الفصل الثاني والعشرون
الكرّامون القتلة
12: 1- 12
بين الأمثال التي تروي خبر قصد الله، كمثل الابنين (مت 22: 1- 14)، ومثل أعراس الملك (مت 21: 1- 14)، يبدو مثل الكرّامين القتلة (12: 1- 12= مت 21: 33- 44= لو 20: 9- 18) مهماً بشكل خاصّ. فيسوع يعلن فيه مصير إسرائيل، فيحدّد موقعه في تاريخ الأنبياء الطويل. ولكن يسوع يربط هذا المثل أيضاً بمصيره الخاص: يدلّ على نفسه أنه الابن الحبيب، ويتميّز تميّزاً واضحاً عن الخدم الذين سبقوه. وبهذا يدلّ على أنه جاء في النهاية ليتمّ التاريخ المقدّس.
هذا هو المثل الذي ندرسه في هذا الفصل ونبدأ فنقدّم النصّ كما قرأناه في الأناجيل الإزائية الثلاثة.
1- النص الإنجيلي
مت 21: 33 ي مر 12: 1 ي لو 20: 8 ي
33- إسمعوا 1- وأخذ 9- عندئذٍ أخذ
يكلّمهم يقول الحب
مثلاً آخر بأمثال هذا المثل
إنسان إنسان إنسان
كان مالكاً
هو غرس كرماً غرس كرماً غرس كرماً
وحوّطه بسياج وحوّطه بسياج
وحفر فيه وحفر
معصرة حلّة
وبنى برجاً وبنى برجاً
وأجرّه (سلّمه) وأجرّه وأجرّه
إلى كرّامين إلى كرّامين إلى كرّامين
وسافر إلى بعيد وسافر إلى بعيد وسافر إلى بعيد
زماناً طريلاً
34- ولما حان 2- و 10- و
زمن الثمر الزمن (جاء) الزمن جاء
أرسل عبيده (خدّامه) أرسل خادماً أرسل خادماً
إلى الكرّامين إلى الكرّامين إلى الكرّامين
ليأخذ ليأخذ لكي يحطوه
من الكرّامين
ثماره حصته من ثمار حصته من ثمر
الكرم الكرم
35- والكرّامون 3- و أما الكرّامون
إذ قبضوا إذ قبضوا
على خدامه عليه
جلدوا الواحد جلدوهم إذ جلدوه
قتلوا الآخر
رجموا الآخر
وردّوه طردوه
فارغ اليدين فارغ اليدين
36- من جديد 4- ومن جديد 11- وزاد (أضاف)
أرسل أرسل إليهم فأرسل
خدّاماً آخرين خادماً آخر خادماً آخر
ضربوه على رأسه أما هم فجلدوه
هو أيضاً هو أيضاً
وأهانوه وأهانوه
وطردوه فارغ اليدين
5- و 12- وزاد
أرسل آخر فأرسل ثالثاً
وهذا أيضاً وهو أيضاً
أكثر وآخرون كثيرون طرحوه خارجاً
من الأولين ضربوا بعضاً
ففعلوا بهم كذلك وقتلوا بعضاً
37- وفي الآخر 6- وكان له أيضاً واحد 13- وربّ الكرم
قال حينئذٍ: ماذا أصنع؟
أرسل إليهم سأرسل
ابنه ابنه الحبيب إبني الحبيب
قائلاً قائلاً لعلهم
يهابون يهابون يهابون
ابني ابني هذا
38- ولكن 7- ولكن 14- ولكن
الكرّامون رأوا الابن هؤلاء الكرّامون إذ رآه الكرّامون
قالوا قالوا ائتمروا
في مابينهم في مابينهم فيما بينهم قائلين
هذا هو الوارث هذا هو الوارث هذا هو الوارث
تعالوا نقتله تعالوا نقتله لنقتله
ويكون لنا ولنا يكون ولنا يصبح
ميراثه الميراث الميراث
39- وإذ قبضوا عليه 8- وإذ قبضوا (عليه) 15- و
طرحوه إذ طرحوه
خارج الكرم خارج الكرم
وقتلوه قتلوه قتلوه
وطرحره
خارج الكرم
40- إذن، حين يأتي 9- ماذا يفعل إذن، ماذا يفعل لهم
ربّ الكرم ربّ الكرم؟ ربّ الكرم؟
ماذا يفعل
بأولئك الكرّامين؟
يأتي 16- يأتي
41- فأجابوه
يهلك يهلك يهلك
على شر وجه
أولئك الأردياء الكرّامين أولئك الكرّامين
ويؤجر الكرم ويعطي الكرم ويعطي الكرم
لكرّامين آخرين لآخرين لآخرين
الذين يؤدون له
الثمار في أوانها
إذ سمعوا قالوا
معاذ الله
42- يسوع 17- أما هو فحدق
نظره فيهم
قال لهم قال لهم:
أما قرأتم قط 10- أفما قرأتم ما معنى إذن
في الكتب: هذه الكتابة: ما كتب
الحجر الذي رذله الحجر الذي رذله الحجر الذي رذله
البناؤون البناؤون البناؤون
هو الذي صار هو الذي صار هو الذي صار
حجر الغلقة حجر الغلقة حجر الغلقة
هذا هنا 11- هذا هنا
عمل الرب عمل الرب
وهو عجيب وهو عجيب
في عيوننا في عيوننا
43- لذلك أقول لكم:
ملكوت الله
يُنزع منكم
ويعطى لشعب
يستثمره
44- والذي يسقط 18- والذي يسقط
على هذا الحجر على هذا الحجر
يترضّض يترضّض
والذي عليه يسقط والذي عليه يسقط
يسحقه يسحقه
2- التحليل الأدبي
يتوّزع هذا المثل على خمس محطات (1) المقدمة (12: 1- مت 21: 33= لو 20: 9). (2) إرسال الخدم (12: 2- 5= مت 21: 34- 36- لو 20: 10- 12). (3) إرسال الابن (12: 6- 8= مت 21: 37- 39= لو 20: 13- 15 أ). (4) المستقبل (12: 9= مت 21: 40- 41= لو 15 ب-16). (5) التفسير الكتابي (12: 10- 11- مت 21: 42= لو 20: 17- 18). والخاتمة التاريخية: 12: 12 = مت 21: 45- 46= لو 20: 19). وسندرس في كل لحظة الأناجيل الثلاثة.
أ- المقدمة (12: 1)
هناك اختلاف واحد: يمتنع لوقا عن إيراد نبوءة أش 5: 1- 7 بالتفصيل. في هذه القصيدة ينشد أشعيا مرثاة على كرم صديقه: بدل أن يعطي أفضل الثمار، أعطى حصرماً برياً. لهذا، قرّر الصديق أن يدمّره. بعد هذا، يأتي التطبيق: كرمُ ربّ الجنود هو إسرائيل. لا نتوقّف الآن عند مقارنة هذه القصيدة بالنصّ الإنجيلي، بل نحاول أن نرى الوضع الاولاني لمقدّمة النصّ الإنجيلي.
هل يعود أش 5: 2 إلى الأصل، أم أن لوقا أوجزه ليصل حالاً إلى هدفه؟ ثم إن مرقس لا يوسّع عادة الإستشهادات الإنجيلية. ولكن إذا كنا أمام نصّ قبل الإزائي، أي تكوّن قبل أن يرد لدى الإزائيين الثلاثة، نستطيع أن نقول إن مرجع لو غير مرجع مر. أو أن مر أخذه كما هو، وأوجزه لو.
ولكن يبدو أن النصّ الإنجيلي قريب جداً من الترجمة اليونانية، أقرب منه إلى النص العبري. لقد تذّكر مت ومر نصّ السبعينية (مثلاً، بدل "نقبه، نقّى حجارته"، نجد "أحاطه بسياج". تتحدث أف 5: 5 عن السياج). وتأثير النبي واضح، لا سيّما وأن المثل بدا بشكل حوار فيه الهجوم والدفاع.
الكرم يخصّ "إنساناً"، يخصّ أحد الناس. وحدّد مت: كان ملاّك أرض، ربّ بيت. هذه اللفظة (أويكودسبوتس) قد استعملها متى (13: 27؛ 20: 1، 11، 21، 33) كما استعملها لوقا (12: 39؛ 13: 25؛ 14: 21). غير أن العبارة "رجل ملاّك" هي خاصة بمتى. فلوقا لا يجعل لفظة "إنسان" قرب صفة مثل "غني" "مستسق" (16: 1: كان غنيّ، 14: 2: مستسق، أي فيه داء الاستسقاء). أما متى فيضع الاسم: الزارع، العدوّ، الملاّك، الملك (مت 13: 24: رجل عدو؛ 13: 52؛ ق 20: 1؛ 18: 23؛ ق 22: 2). أخيراً، إن تسمية الرجل "ملاّك" توافق لاهوت متى حول علاقة الله بالإنسان. نشير هنا إلى أن الثلاثة اتفقوا على تسمية "ربّ الكرم": السيد (كيريوس).
هل كان هذا الرجل "غريباً"؟ ذهب إلى البعيد! ربّما. ولكن قد تكون له أملاك أخرى. وقد يكون الذهاب إلى البعيد، توجّهاً إلى العالم الوثني.
حين يسمع يهودي هذا المثل يتذكّر قصيدة أشعيا. وهو يعرف أن حبّ الله لكرمه سوف يتحوّل إلى غضب بسبب عقمه. فكيف لم يستشفّ من خلال هذا الرجل الذي يزرع الكرم إشارة تهدّد بدينونة إلهية جديدة؟ بدأ المثل مثل قصيدة الكرمة، ولكنه سيحوّل الأنظار في خطّ آخر. هذه هي الطريقة العادية: فضارب المثل يلفت النظر ليجتذب القارئ ثم يأخذه إلى حيث يشاء. وهذا ما فعله يسوع. قاد السامعين للتعرّف إلى الابن وما سوف يفعلون به.
ب- إرسال الخدم (12: 2- 5)
هنا تختلف النسخات الإنجيلية اختلافات لا تؤثّر على العمق: عدد الوفود والخدم المرسلين. تصوير المعاملات السيّئة التي يسامون بها. لقد حاول كل إنجيلي أن يتوّسع في هذا القسم حسب طريقته.
تحدّث مر ولو عن وفود ثلاثة. لا نجد عند مر تدرّجاً في صورة المعاملات السيئة. فهذا التدرّج بارز في خطورة المعاملات: الخادم الأول يجلد (يضرب). الثاني، يضرب على رأسه ويهان. الثالث يُقتل. ولكن هذه الحركة التدريجيّة تنقطع حين يذكر مر مقتل الخادم الثالث قبل مقتل الابن. ثم زاد: "وبعد الثالث أرسل آخرين كثيرين" بعضهم جُلد وبعضهم قتل.
أما لوقا الذي اعتدنا على إيجازه، فقد دلت بطريقة أفضل على التدرج: تصبح المعاملات أكثر خطورة مع الوقت: الأول: "جلد". الثاني: "أهين". الثالث: "جُرح وطرح في الخارج" (هذا التفصيل يستبق ما سوف يحصل للابن). ويربط ذنب الكرّامين ارتباطاً أفضل بالقرار العام: "طرد" الخدام الثلاثة (20: 10، 11، 12)، جعلوا خارجاً. ويقول لوقا على دفعتين: صفر اليدين، بأيد فارغة. لم ينالوا شيئاً لقاء أجار الكرم.
تحدّث متّى عن وفدين، والثاني هو إستعادة بسيطة للأول. وجاءت ثلاثة أنواع من المعاملات تميز ثلاث مجموعات بين الخدم: البعض جُلد، آخر قتل. آخر رُجم. قد نكون مع "رجم" أمام كلمة يسوع في مت 23: 27 (راجمة المرسلين، رج لو 13: 34). ويصل مت إلى النتيجة التي وصل إليها مر: لقد ألحّ رب الكرم على إرسال الخدم رغم عداوة الكرّامين.
إذن، نلاحظ عدد "الوفود" وتدرّج "المعاملات السيئة". وربّ الكرم يهمه أن يكون له ثمر من الكرم. غير أن الكرّامين يرفضون حتى استقبال مرسليه. في هذا المجال، سيكون مصيرهم في خطر.
ما معنى هذه "الارسالات" (الوفود)؟ يتذّكر السامع طوعاً محاولات الله المتواصلة ليحفظ شعبه في العهد بواسطة عبيده الأنبياء (2 مل 17: 13- 14). فشدّد كل إنجيلي بطريقته على هذه الفكرة. تحدّث مت عن "الرجم". ولمّح مر إلى المرسلين الكثيرين. واستعمل لو لفظة لاهوتية "بمبساي": أرسل.
ج- إرسال الابن (12: 6- 8)
بعد وفود الخدم أرسل الابن في النهاية. بعد المعاملات السيئة التي تلقاها الخدم، أصاب الابن العقاب الأكبر: قتلوه. إنه الوارث. جاء التقليد هو هو حول "وفد" الابن: جاء في "نهاية" الأمر (مت، مر). أمل الملاّك أن يهاب الكرّامون ابنه. ولكن هذا الابن سُيقتل لأن الكرّامين يريدون ميراثه. على أساس هذا الغنى المشترك، كانت بعض الاختلافات: الوجه الدراماتيكي للخبر (ظنّ رب الكرم أنهم سوف يستقبلون ابنه استقبالاً أفضل). ترتيب ظروف القتل (طرحوه خارجاً). لقب "الحبيب" (مر- لو).
لن نطرح هنا أسئلة. مثلاً: أما فكر رب الكرم بالخطر الذي يحدق بابنه حين يرسله إلى هؤلاء القتلة؟ كيف يتخيّل الكرّامون أنهم سيرثون الكرم إن مات الابن؟ نحن هنا على مستوى منطق الخبر لا على مستوى التفكير اللاهوتي. جاءت صورة الابن في نهاية الخبر فدلّت على خطورة تمّرد الكرّامين: لقد رفصوا النداء الأخير والنهائي لله. والخبر لا يلمّح فقط إلى رفض للإنجيل، بل إلى رفض لرسالة يسوع وموته أيضاً. كانت بداية مع يسوع الذي هو "الابن" الذاهب إلى الموت. ثم مع الجماعة المسيحية مع إيمانها بيسوع الذي هو المسيح وابن الله، كما يقول مرقس في بداية إنجيله.
لقد تحدّث يسوع عن موته هنا كما فعل في انباءات الآلام. هو عالم إلى أين يذهب في خط الأنبياء الذين وعوا المصير الذي ينتظرهم (إرميا مثلاً). ورأى يسوع الآمه القريبة كنهاية الاضطهادات التي كان هؤلاء المرسلون ضحيّتها. هذا ما نجده مثلاً في مت 23: 32- 33؛ رج 12: 41- 42 حيث يرتبط موت يسوع بنشاط الكتبة والكهنة. لم يكن يسوع أول من ربط مصيره بمصير الأنبياء الذين سبقوه، بل كان وحده الذي اعتبر أنه جاء يتمّ النبوءة حول اضطهاد البار. إنه نفسه هو البار كما قال بطرس في خطبة بعد العنصرة.
وما يقوله يسوع عن نفسه لا يعني فقط رسالته، بل شخصه أيضاً. فصورة الابن في المثل تدلّ على أنه عالم أنه ابن الله. وهذا ما أراد أن يقوله لسامعيه. لكننا سننتظر القيامة حتى يفهم التلاميذ هذا الواقع في عمقه. يسوع يدعو أباه "أباً"، كما يدعو الابن أباه. وكان قد قال في حديث لتلاميذه: "ليس أحد يعرف الابن إلاّ الآب، ولا أحد يعرف الآب إلاّ الابن" (كما 11: 27).
يسوع هو الابن. هو الابن "الحبيب" (أغابيتوس) كما قال مر ولو، حسب الإعلان السماوي في العماد والتجلي (مت 3: 17 وز؛ 17: 5). وهكذا يدلّ يسوع على أنه الابن الوحيد. قد نكون هنا أمام توسّع لاهوتي في الجماعة الأولى.
واتفق متى ولوقا على مرقس. قال مر: قُتل الابن أولاً، ثم طُرح في خارج الكرم. أما في مت ولو: طُرح الابن في خارج الكرم ثم قتل. وهكذا يتوافق المثل مع الحدث التاريخي. إن يسوع "خرج من المدينة ليذهب إلى الجلجلة" (يو 19: 17). "تألم خارج الباب"، باب المدينة (عب 13: 12). تلك كانت الترتيبات التي تنظّم تنفيذ الحكم بالإعدام على المجدّف وغيره (لا 24: 14- 16). يُطرح خارج المدينة، لئلا ينجّسها، ويُرجم هناك مثل اسطفانس "خارج المدينة" (أع 7: 58). ونلاحظ أن "طرح" (رذل) جثمان الابن مع فعل "اكبالو" (طرح خارجاً) يبدو استعادة لموقع خصوم يسوع الذي سبق له و"طرح خارجاً" باعة الهيكل (مت 21: 12 وز).
لقد تمّ تاريخ الخلاص في يسوع. أعلن يسوع لمعاصريه أنهم سيُرذلون من الملكوت حين يرذلون آخر الأنبياء الذي هو ابن الله. وهذا ما تختبره الجماعة المسيحية في قيامة يسوع. أقامه الله من بين الأموات، فدلّ على أن الشريعة التي بها حكموا على يسوع كانت خاطئة.
د- المستقبل (12: 9)
هنا تبدأ الأفعال في صيغة المضارع. فكأنّ موت الابن القريب سيحدّد الزمن في نقطة نهائية: تستشفّ المستقبل في الظل ولكن مع اليقين الذي يعطيه الوحي عن قصد الله.
أجل، لقد عرف هذا المثل توسّعات عديدة، وجاء مز 118 تفسيراً له. هناك أولاً إعلان العقاب للكرّامين. نجد اتفاقاً حول طبيعة هذا العقاب وظروفه: حين يجيء ربّ الكرم يؤجّر الكرم إلى كرّامين آخرين. هناك ارتباط بين مجيئه وعقابه. هكذا كانوا ينظرون إلى يوم الربّ في العهد القديم. أما الجماعة المسيحية فقد عرفت على ضوء القيامة والعنصرة أنها جماعة الكرّامين الذين سلّم إليهم الكرم. أجل، لا يمكن أن يكون موت الابن هو النهاية. فالخبر لا ينتهي بالفشل. فبعد موت الابن هناك القيامة ومشروع الله يتابع مسيرته. أما نصيب الكرّامين، فنتعرف إليه في مثل الوكيل الذي لا يعرف الأمانة: "يفصله، يجعل نصيبه مع الكافرين" (لو 12: 66= مت 24: 51). وفي مثل العذارى الجاهلات اللواتي وجدن الباب موصدا: "الحقّ الحقّ أقول لكنّ: إنني لا اعرفكنّ" (مت 25: 11- 12). وفي مثل الوزنات، حيث العبد الأخير "ألقي في الظلمة الخارجية" (كما 25: 30). تلك كانت الخاتمة المبدأية في مثل الكرّامين القتلة.
كيف كانت الخاتمة في أش 5: 3- 4؟ "والآن، يا رجال يهوذا، أحكموا بيني وبين كرمي. ماذا كان يجب أن أفعل لكرمي ولم أفعله؟ انتظرت أن يثمر عنباً فأثمر حصرماً برياً". ولكن يسوع تصّرف بحرّية في المثل، فلم نعد أمام الكرم، بل أمام الكرّامين. طرح سؤاله ولم ينتظر جواباً. أو قد يكون حوار بينه وبين السامعين كما في مثل السامري الصالح (لو 10: 36- 37). إن مت جعل على شفاه السامعين الحكم على الكرّامين، فكان في خطّ الكتاب المقدّس (2 صم 12: 5؛ 14: 18). أما لوقا، وحسب توزيعه للمسؤوليات في آلام يسوع، فقد جعل "الشعب" يحتجّ على الحكم الذي يصيب الكرّامين.
ولكن عبر هذه الاختلافات الأدبية، تتفّق الأناجيل الثلاثة على معنى النهاية. إن مجيء ربّ الكرم هو مجيء في نهاية الأزمنة. وعقاب الكرّامين هو في منطق الخبر. ماذا نختار بين جواب مت أو مر؟ إن تسليم الكرم إلى آخرين هو الشيء الذي لم يكن ينتظره سامعون يهود. ففي التقليد البيبلي، يُعاقب إسرائيل ولكنه يبقى الشعب المختار. أما هنا، فالدراما لا تنتهي مع عقاب الكرّامين. لا يصوّر مصيرهم كما يصوّر مصير العبد البطّال أو العذارى الجاهلات. فالاهتمام يتوجّه إلى الكرم الذي يجب أن تعود ثماره إلى الله.
في أش 5: 7، قرأنا: "كرمُ ربّ الأكوان هو بيت إسرائيل". إذن، الكرم هو إسرائيل. والكرّامون هم رؤساء الشعب. ولكن هل هناك انتقال فقط من "رؤساء" الشعب إلى رؤساء آخرين؟ هنا نلاحظ أن الكرمة ليست شعباً تاريخياً وحسب. بل ملكوت الله. وهكذا يدلّ الكرّامون على شعب إسرائيل. منه أخذ الملكوت وأعطي "لآخرين". لمن؟ ليسوع أولاً وفي يسوع إلى كنيسته. أجل، شعب الله لم يعد إسرائيل التاريخي.
هـ- تفسير المثل (12: 10- 11)
مع عقاب الكرّامين. وجد المثل نهاية منطقيّة وتقليدية. لا نعود نهتمّ بمصير الكرم والكرّامين، بل بالابن المقتول عبر رمزية حجر الزاوية (أو: حجر الغلقة). هنا يرد مز 118: 22- 23 حسب السبعينية اليونانية. ويرد في الأناجيل الثلاثة في شكل واحد، وهذا يعني أن التقليد تكوّن حول هذا الاستشهاد الكتابي قبل أن يدوّن في الأناجيل. لا شك في أن العودة إلى النصّ اليوناني، يدلّ على عمل الكنيسة الأولى التي عرفت هذا النصّ وأوردته في أع 4: 11؛ 1 بط 2: 7.
جهل لو آ 23 من مز 118. ولكنه زاد قولاً آخر يرجع إلى أش 28: 16؛ دا: 45، وقد يكون مرتبطاً بالتقليد قبل الإزائي.
و- الخاتمة التاريخية (12: 12)
هذه الخاتمة تدلّ على نوعيّة سامعي يسوع: الجمع الحاضر ينتظر أن يرى معجزة أو يسمع كلاماً مدهشاً. والخصوم الذين ينتظرون المناسبة لينصبوا له فخاً. وهكذا، إن عدنا إلى النقد الأدبي نرى أن التقليد الإنجيلي عرف ثلاث مراحل رئيسية: المثل نفسه كما قاله يسوع. المرحلة السابقة للتدوين الإزائي (مز 118؛ لو 20: 18= مت 21: 44). وأخيراً نسخات مت، مر، لو الثلاث.
3- معنى المثل
أ- الفن الأدبي
تستوقفنا حين نتطرّق إلى الفن الأدبي، ثلاثة أمور: تطبيق المثل في الجماعة المسيحية. المعطيات البيبلية. الإشارات الأمثالية.
أولاً: تطبيق المثل
هناك أولاً إيراد مز 118: 22- 23. ثم القول الذي نجده في لو 20: 18 (من يسقط على هذا الحجر يترضّض، يتهشّم). التوضيحات حول المعاملات السيّئة التي لاقاها الخدم، حول أوان الثمر، حول ربّ الكرم. وأخيراً، هناك إضافات كتلك التي نجدها في مت 21: 43: "إن ملكوت الله يُنْزع منكم ويُدفع إلى شعب يستثمره".
كل هذه العناصر تُعتبر نتيجة تأمّل الجماعة المسيحية في ما تذكّرته من مثل يسوع. وهي سوف تستغلّ في معنى مسيحي الرموز البيبلية الأساسية التي نجدها في حجر الزاوية (أو: حجر الغلقة)، الثمار، العلاقة بين السيد وعبيده.
ثانياً: المعطيات البيبلية
ربّ الكرم هو الله. الكرم هو إسرائيل ثم ملكوت الله. الكرّامون هم إسرائيل ورؤساؤه. الثمار الواجب تأديتها هي الأمانة للعهد. هذا ما نجده في الطبقة الأساسية من المثل. وقد تسلّمها يسوع من التقليد الكتابي، ولكنه حملّها معنى جديداً. فابتعد المثل الذي قدّمه عن الأصل الذي نقرأه في أشعيا.
ثالثاً: الإشارات الامثالية
بدون هذه الإشارات لا نكون أمام مثل من أمثال يسوع. فما هي؟ (1) ذهاب ربّ الكرم وعودته: في الجماعة المسيحية هو المسيح الذاهب والعائد. (2) إستئجار الكرّامين. سيكون الميراث لنا: اعتبر اليهود نفوسهم الوارثين الحقيقين للوعد (وبشكل نهائي). (3) إعلان موت الابن: سيأتي الحديث عن القيامة في إطار الجماعة المسيحية.
هنا يُطرح السؤال: هل نحن أمام مثل تعليمي على شكل حبّة الخردل (مت 13: 31- 32) حيث نبحث عن المعنى العام؟ أم هل نحن أمام مثل يتحدّث عن الدينونة كما في مثل التينة العقيمة (لو 13: 6- 9)؟ في الواقع، ينصبّ الاهتمام على عقاب الكرّامين، لا على صبر ربّ الكرم. إذا عدنا إلى قصيدة أشعيا نفهم أننا أمام مثل دينونة. وهذا يعني أنه يشير إلى سياق تاريخي محدّد.
أعلن أشعيا لرجال يهوذا الذين خانوا العهد أن الأمة ستدّمر. وتوجّه يسوع إلى معاصريه، ولا سيّما رؤساء الشعب، فأعلن لهم أنهم حين يتآمرون على قتله، فهم يشيرون إلى هلاكهم. فالربّ، سيّد التاريخ، سيدفع كرمه إلى آخرين.
ب- مرمى المثل
ولكن يسوع اختلف عن أشعيا، فلم يعلن دمار الكرم، بل إحلال كرّامين آخرين محل الكرّامين الأولين. واختلف عنه أيضاً، فلم يبرز عقم الكرم، بل تسلّط الكرّامين على ثماره. والكرم لا يدلّ فقط على إسرائيل التاريخي، بل على واقع مستمر وحيّ في قلب الله. نسمّيه، انطلاقاً من الإنجيل: ملكوت الله.
يجيء الحكم بشكل مستقبل قريب يترك للمخطئين مناسبة التوبة. خذوا حذركم! فالله يفرض عليكم أن تؤدّوا له ثمار الملكوت. وأنتم تقتلون الابن بعد الأنبياء. أرسل لكم ابنه في نهاية التاريخ، فما كان نصيب هذا الابن؟
وقد يكون هناك إنباء بموت يسوع، ووحي لبنوّته الإلهية. ولكن هناك تهديداً وتنبيهاً، وإعلاناً لدينونة مقبلة. في هذا النصّ يستعيد يسوع بطريقته الخاصّة التقليد النبويّ. فكل نبيّ يُرسل من قبل الله ليكشف لمعاصريه معنى أعمالهم ومنطق العهد على مستوى الله. وإذ يبرز أمام أنظارهم الكوارث الوطنية التي تعاقب خيانتهم، يدعوهم إلى خيار جذري: بين قساوة القلب وبين الارتداد. كلاهما ممكنان. قال عا 4: 4: "اذهبوا إلى بيت إيل واخطئوا". وقال يسوع: "انقضوا هذا الهيكل" (يو 2: 19). ففي مثل يسوع كمالا نبوءة أشعيا، لا تعرض إمكانيّة التوبة بشكل خيار كما في كلام يوحنا المعمدان (كما 3: 7- 12= لو 3: 7- 9). بل بشكل تهديد: ستكونون خارج الملكوت. ولكن قد يصبح هذا التهديد بعيداً، إذا شئنا.
ج- معنى المثل
إن يسوع يشرف على تاريخ الخلاص. وقد ربط بمصيره الخاص دينونة إسرائيل الأخيرة. سبقه خدم لم يسمع الناس لهم، بل قتلوهم. وجاء هو "الأخير". إنه الابن. وحين رذل إسرائيل الابن، أعاد الله النظر في موقفه بالنسبة إلى شعبه.
في هذا المثل، يعلن يسوع مصيره الخاص بالنظر إلى تاريخ الخلاص الماضي. لم يربط موته بقيامته، كما فعل في الانباءات الثلاثة عن الآلام. فهي الكنيسة الرسولية التي حاولت أن تتأمل لا موت يسوع وما فيه من شك، فحدّدت هذا الموت بالنسبة إلى القيامة. أعلن يسوع مصيره لمجمل إسرائيل، فأدخله في التاريخ الإلهي مع فعل "داي" (يجب، ينبغي).
إن المؤرخ الذي يقرأ الأناجيل يعلم علم اليقين أن يسوع وعى مصيره المؤلم. وعن أنه يتمّ نبوءة عبد الله المتألم، نبوءة الموت الفدائي. ولكنه لم يحتفظ هنا إلا بالوجه المظلم من هذه النبوءة: الموت الذليل (أش 53: 8- 10). وإذ أعلن دينونة إسرائيل القريبة، ما شاء ان ينبئ بالطابع التكفيري لموته ولا بيقين تمجيده (53: 10- 12). وساعده منطق المثل فدلك على نفسه كـ "الابن" أو "الوارث".
لم يوضح من هم "الآخرون" الذين سيُدفع إليهم الكرم. فهمّه هنا في إطار الدينونة أن يكشف خطيئة إسرائيل. اختلف هذا المثل عن مثل الزارع، فلم تقم خيانة إسرائيل في أن يكون حقلاً عقيماً من أجل زرع اسكاتولوجي، بل في أن يضع يده على عطايا الله. اعتبر الكرم "شيئاً" يخصّه. ولم يعتبر نفسه عاملاً في كرم يخصّ الله وحده. فالملكوت هو ملكوت الله.
وهكذا يستعيد المثل المعطيات التاريخيّة الأكيدة. ففي الساعة التي تقرّر فيها موت يسوع بفم خصومه، طُرح سؤال ملحّ لا مهرب منه: من هو هذا الإنسان الذي يسمّي نفسه الابن، الذي يرى نفسه ذاهباً إلى الموت؟ فيخبر خصومه بذلك لا ليجعلهم يهتمون بمصيره، بل لكي يكشف لهم النتائج الهائلة لأعمالهم. ويخبرهم لكي يؤكّد لها أخيرا" أن التاريخ الإلهي يدرك ذروته في هذا "القتل"، ولكن دون أن يتوقف. فالله ربط مصيره مع مصير "عبد الله" يسوع، والكلمة الأخيرة ستكون له. والكرم سيتابع مسيرته، لأنه ملكوت الله على الأرض.
4- النظرة اللاهوتية في مثل الكرّامين القتلة
إتخذ مثل يسوع هذا أهمية كبرى في نظر المسيحيّين الأولين. فقد جمع بشكل متناسق، وحياً عن مصير يسوع ووحياً عن مصير الكنيسة. لهذا، طبّق حسب حاجة الجماعة التي وجّه إليها، وكانت إضافات أو إغفالات. فقد أعيدت قراءة المثل بالنظر إلى الوضع الجديد الذي خلقه الحدث الفصحي.
أ- نظرة مرقس
يبدو أن مرقس شدّد على الوجهة الكرستولوجيّة الأولى. ففي الظاهر، ليس مصير يسوع فريداَ. فقبله نال الخدم المعاملات السيّئة التي وصلت بهم إلى الموت. وإذ قال مر إن الثالث "قتل" وإن مرسلين "كثيرين" تبعوه، قطع التدرّج الذي استعمله لوقا ليبرز مصير الابن. ولكن هذا الإحساس الأول يمحي حين يصوّر عذاب الابن: هو وحده قد نجّس الكرّامون جثمانه. قتل الابن في الكرم، ولكن جسده طُرح خارج الكرم. في معنى أول، خارج أورشليم التي تمثل كرم الرب. وفي معنى ثانٍ ، أرادوا أن يرذلوا الابن من الملكوت. غير أن هذا الذي رذلوه قد جعله الله مفتاح التاريخ وهكذا تهتف الجماعة فتعبرّ عن اعجابها أمام عمل الله، أمام آلام الابن وقيامته.
أجل، إن مثل الكرّامين في مر قدّم للجماعة نظرة فصحية إلى الحدث. ولكنه يبقى إعلاناً لدينونة مقبلة. فالإطار الذي دوّن فيه يبرز الوضع المأساوي الذي يعيشه يسوع. حين أعلن يسوع هذا المثل، كان يعيش التهديد بالموت من قبل رؤساء الكهنة والكتبة.
ب- نظرة لوقا
تركّز مثل يسوع حول موت الابن، فبدا خبراً يجري أمامنا كما في صور متعاقبة. وهذا الخبر هو دراما تجعل الخطر أمام الكرّامين، وذلك تحت نظر الشعب.
منذ "زمان بعيد" (20: 9) بدأ الله عمله. وعلامة الخلاف التي تنتصب مع مجيء الابن، قد جعلت الكرّامين يعثرون. من جهة، نجد كرّامين يقفون أمام "مشيئتهم" بأن يطردوا الله خارج ملكوته (نجد 4 أفعال مع الأداة: إك: خارج. في آ 10، 11، 12، 15). ومن جهة ثانية، نجد رب الكرم بصبره وقلبه الكبير الذي يرجو (ربّما آ 13) أن يهابوا ابنه، "فيرسله" كما "أرسل" (بمبو في اليونانية كما في يو 4: 34؛ 5: 23) الخادمين السابقين (هو الثالث) (20: 11- 13). أما الكرّامون فطردوا الخادمين بأيدٍ فارغة (آ 10- 11). تعارض تام بين الكرّامين والله نفسه.
إن هذا الصراع في التاريخ الماضي يتركز اليوم في الانشداد حول شخص يسوع الذي هو حاضر هنا ويتكلّم. إن آية الخلاف التي تحدّث عنها سمعان الشيخ (2: 33)، إنتصبت اليوم أمام الشعب كله (20: 9). وعلى كل واحد أن يتخذ موقفاً. جُعل إسرائيل أمام نظرة تعلن أن ملكوت الله يؤخذ منه ويُدفع لآخرين، فهتف "معاذ الله" (آ 16). حينذاك جاء نظر يسوع (آ 17) يلج إلى أعماقهم، لكي يفهمهم إلى أي درك وصلوا.
إنتهى المثل عند مر، بهتاف جماعة تنشد في ليتورجيتها عمل الله العجيب. أما لو فشدّد على التنبيه الذي يوجّه إلى الشعب كله (آ 19) الذي يتميّز عن الكتبة وعظماء الكهنة: "من سقط على هذا الحجر يتهشَّم. ومن يسقط عليه يسحقه" (آ 18).
- نظرة متّى
إن رسمة تاريخ الخلاص التي يقدّمها المثل، تتركّز على الحدث الفصحي. وهي تبدو في مشهدين: حُرم رب الكرم من ثمار الكرم رغم الوفود المتعاقبة التي انتهت مع ابنه (آ 34- 39). ها هو يقدّم الكرم لكرّامين يؤدّون له ثمراً (آ 40- 44).
أما الاتجاه الكرستولوجي عند مت، فيدخل في فقاهة شاملة. هو لا يكتفي بأن يعطي تطبيقاً أخلاقياً، بل فهماً عميقاً يتجذّر في نظرة شاملة إلى مخطط الله.
إن المقدمة (آ 33) تحدّد التاريخ في لاهوت علاقة الإنسان بالله. الله هو رب الكرم، فواجب إسرائيل وواجب كل سامع أن يؤدي له الثمار. ولكن الكرّامين رفضوا. وهكذا دلت آ 34- 39 على هذه الخيانة المثلّثة. والعودة إلى تاريخ العهد تلقي ضوءاً على معنى عقاب الكرّامين: سيؤخذ ملكوت الله منكم ويُدفع إلى آخرين. والآخرون هم الوثنيون. هذا هو معنى لفظة "اتنوس" (الشعب الوثني، تجاه الشعب اليهودي). هذا هو معنى لفظة "ألويس" (آخرين). سيأتون من المشرق والمغرب ويتكئون إلى المائدة الاسكاتولوجيّة (مت 8: 12= لو 13: 28- 29). أجل، إن الأمم الوثنية تحلّ محلّ إسرائيل التاريخي.
خاتمة
روى الإزائيون الثلاثة مثل الكرّامين القتلة ولاحظوا تأثيره على السامعين. قال مت 21: 45: "فهموا أنه يتكلّم عنهم". وقال مر 12: 12: "فهموا أن لأجلهم قال المثل" (رج لو 20: 19). شفافية على مستوى الفهم. ولكن على مستوى الموقف الواجب إتخاذه؟ لقد كشف المثل عن رفض داخلي وقساوة قلب (4: 12)، كان قد حاول رؤساء الشعب أن يقبضوا على يسوع، ولكنهم خافوا من الشعب (رج 11: 32). أما الآن، يقول مر 12: 12، فتركوه ومضوا. تركوا المسرح كما فعلى قبلهم الفريسيون والهيرودسيون على أثر الجدالات الخمسة في الجليل (3: 6).