الفصل الحادي والثلاثون: ابن الإنسان وابن الله

الفصل الحادي والثلاثون
ابن الإنسان وابن الله
14: 1- 15: 47
1- موقع خبر الآلام
حين دخل يسوع إلى أورشليم وطهّر الهيكل حيث علّم، دلّ على أي مسيح هو تجاه انتظارات شعبه والعالمي. حمل في شخصه رغبات الإنسان ففتح لا بيت أبيه فسحة صلاة للوثنيين. إن الإنسان لا يعرف بالحقيقة ما يطلب: ولكن أمام يسوع يكتشف كم كانت رغباته ذات نفس قصير. أمام يسوع ينقلب العالم. فهو لم يفرض سلطته بالقوّة، بل يثبتها حين يسمح لهم أن يميتوه هو الابن الوحيد والوارث. فمملكته هي من الله الذي هو أقوى من قيصر، الذي يقيم الموتى ويشرق نوراً على حبّ الإنسان للإنسان.
قد يدمّر هيكل أورشليم. هذا لا يهمّ. فالإيمان الذي ينقل الجبال هو في متناوله الجميع. الشعوب والمماك سوف تتصادم بعدُ، والمجاعات سوف تنتشر، ولكن لا يجب أن نخاف لأن هذه كلها أول المخاض، وبعدها ستتمّ ولادة عالم جديد. السماء والأرض تزولان. ولكن لماذا التمسّك بهما؟ فكلمات المسيح تعطي الحياة إلى الأبد.
إن هذه النظرة إلى ملكوت الله حيث يتبدّل الإنسان والكون تبدلاً جذرياً، قد قدّمها يسوع لتلاميذه قبل أن يموت. ففي موته يجد كلُّ موت معناه. ولكن كان ينبغي أيضاً أن يتألمّ المسيح ويموت، أن يكون ضحية جميع البشر، وهكذا نتحقق من أن كلماته "لا تزول". فحقيقة موته وحدها هي البرهان على واقع رسالته. وحين نتحدّث عن الضرورة (يجب، ينبغي)، لا نقول بأن مصير يسوع المأساوي هو موضوع استنتاج أو قد فُرض عليه. بل نقول بكل بساطة: ذاك هو مخطّط الله الذي وجد شكله التام فى حياة يسوع وموته وقيامته.
مع المرحلة الخامسة، استشفّ القارئ، وسط التلاميذ الخائفين، كيف ينظر يسوع إلى موته القريب. فالخطبة الاسكاتولوجية أتاحت له أن يقرأ مصيره ومصير البشرية في موت معلّمه. ومجيء ابن الإنسان (أي وضع كل إنسان في حضرة ابن الله الوحيد) يحوّر بشكل حاسم تاريخ الكون وكل حياة فيه. وإذا كان كل إنسان يستطيع بواسطة الإنجيل، أن يكون في اتصال مباشر مع يسوع، فهذا لا يعود فقط إلى سموّ تعليمه أو عمق شهادته. ولكن لأن ابن الله تغلّب على الموت عبر القبور، فهو يتوجّه إلى كلّ واحد منا ويمنحه وجه الأبد. أجل لقد صار ابن الله ذاك الذي يتمّ فيه كلُّ إنسان حياته، ويتسلّمها من الرب في النعمة والرحمة.
هنا نطرح السؤال: ماذا تعني هذه العبارة التي تضعها الكنيسة على شفاهنا: يسوع المسيح مات عنا؟ هذا ما يوضحه مر في هذه المرحلة الأخيرة: إن موت يسوع وقيامته يكشفان أنه مخلّص العالم لأنه ابن الإنسان وابن الله. في هذه النظرة نتساءل لماذا يهتمّ إنجيل مرقس كل هذا الإهتمام بصليب المسيح، ولا يتوسّع إلا قليلاً في تعليم القيامة.
منذ بداية كرازة يسوع في الجليل، بدا إلقاء يوحنا في السجن (1: 14) تنبيهاً لنا. وحين صوّر مرقس آلام السابق وموته (6: 14- 29)، لمّح تلميحاً غير مباشر إلى معقمه (9: 13). فيسوع أعلن منذ البداية لتلاميذه أن "العريس سوف ينتزع منهم" (2: 20). وبعد اعتراف قيصرية فيلبّس، بدأ يتحدّث بوضوح متزايد (8: 31؛ 9؛ 31؛ 10: 33- 34) عن هذه الآلام التي تنتظره في أورشليم. وسيعود مراراً إلى هذا التعليم (9: 12- 13، 10: 38- 45؛ 12: 6- 8).
ومنذ البداية أيضاً، برزت المقاومة: تشاوروا "لكي يهلكوه" (3: 6). أرادوا أن يمسكوه (3: 21). طردوه من المدن العشر (5: 17). رفضه أهل بلده (6: 4). وبطرس نفسه أخطأ في النظرة إلى رسالته (8: 32- 33). وبدأت تحقيقات الكهنة والفريسيين الذين جاؤوا من أورشليم: إتهموه بأن فيه شيطاناً (3: 22، 30). هاجموا تصّرف تلاميذه (7: 1). طلبوا منه آية (8: 10). وفي النهاية، في الهيكل، إتخذ أعضاء المجلس قرارهم (11: 18؛ 12: 12): سألوه عن سلطته (11: 27- 28)، وحاولوا أن يضعوا له الفخاخ بواسطة أشخاص أرسلوهم (12: 13). ومع ذلك، فإن واحداً من رسله سيخونه ويسلّمه (3: 19).
وهكذا يظهر عبر لحمة الإنجيل كله وجه المفارقة بين مخطّط الله وقرار البشر: يسوع يسقم نفسه، ويوضاس (يهوذا) يسلّمه. من جهة يعرّض يسوع حياته للموت، وكأن "قدراً" يدفعه إليه، وكأن قوة داخلية تجتذبه إليه. هذا الموقف نجد تعبيراً عنه في "أفكار الله" (8: 33). في "تتمة الكتب" (9: 12؛ 12: 10) في "رسالة" يسوع (10: 45؛ 12: 6).
ومن جهة ثانية، يحصل ما يحصل وكأن البشر يشدّدون الحصار عليه. من جهة الخصوم، حسابات شريرة (2: 6- 8؛ 3: 5، 29؛ 11: 18؛ 12: 7- 12)، مكر ورياء (7: 6؛ 12: 38- 40). من جهة الجموع، حماس واندفاع (1: 28، 37؛ 3: 9؛ 4: 1؛ 5: 24، 31؛ 7: 36- 37)، أو عجز عن التفكير والتأمّل (4: 12، 34؛ 5؛ 40؛ 6؛ 3). ومن جهة التلاميذ، عدم فهم (6: 52؛ 7: 18؛ 8: 17، 21، 33) أو طموح فارغ (9: 28، 38؛ 10: 13، 35، 41).
حينئذ نتساءل: من هو المذنب؟ أيكون تاريخ يسوع خطأ كبيراً أم يشبه طرحاً صوفياً مستيكياً؟ هل كان يستطيع أن يتعرّف إلى يسوع حقاً كابن الله، سوى نخبة من المميّزين في عصره؟ ويرينا مر التلاميذ البطيئين والمحدودين كالشعب، المنغلقين والمتصلّبين كالخصوم. هل منحهم موت معلّمهم الحبيب الصدمة الخلاصية الحاسمة؟ ما كانت مسؤوليتهم الحقيقية في الحكم على معلّمهم، وما كانت مسؤولية الآخرين؟
مثل هذه الأسئلة التي نطرحها، قد طرحها الإنجيلي بعد أن جمعها من معاصريه. طرحها بطريقته الخاصّة فاستعاد التقاليد التاريخية التي تكوّنت أخباراً عن آلام يسوع وموته وقيامته. ولكنه أعطى روايته وجهاً فقاهياً وليتورجياً أخذه من الإحتفال بالإفخارستيا في الجماعات المسيحيّة الأولى. لهذا، يجب علينا أن ندرك، عبر التدوين المرقسي، كيف انطلقت الجماعة من مصير يسوع، فواجهت مسألة الموت والحياة، سرّ الخطيئة والنعمة. ونحن بدورنا سنحدّد موقعنا تجاه هذه المسألة وهذا السرّ. ذاك كان هدف مرقس حين وصل إلى قمّة إنجيله، إلى هذه المرحلة الأخيرة التي كانت في الواقع نقطة الإنطلاق لكتابة إنجيل مرقس.
2- تقديم النصّ
منذ الإنباء بمسيرة الآلام (10: 33- 34) والتحريض على السهر في الساعات الحاسمة (13: 35)، شكّلت المرحلة الخامسة كلها تهيئة مباشرة لأحداث حصلت في أورشليم لا 30 نيسان 30 حسب ما يقول الشراح. لقد توسّعت الخطبة الاسكاتولوجية في سؤالين طرحهما على يسوع التلاميذ الأربعة الذين رافقوه منذ بداية رسالته: "متى يكون هذا، وما هي العلامة حيث يوشك ذلك أن يتمّ" (13: 4)؟ مزج خبرُ الآلام هذين السؤالين فبيّن كيف يتمّ مجيء الابن الإنسان في كل وقت. يكتشف القارئ (الذي هو فاعل أيضاً في الأحداث) أن النصّ الذي يقرأه يناديه. فيجب أن نعطي أهميّة كبرى للآية الأخيرة في الخطبة حول نهاية الأزمنة: "ما أقوله لكم فللجميع أقوله: إسهروا" (13: 37).
ونتوقّف عند ترتيب النصوص. هناك حدث أولى، الدهن بالطيب (14: 3- 9) يحيط به قراران: قرار الرؤساء (14: 1- 2)، قرار يهوذا (يوضاس) (14: 10- 11). وتُضاف حاشية قصيرة حول الإستعداد للفصح (14: 12- 16). بعد هذا، نقرأ ثلاث حلقات: تأسيس الافخارستيا (14: 17- 31)، النزاع (14: 32- 42)، توقيف يسوع (14: 43- 52) في بستان جتسيماني. وتتضمّن الحلقة الثانية محاكمة يسوع أمام عظيم الكهنة ونكران بطرس خلال الليل من جهة (14: 53- 72). ومن جهة ثانية، المثول في الصباح أمام بيلاطس مع "تبادل " بين يسوع وبرأبا (15: 1- 20). وكُرّست الحلقة الثالثة للصلب والموت (15: 21- 41)، ثم الدفن (15: 42- 47).
وتتحدّث خاتمة قصيرة عن زيارة النسوة إلى القبر في صباح الفصح والبلاغ الذي سُلّم إليهنّ (16: 1- 8). وفي النهاية، تروى ظهورات القائم من الموت وصعوده إلى السماء بعد أن أعطى تعليماته لتلاميذه.
أ- تهيئة الفصح (14: 1- 16)
تقدّم هذه المجموعة أنماطاً من الإستعدادات للفصح؟ إستعدّ عظماء الكهنة والكتبة لكي يقتلوا يسوع، ولكنهم خافوا من الشعب (14: 1- 2). ويهوذا، أحد الإثني عشر، وقعّ اتفاقه (14: 10- 11). وامرأة من بيتا عنيا استبقت موت يسوع فدهنت جسده بالطيب (14: 3-9). وهيّا تلميذان العشاء الفصحي في العلئة المحفوظة للمعلّم (14: 12- 16). هيّأوا الحمل الذي يذبحه الحجّاج في رواق الهيكل بعد أن يشتروه من السوق. كما هيّأوا العطور التي تلي ذبيحة الحمل الدائمة.
ب- جماعة سوف تتفرّق (14: 17- 52)
تشمل هذه المتتالية ثلاثة مشاهد. الأول يجري داخل مجموعة الإثني عشر: خبر التأسيس الافخارستي (14: 22- 25) الذي يسبقه إعلان خيانة يهوذا (14: 17- 21)، ويليه خبر شكوك الجميع ونكران بطرس ليسوع (14: 26- 31).
ويجري المشهد الثاني في جتسيماني: بدأ يسوع الصلاة (14: 36) بعد أن أوصى ثلاثة من تلاميذه أن يرافقوه ويسهروا معه (14: 32- 35). رجع إليهم ثلاث مرّات فوجدهم نياماً (14: 37- 42). ويصوّر المشهد الثالث مجيء يهوذا وتوقيف يسوع (14: 43- 47). قال يسوع كلمته مستنداً إلى الكتب المقدّسة (14: 48- 49). أما الذين رافقوه، فهربوا جميعاً حتى ذاك الشاب الذي فرّ عرياناً (14: 50- 52).
ج- المثول أمام عظيم الكهنة وأمام بيلاطس (14: 53- 15: 20)
هنا، اتبع خبر مرقس عن قرب البرنامج المرسوم في "الإنباء" الثالث بالآلام (10: 33- 34). أسلم يسوع أولا إلى عظماء الكهنة والكتبة والشيوخ. حُكم عليه بالموت ساعة كان بطرس ينكره (14: 53- 72). ثم أسلم إلى الأمم، أسلم إلى بيلاطس الوالي الروماني. وبعد أن تمّ التبادل بينه وبين برأبا، هزأوا بيسوع، جلدوه، قادوه إلى الصلب (15: 1- 20).
نحن في هذا النصّ أمام محاكمتين. أو بالأحرى أمام استجوابين. فقد اكتفت المحاكمة بالسماع إلى الشهود. تمّت المحاكمة الأولى أمام عظيم الكهنة والمجلس اليهودي خلال الليل، وقبل صياح الديك (14: 68، 72). وتمّت المحاكمة الثانية عند الصباح (15: 1) أمام القضاء الوثني.
د- صلب ابن الله وموته ودفنه (15: 21- 47)
وتتلاحق الأحداث بسرعة: طريق الصليب (15: 21). صَلْب ملك اليهود (15: 22-27). مشهد الهزء بالمصلوب من قبل المارين، وعظماء الكهنة والكتبة، واللصين المصلوبين معه (15: 29- 32). وساعة مات يسوع (15: 33- 37) تمزّق حجاب الهيكل (15: 38)، وعرف فيه قائد المئة "ابن الله" (15: 39). وكانت النسوة يشاهدن كل شيء عن بعد (15: 40- 41).
ثم نقرأ مقطعاً قصيراً نجد فيه المناخ الذي عرفناه في بداية خبر الآلام مع دهن يسوع بالطيب بيد امرأة في بيت عنيا (14: 3- 9) والإستعداد للفصح (14: 12- 16): جاء وجيه من الرامة اسمه يوسف. طلب من بيلاطس جسد يسوع (15: 42- 45)، ودفنه في قبر حُفر في الصخر أمام نظر النسوة (15: 46- 47).
3- من النصّ إلى يسوع
أ- المدخل
إن خبر الآلام كما نقرأه في مر، يبدو موجّهاً توجيهاً لاهوتياً: يتركّز انتباه القارئ على شخص يسوع، وهذا ما يدلّ على أنه لم يمهم. جاء كلام مرقس موجزاً، مختذلاً. كم كنا نودّ أن نقرأ "تقريراً مفضلاً" عن الأحداث. ومقابل هذا نجد اختلافات بين الأناجيل، بين تسلسل الأحداث، بين التسلسل الزمني. أخبار دوّنت في بداية المسيحية فحملت طابع الليتورجيا والفقاهة.
نشير هنا إلى أن مت تبع عن قرب نصّ مر. زاد عليه بعض الأحداث القصيرة حول يوضاس، بيلاطس، الحرس عند القبر، الظواهر الكونية التي أحاطت بموت يسوع. أما خبر لو فيختلف اختلافاً تاماً عن خبر مر: هو يوجز نصّ مر، ويسقط بعض المقاطع، ويبدّل ترتيب بعض المشاهد. وهكذا يبدو لو قريباً من يو.
أي نوع من الأخبار يمثل حاش (آلام) يسوع كما نقلته الأناجيل؟ ما هو البعد التاريخي للوقائع، ولا سيّما فيما يخصّ مدلول المحاكمة اليهودية والمحاكمة الرومانية؟ ولماذا حُكم على يسوع بلموت؟ من هم المسؤولون الحقيقيّون عن موت يسوع؟ لماذا لا نجد إلاّ تفاصيل سيكولوجية بحيث صار موت يسوع رسمة لاهوتية سريعة؟
ب- تكوين النصّ
إن مر هو نتيجة تأمّل في حاش يسوع وقيامته. ومع ذلك فقد ألّف انطلاقاً من مراجع أعاد الكاتب صياغتها. ما هو الخبر الأساسي الذي وصل إلى مرقس؟ وكيف نتصوّر عمله التدويني؟
* الدهن بالطيب في بيت عنيا (14: 3- 9). نحن أمام قطعة تقليدية انتمت إلى الحلقة الإخبارية للحاش. وزيدت آيات تدوينية (14: 1- 2، 10- 11) بشكل تضمين، فجعلت من هذه المقطوعة مقدمة لمجمل الحاش: وهكذا ظهرت بوضوح عناصر دراماتيكية من معارضة البشر وعدم فهمهم، ومن قرار يسوع وحريته في مسيرته إلى الموت. لن نبحث هنا عن ملخّص لبرنامج يسوع خلال اليوم الأول من الآلام، بل عن دعوة لنتعلّم إيمان هذه المرأة، فنتجاوز عثار الصليب.
* تأسيس الافخارستيا (14: 22- 25). هو تذكّر ليتورجي لما كان يتمّ في المحيط المسيحي الآتي من العالم الوثني، وهو صدى للإحتفال في جماعة مرقس. أما مشهد التهيئة (14: 12- 16) فيتجذّر في أرض أورشليم مع الإشارات الطوبوغرافية والتلميح إلى العشاء الفصحي. أما إعلان خيانة يوضاس، أحد الإثني عشر (14: 17- 21)، فقد صيغ على أساس قول فلسطيني فيه يرثي يسوع تلميذه (14: 21).
وحَّدَ مر هذه العناصر المختلفة حوله موضوع العشاء (يعود فعل "أكل" أربع مرات في 14: 12، 14، 18، 22) فدلّ على مشاركة الإنسان في وليمة مع الله، كما دلّ عن طريق المفارقة على اتفاق في الخيانة. قد نجدها هذا التقديم تصحيحاً لنظرة تجعل من الافخارستياً "عيداً فرحاً"، وتعتبر أن المشاركة مع القائم من الموت أمر لا جدال فيه، وتنسى وجهة الخطيئة وأهمية التوبة والسير في خطى المعقم.
* النزاع في جتسيماني (14: 32- 42)، وحدة أدبية انتمت إلى خبر عن الحاش سبق مرقس. أما الإعلان عن تشكك الجميع ونكران بطرس (14: 26- 31)، فقد جُعل في ضوء وحدة يسوع تجاه أبيه ورفضه الداخلي للألم. ونستطيع أن نرى هنا أيضاً نداء إلى الأمانة والثقة بالله في خط نهاية الخطبة الاسكاتولوجية (13: 37).
نداء إلى الأمانة وسط المقاومة والإضطهاد حتى الإستشهاد. ثقة رغم الخطيئة (نكران المسيح) لأن بطرس والإثني عشر سيشعرون إلى أي حد تبدّل النعمةُ القلوب. وهكذا، حين تعي الجماعة عدم الفهم عندها والثورة والضعف في اتباع يسوع، تكتشف معنى موت يسوع كما قاله في التأسيس الافخارستي: دمي الذي يُراق عن الكثيرين (14: 24). هذه هي الكأس التي تحدّث عنها في النزاع (14: 36).
* القبض على يسوع في البستان (14: 43- 52). هناك خبر قديم ترسّخ في تقليد الكنيسة الأولى. وكمّله كل إنجيلي حسب المعطيات التي وصلت إليه، وبالنظر إلى سامعيه. إذا حفلنا النصّ وجدنا طبقتين أدبيتين: خبر بسيط موجز، ثم إضافات وضَعتها يد شخص شهد الأحداث. هنا نستطيع القول إن مرقس أخذ الخبر التقليدي للحاش كما كان في رومة، وأضاف عليه بعض الأمور على أساس كرازة بطرس.
إن تدوين مر يجعل القارئ بدون مقدّمة أمام الأحداث: يبرز التعارضات ولا يقدّم الشروح العديدة. فمشهد توقيف يسوع (14: 43- 52) يدلّ على عدم تماسك في الوضع: جاؤوا "يقبضون" عليه (14: 44، 46، 49، 51). وأخصاؤه خانوه أو تخلّوا عنه (14: 43- 45، 47، 50) وتركوه وحده. غير أن التشديد هو على استعداد يسوع لكي تتمّ الكتب وإرادة الله كما عرفها في النزاع.
* المثول أمام المجلس الأعلى (14: 55- 72). يتوسّع الخبر في الإستجواب الليلي (14: 55- 64)، ويترك القرار الأخير للصباح (15: 1). وقد يكون مر قسم خبر نكران بطرس ليسوع (14: 54، 66- 72)، ليقابل بين المعلّم والرسول الذي صار "مع" الخدم (14: 65). ألّف الحدثان بشكل متصاعد: تدرّج على مستوى شهادات الزور (14: 56، 58، 61). تدرّج على مستوى الإنكارات (14: 68، 70، 71).
رأى عدد من الشراح في "المحاكمة اليهودية" نصاً كوّنته الكنيسة الأولى لتضع أمام العالم اليهودي إعلان يسوع نفسه حول كرامته المسيحانية. يذكرون أموراً غير طبيعية في الخبر، عدم شرعية الجلسة الليلية، غياب التلاميذ لكي يشهدوا، الطابع الواضح لإعلان يسوع عن نفسه.
لا شك في أن مر بسّط الأمور وأعطاها وجهاً دراماتيكياً، ليبرز براءة يسوع ومسيحانيته المتعالية. ولكن يسوع حُكم عليه في النهاية لأن وجوده كان توبيخاً متواصلاً لرؤساء الشعب. ثم إن مر أراد أن يذكّر المؤمنين أن الإيمان لا يقوم فقط بالإستسلام لله، بل بالشهادة للمسيح. أما مشهد نكران بطرس، فلا نرى كيف اخترعته الجماعة الأولى دون أن يكون له أساس تاريخي (قالوا: فئة معارضة لبطرس!). هنا نفهم أن خطيئة الرسول الأول شكّلت تحذيراً في وقت الإضطهادات، ودعوة إلى الجبناء والجاحدين، إلى الثقة بالله والعودة إليه.
* المحاكمة الرومانية (15: 1- 20). رواها مر بشكل رسمة سريعة. كل الاهتمام ينصبّ على يسوع الذي سمّي "ملك اليهود" وحُكم عليه كذلك، مع أن السلطات اليهودية عارضت اللقب بشراسة. وظلّ. صمت يسوع غير مفهوماً، والمبادلة بينه وبين برأبا إعتباطية.
لن نبحث عن نوايا بيلاطس حين نفذ حكم الإعدام: أراد أن يخقص نفسه تجاه الإمبراطور وتجاه الشعب. ولكن لا شيء يبيّن أنه رأى في يسوع غيوراً أو ثوروياً. كان الجلد يسبق الصلب ليضعف ذاك الذي سوف يُصلب فيموت بسرعة. ولكن قد يكون بيلاطس أستعمله ليثير شفقة الشعب، كما يقول يو 19: 1- 5. أما مر فشدّد بالأحرى على موضوع يسوع الملك الذي جهله القضاء البشري. أمام هذا الحكم الكاذب، كانت صورة يسوع الصامت أمام قاضيه وجلاّديه، مشجّعاً للشهداء المدعوين للمثول "أمام الحكام والملوك" (13: 9).
* مشهد الجلجلة (15: 21- 47). إهتم الإنجيلي هنا بأن يبيّن كيف أن يسوع وصل إلى الذروة حين تحلّوا عنه ولم يفهموه. وكيف أن عمل حبّه الكامل حرّك الإيمان عند قائد المئة. فالحكم الروماني كله تلخّص في لقب المصلوب، وفي وضعه بين مجرمَين، ساعة كانت أقوال الهزء ضدّه حول الهيكل وإيليا تدلّ على الحكم اليهودي. ولكن حدث انقلابٌ مفاجئ: إنشقّ حجاب الهيكل، ففتح قدس الأقداس. واعترف قائد المئة بابن الله. ودفن يوسف الرامي يسوع تحت نظرة النسوة المتنتهات.
هنا نشهد البعد اللاهوتي لهذا التقديم المليء بالتلميحات التوراتية. فالبعد الكرازي يستند في حدّ ذاته إلى الكتاب المقدّس. ولقد عادت الكنيسة الأولى إلى كلام الله لتعطي معنى لحدث موت يسوع الذي يحيّر العقل البشري (1 كور 15: 3- 5).
ج- بنية النصّ
هل نستطيع أن نوحّد العناصر التي اكتشفناها من خلال هذه القراءة السريعة للنصّ، فنكتشف نظرة مرقس حين دوّن إنجيله؟ هنا نتوقّف كالعادة عند المستوى الأدبي، ثم المستوى البنيوي، قبل أن نصل إلى التعليم والخاتمة.
أولاً: المستوى الأدبي
هناك كتلتان تدوينيتان: كتلة تشمل الدهن في بيت عنيا، حلقة العشاء الفصحي وبستان جتسيماني حيث يبدو عمل مرقس واضحاً. ثيم ننطلق من القبض على يسوع حتى دفنه، في كتلة تعود إلى التقليد. كيف رتب الإنجيلي مواده؟
نجد توازياً بين المقدّمة التي تعلن الفصح والفطير، والخبر الأخير الذي يتحدّث عن التهيئة للسبت (15: 42) واليوم الأولى من الأسبوع (16: 1- 2). نجد في المقدّمة إجمالة حول مصير يسوع الذي يسلّمه أحد الإثني عشر، ونموذجاً يعرض على الجماعة ما فعلته امرأة من أجل يسوع قبل دفنه. إن هذه الفعلة التي حدّثنا المعلّم عن معناها، تلقي ضوءاً على العشاء الفصحي الذي يعدّ. فمنذ البداية، نجد الموت والحنوط في أفق الخبر، مع نظرة إلى إعلان الإنجيل للعالم. والأحداث الأخيرة تنطلق من الدفن والقبر لتنفتح على بلاغ ينقل (16: 5- 8). هنا وهناك نجد النسوة والتلاميذ في علاقاتهم المتبادلة رغم المسافة التي تفصل بين الفئتين.
وتضمّ مجموعة أدبية متماسكة عدة أخبار تتحدّث عن حلقة الإثني عشر (14: 17، 20، 43) أو التلاميذ (14: 32) الذين يجمعهم يسوع في الافخارستيا ويدعوهم للسهر معه في جتسيماني (ولكنهم سوف يتركونه). إذا تفحّصنا الأساليب الأدبية وجدنا مثلاً واضحاً: الكلمات الافخارستية يسبقها الإعلان بالخيانة ويتبعها إنكار بطرس وعثار الجميع. ثم صلاة يسوع في جتسيماني تسبقها دعوة إلى السهر معه وتليها زيارات ثلاث للتلاميذ النائمين. وأخيراً، كلام يسوع للذين جاؤوا يقبضون عليه، يسبقه تنفيذ الخيانة ويليه هرب الجميع.
هذه الرسمة السريعة تظهر عزلة يسوع الداخلية، والحرّية التي بها يسلّم ذاته للذي يخونه وللذين يقبضون عليه. فهو مستسلم لإرادة الآب. في الافخارستيا، اتخذ يسوع المبادرة فأعطى جسده ودمه (أي: ذاته، حياته) للكثيرين (14: 22- 25). ولكن واحداً من الإثني عشر هو الذي يسلّم ابن الإنسان. ويُضرب الراعي فتتشتّت الخراف (14: 50- 52). لم يستطع البشر أن يدركوا صلاة النزاع (14: 32- 35) فواجه الابن وحده هذا الصراع الممزّق، كما دعا تلاميذه لكي يدخلوا فيه معه فيكشف لهم ضعفهم الذي يرمز إليه النوم (14: 37- 42). حين أوقف يسوع بدأ بالصمت. وسلّم نفسه إلى الخائن وإلى الجمع المسلّح بالسيوف والعصي (14: 43- 47). وهكذا دلّ على أصل سلطانه الإلهي والقصد الذي يخضع له (14: 48- 49). وأخيراً، وجد نفسه معزولاً، عرياناً، متروكاً من الجميع (14: 5- 52) وضحيّة خطايا البشر.
وإذ تعود المتتالية التالية إلى التقليد السابق لمرقس، تقدّم لنا توازياً بين مثولين ليسوع: واحد أمام المجلس اليهودي (14: 53- 27)، وآخر أمام بيلاطس (15: 1- 20). أما المجموعة الثالثة المكرّسة لصلب يسوع وموته (15: 21- 41) فتستعيد الإتهامات التي وردت في المحاكمة المزدوجة وتلمّح إلى مجموعة الذين تبعوا يسوع. وهكذا نقدّم البنية التالية:
(1) أمام السنهدرين: وحي ابن الإنسان (14: 53- 72).
الإنتقال: اقتيد يسوع إلى عظيم الكهنة (14: 53).
أ (14: 54): بطرس في رواق عظيم الكهنة.
جلس مع الخدم يصطلي.
ب (14: 55- 59): بحث عن شهود لكي يقتلوا يسوع.
كثيرون... البعض... انقضوا هذا الهيكل.
ج (14: 60- 61): عظيم الكهنة تجاه الشهود.
سؤال: هل أنت المسيح، ابن المبارك؟
د (14: 62): جواب يسوع: أنا هو.
سترون ابن الإنسان.
ج ج (14: 63- 64): عظيم الكهنة أمام التجديف.
سؤال: هل نحتاج أيضاً إلى شهود؟
ب ب (14: 64- 65): إعلان: إنه يستحقّ الموت.
الجميع... البعض... تنبّأ!
أ أ (14: 66- 72): لطمة الخدم. كان بطرس يصطلي.
واجه خادمة عظيم الكهنة.
إنكار مثلّث- صياح الديك (مرتين).
تذكر بطرس وبكى.
(2) أمام بيلاطس: صلب ملك اليهود (15: 1- 20).
الإنتقال: في الصباح اقتيد يسوع إلى المجلس وسقم إلى بيلاطس (15: 1).
أ (15: 2- 5): سؤال يسوع: أأنت ملك اليهود؟
أنت تقول.
شكاية عظماء الكهنة. صصت.
ب (15: 6- 8): يطالب الجمع ببرأبا ابن الفتنة.
ج (15: 9- 11): عرض بيلاطس المساومة:
إطلاق ملك اليهود الذي أسلم حسداً.
الجمع: إطلاق برأبا.
د (15: 12- 14): بيلاطس أمام الجمع:
هذا ملك اليهود.
الجمع: اصلبه! اصلبه!
ج ج (15: 15): إنتهت المساومة وتمّ العقد.
أراد أن يرضي الجمع فأطلق برأبا وأسلم يسوع.
ب ب (15: 16): جمعوا الكتيبة كلها.
أ أ (15: 17- 19): هزء الجنود: سلام، يا ملك اليهود!
لباس الأرجوان، إكليل الشوك، الضرب، الهزء، البصاق.
(3) صلب المسيح وموته ليصلب (15: 20).
إنتقال: اقتيد يسوع ليصلب (15: 20).
أ (15: 21): سخروا سمعان القيريني ليحمل الصليب.
ب (15: 22- 28): إستعادة المحكمة الرومانية.
الصلب، إقتسام الثياب، ملك اليهود، رفيقا الصلب.
ج (15: 29- 32): إستعادة المحاكمة اليهودية.
الهيكل، التجديف، المسيح ملك إسرائيل، شتيمة الرفيقين.
د (15: 33- 37): صياح يسوع وموت البارّ:
الظلمة، إلهي إلهي! سؤال حول إيليا.
ج ج (15: 38): إنفتاح معبد اليهود بعد أن انشقّ ستار الهيكل.
ب ب (15: 39): صياح القائد الروماني:
في الحقيقة كان هذا الرجل ابن الله.
أ أ (15: 40- 41): حضور النسوة اللواتي تبعن يسوع من الجليل.
إن هذا التصميم المثلّث، والمؤسّس بشكل خاص على تقابلات أدبية أو توازيات وضعية، يتيح لنا أيضاً أن نبرز الطريقة التي بها قدّم الإنجيلي يسوع في مواجهة البشر وفي خضوعه لأبيه. ما عاشه بشكل نبوي وكأنه في الخفية، ساعة العشاء الفصحي وفي بستان جتسيماني، ها هو يعيشه الآن في الواقع القاسي بشكل علني. ويشدّد قلب كل توسّمع كيف يتمّ عطاء يسوع.
أمام أعضاء السنهدرين الذي يشكّل القضاء الأعلى في شعب العهد، أسلم نفسه إلى الموت، كابن الإنسان الذي جاء من الله وأنبأت به الكتب. وحين ترك بيلاطس يحكم عليه بضغط من الجمع، جُعل ملك اليهود مع المجرمين فدلّ على طبيعة ملكوته وارتباطه بالهيكل. وبدا موته على الصليب، وسط الظلمة، استسلاماً لله أبيه في تتمة عمل الروح عبر تمزّق كيانه.
وحول هذه النواة التي تكثّف المعنى، وحيث نجد تعبيراً عن موقف يسوع في المتتاليات الثلاث حول الآام، نكتشف تقابلات على مستوى المواضيع نشير إليها إشارة سريعة. تجاه خيانة أحد الإثني عشر وتشكّك الجمع وإكار بطرس، وانتظار ابن الإنسان قبل أن يقوم ويسبق أخصّاءه إلى الجليل، نجد نكران بطرس الجليلي والذي هو واحد منهم، وحكم رئيس الكهنة على ابن الإنسان، ومسيح العهد وملكوت الله.
وتذكرنا المحاكمة الرومانية من جهتها التوقيف لا البستان على يد أهل المجلس، واقتياد يسوع إلى بيلاطس وتدخّل الجمع وضغطه لكي يحكم عليه. بدا يسوع كمجرم ووسيلة تتبادل جمع ابن الفتنة. حيّوه باحتقار، هدّدوه بالعصي، ضربوه بالقصبة، عرّوه من الثوب الأرجواني.
وأخيراً، يذكّرنا مشهد الصلب النزاع والصراخ وصلاة يسوع، النزاع وموقف اللافهم الذي عبّر عنه النوم (14: 37- 40) أو الهزء (15: 29، 31، 32)، الإشارة إلى الساعة (14: 37، 41؛ 15: 25، 33، 34) والأرض (14: 35؛ 15: 33)، المسافة بين التلاميذ ويسوع (14: 32، 34؛ 15: 40). كل هذا يدلّ على التناسق الداخلي في الخبر.
ثانياً: المستوى البنيوي
* وتتواتر العناصر التي لها معناها على المستوى البنيوي: الإشارات الجغرافية، الإشارات الزمانية، الأشخاص الحاضرون.
* الإشارات الجغرافية
ننطلق من بيت عنيا، بيت العناء والضيق حيث يتكئ يسوع في بيت سمعان الأبرص (14: 3)، كما كان متّكئاً في كفرناحوم مع العشارين والخطأة (2: 15). وها هو الأفق ينفتح منذ الآن على أبعاد العالم كله (14: 9). ما يجري هنا سيصل إلى أقطار الكون الأربعة. واستعملت قاعة في المدينة للافخارستيا، بما أن جسد يسوع سوف يصبح موضع العهد والمعبد النهائي.
بدا المعلّم وكأنه يعود إلى الوراء، كما يدلّ عليه الرجوع إلى جبل الزيتون، وتذكر الجليل. ولكنه يعلن منذ الآن أنه يسبق تلاميذه إلى هناك (14: 28). والمسيرة التي يتمّها في موته، سيقومون بها هو أيضاً بدورهم: من جتسيماني إلى الآب، ومن الآب إلى جتسيماني، امام المحافل (14: 53؛ رج 13: 9) والولاة (15: 1؛ رج 13: 9). ولكنهم يتبعونه دوماً من بعيد (14: 54؛ 15: 40). هناك مسافة بينهم وبين معلّمهم (14: 32، 34، 68).
نحمل الصليب (15: 21)، يعني نقبل أن نموت عليه. والجلجلة (15: 22) تدعو كل واحد ليكتشف أين هو المعبد الحقيقي في العالم الم يعد مخفياً. إنشق الحجاب). ليكتشف الصليب الذي قد ينزل عنه (15: 32) من أجل هلاكه. طريق الحياة ينطلق من الجليل إلى أورشليم (15: 41؛ رج 10: 32) ويقود إلى ملكوت الله (15: 43؛ رج 9: 47؛ 10: 32، 35) ماراً في القبر (15: 46). وهكذا وجدت مسيرة التلميذ صورة مسبقة في مسيرة يشوع، كما عرفناه منذ الإنباء الثالث بالآلام (10: 32- 34).
* الإشارات الزمانية
الإشارات الزمانية عديدة وهي لا ترد من قبيل الصدف. في بداية الخبر يذكر مرتين الفصح والفطير (14: 1، 12). هذا الوقت يحدّد موقع الحدث بالنسبة إلى الكلندار (الروزنامة، التقويم) الديني لدى اليهود. ولكن الأمر لن يكون كذلك فيما بعد. في النهاية، يتحدّث النصّ عن سبت يهيّأ (15: 42) بعد أن وصل إلى نهايته (16: 1) وانفتح على يوم سرّي، يوم أول هو الأحد (16: 2).
كل هذا يدلّ على أن زمن الفصح والسبت قد تمّ وتعدّاه الزمن: فلابن الإنسان سلطان ليحرّر الإنسان من الخطيئة (2: 10، ما كان يقوم به حمل الفصح). وهو ربّ السبت أيضاً (2: 28). لقد بيّنت المقدّمة أيضاً أن الفصح حصل "بعد يومين" (14: 1). اليوم الأول هو يوم ذبح الحمل الفصحي، كما هو مذكور في الإستعدادات (14: 12). هو يوم الآلام الذي يبدأ "عند المساء" (14: 17) مع العشاء الأخير الذي يمتدّ إلى "الليل" (14: 30) بالمثول أمام المجلس ونكران بطرس عند "صياح الديك". الذي يمتدّ إلى "الصباح" (15: 1) مع المثول أمام بيلاطس.
ساعة يسوع (14: 41) هي الساعة التي يطلب فيها السهر والصلاة (14: 37- 38). وهي تمتدّ في تعداد ساعات الصلاة التقليدية: الساعة التاسعة (15: 25)، الظهر (15: 33)، الساعة الثالثة (15: 33- 34). إن يوم الحاش والآلام، اليوم الأول في الفطير، حيث يُذبح الفصح (14: 12)، ينتهي بمشاهدة النشوة للمكان. وضع فيه جسد يسوع. وبدأ يوم ثانٍ "إذ كان المساء قد أقبل" (15: 42)، يوم راحة الله، يوم السبت (معنى سبت: استراح). سار هذا اليوم في صمت الموت والقبر. "واليوم الثالث" الذي هو عبارة تذكّرنا بالإنباء المثلث بالقيامة (8: 31؛ 9: 31؛ 10: 34) يبدأ مع خاتمة السبت والعودة إلى العمل (16: 1: إشترت). ولما بلغ الصباح (16: 2)، ذهبت النسوة إلى القبر.
حين نقرأ هذا التسلسل، نفكر بالمرحلة الخامسة التي رتّبت في ثلاثة أيام: دخول إلى أورشليم والهيكل (11: 11، 12، 20). خروج من المدينة (11: 19) إلى بيت عنيا (11: 11) أو جبل الزيتون (13: 1- 3). ونزيد أيضاً يوم بيت عنيا (14: 3) والتهيئة (14: 12). وأخيراً الأيام الثلاثة التي أشرنا إليها الآن.
ونجد أيضاً أسبوعاً كاملاً يدلّ على أسبوع الخلق ويشير إلى خلق جديد دشّنه يسوع المسيح، دشّنه حدث ابن الإنسان كما قدّمته خطبة نهاية الأزمنة (13: 24- 27) وجواب يسوع إلى عظيم الكهنة (14: 62).
* الأشخاص الحاضرون
في الوسط، نجد وجه يسوع. هو حاضر حضوراً حميماً في مجموعة الإثني عشر. دلّ على نفسه أنه "ابن الإنسان" الذي يريق دم العهد من أجل الكثيرين وعلامة الدخول إلى ملكوت الله (14: 25). وهو أيضاً "الراعي" الذي يسبق خرافه المشتتة. أمام الآب هو الابن الذي يسهر ويصليّ، ثم يعود إلى تلاميذه كابن الإنسان الذي يسلّم إلى أيدي الخطأة (14: 41). أمام الذين جاؤوا يوقفونه، انه "الرابي" الذي يخونه أحد تلاميذه، ويتركه الباقون. ويسطع السرّ في كل بشاعته: إن ابن الإنسان الذي جاء إلى البشر، قد سلّمه أولئك الذين كشف قلبه لهم. فمن هم هؤلاء البشر وكيف يكشفهم أمام نفوسهم؟
اليهود والوثنيون الحاضرون في المحاكمة المزدوجة مع ما في تصّرفهم من التباس. لا كمجموعتين اثنتين، بل كفئتين تتواجهان على مستوى الفكر والموقف الديني. الأولون هم مؤمنون أرادوا أن يسجنوا الله ومسيحه داخل صورة رسموها هم عنه. الآخرون هم "لا مؤمنون" (بالله الواحد). يعتبرون أنهم يجدون في داخلهم معنى حياتهم. ينغلقون داخل النزاعات السياسية والإقتصادية والإجتماعية والسيكولوجية.
جرت المحاكمة اليهودية في الليل، في محيط يعيش من الكتاب المقدّس ويفسرّه بطريقته، أي ينتظر تمامه في يسوع. فألقاب يسوع التي ترد في هذه المحاكمة، ستعود على الجلجلة في فم عظماء الكهنة والكتبة، وهي خاصة بالعالم اليهودي: مسيح (14: 61؛ 15: 32). ابن المبارك (14: 61). ابن الإنسان (14: 62). النبي (14: 65). ملك إسرائيل (15: 32) الذي يدعو إيليا (15: 35- 36).
أما المحاكمة الرومانية فتجري في وضح النهار. الأحداث ظاهرة على عيون الجموع: المساومة، المجموعات الضاغطة، محاكمة سريعة وملحّة، العنف والشتم والتجديف. هذا ما يدلّ عليه عذاب الصليب. ولقب الحكم على يسوع هو لقب الهزء والسخرية: "ملك اليهود" (15: 26؛ رج 15: 2، 9، 12، 18). غير أن موت هذا الإنسان صار علامة للعالم، لأن القائد الروماني الذي رآه يعاني سكرات الموت عرف فيه "ابن الله" (15: 39). وهكذا حقّق هذا الوثني من دون أن يعلم إعلان يسوع أمام المجلس: "سترون ابن الإنسان جالساً عن يمين القدرة" (14: 62).
فمن هو "هذا الرجل" الذي يكشف الضمائر بحضوره ويحكم عليها؟ هو يسوع الناصري الذي يوجّه كلامه إلى كل إنسان سواء كان يهودياً أم وثنياً. هل نجيب مثل بطرس: عند نهاية الليل وصياح الديك "أنا لا إعرف هذا الرجل (لا أريد أن أتعرف) الذي تتكلّمين عنه" (14: 71)؟ أم نجيب مثل قائد المئة ساعة أخذت الشمس تميل إلى المغيب: "في الحقيقة، هذا الرجل هو ابن الله" (15: 39)؟ يا ليت صاحب الجواب الأول يكتشف طريق التذكر والدموع، طريق الندامة والعودة إلى الله كما فعل بطرس! وهنيئاً له إن عرف أن يكتشف نظرة يسوع تخرقه إلى الأعماق!
4- التعليم الذي نجده في النصّ
إن خبر الحاش كما قدّمه مرقس، هو مجموعة متماسكة تبيّن لنا كيف صار يسوع في قلب التاريخ البشري، وهو يطرح على الناس في كل عصر، السؤال الجوهري حول حياتهم ومعنى وجودهم.
من هو المسيح الذي ينتمي إليه المسيحيون؟ سألت المحكمة العليا في الشعب اليهودي، فأقرّ يسوع أنه "المسيح، ابن المبارك"، ذاك الذي يلاقي انتظار إسرائيل لأنه حقاً ذاك المرسل الذي وعد به الله شعبه. ولكنه حدّد ما تعني هذه الهوية. لا شك في أنه نسل داود وبذلك يشغل عرش ملك الله في إسرائيل. ولكنه يقوم بهذه الوظيفة بطريقة لم يسمعها أحد: فهو يمارس سلطة الله عينها: يأتي على سحاب السماء. ليس فقط "ابنا" لله، شأنه شأن الملوك في إسرائيل. إنه الابن الوحيد الذي. يحمل إلى البشر ملء وحي الله.
غير أن هذه البنوّة المتعالية والمسيحانية الداودية تسلّم نفسها، بشكل مفارقة، في الذلّ والعار. هذا ما عرفه شعب إسرائيل على مدّ تاريخه: فإله العهد يُقبل ويُرذل. والأنبياء الذين أرسلهم قد عرفوا الإضطهاد وأسلموا إلى الموت. غير أن صورة عبد الله المتألمّ الذي بذل حياته فتمجّد وبرّر الكثيرين، إحتاجت إلى أن تتحقّق فعلاً في يسوع حتى تُفهم على أنها نبوءة مسيحانية. في هذا المعنى، تمّت الكتب تتمة بشرية ولاهوتية. وهكذا نستطيع أن نقرأها في كل حقيقتها الروحية.
خاتمة
مع يسوع اقترب ملكوت الله من الإنسان ودعاه إلى التوبة والإيمان بالإنجيل (1: 15). وهذا الإنجيل يجتاح الإنسان، ويسلمه عبر الموت إلى أبعد من ذاته. هذا ما حدث ليسوع فوصل معه الوحي إلى ذروته، لا قولاً وكلاماً وحسب، بل حقيقة وواقعاً.
أن يكون الوثني (الضابط الروماني) هو أول من تقبّل تعليم يسوع، يدلي أولاً على صورة الكنيسة التي يعيش فيها مرقس. ويدلّ على أن كل إنسان يستطيع أن يعلن إيمانه بلاهوت يسوع المسيح، بقدر ما يحسّ أنه معنيّ بموته. وهو يعرف أن هذا الوعي لم يأتِ منه، بل من يسوع، بل من الكنيسة التي ما زالت تذكر في افخارستيتها موت يسوع وقيامته حتى مجيئه.
إن يسوع يبقى على الدوام موضوع نكران ناله وموضوع اعترافنا به: فبين أزمة الإيمان التي تجعلنا نرفض بأن نتبعه، وصرخة الإيمان التي تأخذنا إلى أبعد مما نريد، يعيش المسيحي وضعاً صعباً، ولكن وضعاً يحسده عليه كل إنسان. هو منذ الآن في تيار الخلاص وعذوبة الحياة مع الله. ومع ذلك فهو ما زال ينتظر. وقد يسقط فيعود كما فعل بطرس. وقد يكون شاهداً لموت يسوع ودفنه مثل النسوة. المهم هو أن لا نتوقف عند الموت، بل نتطلّع إلى القيامة. فإليها وجّه يسوع أنظار التلاميذ حين دعاهم إلى أن يسبقوه إلى الجليل: هناك ظهر لهم وأرسلهم إلى العالم كلّه

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM