الفصل الثالث والعشرون: الجزية لقيصر

الفصل الثالث والعشرون
الجزية لقيصر
12: 13- 17
يورد حدث الجزية لقيصر هجوماً مضاداً من قبل رؤساء اليهود حالاً بعد مثل الكرّامين القتلة. فقد كان هذا المثل الأخير مزعجاً جداً لهم. فأرسلوا إلى يسوع الفريسيين وبعض جماعة هيرودس. أجل، لقد اجتمع أصحاب هيرودس وأعداء هيرودس (الفريسيون). المهم الإيقاع بيسوع. ولكنهم لا يستطيعون. بل سيكون لنا جواب من يسوع خاصّ بهم، وتعليم لنا نحن المؤمنين اليوم حوله علاقتنا بالسلطة السياسية.
1- نظرة إجمالية
إن الجزية التي تُدفع للامبراطورية الرومانية، هي موضوع الجدال (كما في مدارس الرابانيين) الذي نقرأه في هذا الفصل. فنحن نبدأ مع آ 13 سلسلة من جدالات سيخرج منها يسوع منتصراً. لهذا نقرأ في 12: 34: "ولم يجسر أحد من بعد أن يلقي عليه سؤالاً".
هنا يواجه يسوع نوعين من الخصوم: الفريسيون والهيرودسيون. لقد ذُكروا في 2: 6. ويبدو أن السنهدرين (المجلس الأعلى. نحن هنا أمام ملاحقة رسمية وإن كانت خفيّة) هو الذي أرسلهم. هذا ما يلمّح إليه مرقس هنا ولو 20: 20: "أوفدوا إليه جواسيس يراقبونه".
إن الأسئلة المطروحة على يسوع تنتمي إلى فئة من الأسئلة المحرجة اعتاد الرابانيون أن يطرحوها ليختبروا عند الآخرين معرفتهم للكتب المقدّسة وفطنتهم في تمييز الحالات. تكل هي مسألة الجزية التي فرضها الإمبراطور الروماني على المناطق المحتلة: هذه الجزية قسمت الأحزاب السياسية والدينية في عصر يسوع: فالغيورون رفضوا أن يدفعوها انطلاقاً من مبدأ ديني. لا ملك لنا إلا يهوه. أما الهيرودسيون فقد ارتبطوا بالسلطة الحاكمة وتشيّعوا لهيرودس. فكانوا يدفعونها بطيبة خاطر. أمّا الفريسيون فعارضوا من جهة المبدأ سلطة رومة، ولكنهم وجدوا توافقاً على المستوى العملي: بما أن الحكام الوثنيين يتسلّمون من الله سلطتهم بحفظ النظام، وله يؤدّون حساباً، لذلك يجب أن نخضع لهم ولا سيّما في أمر الجزية. ولكن يبقى الأمر موقتاً.
حين طرح الخصوم هذا السؤال على يسوع، أملوا أنهم يسجنونه فلا يمكنه أي يفلت: فمهما كان جوابه، سيجتذب عليه غضب هذا الفريق أو ذاك. إن قبل بدفع الجزية، أفهموا الشعب أنه يتعامل مع العدوّ. وإن رفض دفع الجزية، يشتكون عليه لدى الوالي الروماني. وقد كانوا يستشفّون هذا الخيار الثاني، كما تدلّ على ذلك بداية الكلام الذي وجّههوه إلى يسوع. "لا تحابي وجوه الناس "لا تعتبر الناس حسب عملهم، غناهم، مركزهم)، بل تعلّم طريق الله بالحقّ" (آ 14).
طُرح السؤال على المستوى النظري وعلى المستوى العملي. هل يحقّ لنا أن ندفع جزية الرأس؟ هذا يعني أننا نقرّ بسلطة رومة. وعلى المستوى الملموس، إذا رفضنا أن ندفعها، هل يعني هذا أنه يجب أن نخضع لسلطة رومة لأسباب أخرى؟ وهكذا جُعل الطرح الذي يقدّمه الفريسيون أمام يسوع.
"أدرك يسوع مكرهم" (آ 15؛ رج 7: 6). فأعادهم إلى ذواتهم، كما فعل في الجدال حول السلطة (11: 29). سألوه. فطلب منهم ديناراً. أروه أياه فدلّوا أنهم يستعملون هذا النقد الذي يحمل صورة الإمبراطور طيباريوس. وقد دوّن عليه: "طيباريوس الإمبراطور، ابن اوغسطس الإلهي، وهو نفسه اوغسطس" (أي عليّ، كالرب العليّ). ولكن عملهم جعلهم يخسرون ماء الوجه. سقطوا في الفخّ الذي نصبوه.
بعد هذا، يستطيع يسوع أن يقدّم جوابه بحرّية وإرتياح: إذا كان النقد يخصّ الإمبراطور فهو واجب له وهو يعود إليه. غير أن هناك نظاماً أسمى يجب أن نقرّ به هو واجباتنا تجاه الله. إن هذا الجواب يتخطّى المستوى الذي جُعل عليه السؤال. فيسوع لا يعطي قواعد عملية تساعد المواطن لا تصّرفاته اليومية: لا يوصي بالخضوع أو الخنوع أمام النظام القائم (وهذا هو موقف الفريسيين). ولا يوحي برذل هذا النظام (هذا هو موقف الغيورين). ولا يبارك بكل بساطة ما يفعله الإمبراطور ومن يعمل باسمه (هذا هو اتجاه الهيرودسيين).
إن إعلانه المزدوج يلاحظ أمرين: من جهة، وجود سلطات موقتة في عالمنا، يجب أن نأخذها بعين الإعبار. ومن جهة ثانية، يدعونا يسوع إلى موقف واع يميّز الأمور: أدّوا للدولة مالها، كل مالها، وفقط مالها... لا أكثر ولا أقلّ... وأدّوا لله ما يعود إليه، أي شخصكم كله. نحن من الله ونعود إلى الله الذي هو هدفنا وغايتنا، ووحده يستطيع أن يطلب منّا كل شيء.
2- قراءة تفصيلية
أ- بعض من الفريسيين (آ 13)
نجد في مر أن الفريسيين والهيرودسيين جاؤوا إلى يسوع. لقد تعوّدنا على هذا "التحالف" الغريب. ففي 3: 6 نقرأ: "فخرج الفريسيون وتآمروا عليه مع اليهرودسيين". كان ذلك بعد الجدالات الخمسة الأولى. أما الآن فقد ازدادت الاستعدادات العدائية شدّة. أما مت 22: 15، فتحدّث فقط عن الفريسيين الذين عقدوا مجلساً واتخذوا قراراً بإرسال تلاميذهم مع بعض الهيرودسيين. بهذه الطريقة يظلّون بمنأى عن الانتقادات المباشرة. أما لوقا الذي يراعي الفريسيين، فاكتفى بالقول: "راصدوه، أوفدوا إليه". من هم هؤلاء؟ إذا عدنا إلى 20: 19 نفهم أنهم الكتبة ورؤساء الكهنة.
هناك من جعل هذا الجدال في المرحلة الجليلية. ولكن لماذا؟ حسب لو 23: 6- 12، كان هيرودس انتيباس في أورشليم بمناسبة العيد. كان تبَّاع هيرودس يسيرون مع "الحاكم" الذي تعيّنه رومة. فهم العملاء الذين لا يجادلون. أما الفريسيون فلم يكونوا على رأي واحد. كان عدد منهم وطنيين متحمّسين، فكانوا يبكون على هذا الوضع الذي يقود إلى العبوديّة. ولكنهم بالإجمال، تعاملوا مع رومة بفطنة ودراية. وقد رأى بعضهم في هذا الاحتلال عقاباً من الله. وآخرون رأوا فيه حاجزً أمام تسلّط هيرودس البغيض.
يطرح الفريسيون السؤال، وموقفهم تجاه الجزية متشعّب. والهيرودسيون يحملون الجواب إلى السلطات. بما أننا لا نستطيع أن نهاجم يسوع بشكل مباشر أمام الشعب، نجعله يسقط في فخّ السلطات الرومانية. هذا ما قاله لو في 20: 25: "يسلّمونه إلى حكم الوالي وسلطانه".
إن موضوع الجزية كان موضوعاً مؤلماً: يدفعها كل شخص يعيش في الإمبراطورية. ولا ننسَ سائر الضرائب: الجمارك، الانتقال من مقاطعة إلى مقاطعة، الضرائب غير المباشرة، الضريبة على الأراضي. كل هذا يدلّ على سلطة رومة على الشعب المختار. والدفع يعني الاعتراف بهذه الشرعيّة والقبول بخسارة الاستقلال الوطني. هذا على المستوى السياسيّ. وهناك أيضاً المستوى الديني: إذا كان القيصر هو سيّد إسرائيل، إذن، ليس الله هو السيّد (رج يو 8: 31- 34). سينطلق يسوع في جوابه من هذه النقطة: الاهتمام بكرامة الله. ما الذي يمسّ هذه الكرامة؟ هل السلطة الرومانية وحدها؟ هل دل ما يجب لقيصر يعارض "دفع" ما يجب لله؟ هل هم متأكدون أنهم أدّوا لله ما يجب في حياتهم العملية؟
كانت نظرة سياسية: التعامل مع السلطة الأجنبية. وارتبطت بهذه النظرة وجهة دينية: لا ملك علينا إلا الله. ومن يعيّنه الله من شعبه. وهناك وجهة دينية أخرى: نجد على النقد صورة الإمبراطور. والوصية الثانية من وصايا الله تمنع الصور والتماثيل. ثمّ إن هذا الإمبراطور يعتبر نفسه الله. والمؤمن لا يعرف إلا الله الواحد. وهكذا بدا الوضع متشعباً، بل معقداً. ولكن الجواب جاء بسيطاً في فم يسوع: حين تؤدّون واجبكم حقّاً تجاه الله، تصبح تأدية سائر الواجبات بسيطة. محبّة الله تعلّمنا محبّة القريب والتعامل معه.
ب- السؤال المطروح (آ 14)
نستطيع أن نجد في "الخطبة" الصغيرة المنسوبة إلى الفريسيين مقدّمة مقولبة كما في يو 3: 2 (نيقوديمس)، أع 24: 1- 4؛ 26: 1- 2، تريد أن تلفت انتباه الآخر وتربح ودّه. نلاحظ أن المحاولة لا تستند إلى إمكانيات يسوع في حلّ المسائل اللاهوتية أو الخلقية، بل استقامته المطلقة وحرّيته تجاه الأشخاص. نستطيع أن نرى هنا ثلاثة أمور: الأول، قد يكونون حقاً تأثروا بيسوع وعبّروا عن قرارة ضميرهم. الثاني، قد يكون هناك بعض "السخرية" واستقامة يسوع لا تدخل في إطار "الشريعة" كما يراها خصومه. ولكنهم مع ذلك تحدثوا عن استقامته، وإن يكن الشكل سلبياً (مثلاً. هزئوا منه لأنه اعتبر نفسه ملكاً. ولكن هو ملك في الحقيقة). الأمر الثالث والأهم في نظرهم: بدأوا يمتدحون يسوع، وهكذا لن يستطيع أن يتهرّب. فبدا مديحهم طريقة لإحكام الفخّ فلا يستطيع الإفلات منه.
جاء الفريسيون وجاء معهم الشهود من جماعة هيرودس. أترى يسوع سيجاري الشعب الحاضر ويدعوه إلى رفض الجزية؟ حينئذ يُعتبر داعياً إلى الثورة. غير أن جواب يسوع جاء حقيقياً وحكيماً. تحلىّ جوابه بالفطنة فلم يقع في فخّ خصومه. وربط هذا الجواب بالله فجعل السؤال في محلّه داخل حياة المؤمن. لا فتوى من الفتاوى "المدرسيّة" عند الرابانيين.
ج- جواب يسوع (آ 15- 17)
قال يسوع: "هاتوا ديناراً". حين طلب يسوع ما طلب، وجّه الفخّ على خصومه. لا شكّ في أن عندهم، أو أقلّه عند بعضهم، ديناراً يدفعونه "جزية". هذا النقد يجب أن "يحرق" أصابعهم. هو صنم رجس، هو قيمة تجارية، هو نقد بسيط "بريء". إنه علامة النظام الروماني الذي ينعمون به. وهذه الجزية هي ما يقابل بعض هذا النظام.
حين نعرف حذر يسوع من كل ما يمسّ المال. حين نعرف شهرة الفريسيين في حبّ المال (لو 16: 14)، نفهم أن يسوع أراد أيضاً أن يشدّد على فكرة أخرى ستتّضح في نصّ لوقا. ما يعارض حقوق الله ليس فقط "الصورة" الموجودة على النقد والتي تدلّ على "الإله" طيباريوس. فهناك إله آخر أكثر خطورة هو "مامون" هو المال الذي يعطينا الأمان فنؤمن به ونتكّل عليه ونعبده (لو 16: 12).
أجاب يسوع: "أدوا ما لقيصر لقيصر. وما لله لله". فما هو معنى هذه العبارة؟ قدّمت اقتراحات عديدة.
الأول: توجّه جواب يسوع إلى الغيورين. القسم الأول لا يعني لهم شيئاً، بل يدلّ على لباقة يسوع بالتهرّب من السؤال. فهم لا يؤدّون لقيصر إلاّ البغض! وقد يكون توجّهاً ملؤه الاحتقار لتبّاع هيرودس الخاضعين الخائفين أو للفريسيين الجبناء: أنتم تستعملون نقد قيصر فأعيدوه إليه. هذا يتضمّن: أما نحن فلا ندفع الجزية! أما فنحن فنردّ لله ما هو لله أي شعبه الذي جعله قيصر عبداً له. هذا يعني نداء مقنعاً للثورة. هكذا يفهمه الغيورون.
وقد يكون الجواب مناقضاً لموقف الغيورين الذين تميّز يسوع عنهم (أرادوا أن يجعلوه منهم، رج لو 23: 2). يجب أن ندفع الجزية. هناك مسألة عامة عن العلاقات مع السلطة الرومانية لا تهمّ يسوع. ما يهمه هو أن يؤدّى لله ما هو لله. يعني أن يحدّد موقعه بشكل إيجابي من ملكوت الله.
الثاني: أقرّ يسوع في جوابه بالدعوة الخاصّة للدولة التي هي نظام أراده الله، وهو بذلك يملك سلطة شرعيّة. نجد أساساً لهذه النظرة في العهد القديم (أم 8: 15- 16؛ دا 2: 21، 37- 38؛ أش 45... موقف أرميا من الجيش البابلي). في العهد الجديد نجد روم 13: 1- 17 (حيث حلّت مسألة الجزية بشكل إيجابي)؛ تي 3: 1؛ 1 بط 2: 13- 17. إذ كان للدولة سلطة من الله، فهذا من أجل خلاص البشر. فإن أديّنا لقيصر ما لقيصر، فلكي نؤدّي لله ما لله. وهكذا شددّ جواب يسوع على القسم الثاني.
الثالث: لا يهتم يسوع بالأمور السياسية. إن سلطة الله المطلقة لا تسمح لنا أن نضيع الوقت في أمور جانبية. دُفعت الجزية أم لم تدفع؟! هذا أمر لا يبالي به يسوع. نظّموا أموركم المادية كما ترون، واطلبوا ملكوت الله وبرّه. صرنا هنا على المستوى الروحي البحت الذي يجعل المسيحي الذي ليس من العالم، في العالم.
خاتمة
في هذا المشهد نرى أولاً تصّرف يسوع الذي تميّزه حكمة الحيات ووداعة الحمام. يتحدّث النصّ الإنجيلي عن مكر السائلين، عن نواياهم السيّئة. أما جواب يسوع فأسكتهم وقدم لنا تعليماً حول علاقة عالم الله بعالم البشر ولا سيّما على مستوى السلطة السياسية والأمور الاقتصادية. إن عبارة يسود (أدّوا ما لقيصر لقيصر) لم تلقَ جواباً واحداً لدى الشّراح. ولكنها شددت على الواجبات الأولى تجاه الله. وبعد ذلك تأتي واجباتنا في المجتمع. أما الموقف الذي يمكن أن يتّخذه فرد أو جماعة، فيكون وليد تأمّل لا كلام الله كله (لا في نصّ واحد) على ضوء الوضع الذي نعيش فيه. ولكن يبقى في الحالاًت العادية أن واجبنا تجاه الله يعلمنا أن نتعامل مع واجبنا تجاه القريب الذي ليس بابن القبيلة أو العائلة وحسب، بل كل إنسان نتعامل معه في الحياة

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM