريق التي يفتحها لهم المعلّم، لم تعد لهم الحرّية. إنهم كالفريسيين وعظماء الكهنة والكتبة، مرايا توضع أمامنا فنرى فيها ذواتنا. هكذا نفهم موقع العشاء الأخير بين هذين الحدثين: يسوع وحده هو الحرّ بأن يقدّم حياته. هو يشرف على الأحداث. هو يعيش بحسب إرادة الآب كما يراها في الكتب المقدسة. بدأ فسار في طريق الآلام ولم يتهرّب منها، فهو سيعرف طريق المجد. وحين يقوم يلاقي تلاميذه في الجليل. حينئذٍ يفهمون

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM