الفصل الحادي والعشرون: سلطة يسوع

الفصل الحادي والعشرون
سلطة يسوع
11: 27- 33
وواجه يسوع في هيكل أورشليم الرؤساء الرسميّين في الشعب، ومختلف التيارات الفكرية من فريسيين وصادوقيين. لقد اتخذ الخبر شكل محاكمة وتحدّ: جاء أعضاء المجلس الأعلى الذي يتسلّم السلطة الدينية، جاء عظماء الكهنة والكتبة والشيوخ. طلبوا من يسوع بل "تحدوّه" "لكي يقدّم حساباً عن أعماله. حينئذ أجابهم يسوع بسؤال جعلهم يرفضون الجواب عليه. تركهم في موقف حرج، بل سوف يعطيهم مثلاً يفهمهم خطيئتهم حين يرفضون أن يؤمنوا به وبكلامه.
1- نظرة عامة
للمرّة الثالثة أشار مر إلى دخول يسوع إلى أورشليم وإلى الهيكل. في المرّة الأولى، بعد الدخول الإحتفالي وهتاف الشعب له: "دخل أورشليم والهيكل، وأجال نظره في كل شيء" (11: 11). في المرّة الثانية (11: 15) دخل الهيكل ليطرد الباعة. وها هي المرّة الثالثة (11: 27) ولن يترك الهيكل (13: 1) إلاَّ ليلقي الخطبة الأسكاتولوجية على جبل الزيتون (13: 3؛ رج 11: 1).
يشكّل سؤال أعضاء المجلس شبه استجواب في المحاكمة يجب الردّ عليه. "بأي سلطة تفعل هذا؟ أو من أعطاك السلطة لتفعل هذا"؟ يعني: هل يعمل يسوع باسمه الخاصّ، أم هل تسلّم سلطته من آخر؟ لا شكّ لا أنهم يشيرون إلى طرد الباعة من الهيكل. يعتبرون هذا العمل تعدّياً عام سلطتهم. فمسؤولية النظام في حرم الهيكل تتعلّق بقائد الهيكل الذي يرتبط بعظيم الكهنة.
ولكن حين تحدّث الرؤساء عن فعلة يسوع، أرادوا في الواقع أن يسألوه عن مجمل نشاطه. فطردُ الباعة هو تتويج لكلّ أفعاله السابقة، وإضفاء الصفة الرسميّة عليه. إذن، سؤال عظماء الكهنة يتجاوز الإطار المباشر الذي تمّت فيه هذه الفعلة: إن محاكمة يسوع قد بدأت.
كنّا ننتظر إعلاناً واضحاً من يسوع حول شخصه ورسالته. ولكن، ما الفائدة؟ فهو لا يستطيع أن يقنعهم وهم الذين قرّروا مسبقاً هلاكه (11: 18: التمسوا كيف يهلكونه). حينئذ أجاب يسوع رؤساء الشعب بسؤال طرحه عليهم. لسنا هنا أمام إجراء يدلّ على فطنة، ولا دبلوماسية يحتال فيها للتخلّص من السؤال. فقد سبق وأعلن أن الشيوخ وعظماء الكهنة والكتبة سوف يرذلونه (8: 31). ولكنه لم يتراجع. وسيتابع عمل الوحي الذي بدأه حتى النهاية. أعادهم إلى حرّيتهم فكشف عن قساوة قلوبهم: لقد انقلبت المحاكمة، والذين جاؤوا يتهمونه، هم مدعوون لأن يؤدّوا حساباً عن موقفهم.
ذكّرهم يسوع بموقف يوحنا المعمدان: فالموقف المتَّخذ تجاه السابق كالموقف المتّخذ تجاه يسوع. أما قال الكتبة إن إيليا (رج 9: 11) هو الشرط الضروري لاستقبال المسيح؟ في النهاية، يعود السؤال حول السلطة إلى سؤال على مستوى الإيمان. وفي هذا المجال بدا الجمع واعياً: "كانوا يعدّون يوحنا نبياً" (آ 32).
سؤال مزدوج وجّهه إليهم المعلّم: حول أصل رسالة يوحنا المعمدان. حول إكرام الشعب للذي سفي السابق. أخذ الخوف يستولي عليهم، كما حدث لهم حين طرد يسوع الباعة من الهيكل. فامتنعوا عن التدخّل (11: 18: كانوا يخافونه، لأن الجمع كان معجباً به). وسيحسّون بذلك الخوف في ما بعد: بعد مثل الكرّامين القتلة، أحسّوا أنه يعرّض بهم. وهمّوا أن يقبضوا عليه ولكنهم خافوا من الجمع (12: 12). وحتى ليلة الجمعة العظيمة، لم يتجاسروا أن يضعوا يداً على يسوع "لئلا يقع شغب في الشعب" (14: 2).
"فكروا في نفوسهم". هذا ما فعلوه خلال الجدال الأول في كفرناحوم (2: 8): وعوا أن يسوع جعل إيمانهم على المحكّ. فأرادوا أن يدافعوا لا على المستوى عينه، بل على مستوى آخر هو مستوى سمعتهم بين الناس. قالوا: "لا ندري"! هذا الجواب هو تهرّب يحكم عليهم ويكشف القناع عن نواياهم السيّئة. إن وضعهم يشبه وضع الكتبة الذين جادلوا يسوع في ما يخصّ سلطان غفران الخطايا (2: 7، 9).
في الظاهر، وصل الجدال إلى نقطة الصفر. ولكن لا الواقع، قدّم يسوع جواباً ساطعاً، ما كان ليكون بهذه القوّة لو تفوّه بإعلان احتفالي: إذ أخزى خصومه بسؤاله عن معموديّة يوحنا، أكّد الأصل الإلهي لرسالته. سلطته هي من الله. صمتوا، فدلوا على أن لا جواب لهم إلا القبول بكلامه.
2- قراءة تفصيلية
لا إشارة إلى المكان ولا إلى الزمان. وهذا ما اعتدنا عليه عند مر. أما مت فربط بوضوح هذا الحدث مع خبر التينة. "ولما جاء إلى الهيكل" (21: 23). هذا هو امتداد 21: 18: "وفيما هو راجع في الغداة إلى المدينة". ونصّ لو 20: 1 لن يكون محدّداً أكثر من نصّ مر: "وإذ كان ذات يوم يعلّم الشعب". بالنسبة إلى مر، العلاقة بين شقي حدث التينة مهمّة جداً، بسبب الأمثولة التي نستخلصها من فعلته النبوية. والسؤال حول السلطة وعودة يسوع إلى يوحنا، هما علامة تدلّ على رسالة يسوع.
وجاؤوا أيضاً" (آ 27). هذا هو التقليد الأولاني. نجد في بعض المخطوطات صيغة الغائب المفرد "وجاء". أراد الخاطّ أن يسلّط الأضواء على يسوع. "عظماء الكهنة والكتبة والشيوخ". هم يؤلّفون السنهدرين أو مجلس القضاء الأعلى لدى اليهود. هو الذي يقرّر الأمور الدينية المصيرية. وهذا يدلّ على أن اليهود رأوا في يسوع خطراً كبيراً عليهم. هذا ما نكتشفه بشكل خاصّ مع الكنيسة الأولى التي هدّدت العالم اليهودي في كل مكان من الإمبراطورية الرومانية ومن خارجها.
في 8: 31. نقرأ: "الشيوخ، عظماء الكهنة، الكتبة". يذكرون لا قتل يسوع: "إنهم ينتبذون يسوع ويقتلونه". رج 14: 43، 53؛ 15: 1. في 1: 22، يذكر الكتبة وحدهم، وسلطانهم في التعليم يختلف عن سلطان يسوع، هذا إذا كان لهم سلطان!
"هذا" (آ 28) هذه الأشياء (توتا في اليونانية). يعني العمل الرمزي في الهيكل، وقد دلّت عليه التينة اليابسة. "سلطان" (اكسوسيا) رج 1: 22. يرى المسيحيون لا الجماعة الأولى أن سلطة يسوع تأتيه من الله. نحن بعيدون عن "ديناميس" (القوّة). ما يُطلب من يسوع هو أن يبّرر عمله في الهيكل. إن العلاقة بين تطهير الهيكل وسلطة يسوع، نجدها في يو 2: 18: "أية آية ترينا فتفعل هكذا"؟
طرحوا على يسوع سؤالين مترادفين. أما في لو، فبدا أن التشديد على تعليم يسوع يوازي التشديد على رسالته من خلال أعماله. وأجاب يسوع على سؤالهم بسؤال (آ 29).
"معمودية يوحنا" (آ 30). ليس سؤال يسوع دوراناً حول الجواب، ولا رداً يحوّل الجدال. فالسؤال والسؤال المعاكس أمر معروف في القديم. يتوضّح الجواب حين يحاول صاحب السؤال أن يقدّم بنفسه جواباً. بهذه الطريقة لن يستطيع أن يتهرّب على مستوى الفكر كما على مستوى العمل. أجبر الرؤساء على طرح السؤال على نفوسهم وعرفوا جواب الشعب وتذكّروا موقفهم، ولكنهم لم يفعلوا شيئاً لكي يكونوا منطقيّين مع نفوسهم.
ماذا تضمّن سؤال يسوع؟ إن سلطة يوحنا آتية من عند الله. نحن هنا في قلب تقليد يسوع كما احتفظت به الجماعة الأولى. حين سُئل يسوع أجاب أن الذي منح يوحنا سلطة العماد الاسكاتولوجي، قد منح يسوع سلطة إعلان ملكوت الله وتدشينه مع كل الآيات التي ترافقه (مت 11: 2- 5= لو 7: 18- 28). إذن، ما يتضمّنه سؤال يسوع هو أن "يفرض" على مخاصميه نظرة إلى رسالته وما فيه من إعلان كلام الله.
إتفق لا 21: 24 ولو 20: 3 على القول: قال لهم يسوع: وأنا أيضاً أسألكم سؤالاً. وهكذا اختلفا عن مر. ولكن بعض المخطوطات المهمة تجعل مر 11: 29 مثل مت ولو. وهكذا يكون لنا الاستعمال الوحيد في مر للفظة "كاغو" أي "كاي إغو": وأنا.
لا شكّ في أن هذا الحدث يعود كله إلى يسوع، ولم تستنبطه الجماعة الأولى. فلا يُعقل أن تبني الجماعة سلطة يسوع على سلطة يوحنا المعمدان.
"فجعلوا يفكّرون في نفوسهم" (آ 31). نحن نفهم قوة الخيار بالعودة إلى لو 7: 29- 30 (برّروا الله باعتمادهم معموديّة يوحنا): فالشعب الذي استمع إلى يوحنا واعتمد على يده، هم الذين اعتبرهم خصوم يسوع أقلّ الناس تعلّقاً بالشريعة (العشّارون). فكيف يقف الرؤساء معهم؟ لهذا، فالفريسيون ومعلّمو الشريعة لم يعتمدوا على يد يوحنا.
"من السماء" أي من الله. فاليهود كانوا يتجنّبون التلفّظ باسم الله. فكانوا يقولون مثلاً: السماء، العرش... رج دا 4: 26؛ 1 مك 3: 18، لو 15: 18، 21؛ يو 3: 27.
"وإن قلنا من الناس" (آ 32). إذن، لسنا أمام ممارسة فريدة، لأن الاسيانيين أخذوا بالعماد كطقس تنشئة وعملية تنقية يوميّة. ما كان فريداً عند يوحنا هو ارتباط الطقس الذي يمنحه بنهاية الأزمنة وملكوت الله. أما سؤالا يسوع فلم يكن فقط على عماد يوحنا، بل على رسالته كلها... ماذا يجيب الرؤساء؟ إن اعترفوا بيوحنا أنه نبي كما فعل الشعب، وجب عليهم أن ينظروا إلى يسوع كذلك. فهو وارث يوحنا والآتي بعده.
"لا ندري" (آ 33). هذا هو جواب المثقل الضمير. هذا هو ملجأ الذي لا يريد أن يتحرك. ردّوا على يسوع بلا جواب. فعاملهم يسوع بالمثل.
تبع مر مت ولو بشكل قريب مع بعض الشواذات. في آ 31، ألغى "هوي دي" أما هم، قبل فعل "فكّر". ثم قال مت 21: 26: "إن قلنا: من البشر، نخاف من الشعب، لأن الجميع ينظرون إلى يوحنا كنبي". وقال لو 20: 6: "إن قلنا من البشر، رجمنا الشعب لأنهم متأكدون أن يوحنا كان نبياً. تبع مر مت بالإجمال مع "لا ندري"، وترك مقال لو: "أجابوا أنهم لا يعرفون"
3- قراءة لاهوتية
إن القسم الإنجيلي الذي يبدأ مع النصّ الذي ندرس ويتضمّن أيضاً ف 12، يقابل جدالات 2: 1- 3: 6. هناك، في بداية رسالة يسوع، طرحَ الكتبة أسئلة على نفوسهم (2: 6)، على التلاميذ (2: 16)، على يسوع نفسه (2: 18). كانوا مدهوشين ومستائين، فطرحوا أسئلة على هذا الآتي حديثاً. بأي سلطان يغفر الخطايا؟ بأي سلطان يتعدّى الشرائع المتعلّقة بالأطعمة أو بالسبت؟ بأي سلطان يهمل فريضة الصوم؟ كانت دهشة وشكوك، ثم عداوة ضدّ سلطة غير شرعية. ولكن هذه السلطة ما زالت تفرض نفسها "بدون حق". لهذا، حلّ محلّ الأسئلة الصمتُ المليء بالتهديد (3: 2- 5)، والشروح الافترائية: "برئيس الشياطين يخرج الشياطين" (3: 22). هذا هو أصل سلطان يسوع: بعل زبول، لا قوّة آتية من العلاء.
وما عاد الخصوم يطرحون أسئلة. بل وجدوا هم أنفسهم الجواب. عرفوا ما يجب أن يعملوا. وكان اتفاق (غير طبيعي) بين الفريسيين والهيرودسيين ليهلكوا يسوع. هذا هو التهديد الوحيد المباشر حتى 11: 18. لسنا فقط أمام عقاب بسيط ضدّ من يتعدّى وصيّة الله. فالسلطة التي يدلي عليها يسوع قد سحرت الشعب وأثرت عليه، فقابلوا بين هذا "المعلم" والكتبة (1: 22، 27: هو لا يتكلّم مثل الكتبة). وحين يمتد سلطان يسوع، فعلى حساب سلطانهم. لهذا أرادوا أن يدافعوا عن الشريعة، ومن خلالها عن امتيازاتهم.
في ف 11- 12، يشدّد الكاتب على نوايا العداوة والقتل (11: 18؛ 12: 12). ولكن مسعى الرؤساء تجاه يسوع، يتمّ في ظاهر من الهدوء والاحترام (11: 28؛ 12: 14، 19). لا شكّ في أن النوايا ليست طيّبة، ولكن طريقة التعامل مع يسوع تخفي حقيقة هؤلاء الذين يحاولون بكل الوسائل لكي يوقعوا المعلم في حبائلهم. فيسوع الناصري هو خصم نحسب له ألف حساب بعد تأثيره حتى على شعب العاصمة. لا يكفي أن نشتمه أو نفتري عليه. لا بدّ من البحث عن وسائل أخركما لنستريح من شّره.
ويُطرح من جديد سؤال حول سلطة يسوع. بشكل واضح في آ 28 (بأي سلطان تفعل هذا؟). وبشكل خفي في 12: 14، 18، 19 (أرسلوا إليه...). غير أنهم فهموا أنهم لن ينزعوا صيته من وسط الشعب حين ينكرون هذا السلطان، بل حين يتركونه يبرز هذا السلطان. فلا بدّ آن يقع في الفخ. ولكن، في الواقع، هم الذين سقطوا.
ما يشرف على هذه الأسئلة هو "الرفض". فالسؤال في آ 28 ليس طلب معلومة، بل إظهاراً لرفض يسبق كل جواب. والتينة (صورة الهيكل) رفضت أن تعطي ثمراً. والكرّامون رفضوا أن يعطوا الله من نتاج الكرم، كما رفضوا استقباله ابنه وقتلوه (12: 2- 3، 6- 8). وهذا الموضوع ليس بغائب من 12: 17، 24. وسيتوسّع فيه مت أكثر في مثل الابنين (21: 28- 32)، ومثل وليمة العرس (22: 1- 14) ورثائه لأورشليم: "لم تريدوا" (23: 37).
خاتمة
كان موضوع الحديث: السلطة. جعل يسوع على المحك سلطة الرؤساء اليهود. وهكذا فرض عليهم إن يقرّوا بعجزهم عن الجواب على سؤال مهم. فهم يحسبون نفوسهم قوّاد الشعب ولا يجسرون أن يتخذوا موقفاً. أما سلطته هو، فيؤكد عليها: حين جعل خصومه في حيرة، فما استطاعوا جواباً. حين دلّ على أن أصل سلطته (مثل أصل رسالة يوحنا هو الله) هي سلطة آتية من العلاء. ولكنه في الواقع لا يقدّم جواباً لخصومه كما أرادوا. في آ 33 ب قال: "وأنا لا أقول لكم". أجل، هو لا يجيب. ولكن في ما يقوله، هناك ما يكفي للذين يريدون أن يسمعوه في الإيمان. والآخرون، لن يجدوا شيئاً يرضي فضولهم إلا البرهان الخارجي عمّا يطلبون. فالسلطة لا يُبرهن عنها. هي تُقبل أو تُرفض. هناك يطل عمل الحرّية البشرية واستعدادات قلب إنسان ليسمع نداء الروح. أما أهل السنهدرين فاقد اتخذوا مسبقاً موقفهم من يسوع. لهذا، نراهم يغرقون في رفضهم. وفي النهاية يقتلون ابن ربّ الكرم. فماذا سيفعل ربّ الكرم؟

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM