الفصل الثاني والثلاثون: الإستعداد للفصح

الفصل الثاني والثلاثون
الإستعداد للفصح
14: 1- 16
تحدّثنا هذه المجموعة عن أكثر من استعداد للفصح. فعظماء الكهنة والكتبة يستعدون لكي يقتلوا يسوع ولكنهم يخافون الشمعب وشغبه (14: 1- 2). ويهوذا (يوضاس) أحد الاثني عشر يستعدُ أيضاً في عملية بيع وشراء (14: 10- 11). ونظرةُ تلك المرأة في بيت عينا إلى يسوع "الذي سيموت"، استبقت الأمور وطيّبت جسده قبل الدفن (14: 3- 9). أمّا التلميذان اللذان أرسلهما يسوع (14: 12- 16) فذهبا إلى العلية المحفوظة للمعلّم، وهناك أعدّا ما يلزم من أجل عشاء الفصح: ذبح الحمل، الأعشاب، العطور...
1- نظرة عامة
أ- وكان الفصح والفطير (آ 1- 2)
يبدأ الخبر بذكر الوقت، فتبدو هذه الإشارة الزمانية حاشية تاريخيّة محدّدة: "كان الفصح والفطير بعد يومين" (14: 1). إن المقابلة مع سائر الأناجيل، ولا سيّما يو، يبيِّن أن التسلسل الزمني لا يتوافق حول الزمن الذي فيه كل يسوع مع تلاميذه حمل الفصح.
فحسب الإنجيل الرابع، مات يسوع يوم الجمعة التي هي ليلة الفصح المدعو أيضاً اليوم الأول من الفطير. مات في 14 نيسان (قمر نيسان، 14 أذار- 14 نيسان)، الساعة الثالثة بعد الظهر، ساعة تُذبَح الحملان. أما حسب الإزائيين (14: 12؛ مت 26: 17؛ لو 22: 7)، فقد احتفل يسوع مع تلاميذه بالفصح الرسمي يوم الخميس 14 نيسان، عند المساء. وهذا يعني في الساعات الأولى من 15 نيسان، لأن اليوم عند اليهود يبدأ ساعة غياب الشمس (كما في الليتورجيا عندنا. لهذا يقال في تك 1: وكان مساء وكان صباح. فاليوم يبدأ مساء اليوم السابق). وهكذا مات يسوع يوم الجمعة، 15 نيسان، في قلب العيد. مثل هذه النظرة بعيدة عن المعقول: كيف نتصوّر محاكمة تنتهي بالحكم بالموت في وقت مقدّس مثل عيد الفصح والفطير؟
وقُدّمت شروح عديدة لحلّ هذه المسألة. إعتبر بعض المؤرّخين أن الحقّ بيد الإزائيين. وأن يوحنا استبق موت يسوع بيوم من أجل أسباب لاهوتية. وحاول آخرون أن يوققوا بين جميع المعطيات. كل يسوع الفصح يوم الخميس مساءً. وكانت الحملان قد ذبحت قبل يوم من موعدها بسبب السبت الإحتفالي. أو أنه احتفل بالعشاء الفصحي مع الفريسيين يوم الخميس. أما الصادوقيون فيقومون باحتفالهم في اليوم التالي بسبب الخلاف حول الحساب التقويمي. أو أنه تبع كلندارا كهنوتياً من النوع الشمسي، يعمل به الاسيانيون، لكي يستطيع أن يستبق الفصح (دون ذبح الحمل ذبحاً طقسياً). فاحتفل بالفصح يوم الثلاثاء مساء وفي بداية 12 نيسان الرسمي الذي يوافق 15 نيسان عند شيعة الاسيانيين.
كل هذه الفرضيّات لم تفرض نفسها. غير أننا نظنّ أن عشاء يسوع الأخير (عشاء الوداع) اتخذ مدلولاً فصحياً بالنظر إلى موته على الصليب لا بالنظر إلى خضوعه المادي للكلندار الرسمي. ويدلّ تأليف الأناجيل على هدف رمزي لا نستطيع أن نهمله. فالازائيون يبيّنون لنا أن موت يسوع هو في الوقت عينه تتمة الفصح اليهودي وفتحه على مستوى الكون. إذن، ستظهر وجهة القطع والفصل أيضاً مع المعنى الجديد الذي حمله يسوع لعمله. وقد يكون مرقس اهتئم بهذا الأمر. فلم يشدّد على عيد الفصح والفطير (14: 1، 12)، بل على يوم السبت وتهيئته (15: 42؛ 16: 1) الذي يأتي بعده يوم القيامة مع الإحتفال المسيحي الأسبوعي.
ومهّما يكن من أمر، فإن مرقس أعطى خبره إطاراً حدّده في يومين هما جزء من الأسبوع الأخير في الأناجيل. اليوم الأول (الاثنين): 11: 12- 19؛ اليوم الثاني (الثلاثاء): 11: 20- 12: 44؛ اليوم الثالث (الأربعاء): 14: 1- 11؛ اليوم الرابع (الخميس): 14: 12- 72؛ اليوم الخامس (الجمعة): 15: 1- 47؛ اليوم السادس (السبت): 16: 1؛ اليوم السابع (الأحد): 16: 2- 8. ولكن هذا التحديد يبدو صعباً، إنه أشبه بلوحة فنية أكثر منها واقعية. لأنه يستحيل عملياً أن نضمّ في هذا الوقت القصير جميع الأحداث التي يكلّمنا عنها الإنجيلي، حتى وإن سرَّعنا بشكل بارز مسيرة القضاء. ولهذا نتساءل إذا كانت هذه الرسمة لا ترجع إلى احتفال مقدّس، إلى ثلاثية فصحيّة مارستها الجماعات المسيحية الأولى.
يرى مرقس أن قرار قتل يسوع، قد اتخذه منذ زمن بعيد، رؤساء الشعب اليهودي (11: 18). أما مشكلتهم الحالية فتشير إلى الطريقة التي بها ينفّذون مخطّطهم (12: 12). بما أنهم يخافون الشعب (11: 18، 32؛ 12: 12) عليهم أن يُعملوا الحيلة لكي لا تصدر فتنة في العيد. فالأحزاب الوطنية اعتادت أن تختار الأيام التي فيها يتجمّع الحجّاج، لتحرّك الأمال المسيحانية في الشعب فتثير الشغب.
ب- كان يسوع ببيت عنيا (آ 3- 9)
وربط التقليد منذ زمن باكر بين إقامة يسوع لا بيت عنيا (بيت العناء والضيق) وزيارته الأخيرة إلى أورشليم (11: 1، 11، 12). حدّد يوحنا هذا الحدث "في اليوم السادس قبل الفصح" (12: 1). أما مضيف يسوع، سمعان (الذي كان أبرص)، فلا نعرف شيئاً آخر عنه. قد يكون يسوع شفاه كما شفى الأبرص في بداية حياته العلنيّة (1: 43).
أدخلتنا امرأة إلى جوّ الحاش، وفسرّ يسوع فعلتها كاستباق لدفنه (14: 8). ففي موته (15: 40- 41) ودفنه (15: 47)، أحاطت به النسوة أيضاً. وفي صباح القيامة سيأتين إلى القبر ليطيّبن جسده (16: 1). وهناك تسلّمن بلاع القيامة (16: 6- 7). لا شكّ في أن لمرقس هدفاً حين شدّد على هذا الحضور النسائي يا حياة يسوع، مع أن هذا الحضور ظلّ متحفّظاً إن لم يكن خفياً عبر الإنحيل كله (1: 30؛ 5: 23- 25؛ 6: 17- 22؛ 7: 25؛ 12: 42).
حسب العهد القديم كانت النساء الغانيات (أم 7: 17؛ أش 57: 9) يستعملن العطور لإغواء الرجال. أما المرّ فيدلّ على حضور العريس في نشيد الأناشيد (1: 13؛ 4: 14؛ 5: 5)، كما يدلّ على تلّة الهيكل التي منها يتصاعد دخان البخور (نش 4: 6). أما امرأة بيت عنيا فصبت عطرها على رأس يسوع دلالة على استقباله (مز 13: 2). وقد نستطيع أن نرى في هذا الدهن بالطيب إشارة إلى مسحة كهنوتيّة (خر 30: 22؛ 23) أو ملوكيّة (1 صم 9: 16- 17؛ 10: 1؛ مز 45: 8). إن هذه الفعلة لها معناها العميق في نظر مرقس: ففي العماد نال يسوع المسحة النبوية من الروح (1: 10- 11= أش 42: 1). وأعلن أنه المسيح (8: 29) وابن داود الملك (11: 9- 10) ومنحه حضوره الأليم على الصليب المسحة الكهنوتية. ولكن لم يؤكّد أحد على مسيح الرب بفعلة خاصة سوى هذه المرأة. لا شكّ في أنها لم تُدرك بُعد ما فعلت. أما بالنسبة إلى الإنجيلي، فهي تمثّل إيمان الكنيسة الخارجة من الخطيئة لتتقبل ضحيّة الجلجلة كمسيحها.
"لم هذا الاتلاف والتبذير"؟ ذاك سؤال طرحه "بعضهم" مستاء. تحدّث مت 26: 8 عن التلاميذ. وقال يو 12: 4: يهوذا الإسخريوطي. وكان صدى لهذا الاستياء في الجماعات المسيحة حول مشاريع اجتماعية، ومشاريع من أجل العبادة والصلاة. تجاوز يسوع كل ما يتعلّق بتقديرات الحاضرين: 300 دينار. هذه المرأة قامت بعمل عظيم لا يثمّن. عملته من أجلي، وهذا ما كان عليها أن تعمل. ثم إن دفن الموتى هو عمل محبّة شأنه شأن الصدقة من أجل الفقراء كما يقول الكتاب (طو 1: 16- 20؛ 2: 1- 8).
كانت شريعة موسى قد طلبت من الشعب أن يعملوا جهدهم لئلا يكون بينهم فقير (تث 15: 4). ولكنها لاحظت في الوقت عينه أنه سيكون دوماً فقراء في البلاد، وأنهم يحتاجون دوماً إلى مساعدتنا (تث 15: 11). أمّا هذه المرأة فتجاوزت مسافة الواقع الملموس في متطلّبة العهد هذه. فرأت في يسوع الفقير الحقيقي الذي رذله شعبه وقتله. فقدّمت له حضورها وعاطفة محبّتها. فيسوع في نظرها أثمن من عطر ثمنه ثلاث مئة دينار راحت "ضياعاً". إذن، بدت فعلتها في نظر المعلّم كاعتراف بقيمة موته الفريد. وحده يسوع أعطى هذا المعنى لما عملت.
والإعلان الذي أضيف إلى تذكّر المرأة الذي ارتبط باعلان الإنجيل يدلّ على صدق إيمان المرأة ويقدّمها نموذجاً للمسيحيين الأولين. فما فعلته من أجله قبل موته، سيفعلونه هم بدورهم على خطى النساء القديسات تجاه القائم من الموت. فهذا القائم هو منذ الان حاضر في الإخوة، في هؤلاء الفقراء الموجودين في جماعاتنا وفي عالمنا. هؤلاء نستطيع أن نحسن إليهم متى شئنا.
ج- ومضى يهوذا الإسخريوطي (آ 10- 11)
وتجاه فعلة هذه المرأة نجد "العرض" الذي قدّمه يوضاس (يهوذا) أحد الاثني عشر (14: 10؛ رج مت 26: 14؛ لو 22: 3) لعظماء الكهنة بأن يسلمهم يسوع. لقد استبق مشروعاً ما زالوا متردّدين في تحقيقه. وتساءل مرقس مع كنيسته بالنسبة إلى هذا العمل وما فيه من شك ومعثرة: يسوع يخونه أحد أخصائه!
يرى مرقس شأنه شأن لوقا (22: 5)، أن عظماء الكهنة هم الذين وعدوه بالمال. أما متّى فحدثنا عن عقد بادر إلى العمل به يوضاس، فرأى فيه تتميماً لنبوءة زكريا (مت 26: 15؛ رج زك 11: 12؛ مت 27: 9- 10). أما يوحنا فرأى في هذا العمل جشع يوضاس وحبّه للمال. هذا هو الباعث على الخيانة (يو 12: 6).
ينتج من هذا الخبر القصير أن مسؤولية موت يسوع تقع في الدرجة الأولى على "أحد الاثني عشر". نحسّ أن لولاه، لما تجسّد مشروع القتل الذي نواه الرؤساء خوفاً من الجمع.
إن تذكر امرأة بيت عينا، والسؤال المطروح حول وجود الخائن بين الاثني عشر، أتاحا للجماعة المسيحية أن تكتشف نعمة الله وخطيئة الإنسان أمام ذاك الذي تكرمه وفي الوقت عينه ترذله.
د- وفي اليوم الأول من الفطير (آ 12- 16)
وأخذ يضيق إطار الأحداث شيئاً فشيئاً: إن الفصح والفطير يعنيان الشعب ورؤساءه. وليمة بيت عنيا ضمت عدداً قليلاً من المدعوّين. يوضاس والكهنة مثلّوا مجموعة المعارضين. فلم يبق الآن إلا جماعة التلاميذ الذين يستعدون للإحتفال بالفصح مع معلّمهم.
تحدّث مرقس عن "اليوم الأول من الفطير، الذي فيه يُذبح الفصح" (آ 12). إذن، نحن في 14 نيسان، بعد الظهر وهو يوم الإستعداد الذي فيه تنحر الحملان في الهيكل. وكانوا يحتفلون بالعشاء الفصحي في ذلك المساء عينه: ساعة يبدأ ليل البدر ومعه 15 نيسان الذي هو أول الأيام السبعة التي فيها يأكلون خبزاً بلا خمير. هناك بعض الغموض في العبارة، بحيث إن يوم التهيئة يعتبر وكأنه اليوم الأول من أعياد العيد الثمانية.
أن ترتيب الخبر يقابل ترتيب استعداد الدخول إلى أورشمليم (11: 1- 7). إتخذ يسوع البادرة فأرسل تلميذين أعطاهما علامة: رجل يحمل جرّة ماء. هذا أمر نادر، لأن هذا العمل محفوظ للنساء. استندا إلى توصية المعلّم، ووجدا كل شيء كما قال لهما. هذه الرسمة تدلّ مرة أخرى على الحرّية التي بها يذهب يسوع إلى موته فيشرف على الأحداث.
لا يُذكر هنا الحمل الذي يجب أن يذبحه ربّ البيت في رواق الهيكل قبل أن يعود به إلى البيت. نقرأ فقط لفظة "الفصح" التي قد تدلّ على الحمل (حمل الفصح) أو على مجمل العشاء الذي يذكّر بطقسه والأطعمة التي فيه، بافتداء إسرائيل ساعة الخروج من مصر.
2- قراءة تفصيلية
بعد هذه النظرة العامة، نعود إلى التفاصيل التي نجدها في آيات هذا المقطع الذي يدخلنا في جوّ الآلام عبر ذكر بيت عنيا، ويوضاس، عبر الاستعداد لعيد الفصح. لن يكون الحمل الحقيقي ذاك الذي ينحرونه في رواق الهيكل، بل يسوع المسيح الذي يبذل جسده، ويريق دمه، لا من أجل أحبّائه فقط، بل من أجل البشر الكثيرين، من أجل جميع البشر.
أ- المدخل (آ 1- 2)
رج مت آ 2: 1- 5؛ لو 22: 1- 2؛ يو 11: 45- 53. هذه القطعة الصغيرة تعتبر المدخل لخبر الحاش كله. فهي تكثّف في بضع كلمات ما سوف نصل إليه فيما بعد: القبض على يسوع وقتله. قدّم مت 26: 2 المقطع في الخطبة المباشرة: "تعلمون أنه بعد يومين يأتي الفصح وابن الإنسان يُسلم ليصلب". ومزج لو 22: 1 بين العيدين: "وكان عيد الفطير المسمّى الفصح". أما مر فاختار الخطبة غير المباشرة، وجمع مراجعه، فحدّثنا عن يومين "قبل الفصح والفطير". في آ 12، سيذكر العيدين أيضاً، ولكن هذا لا يساعدنا، لأن عيد الفطير يقع بعد ثلاثة أيام لا اثنين. إن النصّ اليوناني "ميتا دوو هاماراس" قد يعني أيضاً في العالم اليهودي: في الغد (نحسب هذا اليوم الذي نحن فيه وذاك الذي يليه). هنا نذكر 8: 31: في اليوم الثالث (ماتا ترايس هاماراس).
الفصح (بسخا في اليونانية). تستعمل اللفظة، كما قلنا، لحمل الفصح (آ 12، 14)، وللعيد نفسه (هنا وفي آ 16). وقد تستعمل أيضاً من أجل الأيام الثمانية كلها. كانوا يحتفلون بالفصح فقط في أورشليم (لا معلومات لنا حول الإحتفال به في قمران). بعد الظهر تذبح الحملان في رواق الهيكل. ويكون العشاء بين غياب الشمس ونصف الليل.
الفطير، أو الخبز بدون خمير. في الأصل هو بداية حصاد الشعير، وخلاله يؤكل الخبز الفطير (يزيلون كل خمير من البيوت، لأن الخمير هو علامة الفساد) (خر 34: 18). في العالم اليهودي المتأخر، كانوا يحتفلون بالعيد من 15 إلى 21 نيسان (خر 12: 1- 20). وكان الشعب يسمّي العيد أيضاً "الفصح". وتُذكر الممارستان معاً (الفصح والفطير) في 2 أخ 35: 17؛ رج مر 14: 12. تحدّث المؤرّخ يوسيفوس عن عيد الفطير في 14 نيسان، وهذا ما يستغرب. أما مت 26: 1، فلم يتحدّث عن الفطير، بل عن الفصح وحده.
"عظماء الكهنة والكتبة". هل نحن أمام سياسة عامة من قبل المجلس، أم أمام مخطّط قام به بعضهم؟ رج 3: 6؛ 11: 18؛ 12: 12. لا ننسى أن أع 6: 7 يتحدّث عن جمهور من الكهنة أقبلى إلى طاعة الإيمان (المسيحي). هم يحاولون "بحيلة" (إن دولو). لفظة تغيب من بعض المخطوطات. ولكنها موجودة في مت، وهي تعطينا المناخ في هذا الحدث الصغير.
"إلا أنهم قالوا" (آ 2)، هل نلغي الأداة "إلا" (الغائبة في أقدم المخطوطات) أم نبقي عليها؟ فإن أبقينا عليها أشرنا إلى عظماء الكهنة والكتبة الذين يتآمرون. إن ألغيناها لم نعد أمام أشخاص محدّدين "قال الشعب". ولكن الإبقاء عليها أفضل، لا سيّما وأن عدد المخطوطات التي تحتفظ بها هائل جداً. كما يسند هذا القول أيضاً مت 26: 5 الذي يقول: "إلا أنهم كانوا يقولون".
"لا في العيد". أي بسبب حضور الشعب الكثير في العيد. هل أرادوا أن يؤخّروا القبض على يسوع إلى ما بعد العيد ويكون يوضاس هو الذي دفعهم إلى ذلك دفعاً؟ نجد في يو 7: 11 "هيورتي" التي تدلّ على الشعب في العيد. في لو 22: 6 نقرأ: "على غير علم من الشعب"، في غياب الشعب. على كل حال، رأى الكهنة أنهم، بفضل يوضاس، يستطيعون أن ينهوا القضية. والحيلة هنا هي مهمة جداً. خافوا من الجلبة، من الشغب والإضطراب، حينئذ يتدخّل الجيش الروماني!
"الشعب" لم نعتد على هذه اللفظة عند مر الذي يفضّل في هذه الظروف لفظة "الجمع" أو "الجموع". ولكن نجد لفظة "شعب" في كما 26: 5 (لئلا يقع بلبال لا الشعب)؛ لو 22: 2 (كانوا يخافون الشعب). يعني أن هذه القطعة الصغيرة في مر قد تعود إلى مرجع آخر أخذ منه ست ولو.
ب- يسوع في بيت عنيا (آ 3- 9)
رج مت 26: 6- 13؛ يو 12: 1- 8.
يبدأ النصّ باسم الفاعل: كائناً في بيت عنيا، متكئاً في بيت سمعان. قد يكون اسم الفاعل الأول قد أضيف فيما بعد. فتكون الجملة في الأصل: إذ كان متكئاً في بيت سمعان الأبرص. قد يكون مر جاء باسم الفاعل الأول من مت. أما يو فقد يعود إلى تقليد آخر يتحدّث عن أسرة أخرى. لا نعرف شيئاً عن سمعان الأبرص. ولكن يبدو أنه كان معروفاً من الجماعة. لهذا ذُكر اسمه وقد يكون بيته "كنيسة" تلتئم فيها الجماعة.
"إمرأة". لا نعرف اسمها. وحده يو 12: 3 يقول إنها مريم، اخت مرتا ولعازر. لا أساس للقول بأنها الخاطئة المشهورة التي ذكرها لو 7: 37. إذا تذكّرنا ما قيل في آ 9 (حيثما كرز بالإنجيل)، يبدو من الغريب أن اسمها لم يُذكر. هنا نتساءل هل إن هذه الآية (آ 9) جاءت من التقليد الأصلي، أم ارتبطت بالزمن الذي فيه كتب مر؟
"قارورة" (الابستروس). رج مت 26: 7؛ لو 7: 37. "جرة" صغيرة مدوّرة تُوضع فيها العطور. "الناردين" كلمة تعود إلى العالم الهندي، إلى شجرة يُصنع منها هذا الطيب. نجد اللفظة في الأدب الكلاسيكي وفي نش 1: 12؛ 4: 13 (ينشر نارديني عبيره، كافور مع ناردين). "كثير الثمن" (بوليتالس). رج 1 تم 2: 9؛ 1 بط 3: 4. في مت نجد "بوليتيموس" (نفيس جداً).
"الخالص". "بستيكس" (رج يو 12: 3). قد تعود اللفظة إلى "بستوس": أكيد، خالص. أو إلى "بوتوس" (الفعل بينو): سائل. أو "بيكاتون": الطيب. أو: "بيستيكوس" (من بيزو): المصفّى. وعاد آخرون إلى "فستقة" الآرامية الذي هو شجر الجوز الذي يدخل كعنصر في زيت الناردين.
"إستاء بعضهم" (آ 4). إعتاد مر أن لا يسمّي الأشخاص. وهذا ما فعله هنا: قال مت 26: 8: "لما أبصر التلاميذ ذلك غضبوا". أما يو 12: 4 فلم يذكر التلاميذ بشكل عام، بل أشار إلى يوضاس (يهوذا الاسخريوطي) وحده. نشير هنا إلى أن بعض المخطوطات في مر تقول "التلاميذ" وضمت مخطوطات أخرى اللفظتين "بعض من التلاميذ". هذا يعني أن الخطّاطين المتأخرين قد تأثروا بمتّى.
"مستائين" (قالوا بإستياء) "اغاناكتونتس" (10: 14: إستاء يسوع). نستطيع أن نترجمه بفعل أو بظرف. "كانوا مستائين الواحد مع الآخر". لا وجود لفعل "قال". لهذا زادته بعض المخطوطات (لاغونتس: قال الواحد للاخر).
لماذا استعمل هذا الطيب بهذا الشكل؟ في اليونانية: إيس تي: لماذا؟ ما هو الهدف؟ رج 15: 35؛ مت 14: 31؛ 26- 8؛ أع 19: 3. "أبولايا": الإتلاف، الضياع. غابت كلمة "الطيب" في بعض المخطوطات. ولا نجدها في مت 26: 8: "لم هذا الإتلاف"؟
"كان في الإمكان" (آ 5). نحن هنا أمام توسّع وإسهاب...: 300 دينار. ماذا يساوي هذا الثمن اليوم؟ الدينار يساوي يوم عمل في الزراعة، في أيام يسوع. لم يقدّر مت ثمن هذا الطيب (أن يباع هذا الطيب بكثير). أما عبارة مر "ابانو" أكثر من، فتدلّ على سقوط قيمة العملة في أيام نيرون.
"الفقراء". الإهتمام بالفقراء هو من واجبات التقوى اليهودية، وهو ما تفرضه الشريعة. أما هنا، فليس الإعتناء بالفقراء هو الأول، بل نحن أمام سبب مشكوك فيه يدل على هذا الإستياء.
أخذوا يدمدمون عليها". من هم هؤلاء؟ هذا ما لا يقوله مر. قد يكونون أولئك الحاضرين هنا. لم يحاول مر أن يخفّف من مسؤولية الاثني عشر. ومع ذلك، لم يتبع في هذا المجال مت. فإن كان ضمير الغائب الجمع (هم، مستتر) يدلّ على بعض الحاضرين هنا، فالعبارة ذاتها في 2: 6 (آسان دي تينس) تدلّ على الكتبة. هكذا نكون بشكل عام أمام منتقدي يسوع. "دمدم": يدلّ على عدم الموافقة بالكلمة والحركة، بالضجة والعنف.
"دعوها" (آ 6). رج 10: 14. إن توالي الأسئلة كما هو هنا، نجده في البرديات، لا في الأدب اليوناني الكلاسيكي (مت 26: 10؛ لو 11: 7؛ 18: 5؛ غل 6: 17). يلفت القسم الأخير من الآية، الإنتباه حين نقابله مع القولين السابقين. بعد السؤال وما فيه من دفاع، يأتي تقدير ما فعلته هذه المرأة.
"الفقراء عندكم" (آ 7). اعتبر بعض "النقّاد" أن يسوع يريد أن لا يتحدّث عن الفقر لأنه يشوّه الوضع البشري. قال مر وحده: "تقدرون أن تحسنوا إليهم متى شئتم". ويوازي هذه العبارة عبارة أخرى: "أنا لست معكم في كل حين". قد يشير مر هنا إلى الضيق الذي عرفته جماعته (وربّما جماعة فلسطين) في أيامه. هنا نقابل مر مع يو 14: 16: "بعد قليل لن تروني".
"إنها فعلت" (آ 8). قامت المرأة بالعمل الوحيد الذي في وسعها. نجد هنا بناء الجملة اليونانية "هو اسخان ابوياسان" (مع فعل بوياساي). رج مت 18: 25؛ لو 7: 42؛ 14: 14؛ يو 8: 6؛ أع 4: 14؛ عب 6: 13. يجب أن نلاحظ أن الوضع هنا يختلف كثيراً عن ذاك الذي نجده في 12: 44 (ألقت كل ما كان لها). إن يسوع يمتدح المرأة هنا. أما في 12: 44 فهو يحكم على تقوى كاذبة لم تكن أفضل من الإستغلال في نتيجتها.
كتب مت 26: 12: "إذ أفاضت هذا الطيب على جسدي، إنما فعلته لأجل دفني". حين نقرأ مر، نحسّ أن المرأة فعلت مثل الأرملة التي وضعت درهما في صندوق الهيكل (12: 44). وصلت إلى حدود إمكاناتها. ثم إن هذه المرأة "استبقت" دفني. اعتنت قبل الوقت (برولمبانو). فعل نجده في السبعينية، في 1 كور 11: 21؛ غل 6: 1، وقد يكون آرامياً في أصله.
ما العلاقة بين مت ومر في هذه الآية؟ هناك من قال إن مت استعاد عبارة مر واعاد صياغتها. بل نقول بالأحرى: أن مر عرف تقليداً خاصاً به قبل أن يتعرّف إلى التقليد المتّاوي. هذا ما يفسرّ الظاهرة في آ 3 (كان في بيت عنيا) وهنا. ويكون المعنى الإجمالي لهذه الآية: هذه المرأة التي لم يُذكر اسمها استبقت حفلة الدهن بالمسح بالطيب، وان لم تكن تلك نيّتها الواضحة.
"طيّبت". نشير هنا إلى أن يوسف الرامي لم يكن له الوقت الكافي لكي يطيّب جسد يسوع، قبل دفنه (15: 46). وهذا ما استعدّت له النسوة (16: 1). أما التطييب هنا، فهو تفسير أعطاه يسوع، ونحن نجده في مت ومر وحدهما.
لم يشر لو 7: 36- 50 إلى حاش يسوع وموته. وهذا ما يجعلنا نتساءل حول مر 14: 9. هناك ذكر لبيت عنيا. فقد يكون مت استقى خبره من تقليد قديم، سيضمّ إليه فيما بعد الإنجيل الرابع، مرتا ومريم. إذاً إن هذا العمل (14: 9= مت 26: 13) سيُذكر "في العالم كله"، فلماذا لم يُذكر اسم المرأة؟ هنا يقول بعض الشّراح إن الخبر كان ينتهي مع آ 7 الست معكم في كل حين). أما آ 8- 9 فهما عظة تنتمي إك الجماعة الأولى؛ أو أن تفسير مت يعطي الخبر الذي نجده في لو. أسئلة تبقى بدون جواب.
"الحقّ أقول لكم" (آ 9) (آمين، أقول لكم). هذه العبارة تبدأ قولاً احتفالياً وهاماً ليسوع (3: 28؛ 8: 12؛ 9: 1، 41؛ 10: 15، 29؛ 11: 23؛ 12: 43؛ 13: 30؛ 14: 9، 18، 25، 30). ونجدها ثلاثين مرة في مت، 6 مرات في لو، 25 مرهّ في يو مع تكرار "آمين". الحقّ الحقّ أقول لكم.
"الإنجيل". رج 1: 1. هذا هو إعلان الخلاص والخبر السعيد. ترد اللفظة مراراً في مر. رج الوجهات اللاهوتية.
"العالم كله" (رج 8: 36: يربح العالم كله). هذه العبارة تعود إلى مت (كوسموس). هناك عبارة أخرى "بنتا تا اتني" في مر 13: 10: جميع الأمم. نجدها في مت 28: 19 وفي أقوال يسوع إلى رسله في 10: 18: "لتشهدوا أمام الأمم" (الوثنية).
"تذكاراً لها". هناك عمل في الماضي، ونحن نرى الآن آثاره الحاضرة. بعد أن مات يسوع ودُفن، رافق موته ودفنه ما فعلته هذه المرأة من أجله.
ج- موافقة يهوذا على تسليم يسوع (آ 10- 11)
رج مت 26: 16؛ لو 22: 3- 6.
بعد المقطع القصير في البدء (14: 1- 2)، والخبر المليء بالحياة، والذي يدلّ على شاهد عيان، نصل إلى خيانة يسوع على يد أحد الاثني عشر. اختلف مر عن لو 22: 3 الذي حمّل بعض المسؤوليّة إلى تجربة شيطانية. وعن مت 26: 15 الذي نسب إلى الطمع ما فعله يوضاس. في مر، يبدو عمل يوضاس مأساة بشعة جداً. وهذا يكفي.
هذا الخبر القصيريتبع بشكل مباشر آ 1- 2 مع تمنيات كهنة الهيكل بأن يمسكوا يسوع بالحيلة. وها هي المناسبة قد جاءت مع أحد الاثني عشر. ما الذي دفع يوضاس إلى أن يسلّم يسوع؟ أعطيت أسباب عديدة في تاريخ المسيحية. أما نحن فقد نجد جواباً في خطّ يو 12: 6: "كان يهوذا سارقاً". أيكون حبّ المال هو الذي دفعه إلى خيانة يسوع؟ وقد يكون يوضاس أحد الغيورين، وقد تمنّى أي يسرع يسوع فيعلن مسيحانيته! ولكن مسيحانيّة يسوع هي من نوع آخر. إنه المسيح الممجّد، ولكنه قبل ذلك يمرّ في الألم والموت.
"الاسخريوطي": إنسان من كريوت، القاتل بسيف يسمّى "سيكا". إنسان الكذب والتخريط. أما الصفة التي نجدها عنه في 3: 13 فهي: الذي أسلم يسوع. وهذا ما نراه الآن. هو "أحد الاثني عشر". قد تكون العبارة ذكرت لتعفي الكاتب من ذكر اسم يوضاس. رج 14: 20، 43؛ مت 26: 47؛ لو 22: 47.
"فرحوا" (آ 11). نحن أمام فرح عظيم بسبب حدث غير متوقّع (خايرو:). رج "اوخايروس" في 2 تم 4: 2. ووعدوه بالفضة. ورد هذا القول في الخطبة غير المباشرة. أما في مت 26: 15، ففي الخطبة المباشرة: "ماذا تريدون أن تعطوني وأنا أسلمه إليكم"؟ بهذه الطريقة يصبح الخبر أكثر دراماتيكياً. ونعرف من مت أنهم وعدوه بثلاثين من الفضّة. هذا هو سعر العبد. يقول لو 22: 5 إنهم عرضوا عليه الفضة فوافق على هذا الترتيب. أما يو 13: 2 فيتحدّث عن تسليم يهوذا ليسوع، ولا يشير إلى أية مساومة! ونقرأ في مر 14: 1 أن يوضاس كان يطلب فرصة مؤاتية ليسلمه. وستأتي هذه الفرصة خلال الصلاة في البستان (14: 43).
د- الإستعداد للعشاء آ 12- 16)
مت 26: 17- 19؛ لو 22: 7- 13.
تتضمّن آ 12- 16 سلسلة من الأمور المتوازية مع نصوص كتابيّة وقد تفحّصها الشّراح على مستوى المصداقية التاريخية. ثم إن آ 12 تشير إلى أن العشاء الأخير كان في إطار العشاء الفصحي، ليلة 15 نيسان.
ونبدأ مع المتوازيات. هناك حدث في 1 صم 10: 1- 4 حيث يعطي شاول الذي مُسح بالزيت المقدّس حديثاً علامة (ثلاثة رجال ذاهبين إلى بيت إيل، وفي يد أحدهم زقّ من الخمر) تساعده على التعرّف إلى طريقه. وهناك التوازي 11: 1- 6.
11: 1- 6 14: 13- 16
1- أريل اثنين من تلاميذه 13- أرسل اثنين من تلاميذه
2- وقال لهما: وقال لهما:
اذهبا إلى القرية اذهبا الى المدينة
وهناك تجدان فيلقاكما رجل
3- قولا ... المعلّم 14- قولا.. رابي
4- فذهبا ووجدا 16- فذهبا... ووجدا
6- كما قال لهما... كما قال لهما...
"في اليوم الأول من الفطير" (آ 12). لسنا أمام إشارة زمنيّة دقيقة. المعنى السطحي هو 15 نيسان. ولكن سنفهم فيما بعد أن مر يتحدّث عن 14 نيسان. وهكذا يحدّد القول الثاني ما ورد في القول الأوّل (1: 32، 35؛ 4: 35؛ 14: 30؛ 15: 42؛ 16: 2). "الذي فيه يُذبح الفصح... تذبح حملان الفصح". صيغة الفعل تدلّ على عمل يتكرّر (كل سنة). كتب لو 22: 7: "حيث كان ينبغي (حيث كانت العادة) أن يذبح (حمل) الفصح". إن فعل "تيوو" نجده في السبعينية وفي البرديات بمعنى "قتل، نحر، ذبح". رج مت 22: 4؛ لو 15: 23، 27، 30؛ 22: 70؛ يو 10: 10؛ أع 10: 13؛ 11: 7؛ 14: 13، 18؛ 1 كور 5: 7؛ 10: 20. في أع 14: 13، 18 و1 كور 10: 20 يستعمل الفعل من أجل الذبائح الوثنية. وفي 1 كور 5: 7 عن يسوع: "حمل فصحنا قد ذُبح". وعبارة "تواين توسخا" هي المستعملة في السبعينية للحديث عن ذبح حمل الفصح.
"اثنين من تلاميذه" (آ 13- 14). سمّاهما لو 22: 8: "بطرس ويوحنا". قيل لهما: "إذهبا إلى المدينة". صارت ممارسة الفصح مركّزة في أورشليم حسب فريضة تث 16: 7 (في الموضع الذي يختاره الله ليحلّ فيه اسمه، أي أورشليم). وحين نعلم أن آلاف الحملان كانت تُذبح في هذه الليلة نتخيّل ما يعنيه جوّ العيد. ثم إن حمل الفصح يؤكل داخل المدينة أيضاً.
"رجل يحمل جرّة ماء". نحن هنا أمام ترتيب مسبق. وما يثبت هذا ما نقرأ في مت 26: 18: "إذهبا إلى المدينة إلى فلان". وهذا ما يذكّرنا بترتيب مماثل من أجل الدخول إلى أورشليم. "أين الردهة"؟ غرفة الضيوف. رج لو 2: 7؛ 22: 11. نجد اللفظة في 1 صم 1: 18. يرافق مر لو. أما مت فيغفل خبر الذي يحمل الماء، وينقل كلمة يسوع: "إن زماني قد اقترب. فعندك أصنع الفصح مع تلاميذي" (26: 18).
"يريكما عليّة" (آ 15) (أناغايون). نجد في أع 1: 13 "هيبارودن" في المعنى ذاته. هي غرفة مفروشة فرشاً فاخراً من أجل المناسبة. إنَّ فعل "سترونيوو" (فرش) يستعمل ليصوّر المقاعد أو الأسرّة المغطّاة (حز 23: 4). ويستعمل هذا الفعل أيضاً مع فرش الثياب في طريق يسوع (11: 8).
"فانطلق التلميذان" (آ 16). وينتهي المقطع في هذه الآية فجأة، تاركاً عدداً من الأسئلة من دون جواب. عرفنا أن التلميذين وجدا كل شيء كما قال لهما، وأنهما أعدّا كل شيء للفصح، ولكن لا نعرف ماذا أعدا. هل أعدّا الخمر والماء والأعشاب المرّة والأسرّة والأضواء؟ وإن كان العشاء عشاء فصحياً، كيف تصرفوا من أجل ذبح الحمل وشيّه؟ وماذا عن طبخ الخبز الفطير؟ إن كان العشاء أكل في يوم قبل أوانه، فقد يكون أخذ طابع العيد. وإن لم يكن هذا العشاء الأخير عشاءً فصحياً (يتّفق مت ولو على القول إنه كان هكذا)، ماذا نقول عن الوقت الذي فيه أكل يسوع حمل الفصح؟...
3- المعاني اللاهوتية
إن الإشارة إلى الفصح والفطير ليست فقط تفصيلاً كرونولوجياً ساعة يمُتح خبر الحاش. إن الفصح يقترب. هو عيد تحرير! إسرائيل. هذا الشعب الذي يعيش في كل عيد الحدث الذي يذكّره به هذا العيد، عيد الأمل بتحرّر جديد وبانتظار للمسيح.
حين نقرأ يو 11: 45- 52، نفهم استنتاجات رؤساء اليهود. ما خافوا من قلاقل يثيرها يسوع، بل يثيرها الشعب في حماسه من أجله. لهذا كان اجتماع عند قيافا للقضاء على هذا الرجل (يو 11: 51- 52).
تختلف النظرة بعض الشيء عند مر. ولكن، مهما يكن من أمر، فالفصح قريب. هو على الأبواب. بعد يومين. المحرّر المنتظر هو هنا. ورؤساء الشعب يسعون إلى قتله.
نلاحظ هنا أصالة نص مت. ما كان صدفة في مر ولو، صار عنده موضوع تنبيه إيجابي: سيحتفلون بالفصح وبالتالي سيسلم إبن الإنسان. صيغة الحاضر تدلّ على أن الحدث قد تسجّل الآن في مخطّط الله، وذلك قبل أن يتشاور عظماء الكهنة. إن المسيح في مت يقود الدراما التي تتمّ. إنه يشُرف على الوضع. ومع ذلك، فإن آلامه لا تخسر شيئاً من واقعها البشري: إنه يسوع المسيح الذي يتألمّ.
ولكن الصدفة التي يتحدّث عنها مر بإيجاز، تؤثر علينا أكثر من اللهجة الإحتفالية التي نجدها في مت. أرانا الإنجيل الأول يسوع واعياً لمصيره. سيّد مصيره، بحيث يبدو الرؤساء (آ 3) وكأنهم يتحرّكون بفعل كلمته. أما مر فقدّم لنا سرّ الحاش الذي يبدأ. لقد تجاوزنا زمن الإنباءات بالآلام (وان كان هناك انباء غير مباشر في آ 6- 9) التي هي هنا الآن، والتي يواجهها يسوع وحده. إنه يأخذ على عاتقه التوافق بين هذا العيد الذي يأتي وذبيحته. وعدم التوافق بين انتظار المحرّر والعزم على قتله. لقد جعل مر إيجازه الإخباري يا خدمة السرّ، كما في العلاقات بين العماد والتجربة.
مع 14: 1- 2، استعاد الكاتب رواية الأحداث بعد فاصل ف 13. فمؤامرة الرؤساء ليست شيئاً جديداً. لقد بدأت في بداية رسالة يسوع العلنية (3: 6). ومنذ دخول يسوع إلى أورشليم، توضّحت الأشياء. وهكذا نجد في 11: 18 ما نقرأه هنا في آ 1 ب: يلتمسون حيلة للقبض على يسوع. وبعد مثل الكرّامين القتلة، نجد فعل "طلب" "أوقف". هناك عمليّة تضييق على يسوع، وقد صارت النهاية قريبة.
أراد الرؤساء أن يقبضوا على يسوع. وأرادوا في الوقت عينه أن يحافظوا على النظام العام. خافوا الشعب، كما قالت لوقا. ولكنهم حاولوا أن يحموا الشعب من نفسه. فهو يتبع يسوع. سيُلقى القبض على يسوع خلال العيد. هل سرّع تدخّل يوضاس الأمور؟ ربّما. المهم أن يتمّ هذا التوقيف بمعزل عن الجمع.
إمتلك كل من الأناجيل الأربعة نسخته عن مسحة يسوع بيد امرأة. لا يختلف نص مت عن نص مر إلا بتفاصيل طفيفة. عند يو، نجد اختلافاً على مستوى الوقت والمكان المحدّد والأشخاص. ومريم مسحت رجلي يسوع لا رأسه (رج لو). وتختلف المسألة مع لوقا. إختلف موضع الخبر في مسيرة يسوع كما اختلف الموضوع. أما الشكوك فلا تقف عند اتلاف الطيب بل عند استقبال يسوع هذه المرأة الخاطئة، وهذا ما درّ على أنه ليس بنبيّ في نظر سمعان الفريسي. وفعلة حبّ المرأة لا ترتبط بالدفن، بل بوضعها هي. وأخيراً، حدّد مثل المديونين وضع سمعان بالنسبة إلى وضع المرأة.
قد نكون هنا أمام حدثين متميّزين. فكيف لا تقوم امرأتان بالفعل عينه، بعد أن وُجدتا في الظروف عينها والأهداف. ثم إن خبر لو يقف خارج الحاش. وسنجد بعد ذلك (لو 8: 1 ي) لائحة بالنسوة اللواتي تبعن يسوع وساعدنه بأموالهن.
حدّد مر ومت موقع الخبر قبل الفصح بيومين. ويوحنا بستّة أيام، وحالاً بعد الدخول إلى أورشليم. تُعتبر فعلة مريم مسحة ملوكيّة، بعد أن تمت ساعة دخول يسوع إلى أورشليم (1 يو 12: 13: ملك اسرائيل). وحدّد مر وقت ويو موضع الحدث في بيت عنيا، وهذا ما لا يدهشنا في هذا الوقت من الخبر الإنجيلي (مر 11: 1، 11- 12). يسوع هو في بيت سمعان الأبرص. أما عند يو فهو في بيت لعازر. وفي الأناجيل الأربعة، يسوع يتكّئ إلى المائدة مع المتكئين. وتأتي امرأة. وستأتي بعدها النساء في خبر الآلام.
نكتشف في الأناجيل الأربعة معنى المسحة في كلمة يتفوّه بها يسوع. لقد أرادت المرأة أن تعبرّ بالعمل ما لا يعبرّ عنه بالكلام. فالمرأة في لو سمعت يسوع يقوله: غفرت خطاياها الكثيرة فأحبّت كثيراً. لا مت ومر ويو، ربط يسوع فعلة المرأة بدفنه.
ونصل إلى 14: 10- 11 وخيانة يوضاس. هذا الحدث هو امتداد للمؤامرة (آ 1- 2). بحث عظماء الكهنة عن وسيلة لكي يوقفوا يسوع بالحيلة. وها هو يوضاس يعرض عليهم أن يسلّمه. فرحوا جداً ووعدوه بمكافأة ماليّة. فلم يبقَ للتلميذ إلا أن يبحث عن الفرصة المؤاتية.
كيف تتم الخيانة، وما هو الباعث لها؟ ما هي الوسيلة؟ هل احتاج عظماء الكهنة حقاً إلى يوضاس؟ هل نقص الشرطة عندهم المعلومات الضرورية؟ قال يسوع (في الأناجيل الإزائية) ساعة أوقفوه، إنه كان كل يوم في الهيكل وإنهم لم يوقفوه (14: 49 وز). لا شكّ لا أن الرؤساء لم يكونوا يرغبون بتوقيفه في العلن، في وضح النهار. ولكن من الصعب أن نصدّق أنهم لم يملكوا أية وسيلة تعرّفهم بموضع إقامته في الليل. قد يكون اختفى في الأيام الأخيرة من حياته، كما يقول الإزائيون. أما يو فيقول إن يسوع انطلق إلى بقعة قريبة من القفر (11: 54). بعبارة اخرى: اختفى من الطريق.
وما الباعث؟ حسد من الرسل. جشع وطمع. خيبة أمل أمام رفض يسوع بأن يعلن نفسه المسيح، كما حلم بذلك الغيورون. وانطلق بعضهم من مت 26: 14 (عندئذ) الذي يلي المسح بالطيب، فتحدّث عن استياء يوضاس لا من اتلاف الطيب، بل من كلام يسوع عن موته ودفنه. ظنّ انه إن سلم يسوع، أثار تمردّاً في الشعب. هي مجرّد افتراضات. ولكن تبقى نقطة لا يمكن أن نشكّ بها: واقع الخيانة. فالجماعة الأولى لم تستنبط ما كان بالنسبة إليها الشكّ القاتل. نتذكر يو 6: 7: "أما أنا الذي اخترتكم، أنتم الاثني عشر؟ ومع ذلك، واحد منكم هو شيطان"! وثقل الشكوك يظهر في إلحاح الإنجيليين على العودة إلى العهد القديم. لقد أنبأ الانبياء بذلك... يجب أن تتمّ الكتب.
ما يلفت الإنتباه في الإستعداد لعيد الفصح، هو تشابه هذا المقطع (14: 12- 16) مع دخول يسوع إلى أورشليم (11: 1- 10). هذا ما سبق وألمحنا إليه. ونلاحظ أن مت لم يستعد رسمة خبر الدخول من مر. إن مر أراد أن يقابل بين دخوله أحتفالي في ف 11 ودخول سرّي في ف 14.
كانوا يأكلون خروف الفصح داخل العائلة. وهكذا احتفل يسوع بالعيد مع أخصّائه. وهذا ما ذكّرنا بكلمات المعلّم في 3: 33- 35. وفي هذا المنظار نقرأ آ 15: "أعدوا لنا" (لنا نحن). لا يرد هذا الضمير مراراً لكي يدلّ على يسوع وأخصائه في مثل هذا الموقف الحميم. قال لو 22: 8: "إمضيا واعداً لنا الفصح لنأكله".
إن إرسال التلميذين (آ 13) يقابل الفريضة التي تدعو إلى الإحتفال بالفصح في المدينة المقدّسة. قد يكون يسوع في بيت عنيا. وذهب في المساء إلى أورشليم. وحين أرسل اثنين من تلاميذه، اثنين من اصدقائه الحميمين، مارس الفطنة والعمل السرّي، لا سيّما بالنسبة إلى يوضاس. يبدو الإرسال عجيباً عند مر، وكأن يسوع "تنبأ" بوجود رجل يحمل جرّة ماء. أما في مت الذي يتكلّم عن التلاميذ بشكل عام، فيسوع يقود الأحداث. لم يعد بحاجة إلى الفطنة بعد أن "اقترب زمانه" (مت 26: 18). هذه العبارة جديرة بالملاحظة لأن "كايروس" لا تدلّ عند الإزائيين على زمن موت يسوع، بل على التدبير الحالي (10: 30)، أو زمن الدينونة (8: 29؛ 13: 30)، أو زمن المجيء (13: 33). نجد المدلول عينه في يوحنا، ولكن مع كلمة "هورا" (الساعة) التي تدلّ على موت يسوع وتمجيده.
خاتمة
تلك محطّة أولى في خبر الآلام، والقسم الأول في الليلة السابقة ليوم الجمعة حسب التقليد الإزائي. اربع محطات استوقفتنا في هذا الإعداد للفصح، الإعداد لحمل الفصح، والإعداد لفصح يسوع المسيح أي موته وقيامته. بعد قرار الموت الذي اتخذه عظماء الكهنة والكتبة بحقّ يسوع، كان رمز إلى هذا الموت عبرّت عنه هذه المرأة التي نجهل اسمها عندما دهنت جسد يسوع بالطيب. انتشر هذا الطيب في البيت (يو 12: 3)، فدلّ على انتشار طيب القيامة وسط جماعة التلاميذ. في محطّة ثالثة، رأينا يوضاس ينفّذ مخططات الرؤساء اليهود ويؤمّن لهم تسليم معلّمه لقاء مبلغ من الفضة. واحد من الاثني عشر يسلم "ربه"، واثنان من الاثنى عشر يهيئان الفصح لجماعة الرسل. هذا فصح المعلّم وساعة عبوره إلى الآب، بانتظار فصح التلاميذ الذين سيحملون صليبهم ويسيرون على خطى المسيح الصاعد إلى جبل الجلجلة. ولكن بانتظار ذلك، سوف يقدّم الربّ ذاته من خلال جسد يبذله ودم يريقه. سيقدّم ذاته في رموز الخبز والخمر. هذا ما نتأمله في الفصل التالي

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM