الفصل الرابع والعشرون: حقيقة القيامة

الفصل الرابع والعشرون
حقيقة القيامة
12: 18- 27
ماذا عن قيامة الموتى في كرازة يسوع؟ نبدأ فنحلّل حوار يسوع مع الصادوقيين كما برز في الأناجيل الإزائية الثلاثة (12: 18- 27؛ مت 22: 23- 33؛ لو 20: 27- 40) ثم نحاول أن نستخلص التعليم اللاهوتي.
1- تحليل النصّ
النصّ معروف. نحن أمام جدال يبدأ بسؤال وينتهي بجواب يسوع. أما المعارضون فهم الصادوقيون "القائلون بعدم القيامة". ونتوقّف أولاً عند خصائص كل نصّ على حدة.
أ- المقدمة
خلال الأيام الجثة التي تسبق الآلام، جمع مرقس بعض الأحداث (الدخول إلى أورشليم، طرد الباعة من الهيكل). ثم كثّف في اليوم الثالث تعاليم مختلفة وعديدة (11: 1؛ 12: 44). وبين هذه التعاليم نجد خمسة جدالات يتدخّل فيها يسوع ليقدّم تعليمه (11: 27- 33؛ 12: 1- 12، 13- 17، 18- 27؛ 28: 37). وكان مرقس قد جمع في القسم الأولى من إنجيله سلسلة من جدالات خمسة (2: 1- 3: 6).
حين نعرف تصرّف مرقس، نرى أن هذه المجموعة وأختها سبقتا تدوين الإنجيل. ففي هذا اليوم الثالث من الأسبوع الفصحي، قادتنا وفرة المواد وتنوعّ المواضيع إلى القول بترتيب تدويني قديم في الكنيسة الأولى. هنا نجد جدال يسوع مع الصادوقيين حول قيامة الموتى (12: 18- 27). وقد استعاد كل من متّى (22: 23- 33) ولوقا (20: 27- 40) هذه المقطوعة.
لا نجد في مر انتقالة بين هذه المقطوعة وسابقتها بل نقرأ: "وجاء إليه". إن مثل هذا النقص في الوصل خاص بمرقس. وكذلك استعمل حرف العطف (كاي)، والحاضر التاريخي لا فعل "جاء" (أقبل). إن الذين جاؤوا إلى يسوع هم الصادوقيون. وقد صوّرهم لنا مرقس: يقولون بعدم القيامة (اناستاسيس). هذه الملاحظة مهمّة لكي تحدّد الأشخاص الذين يتوجّه إليهم الإنجيل.
أما متّى فجعل النزاع ساعة الانفصال الكبير بين يسوع واليهود (مت 21: 23؛ 23: 29). عاد بشكل اجمالي إلى مر. وجعل في بداية المقطوعة: "وفي ذلك اليوم عينه". وهكذا شدّد على أهمية ما يلي (23: 1)، كما أدخل هذا الجدال في الدراما العظيمة التي بدأت بدخول يسوع إلى الهيكل. ولكن، حين نقرأ مت، نجد أن الناس لا "يجيئون" إلى يسوع، بل يقتربون منه بإجلال. وأحلّ متّى الماضي الناقص محلّ الحاضر التاريخي.
وأخذ لوقا من مر 4 من جدالاته الخمسة (20: 1- 8، 9- 18، 20- 26، 27- 40). ألغى السؤال حول أعظم الوصايا (مر 12: 28- 40) لأنه سبق وأورده قبل ذلك (لو 10: 25- 28). منذ البداية، نجد نفوسنا أمام كاتب مثقّف. ألغى، شأنه شأن متّى، الحاضر التاريخي. وبدأ عبارته مع اسم الفاعل: "وهم مقتربون" (وإذ اقتربوا). ثم قال: "بعض الفريسيين". واحتفظ باللفظة التي استعملها متّى: إقتربوا بإجلال.
قال مرقس: جاء إليه صادوقيون اولئك الذين يقولون. كتب متّى ومرقس إن الصادوقيين يقولون بعدم القيامة. أما لوقا فجاء دقيقاً: يعتقد أنهم يقولون (انتيلاغونتس). وما أحتاج مثل متّى إلى أن يكتب "قائلين". فكلاهما قال: "سألوه".
ب- سؤال الصادوقيين (12: 19- 23؛ مت 22: 24- 28؛ لو 20: 28- 33)
السؤال هو هو في الأناجيل الثلاثة. قال مرقس: كانوا يسألونه (وكأن هناك أكثر من سؤال). وقال متّى ولوقا: سألوه (مرة واحدة). توجّه الصادقيون إلى يسوع مستعملين لقب شرف. يا معلّم (ديدسكالوس. نجده عند مت ولو). ثم دخلوا حالاً في الموضوع: "كتب (رسم) الناموس أنه إن مات لأحد أخ". تبع لوقا مرقس: كتب موسى. وتبع متّى مر، ولكنه أحلّ "قال" محلّ "كتب". ففي نظر متّى، يعود الصادقيون إلى قراءة كتاب موسى. أمّا في نظر مرقس ولوقا، فموسى هو قناة الله. وقد كتب "لنا".
جاءت جملة مرقس متشعّبة، فصحّحها لو ومت. "إذا مات أخ أحد وترك امرأة ولم يترك ولداً، فليأخذ أخوه المرأة وليُقم نسلاً لأخيه". قال مت: "إن مات أحد" (بدل: أخ أحد). وألغى "ترك امرأة". فإن مات بدون ولد، هذا يعني أنه كان متزوّجاً. وصارت جملته: "إن مات أحد عن غير ولد، فليتزوّج أخوه امرأته". قالت لوقا: "أخ متزوّج له امرأة". جاءت عبارة مرقس أقرب إلى الساميّة: "لم يترك ولداً". وقال متى: "لم يكن له ولد". أما لوقا فاستعمل كلمة "قانونية": عن غير ولد (أتكنوس). قال مرقس: "ليتخذ أخوه" (طريقة ساميّة). وتبعه لوقا. أمّا متّى فقال: "يتزوّج امرأة أخيه". استعمل الثلاثة لفظة "سبرما" (نسل، عقب).
دوّن مرقس 12: 20- 23، أو أخذه من مرجع سابق. وجاء متّى ولوقا فحاولا أن يصحّحا لغة مرقس. فبعد أن ذكروا شريعة "السلفية" (تأخذ المرأة سلفها أو أخ زوجها) (تث 25: 5- 7) بشكل حرّ، واستلهموا خبر تامار (تك 38: 9)، نصبوا فخاً ليسوع.
لم يربط مرقس مقدّمته بما يلي: كانوا سبعة اخوة. أدخل متّى الأداة العاطفة "دي" (والحال). وزاد: "عندنا" (وكان عندنا سبعة اخوة). وهكذا حدّد موقع الخبر في الواقع اليومي. كان قد ألغى متّى في آ 24 "لنا" (قال لنا موسى). وها هو يعيد الضمير هنا (عندنا). ولجأ لوقا إلى الأداة "أون" (اذن). وهكذا ربط الجملة بسابقتها.
استعاد مرقس عبارة الاستشهاد الكتابي وكتب: "والأول أخذ امرأة ومات (اسم فاعل) بدون نسل". كثّف متّى الجملة: إذ تزوّج الأول مات. لوقا: والأول أخذ امرأة ومات. ثم قال متّى: إذ لم يكن له نسل ترك امرأته لأخيه. لوقا: مات بدون ولد (كما في آ 28). وها نحن نضع ما يلي في مقابلة إزائية.
مرقس متى لوقا
21- والثاني 26- وكذلك الثاني 30- والثاني
أخذها ومات
ولم يترك نسلاً
والثالث أيضاً والثالث 31- والثالث أخذها
22- والسبعة إلى السبعة وكذلك السبعة
لم يتركوا لم يتركوا أيضاً
ولداً ولداً
وماتوا
وفي آخر الجميع 27- وبعد (هم) كلهم 32- وبعد (ذلك)
المرأة أيضاً ماتت المرأة المرأة أيضاً
ماتت ماتت
23- في القيامة 28- في القيامة 33- المرأة إذن
إذن في القيامة
حين يقومون
لأي منهم لأي من السبعة لأي منهم
تكون إمرأة تكون امرأة تضحي امرأة
فإن السبعة فإنهم كلهم فإن السبعة
اتخذوها اتخذوها اتخذوها
امرأة امرأة

لا تبدّلات هامة. لا إضافة ولا اغفال. نحن أمام أسلوب في الكتابة. لم يكرّر مت ولو عن الأخ الثاني ما سبق وقالوا عن الأخ الأول. وتجنّب متى التكرار بعد السبعة. وتجنب مت ولو الاسهاب: "في القيامة، حين يقومون". إن التكرار في مرقس يفترض أن عبارة "في القيامة" صار زمناً أو موضعاً ينفصل عن واقع انهاض الموتى.
ج- جواب يسوع (12: 24- 27؛ مت 22: 29- 32؛ لو 20: 34- 38)
يبدو جواب يسوع مع اختلافات لافتة. بين مر ومت هناك تبدلاّت طفيفة على مستوى الأسلوب واللغة. أمّا نسخة لو فتطرح سؤالاً خاصاً.
بدأ مرقس مع آ 24: "قال لهم يسوع". تعود هذه العبارة ثلاث مرّات عند مرقس (9: 39؛ 10: 29؛ 12: 24). فيتجنّبها مت ولو في كل مرّة. فالمقدّمة لا ترتبط بما سبق عند مر. وهذا ما يحدث أيضاً عند مت 14: 7؛ 20: 21- 23؛ 26: 34؛ 27: 65 مع فعل قالت. في مر، طرح يسوع سؤالاً: "أمّا لأجل هذا تخطئون، إذ لا تعرفون الكتب ولا قدرة الله"؟ يلجأ مرقس مراراً إلى الإستفهام، لا سيّما في الجدال (2: 25؛ 12: 10). وتأتي عبارة "ديا توتو" (لهذا). بدَّلها مت، لأن الرباط واضح بين الضلال من جهة، وجهل الكتب المقدسة وقدرة الله من جهة ثانية (22: 29).
ترتبط آ 25 (في مر) بالسابق بأداة "لأن"، التي لا تدلّ على سبب، بل على انتقالة. وعبارة "يقومون من الأموات" هي مرقسية (6: 14) مع فعل "اغايرو" (في 9: 9، 10: أنإستامي: رج 12؛ 26). ألغى متّى "من الأموات". هم "يُوقظون". الله يوقظهم (رج 1 كور 15: 15). وإذ زاد متّى: "لا يزوِّجون ولا يزوَّجون"، دلّ على أننا أمام المجهول، وفي صيغة ساميّة: فالمرأة تزوّج، الرجل يزوّجها. "بل يكونون كملائكة في السماء" (في مت. في مر: السماوات). إذن، لا يتحدّث يسوع إلا عن الأبرار. "مثل الملائكة" (في كما، مر) صارت: مساوين للملائكة في لو 20: 36. ولكننا سنعود إلى هذا الموضوع فيما بعد.
وينتقل مر إلى سؤال ثان: "أما قرأتم في كتاب موسى، في العليقة، كيف كلّمه الله قائلاً"؟ "الكتاب" هو سلطة في حدّ ذاته. هو مقدّس. تلك هي الطريقة اليهودية والمسيحية للإقرار به. كتاب موسى هو الشريعة مع مقطع وجود موسى "في العليقة"، في الموضع المقدّس حيث جاء الوحي الإلهي. نحن أمام طريقة يهودية في الإشارة إلى المرجع. قال بولس في روم 11: 2: "في ايليا" (أي: في المقطع الذي فيه إيليا). أما نصّ ست فجاء مباشراً: لقد وجّهت كلمة الله "إلينا". وما قيل له قيمة أبدية. ولكن حين شدّد موسى على التوراة بالمعنى الحصري (أسفار الشريعة الخمسة)، دلّ على أنه في موقعه ليردّ على الصادوقيين الذين يتعلّقون فقط بسلطة أسفار موسى الخمسة. أما النصّ الوارد فيعود إلى الخروج (3: 6). كان مت أميناً لليونانية فقال: أنا هو (ايمي). أما مر فلم يجعل إلى التعريف أمام الله كما في السبعينية. وأغفل مت ومر "أبيك". إن عودتهما إلى النصوص هي لجوء إلى الوحي نفسه، لا إلى البرهان الكتابي.
وهكذا يتبدّل الموضوع في هذه الآيات. ننتقل من الطريقة التي بها يقوم الموتى إلى واقع القيامة نفسه. كان من المفضّل على مستوى المنطق أن نؤكد على الواقع قبل أن نبيّن حالة القائمين من الموت. لهذا، انطلق بعض الشّراح من هذا الاختلاف فاستنتجوا ثلاثة أمور. الأول: إن آ 25 تشير إلى الفريسيين الذين تصوّروا القيامة عودة إلى الحياة الأرضية، فتعرّضوا لاعتراضات الصادوقيين. أمّا آ 26- 27 فتشيران إلى الصادوقيين. الثاني: هذه الآيات تتضمن "رزمة" من الأقوال جمعها مر (أو مرجعه) هنا. الثالث: إن الجماعة المسيحية ركّبت المشهد. وما يدلّ على ذلك الاختلافات بين الإزائيين. سنعود إلى هذه المسائل فيما بعد. أما الآن فنتابع تحليل النصّ.
اختلف لو 20: 37- 38 اختلافاً ملحوظاً عن كما ومر. فإعلان يسوع يبدأ: "إن أبناء هذا الدهر يزوِّجون ويزوَّجون (يتزوجون). أما الذين اعتبروا أهلاً "لذلك الدهر". عبارة تستلهم العالم السافي الفلسطيني. نجد هذا التعارض لدى الرابانيين، بين "هذا الدهر" و"ذلك الدهر". وحين قال لو إن القائمين من الموت يكونون "مساوين للملائكة"، زاد: لا يستطيعون من بعد أن يموتوا، لأنهم يكونون مساوين للملائكة، لأنهم أبناء القيامة. هذه تعابير ساميّة محضة. إذ أراد أن يورد خر 3: 6، تجنب القراءة في الكتاب (مثل مر)، كما تجنب قراءة ما كُتب لكم. بل قال: أوصى موسى، بيّن موسى، فسرّ. وإذ كانت العليقة في اليونانية تحمل صيغة المذكر والمؤنّث، فقد استعمل لو المؤنث فدلّ على أنه عارف بتواتر صيغة المؤنث.
وقد نسبت هذه الاختلافات بين لو من جهة ومت ومر من جهة ثانية إلى مرجع خاصّ بلوقا. ولكن قد يكون هناك أيضاً مرجع شفهي. فالصيغ السامية في هذه المقطوعة تدلّ على أنه يوم دوّن لوقا إنجيله، كان جواب يسوع للصادوقيين يتنقّل في نسخ مختلفة ومتكاملة. ولما دوّنه لوقا طبعه بشخصيته. ألغى الثنائية في جواب يسوع ووحّد التعليم، فجاءت عبارته مبنيّة بناءً محكماً، والنتيجة كما أرادها: موازاة تعارضية بين آ 34 وآ 35. تلميح إلى الدينونة (يعتبرون أهلاً على مستوى القضاء). في آ 26 جاءت عبارة "مساوين للملائكة" تقابل "أبناء الله". ففي الحالتين هم "أبناء القيامة". وبعد أن يورد لوقا النصّ الكتابي يعلن بالصوت العالي: "كلهم يحيون له". فموضوع الحياة أوّلي في لاهوت القيامة عند لوقا. أجل، لما يكتف الإنجيل الثالث بأن يحسن الأسلوب، بل قدّم كثافة لاهوتية. صار مقطع "الجدال" خطبة من أجل الرسالة، بعد أن "اختفى عن المسرح" الفريسيون والصادوقيون.
د- الخاتمة (12: 27 ب؛ مت 22: 33؛ لو 20: 39- 40)
تختلف الخاتمة بين إنجيلي وآخر. إكتفى مرقس بالقول: "انتم على ضلال عظيم". جاءت العبارة قاطعة فكرّرت "ضللتم" في آ 24. وهكذا جاءت كلمات يسوع داخل تضمين واحتواء. وأنهى متى كلامه: "فلما سمع الجموع بهُتوا من تعليمه". كرّر هنا ما قاله في نهاية عظة الجبل (مت 7: 28). واستعاد (تقريباً) ما قاله مر 11: 18 بعد تطهير الهيكل (لا نجد ما يوازيه باشا).
وألف لو خاتمته مستعيناً بعنصرين. الأول: جعل الكتبة يتدخّلون فيقولون: "يا معلّم، لقد أحسنت فيما قلت". وهكذا يكون لوقا قد كيّف مقدّمة مر في مقطوعة الوصيّة العظمى (مر 12: 28). الثاني: وزاد لوقا: "ولم يجرؤوا من بعد أن يسألوه عن شيء". نحن في موازاة مع مت 22: 46 الذي يجعل هذا القول بعد الجدال حول المسيح الذي هو ابن داود وربّ داود.
2- تدوين النصّ، تاريخه ولاهوته
أ- تدوين النصّ
يُعتبر مر الأول بالنسبة إلى مت ولو. ويبدو أنه كان أساس الإنجيلين الآخرين. والمقطوعة التي ندرس هي الجدال الثالث بين الجدالات الخمسة التي يوردها مر في سلسلة ثانية (11: 27- 12: 37) بعد سلسلة أولى (2: 1- 3: 6) وردت في بداية إنجيله.
أمّا الفن الأدبي فيتميّز بأننا أمام لقاء بين يسوع وخصومه الذين هم عادة الكتبة والفريسيون. أما في هذا المقطع وفيه وحده، فخصومه هم الصادوقيون. وسوف نجدها كل هذه المقطوعات الطريقة الواحدة: طرح للمناقشة، الواقع، اعتبار أو سؤال يكشف وجهة الخصم، سؤال أو كلام يسوع يخزي الإعداء. أمّا هنا فنحن أمام سؤال خبيث. إن المجموعة الثانية التي تتضمن خمسة جدالات مر، تتميّز عن المجموعة الأولى بأهمية المواضيع المطروحة. ولقد قدّم مر خبره بشكل دراما يلعب فيها العنف والعاطفة.
فمنذ اعتراف قيصرية (أنت المسيح) والإنباءات بالآلام، كان كل حدث خطوة إلى نهاية المأساة: تشكيك بأصل قدرة يسوع (11: 27- 33: بأي سلطان تفعل هذا)، وذلك أمام عظماء الكهنة والكتبة والشيوخ (11: 27). ثمّ، مثل الكرّامين القتلة (12: 1- 12) الذي به يفهم خصوم يسوع أنه يعرّض بهم ويدلّ على أنهم قتلة الابن (12: 12). مسألة الجزية الواجبة لقيصر. مثل هذا السؤال يطرح "عصيان" يسوع على رومة (12: 13- 17). وبعد المقطع الذي ندرس، يطرح أحد الكتبة سؤالاً حول الوصيّة الأولى (12: 28). وأنهى مر هذه السلسلة بالملاحظة: "ولم يجسر أحد من بعد أن يلقي عليه سؤالاً" (12: 28).
هذا الإطار يدلّ على المناخ الذي يحيط بالسؤال حول قيامة الموتى. من الواضح أن مر لم يتوخّ اتباع ترتيب كرونولوجي. فهو يبني نظرة شاملة خاصّة به، ليقدّم لنا وضعاً مأساوياً. وظهور الصادوقيين الذين يتسلّمون أعظم الوظائف على مستوى العبادة والقيادة، يدلّ على خطورة الساعة. ولكنهم سيخزون هم وكل الذين حاولوا أن يوقعوا بيسوع.
هذه الجدالات مرسومة رسمة سريعة، ومحصورة في بضع جمل، شأنها شأن معظم المشاهد التي رواها مر. أما هنا، فيطيل مر الكلام حين يرسم "الفخ" الذي يضعه الخصوم. لهذا أوجز مت ولو. أما المسالة المطروحة بفم الصادوقيّين فهي في مكانها. لقد صاروا أصحاب فتاوى، فجاروا الفريسيّين في جدالاتهم منطلقين من تقليد يعود إلى الشريعة. نحن لا نعرف إن كانوا ما زالوا يعملون بفريضة "السلفية" في أيام يسوع. فالنصوص الرابانية (المشناة) فرضت على أخ واحد بأن يتزوج أرملة أخيه. ولكن سواء كانت هذه الفريضة موضوع ممارسة أم لا، فالأمر لا يهمّ. فالفريسيون وحكماء إسرائيل كانوا يجادلون لا مقاطع من الشريعة لا تصل بنتائج إلى الحياة العملية. قد نكون في البداية أمام "مداعبة" قريبة من السخرية. "يا معلّم". أنت يا من تقضي وقتك في التعليم. أنت يا من تحسب نفسك "المعلّم". إنهم في كل حال لا يعتبرونه معلّماً. واللفظة هنا لا تقابل "رابي" إلا بعد سنة 70 فتصبح لقب شرف. هنا نميّز بين زمن يسوع والزمن الذي فيه كُتب الإنجيل. في زمن يسوع دلّت اللفظة على سؤال خبيث ومعوج. سؤال ينطوي على فخّ. أمّا في زمن لوقا، فيسوع هو المعلّم الحقيقي، هو وحده المعلّم.
وينقسم الجواب كما يقدّمه مر 12: 24- 27 إلى موضوعين: كيفية القيامة (آ 24- 25). واقع القيامة (آ 24- 25). نحن هنا حقّاً على مستوى كلمات يسوع. فالإزائيون يتوافقون بشكل يكاد يكون حرفياً في إيراد ما قاله يسوع. هناك 68 كلمة نسبها مر إلى يسوع (في اليونانية). استعاد مت منها 47. أما 21 التي بقيت فتدلّ على أمور بسيطة ترتبط بالتدوين والأسلوب واللغة. هل هذا يعني أننا وصلنا إلى كلمات يسوع كما تفوّه بها حرفياً. كلا. فهناك أولاً انتقال من اللغة الآرامية إلى اللغة اليونانية. ثمّ إننا لا ننسى عمل الكنيسة والجماعات في إعادة تكوين كلام. يسوع. ولنا على هذا مثال في آ 26- 27 حيث استعيد استشهاد مأخوذ من أسفار الشريعة وموضوع في جواب إلى الصادوقيين الذين لا يحسبون حساب الأدب اليهودي الذي يؤكّد على قيامة الموتى. ولكن يسوع عاد إلى سفر الخروج الذي يأخذ به الصادوقيون.
اتبع مت مر خطوة خطوة. حطّم ترتيب مر في كتيب الجدالات، وزاد هناك مثلين: الأول، بعد الجدال الأول، هو خاصّ به، مثل الابنين (21: 28- 32). وبعد مثل الكرّامين القتلة أورد مثل وليمة الملك (مت 22: 1- 14) الذي أورده لوقا (14: 15- 24)، لا مرقس. وأخيراً، إن مسألة بنوّة داود التي هي في مر تعليم في الهيكل (مر 12: 35- 37)، تبعها في متى كلام قاسٍ ضدّ الكتبة والفريسيين (23: 1- 36: الويل لكم). لا تحمل لمسات متّى إلا طابعاً أدبياً على مستوى التدوين، نلاحظ فقط في مقدّمة نصّ خر 3: 6 فرقاً بسيطاً: "لكم" قال الله. وأمام كلمة الله يزول "المرجع". ثمّ إن الجدال حصل أمام "الجموع".
وأثار تدوين لوقا نقاطاً هامة. في القسم الأول من المقطوعة (20: 27- 34)، لا نجد إلاَّ تبدلاً على مستوى الإنشاء. فلوقا يتبع، رسمة مر. أما في جواب يسوع (20: 34- 38) فنلاحظ إلغاء لفظة (مر 12: 24) "غرافي" (الكتب، ترد 4 مرات في لو، 7 في أع) و"ديناميس" (قدرة، قوة) (ترد 15 مرة في لو، أع 10)، مع أن اللاهوت اللوقاوي إعتاد عليهما. فعبارة "قدرة الله" تعود بشكل واضح في لو 22: 69 الذي يزيد لفظة "الله" على نصّ مر ونصّ مت (قالا: القدرة. قال لو: قدرة الله). لقد اعتبر لوقا أن الشكل الذي فيه نُقل قول يسوع هو كافٍ في ذاته، فلا حاجة إلى زيادة. وفي الواقع، بدا جواب يسوع في لو أقرب إلى اللغة الساميّة وأكثر غنى.
ونقول على مستوى المفارقة إن لو استعمل ألفاظاً تتكيّف والكنيسة اليونانية التي يكتب لها. وهكذا عاد إلى الفن الأدبي في إنجيل الطفولة وفي مقاطع أخرى. مثلاً، في آ 34 ب: "أبناء هذا الدهر" تعود في 16: 8. "يزوِّجون ويزوَّجون" يعود في 17: 27. "الذي هم أهل ليدركوا" (آ 35) يعود في أع 19: 11؛ 24: 2؛ 27: 3؛ 28: 2. والفكرة القائلة بأننا نكون أهلا لذاك الدهر هي فكرة رابانية. "أبناء القيامة" تتابع في الخطّ عينه، وقد تكون وُضعت لتوازي "أبناء هذا الدهر".
كلّ هذا يدلّ على قلم لوقا. وهناك عبارتان تكشفان تفكيراً لاهوتياً عميقاً: المختارون هم مساوون للملائكة، وهم أبناء الله لأنهم "أبناء القيامة". هذه العبارة التي تقابل ما في مر ومت، تتجاوز ضرورة الردّ على الصادوقيين. إنها تعليم عن حالة القائمين من الموت. ثم إننا نجد الحركة عينها في نهاية آ 38: "كلهم يحيون له" (لله). إن لفظة "كلّ" تأتي هنا بلا استعداد. ولكن لوقا يحبّها وقد وردت في إنجيله 152 مرة وفي أع 170 مرة (في مت: 128 مرة. في مر 67 مرة). سنعود إلى عبارة "يحيون لله".
اختلف لو عن مت ومر. هل نحن أمام مرجع مختلف؟ ربما كلا. فقد نكون أمام وضع حياتي خاصّ. لهذا نعالج الآن تاريخية التقليد، فنصل إلى المدلول الإنجيلي.
ب- تاريخ النصّ
انطلق بعضهم من القسم الثاني من المقطوعة فشكّوا في تاريخية الخبر أو أنكروا هذه التاريخية. أما الذين يحافظون عليه، فلا يقولون إنهم يصلون إلى حرفية كلمات يسوع. ولكنهم يعتبرون أن الجماعة الأولى لم "تخلق" الحدث ولم "تستنبط" الكلمات التي تنسبها إلى يسوع. لقد انطلقت من حياة يسوع وتأمّلت فيها. فدوّن الإنجيليون، كل حسب عبقريته، ما وصل إليه تأمّل الكنيسة.
أولاً: آرء متعدّدة
* إن آ 26- 27 هما زيادة تعود إلى جدال داخل الجماعة. وبما أن آ 26- 27 قد استنبطتهما الجماعة، نقول الشيء عينه عن آ 18- 25. ليس بمستحيل أن تكون الجماعة جادلت الصادوقيين كما جادلت الفريسيين... وقال بعضهم: قد يكون يسوع في أصل هذا القول أو ذاك، ولكنا مدينون بالمشهد إلى مجادلات الجماعة.
* واستند آخرون إلى وظيفة الإيرادات الكتابية والتلميحات إلى التوراة، ليعلنوا أن الجماعة استنبطت جدال يسوع هذا مع الصادوقيين. يرفضون أن يروا في "لا يعرفون الكتب ولا قدرة الله" سبب حالة الضلال عند الصادوقيين. سبب الضلال هو: حين يقومون من بين الموتى لا يزوّجون ولا يزوّجون. غير أن هذه الآية ليست جواباً للصادوقيين، بل تصويراً للموتى القائمين. إنها تعود إلى الإيمان بقيامة يسوع. إنها جواب الجماعة الأولى، لا قول يعود إلى يسوع. إذا كان الخصوم جاهلين (آ 24)، فهذا خاصّ بهم. لقد وجدت الكنيسة البرهان عن القيامة في الكتب المقدسة (1 كور 15: 3- 4)، وروحنت حالة القائمين من الموت. أمّا على مستوى الأناجيل الإزائية، فيسوع قام بالجسد.
* حول آ 26- 27. نجد برهاناً كتابياً يدلّ على نشاط الجماعة. فإيراد خر 3: 6 لا يُفهم حقاً ولا يكون له معنى إلا على ضوء قيامة يسوع والإيمان المسيحي بقيامة الموتى. إذن، آ 25 هي دفاع عن قيامة يسوع ضد الشريعة، وهي تعود إلى ما بعد القيامة. ثم إن آ 26- 27 لا ترتبطان إلا بالقيامة العامة حسب الكتب. فالكتب المقدسة التي عاد إليها النصّ الإنجيلي مرتين، لا معنى لها إلا إذا فهمناها في معنى إيمان الكنيسة الأولى.
ج- الواقع التاريخي
قليلون هم الكتّاب الذين يقولون إن الوثائق الإنجيلية، وإن كانت من استنباط الجماعة، لا يمكنها أن تتضمّن أقوالاً من يسوع. فإذا أردنا أن نحكم على تاريخية حدث أو قول، نتوقف عند أربع مراحل: الفكر اليهودي، يسوع، الجماعة، التدوين.
من أجل تاريخية الجدال بين يسوع والصادوقيين، نجد أن برهان خصوم يسوع وجوابه هما في محلّهما. إنهما يوافقان أفكار الصادوقيين ونظرة الفريسيين. كما يدلاّن على أن موقف يسوع انطبع بسموّ خلقي ونظرة روحية وقوة في الإقناع. كل هذا يدخل في الصورة التي نتوقّعها حول تعليمه والوحي عن شخصه.
لا شكّ في الطابع التدويني للمقطوعة التي ندرس، لأن الإزائيين الثلاثة قدّموا خبراً يعتبرونه حقيقياً. ولكن قد يكون الخبر وُجد قبل أن يدخل في التقليد الإزائي!
إذا كان صحيحاً أن الكنيسة دخلت في جدال مع الفريسيين (ومع الصادوقيين)، فهي لا تطالب بسموّ يسوع عليهم. بهجوم على تعليمهم عن قيامة الموتى. لقد كانوا يؤمنون بها. فلماذا تخلع أبواباً مفتوحة.
إن قيامة الموتى إرتبطت بقيامة يسوع وتضمّنت حتى عند بولس وجهة "جسدية". ولكن ليس هذا ما يقوله النصّ الذي ندرس. يقول: "يكونون مثل الملائكة" (مت، مر). "يكونون مساوين للملائكة" (لو). هذه الأخيرة لن نجدها أبداً في العهد الجديد. في الوثائق اليهودية، ولا سيّما في قمران، لعبت الحياة الأبدية دوراً كبيراً في رجاء الدهر الآتي. نحن نرى منذ الآن تدخّل الملائكة في اسكاتولوجية حزقيال (3: 6؛ 14: 5). وفي قمران كان حديث عن حكمة أبناء السماء، حكمة الملائكة. نقرأ في المغارة الأولى في مباركات كهنة صادوق: "تكون كملاك الوجه في موطن القداسة" (رج مز 63: 9؛ 68: 6). التقارب واضح بين قمران والعهد الجديد. غير أن يسوع يدخل في العبارة نفسها تعليماً مختلفاً كل الاختلاف. إنه يعارض الصادوقيين، ويصحّح ما في رجاء الفريسيين من عودة إلى سعادة على الأرض. وهكذا نكون أمام الانقطاع عن الفكر اليهودي، وبداية التعبير عن الفكر المسيحي.
ومنطق يسوع الذي يعود إلى موسى لكي يبرهن عن قيامة الموتى، يرتبط بنصّ سفر الخروج. يلجأ إلى الحدث، لا إلى النصّ المكتوب. ذكّرنا المعلّم إنه في ساعة الوحي باسم الله (لا العليّقة)، كان الله قد عقد عهداً أقدم من عهد سيناء. وهكذا تتخذ المبادرة الإلهية كل بُعدها على ضوء البدايات. الشعب هو شعب الرب الذي يتميّز بعمل الله الذي لا ينقطع من الساعة التي اختار فيها الآباء. ما عمله الله يستمرّ على عمله. إنه موجّه شعبه وسنده وقوّته. ويبقى أن يسوع بحث في خر 3: 6 عن المعنى الكامل للنصّ. لم يحمل النصّ هذا المعنى في الأصل، ولكن على ضوء تعليم يسوع وحياته وموته وقيامته.
د- البعد اللاهوتي
تتوسّع المقطوعة في إطار وحي الله وعمله. فمن أنكر القيامة أنكر قدرة الله وكلمته في الكتب المقدّسة. بل أنكر أن يكون الله كشف عن نفسه كإله للأحياء والأموات.
يختلف فكر يسوع عن فكر حكماء عصره. تعليمه واضح ودقيق: قال مع الفريسيين: ستكون قيامة للموتى. ولكنه صحّح مقالهم: لسنا أمام عودة النفس، ولا أمام رجوع إلى حياة أرضية سابقة. أما المقابلة مع الملائكة فتدلّ على أنهم لا يتزوّجون. وهكذا ينتفي أساس السؤال الذي طرحه الصادوقيون.
ونتوقّف عند الإنجيل الثالث الذي تحرّر بعض الشيء من الوضع التاريخي للجدال ليتوقّف عند التوسّع اللاهوتي. فقد دوّنت "الخطبة" على يد مسيحيين يعيشون الإيمان بالقيامة. لهذا كان التشديد على "يكونون أبناء الله لأنهم أبناء القيامة" (لو 20: 26). ونقول الشيء عينه عن عبارة "يحيون له". هذا يعني أن السبب الذي لأجله يعيشون هو الله. وأن وضعهم الحياتي هو وضع سماوي وإلهي. وفي النهاية، تربط خاتمة مت 22: 33 ولو 20: 39- 40 هذا التعليم بسموّ يسوع على خصومه. إن جواب يسوع إلى الصادوقيين هو تجلّ كرستولوجي. إنه يدلّنا على وجه يسوع المسيح.
خاتمة
في أيام يسوع، آمن الصادوقيون فقط بأسفار الشريعة الخمسة. واعتقدوا أن الإنسان بعد الموت يعيش في الشيول، في مثوى الأموات. أما الفريسيون فاعتنقوا رجاء القيامة.
إن نصوص الأناجيل الإزائية تتيح لنا أن نعتبر أن يسوع رافق الفريسيين في إيمانهم ولكنه أعطى قيامة الأبرار معنى جديداً: سيكونون كالملائكة. يتجاوزون حالة سكان الأرض

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM