الفصل السابع: التجلي الإلهي

الفصل السابع
التجلي الإلهي
9: 2- 10
حدّث يسوع تلاميذه عن معنى الحياة البشرية وما تطلبه من إنكار ذات. وإذ أراد أن يبيّن أنه ليس في المثاليات، قال كلاماً يؤكّد على آنيّة الخلاص الذي يحمله القائم من الموت، لأن ملكوت السماوات هو هنا. إذا كان الله قد اتخذ جسداً في البشرية، فالإنسان الذي يتّحد به لا يمكنه من بعد أن "يذوق الموت"، لا يمكنه أن يحسّ بموته وكأنه نهاية عبثية موجودة. هذا ما سوف يختبره ثلاثة تلاميذ على الجبل. سيرون في "مشهد" التجليّ آنيّة مجيء ابن الإنسان في المجد. وهذا ما سيساعدهم على الدخول شيئاً فشيئاً في مسيرة الآلام والموت التي تطلّ على القيامة. هذا ما نكتشفه في مرقس (9: 2- 10) ومتّى (17: 1- 0) ولوقا (9: 28- 37).
1- النص الإنجيلي
متى 17 مرض 9 لوقا 9
28- وحصل بعد هذا الكلام
1- وبعد ستة أيام 2- وبعد ستة أيام بنحو ثمانية أيام
أخذ يسوع معه أخذ يسوع معه أنه أخذ معه
بطرس، ويعقرب ويوحنا بطرس، ويعقوب ويوحنا بطرس، ويعقوب ويوحنا
أخاه
واقتادهم إلى واقتادهم إلى وأصعدهم
جبل عال جداً جبل عال جداً إلى جبل
على حدة على حدة وحدهم يصليّ
2- وتجلىّ وتجلى 29- وحصل أنه
أمامهم أمامهم إذ كان يصليّ
فأضاء وجِهه منظر وجهه
كالشمس تغيّر
وصارت 3- وصارت
ثيابه ثيابه وثيابه (صارت)
تلمع
بيضاء بيضاء جداً بيضاء
كالنور حتى لا يستطيع قصّار لامعة
على الأرض أن
يبيض مثلها
3- وها قد ظهر لهم 4- وظهر لهم 35- وها إن رجلين
موسى ويليا ايليا مع موسى
يتخاطبان وكانا يتخاطبان كانا يتخاطبان
معه مع يسوع معه
كانا موسى وإيليا
31- تراءيا في مجد
وحدّثاه عن ذهابه
الذي سيتمّه
في أورشليم
32- بطرس واللذان معه
ثقلت عليهم
وطأة النعاس
وإذ ظلوا مع ذلك
متيقظين (حين اسيتقظوا)
شاهدوا مجده
والرجلين القائمين معه
33- وحصل أنه
إذ انفصلا عنه
4- حينئذ بادر 5- بادر
بطرس وقال يسوع: بطرس وقال ليسوع: قال بطرس ليسوع:
يا رب، رابي، يا معلّم
إنه لحسن إنه لحسن إنه لحسن
أن نكون هنا: أن نكون هنا أن نكون هنا
إن شئت
صنعت ونصنع ونصنع
ثلاث مظال: ثلاث مظال: ثلاث مظال:
واحدة لك، واحدة لك، واحدة لك،
واحدة لموسى، واحدة لموسى، واحدة لموسى،
واحدة لإيليا واحدة لإيليا واحدة لإيليا.
6- ولم يكن يدري ماذا يقول ولم يكن يدري ماذا يقول.
(اَ 6: استحوذ لأنهم كانوا (آ 34: استحوذ
عليهم خوف عميق) خائفين جداً الخوف عليهم)
5- وإذ كان يتكلّم بعد 7- و 34- وفيما كان يقول
هذا
إذا غمامة أقبلت غمامة أقبلت غمامة
نيّرة و
ظلّلتهم ظلّلتهم ظلّلتهم
واستحوذ عليهم الخوف
حين دخلوا في الغمامة
وإذا صوت وانطلق صوت 35- وانطلق صوت
(خارج) من الغمامة (خارج) من الغمامة (خارج) من الغمامة
يقول: يقول:
هذا هو هذا هو هذا هو
ابني الحبيب ابني الحبيب ابني المختار
الذي به سرُرت
اسمعوا له! اسمعوا له! اسمعوا له!
6- فلما سمع
التلاميذ سقطوا
على وجههم
إستحوذ عليهم (آ 6: لأنهم كانوا (آ 34: استحوذ
خوف عميق خائفين جداً) الخوف عليهم)
7؛ وتقدّم يسوع
وبعد أن لمسهم قال:
انهضوا،
ولا تخافوا!
8- وفجأة (في الحال) 36- ولما
8- حيئذ رفعوا عيونهم نظروا إلى ماحولهم حصل الصوت
فلم يروا أحداً فلم يروا أحداً
سوى هو يسوع وحده سرى يسوع وحده معهم وُجد يسوع وحده
وهم صمتوا
(آ 10: 1 بخبروا أحداً) ولم يخبروا أحداً
في تلك الأيام
(آ 10: بما رأوا) بشيء مما رأوا
9- و 9- و 37- وفي الغد (في اليوم التالي)
لما نزلوا لما نزلوا لما نزلوا
من الجبل من الجبل من الجبل
أوصاهم يسوع أوصاهم
قائلاً:
لاتقولوا لأحد أن لا يخبروا أحداً
الرؤية بما رأوا
إلى أن إلاّ متى
ابن الإنسان ابن الإنسان
يقوم يقوم
من بين الأموات من بين الأموات
10- فحفظوا (الوصية)
في داخلهم
وهم يتساءلون
ما معنى: تام
من بين الأموات؟

2- سياق الحدث
ينتمي هذا الحدث إلى الحقبة الثانية من حياة يسوع. ففي الإزائيين الثلاثة، دلّ إعلان بطرس المسيحاني في قيصرية، على تحوّل في رسالة يسوع. وأبرز انقسام معاصريه. من جهة كانت أكثرية رفضت أن ترى في يسوع المسيح المنتظر. ومن جهة ثانية، تبع بعض التلاميذ يسوع وهم متيقنون أنه المسيح، بعد أن تكلّم بطرس باسمهم. لم تفهم الجموع يسوع، لأنها أرادت أن ترى فيه مسيحاً "وطنياً". واحتقرته السلطات ورذلته. فتراجع بعض الشيء، وكرّس نفسه لتعليم تلاميذ جمعهم حوله. وسيكشف لهذه المجموعة الصغيرة، الأمينة، المليئة بالعواطف الطيّبة، سرّ شخصه عبر المصير الذي ينتظره. فالمسيح الذي أعلنه بطرس باسمهم هو أيضاً ابن الإنسان الذي يجب أن يصعد إلى أورشليم ليموت فيها ويقوم.
في التقليد الإزائي، يتوزع هذا الصعودَ ثلاثُ متتاليات. وكل متتالية تضمّ أقلّه ثلاثة أحداث متقاربة. في المتتالية الأولى (8: 31- 9: 34= مت 16: 21- 17: 21= لو 9: 22- 43) نجد الإنباء بالآلام والموت والقيامة (8: 31) وردّة فعل بطرس. حينئذ يدعو يسوع التلاميذ لاتباعه (8: 34- 9: 1). بعد هذا يأتي حدث التجليّ (9: 2- 10) والحوار حول إيليا. وتنتهي المتتالية بحدث الولد المصروع (10: 14- 29).
في المتتالية الثانية (9: 31- 10: 31- مت 17: 22- 20: 16= لو 9: 43- 50) نجد أيضاً الإنباء بالآلام وردّة فعل التلاميذ. فيدعوهم يسوع إلى الخدمة والتشبّه بالأطفال. وفي النهاية، توصيات يسوع: إن عثرتك رجلك فاقطعها... في المتتالية الثالثة (10: 32- 52) نجد بعد الإنباء بالآلام طلب ابني زبدى والدعوة إلى الخدمة وبذل الذات. وينتهي كل هذا بشفاء الأعمى (10: 46- 52 وز).
فكل مجموعة تبدأ بالإنباء بمصير يسوع (8: 31؛ 9: 31؛ 10: 32- 34 وز). فتجد هذه "النبوءة" صدى لها في عدم فهم التلاميذ لما يقوله يسوع. فإذا أخذنا متى، نرى صدمة عند بطرس وتشكّكاً (16: 22- 23)، ثم حيرة التلاميذ (17: 23 ب)، وأخيراً محاولة يعقوب ويوحنا التي لم تكن في محلّها (20: 20- 23). إن موضوع عدم فهم التلاميذ الذين جُعلوا أمام الصليب قبل الوقت، هو معطية من التقليد المشترك أبرزها كل إنجيلي حسب طريقته. مثلاً، صوّر مرقس المجموعة تسير وفي مقدّمتها يسوع. هو يمشي والتلاميذ يتبعونه وهم يرتجفون من الخوف (10: 32). عند لوقا الذي يخفف من حدّة توبيخات المعلّم، يعلن يسوع الإنباء الثاني كضربات مطرقة: "ضعوا هذه الكلمات جيّداً في رؤوسكم" (9: 44). أي: اسمعوا جيّداً. احفظوا جيّداً. وأرفق الإنباء الثالث باستشهاد من الكتاب المقدّس، فكانت النتيجة كما قالها لوقا: "أما هم فلم يفهموا من ذلك شيئاً، بل كان لهم كلاماً مستغلقاً، وأقوالاً لا يدركونها" (18: 34).
هل يستطيع يسوع أن يترك تلاميذه وأفكارهم الضيقة؟ كلا. حينئذ يأتي حدث يطبّق في كل مرّة على التلاميذ الإنباء بمصير ابن الإنسان. لا المتتالية الأولى (8: 31- 9: 29 وز)، نجد تعليماً عن ضرورة حمل الصليب إذا أردنا أن نتبع يسوع وندخل إلى المجد (8: 34- 9: 1 وز). وتورد المتتالية الثانية (9: 31- 10: 31 وز) درساً يتوجّه إلى تلاميذ يهتمّون بالعظمة البشريّة، درساً يتوجّه عن طريق المفارقة فيقدّم "طفلاً" نقتدي به (9: 33- 37 وز). وفي المتتالية الثالثة (10: 32- 52 وز) يذكّرنا يسوع بشريعة الخدمة وبذل الذات لخلاص الكثيرين (10: 41- 45 وز). هذه هي اللحمة التي عليها رسم التقليد الإزائي صعود يسوع إلى أورشليم.
غير أنه في كل من هذه المتتاليات الثلاث، سواء كان الحديث عن مصير المعلّم أو مصير تلاميذه، يقدّم السرّ في وجهين متعارضين: وجه الظلمة والنور، وجه الآلام والمجد. في كل مرّة يصطدم التلاميذ بالوجه المظلم من الوحي. ولا كل مرّة لا يتراجع يسوع، بل يضمّ إلى مصيره الحاضر والمقبل، كل من يريد أن يتبعه. وهكذا يصبح الوضع مأساوياً.
فالصعود إلى أورشليم الذي هو بالنسبة إلى يسوع وفي الوقت عينه مسيرة إلى المجد، يبقى في نظر التلاميذ مسيرة إلى الموت. فما يعرفه يسوع في سرّ إتحاده بأبيه، لا يستطيع التلاميذ أن يفهموه. ورغم كل ما عمله يسوع وقاله أمامهم، ظلّوا مغلقين على مخطّط الله، واصطدموا بجدار الألم والموت، وما استطاعوا القبول بتجاوز هذا الجدار من أجل اللقاء بالله. وهذه المتطلّبة لا تحيرّهم في غرائزهم المتعلّقة بالحياة. بل "تعارض" طرق الله كما بدت في تاريخ شعبه.
كيف نزيل الشك والعثار؟ نتجاوزه. هذه هي الطريق الوحيدة التي يفتحها يسوع أمام تلاميذه: ففي الوقت عينه يعلن الذل ويعلن المجد الذي يليه. ويا كل مرّة، وبعد أن يعلن الموت بما فيه من إهانة، يعلن القيامة في اليوم الثالث. في المتتالية الأولى، وصل واجب نكران الذات وحمل الصليب إلى منظار الخلاص الأبدي والدخول في المجد. نقرأ في مت 16: 27: "فابن الإنسان سيأتي في مجد أبيه مع ملائكته، وحينئذٍ يجازي كل واحد بحسب أعماله". وهكذا يجازى التلميذ على يد ابن الإنسان الذي جاء يسوع يعلن مصيره المحيرّ، ولكنه يعيد كل شيء في النهاية.
القيامة والموت، الذلّ والمجد: إن يسوع لا يفصل بين وجهتَي سرّ الخلاص. وإنباءاته لا تفصل الحدثين المقبلين بالنسبة إليه وبالنسبة إلى تلاميذه. ولكن، قبل الفصح والعنصرة، وقبل أن يعيش يسوع عثار الآلام والموت بشكل نموذجي، وقبل أن يعطي الروح القدس... قبل كل هذا يبقى هذا التعليم غير فاعل. فقبل اليوم الذي يراه يعبر ظلمة الموت وينهض في نور القيامة، لا يستطيع يسوع أن يزيل هذا "الشك".
ولكن الآب قدّم الجواب. وقبل الحدث الفصحي أعطى لثلاثة من التلاميذ المميّزين أن يشاهدوا في لحظة قصيرة مجد ابنه بالذات. هذه الخبرة قد أعلنت سرّياً في الآية التي تصل بين التعليم عن مشاركة يسوع وبين حدث التجليّ: "الحق أقول لكم: إن بين الحاضرين هنا من لا يذوق الموت حتى يعاين ابن الإنسان آتياً في ملكوته" (مت 16: 28؛ رج مر 9: 1). فيسوع يعدنا بأن نتذوّق الجزاء المحفوظ لليوم الأخير (الاسكاتولوجيا التقليدية) برؤية مسبقة لمجد ابن الإنسان. ولقد رأى الإزائيون الثلاثة في هذا القول الملغز إعلاناً مباشراً عن التجليّ.
قد تدلّ هذه الآية على مجيء المسيح الثاني. ولكنها ترتبط بحدث التجلي ببعض الرباطات الأدبيّة. فهناك لفظة "بعض". هي تدل على التلاميذ الثلاثة المميّزين. وحدث ابن الإنسان المقبل، الذي يرى آتياً في ملكوته، يتحقّق منذ الآن بشكل رمزي في "الرؤية" على الجبل (مت 17: 9) في "ما رأوا" (مر 9: 9؛ لو 9: 36). واللحمة الكرونولوجية "بعد ستة أيام" (مت، مر. أما لو: 8 أيام) التي هي نادرة في خبر حياة يسوع العلنية، تريد أن تشدّد على الإعلان وتحقيقه.
توخى التجلي، بالنظر إلى السياق الذي أقحم فيه، أن يسبّق في نظر التلاميذ المميزين على مجد اليوم الأخير الذي يتركّز منذ الآن في يسوع الذي يعيش معهم كل يوم. فالله يكلّم التلاميذ الخائفين: إنهم يستطيعون أن يسمعوا ويطيعوا. أن يثقوا بيسوع ويتبعوه على الطريق الذي يصعد إلى أورشليم، يصعد إلى المجد بالصليب.
3- مرمى الخبر
نبدأ مع الكلمة السماوية، فهي تدلّنا على مرمى الخبر. قال مت 17: 5: "وإذا صوت من الغمامة يقول: هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت. فله اسمعوا". ومر 9: 7: "وجاء صوت من الغمامة: هذا هو ابني الحبيب. فله اسمعوا". ولو 9: 35: "وجاء صوت من الغمامة يقول: هذا هو ابني المختار. فله اسمعوا".
هذا القول الإلهي الذي جاء من السماء يعيد صوت الآب الذي سُمع في عماد يسوع (مت 3: 17 وز). ولكن الصوت السماوي زاد على إعلان بنوّة يسوع الإلهية، أمراً يتوجّه إلى التلاميذ: "إسمعوا له".
هذا القول يكشف لنا ثلاث وجهات عن يسوع: إنه ابن الله. إنه "عبد الله" الذي به سرّ الله. إنه النبيّ النبيّ. ما معنى هذا الإعلان المثلّث؟
أ- يسوع هو ابن الله
إن عبارة "الابن الحبيب" (أغاباتوس) تعني "الابن الوحيد". وهي لا تدلّ فقط على المسيح والمختار، بل على الابن الموجود من الأزل أيضاً. يعود هذا اللقب إلى الجماعة الرسولية التي فسرّت مز 2: 7 تفسيراً مسيحانياً. أورد مر ولو النصّ في خبر العماد: "قال لي الربّ: أنت ابني، أنا اليوم ولدتك" (حسب السبعينية). مهما كان فهم هذه العبارة لدى التلاميذ في التجليّ، فمن الأكيد أنها تدلّ على وجود يسوع منذ الأزل. فالله هو الذي يجيب على إنباء الآلام كما جاء على لسان يسوع.
في العماد الذي تقبّله يسوع، شأنه شأن كل يهودي جاء إلى يوحنا المعمدان، تقتله وكأنه خاطئ، أعلن الآب أنه ابنه الحبيب. وفي التجليّ شهد الآب أيضاً أنه ابنه أمام التلاميذ الذين سمعوا يسوع يحدّثهم عن مصيره، مصير عبد الله المتألمّ.
ب- يسوع هو عبد الله المتألم
الله يجد مسرّته في هذا الابن الحبيب. بهذه الإشارة الثانية، ذكّرنا مت بتيوفانيا العماد. وقام لوقا بمقاربة مماثلة حين زاد لقباً آخر: المختار. الذي اخترته. فالإنجيليان يدلاّن على أن الله يرى في يسوع عبد الله الذي أنبأ به أش 42: 1 (حسب السبعينية): "يعقوب عبدي الذي أهتمّ به. إسرائيل مختاري الذي عاهدته نفسي".
في نشيد عبد الله الأول في أشعيا، لا تذكر آلام خادم الله بل رسالته. ويورد مت الآيات الأربع الأولى ليبرّر الطريقة التي بها يمارس يسوع مهمّته المسيحانية، لا سيما تجاه خصومه: "القصبة المرضوضة لا يكسر، والسراج المدخّن لا يُطفئ" (مت 12: 18- 21). وحين دعا الصوت السماوي يسوع "المختار" الذي سرّ به الله، فقد ختم بالختم الإلهي تصّرف هذا المسيح الوديع والمتواضع القلب (مت 11: 29)، الذي ندخل في مدرسته ولا نخاف.
ج- يسوع هو النبي
إن الوصيّة "اسمعوا له" تميّز حدث التجليّ عن حدث العماد. وتطبّق على يسوع الإعلان النبوي في سفر التثنية كما ورد في أع 3: 22: "يقيم الربّ لكم نبياً من بني إخوتكم، نبياً مثلي. فله تسمعون في كل ما يقوله لكم" (تث 18: 15). ففي هذه الخطبة التي وجّهها بطرس إلى شعب أورشليم، دلّ على أن الله حين أقام يسوع، بيّن فيه موسى الجديد والنبيّ المنتظر في نهاية الأزمنة (رج أع 7: 37؛ يو 6: 14؛ 7: 40).
وهذه الكفالة الإلهية يعطيها الله ليسوع ساعة التجليّ، فيدلّ التلاميذ على أنه اليوم النبي (مع أل التعريف، يعني النبي النبي وخاتمة الأنبياء)، وأن عليهم أن يسمعوا له. وإلاّ "قطعوا من الشعب" (أع 3: 23؛ لا 23: 29). به يرتبط الخلاص. به ترتبط الحياة الأبدية التي جاء يعد بها كل من يحمل صليبه ويتبع المسيح. إذن، على التلاميذ أن يثقوا بيسوع الناصري الذي يعيش معهم، ويسمعهم صوته وتعاليمه كل يوم.
إن الخبر يؤسّس على ظهور إلهي المعنى الذي اكتشفناه في السياق. فالله بنفسه يعلن لممثلي التلاميذ الثلاثة أن يسوع الحبيب، المختار، عبد الله الذي به يسرّ، أن يسوع هو النبي الذي يجب أن يسمعوا له ويضعوا أقواله موضع العمل. ويجب أن ينفتحوا على التعاليم المحيرّة التي "بدأ" (8: 31؛ مت 16: 21) يعلنها. يجب أن نلتزم خطاه في طريق الصليب المنتهي إلى المجد.
د- الوحي في التقليد الإزائي
هذا الوحي الذي أرسله الآب هو معطية مشتركة في التقليد الإزائي، وقد حاول كل إنجيلي أن يبرزه بطريقته الخاصّة. قال مت 17: 6- 8: "فلما سمع التلاميذ سقطوا على وجوههم وخافوا جدًّا. فتقدّم يسوع ولمسهم قائلاً: انهضوا، ولا تخافوا. فرفعوا أعينهم فلم يبصروا إلا يسوع وحده". ومر 9: 5- 8: "تكلّم بطرس: لنصنع ثلاث مظال... وما كان يدري ما يقول من الخوف... وفجأة، نظروا ما حولهم، فلم يبصروا أحداً سوى يسوع وحده". ولو 9: 34- 36: "وجاءت غمامة وظلّلتهم... واستحوذ عليهم الخوف حين دخلوا في الغمامة. ولما كان الصوت وُجد يسوع وحده".
هناك عنصران مشتركان بين الأناجيل الثلاثة: خوف التلاميذ. وجود يسوع وحده بعد الرؤية. فأمام الله الذي يفتقد الإنسان، يحسّ الإنسان بالخوف. وهذه المخافة المقدّسة ترد في الأخبار بطرق مختلفة. مع لوقا المخافة مع الوقت الذي فيه ظلّلت الغمامة التلاميذ. وبرّر مرقس بما قاله كلمة بطرس التي لم تأتِ في محلّها. وأوضح متّى معنى هذه المخافة: هي حسّ ديني في الإنسان أمام عالم الأقداس. سيطر على التلاميذ حين سمعوا الصوت السماوي الذي أعطى الحدث معناه الحقيقي ودعاهم إلى الطاعة. ولكن إذا كان الله قد تكلّم، فهذا لا يعني أنه يريد أن يسحقهم على الأرض في خضوع الإنسان الذي يرى الله ويحسّ أنه صار قريباً من الموت (أش 6: 5).
ففي خبر تيوفانية نهر خابور، جاء صوت الله نفسه وانتزع حزقيال الذي أحسّ أن اللاهوت ضربه كالصاعقة. "ذاك كان منظر مجد الله. فلما رأيته سقطت على وجهي (ساجداً). ثم سمعت صوتاً يتكلّم فيقول لي: يا ابن البشر، قف على قدميك" (حز 1: 28- 2: 1). أما في خبر مت، فيسوع وحده يقيم بشكل رمزي التلاميذ الثلاثة الذين سجدوا إلى الأرض فبدوا كالأموات. إنه سيد الموت. اقترب ولمسهم، وبصوته أمرهم فقاموا.
إذا كنا لا نخاف، فهذا لا يعني أننا "نعتاد" على كلمة الله، ونجعلها بين أمور هذه الحياة التي لا تهزّنا ولا تحرّكنا. فكلمة الله تبقى جديدة وهي تدهش دوماً من يسمعها بإيمان. وهي نار محرقة. ولكننا نقترب منها لأن يسوع أو هنا، هو قريب مع أنه في مجده.
4- عناصر الخبر
تستنير كل الرموز (الجبل، المجد، موسى وإيليا، المظلّة أو الخيمة، الغمامة) بنور السياق الإنجيلي والكلمة التي دوّت من السماء. هذا من جهة، ومن جهة ثانية، فهذه الرموز تغني بمدلولها الخاص مجمل الخبر.
أ- الجبل (9: 2)
إعتزل يسوع "على حدة" كما اعتاد أن يفعل مراراً. ذهب إلى الجبل. يعني إلى البرية وبعيداً عن الأماكن الآهلة. ويتحدّث لوقا عن الصلاة. يتحدّث مر ومت عن "جبل عالٍ جدًّا". فعلى الجبل تلتقي السماء بالأرض، والإنسان بالله. لا اسم لهذا الجبل، وإن قال التقليد: جبل طابور (في الجليل)، جبل حرمون (شمالي قيصرية فيلبس). لم يقل الإنجيليون اسم الجبل، ولصمتهم معنى. هذا يدلّ على أن يسوع ترك جبل صهيون الذي اختاره الله منذ القديم كموضع حضوره وسط شعبه. حين اختار يسوع جبلاً غير جبل صهيون إنتزع من يهودا امتيازاتها. وزار الله جليل الأمم، بل العالم الوثني الذي هو وراء الجليل.
ركّز لوقا إنتباهه على جبل الزيتون وتجاهل جبال الجليل حيث يعلّم يسوع (مت 5: 1) ويشفي المرضى ويطعم الآلاف (مت 15: 29)، كما يقول متّى. فالإنجيل الأول يجعل حياة يسوع العلنيّة تبدأ على الجبل (5: 1) وتنتهي بعد القيامة على الجبل (28: 16).
إن الصوت السماوي أرانا في يسوع موسى الجديد. ولكن الجبل الذي عليه تلقّى موسى لوحي الوصايا (خر 31: 18)، والذي صعد إليه إيليا (1 مل 19: 8) هو جبل سيناء. والجبل الذي عليه يكلّم الله ابنه المتجليّ هو سيناء الجديد. وسوف نرى أن عناصر الظهور ستلتقي عند هذا التفسير: المجد، الغمامة، موسى وإيليا. وحتى "الستة أيام" تجد ما يفسرّها هنا. فإن خر 24: 15- 16 يقول إن موسى انتظر ستة أيام كلمة الرب.
ب- المجد (9: 2- 3)
تجلىّ. أي تحوّل شكله، منظره. إتخذ شكلاً آخر غير الشكل العادي. هكذا ظهر يسوع القائم من الموت لتلميذي عماوس لا "شكل آخر"، شكل مسافر (16: 12). أما يكون تجليّ يسوع حلماً قديماً في البشرية؟ كانت هناك رغبات رمزية، والرب تجاوب معها في التجليّ الذي لا يحصل عليه الإنسان بإرادته! التجليّ عند يسوع هو حدث تاريخي وتيوفاني معاً. يصوّر في صيغة المجهولة ليدلّ على أن الله وحده يفعل.
وكانت أيضاً رغبات في العالم اليهودي الجلياني: في نهاية الأزمنة، تتحوّل وجوه الصديقين وتصير لامعة من الجمال، مثل وجوه الملائكة، تمتلئ بالمجد كما تقول رؤيا باروك (كتاب منحول). إستند هذا الانتظار الاسكاتولوجي إلى واقع من الماضي هو تمجيد موسى على الأرض حين "شعّ أديم وجهه بعد أن تكلّم مع الرب" (خر 34: 29)، فصوّر تمجيد المختارين المقبل كما يلي: "يضيء الحكماء كضياء الأملاك في السماء، والذين هدوا كثيراً من الناس إلى الحق يضيئون كالكواكب إلى الدهر والابد" (دا 12: 3).
واليوم، على هذا الجبل، وعبر هذا الإنسان يسوع، وأمام أنظار التلاميذ المميزين، صارت آمال البشر واقعاً. إذا كان الصوت السماوي قد ذكر ابن الله الموجود منذ الأزل، ففعل التجليّ كشف في يسوع المجد النهائي والأخير.
إستعان الإزائيون الثلاثة بالصور الجليانية وحاولوا قدر المستطاع أن يعبرّوا عمّا لا يعبّر عنه. أشار مر إلى حالة يسوع المجيدة فصوّر تحوّل ثيابه "اللّماعة" ببياض "لا يستطيع قصّار على الأرض أن يبيّض مثلها" (9: 3). هذا البياض ليس لوناً من الألوان وحسب. إنه "لمعان"، ضياء. إنه يرمز إلى الأمور السماوية (دا 7: 9؛ مر 16: 5؛ يو 20: 12) والاسكاتولوجية (رؤ 1: 13- 14؛ 4: 4؛ 14: 4؛ 19: 11؛ 20: 11). إنه لمعان النصر (مت) وسطع البرق (لو). وهذا اللمعان يحوّل إلى "آخر" (لو) وجه يسوع الذي "يشعّ كالشمس" (مت). إذا كان الوجه هو مرآة القلب، فضياء وجه يسوع يأتي من ينبوع مخفيّ عن أعين البشر. لهذا قال لو 9: 32: إن التلاميذ "رأوا مجده". وقد ولج هذا المجدُ الثياب، فدلّ على أن جسد يسوع هو منذ الآن كما في الفردوس.
أعلن مجد يسوع من أجل نهاية الأزمنة، وذلك "حين يأتي ابن الإنسان في مجد أبيه مع ملائكته القديسين" (مت 26: 27؛ مر 8: 38). هذا المجد يحلم به يعقوب ويوحنا (10: 37). "مجده" (لو 9: 26) قد استبق وقته أمام عيون الشهود المبهورين.
ونذكر هنا السمات التقليدية للمجد: فالمجد يخصّ الله. هو وحده الكائن المجيد لأنه قدوس. وإذ تسطع هذه العلامة التيوفانية على وجه يسوع، لا كانعكاس بسيط لمجد يهوه (موسى)، بل كشعاع يكشف كيانه الحميم: إنه الله بالذات. هذا ما سيقوله الرسل: يسوع هو "ضياء مجد الله وصورة جوهره" (عب 1: 3). على وجهه مجد الله (2 كور 4: 6). إنه "رب المجد" (1 كور 2: 8). هذا المجد الإلهي كان قد تفجّر في عيد الميلاد فأحاط الملائكة بضيائه (لو 2: 9- 10). وها هو الآن يلبس هذا الإنسان فيدلّ على ما سيكونه في يوم من الأيام، حين "يُرفع في المجد" (1 تم 3: 16)، ساعة يقيمه الله فيعطيه المجد (1 بط 1: 21) فيمجّد فتاه (عبد الله، أع 3: 13). سيراه اسطفانس في مجده (اع 7: 55) وسيبهر شاول (بولس) حتى العمى بنوره (اع 9: 3). ومجد المسيح هذا سيشعّ على المؤمن نفسه (2 كور 3: 18).
يسوع المتجليّ هو ابن الله الذي يظهر عبر نجّار الناصرة، عبر المعلّم الذي يكوّن تلاميذه. ويشير لوقا إلى تأثير التجليّ على الشهود الثلاثة فيقول ان عيونهم فُتحت على هذا النور الباهر، كما في خروج من النوم (أو رغم النوم)، كما في الليل. فالمسيحيون الذين يعيشون بعد في الليل دون أن يكونوا من الليل والظلمة (1 تس 5: 5- 6)، صار التجليّ فيهم منبع نور.
ج- موسى وإيليا (9: 4)
ما معنى وجود موسى وإيليا؟ موسى هو رمز الشريعة، وإيليا ممثّل الأنبياء. ولكن الصوت السماوي (إسمعوا له) يدلّ على أن نموذج النبيّ المقبل هو موسى لا إيليا. إنهما يعتبران أيضاً شاهدين يذكرهما رؤ ولا يسمّيهما: إيليا أغلق السماء فلم تمطر، وموسى ضرب الأرض (رؤ 11: 3 - 6). وتدلّ بعض النصوص الرابانية على إيليا كصورة للمسيح المتألم.
في الحوار الذي يلي حدث التجليّ، إيليا هو صورة عن يوحنا المعمدان الذي أساؤوا معاملته (مت 17: 12- 13 وز). وليس بمستحيل، حسب التقليد القديم (ملا 17: 10- 11) الذي لمّح إليه يسوع أمام التلاميذ (مت 17: 10- 11 وز) أن يكون إيليا السابق للمسيح. وهذا ما حصل في شخص يوحنا المعمدان. لهذا يجعله مر في البدء قبل موسى. وفيما بعد، يعود إلى الترتيب التقليدي على مستوى الأولوية (آ 5).
أورد نص راباني: "قال يوحنّان بن زكاي: قال الله لموسى: حين أرسل النبي إيليا، تذهبان كلاكما معاً". قد تكون هذه الرمزية التقليدية حاضرة في النظرة المسيحانيّة لدى الإنجيليين: إن موسى النبي جاء يحيّي النبي النهائي برفقة إيليا السابق للمسيح. ثم إن هذين الشخصين اللذين صعدا إلى سيناء، يدلاّن بمجيئهما على هذا الجبل الذي هو سيناء الجديد، أن الزمان تمّ بمجيء يسوع.
والتلميح إلى موت يوحنا (إيليا الجديد) ليس واضحاً إلاّ في الحوار بين يسوع وتلاميذه. هذا الحوار جعله مت ومر خلال النزول من الجبل كتفسير للحدث. أما لو فلم يورد هذا الحديث الذي لا ينتمي أصلاً إلى خبر التجليّ. ولكنه يوجد حواراً آخر بين يسوع والشخصين السماويين (رج دا 12: 5- 6): "كانا يتحدّثان عن ذهابه (خروجه) الذي يتمّه في أورشليم" (لو 9: 31). إن لفظة "ذهاب" تترجم في اليونانية "اكسودس" الذي يدلّ على خروج من هذا العالم يضمّ موت يسوع وقيامته وصعوده (9: 51). لا اع 13: 24، دلّ لوقا على مجيء يسوع إلى هذا العالم بلفظة "ايسودس"، أي دخوله على الأرض.
لم يرَ مت ومر في حضور إيليا الذي سيموت شهيداً في شخص يوحنا السابق، لم يريا سوى إعلان لموت يسوع (أشير إليه في بداية هذه الحقبة بخبر قطع رأس يوحنا، كما 14: 1- 13). أما لو فجعل يسوع يدخل في مجلس الله، بشكل من الأشكال. وبواسطة موسى وإيليا جاءت الكتب تؤكّد للإبن ما يعرفه باتحاده مع أبيه، وما سيعلّمه في القيامة: "يجب على ابن الإنسان أن يتألمّ قبل أن يدخل في مجده" (لو 24: 26، 45- 46). هذا التعليم الذي "يبدأ" (كما قال مت، مر) بعد إعلان بطرس في قيصرية، قد كفله (عند لو) تدخّل إلهي: يقرأه يسوع في الكتب. يتحدّث عنه مع موسى وإيليا. يرى فيه مخطّط الله في البشرية.
د- المظال (9: 5- 6)
قال بطرس: "حسن لنا أن نكون هنا". تلك كانت الكلمات الأولى التي تلفّظ بها بطرس فعبّر باسم رفيقيه وباسمه عن سعادتهم. في الواقع، أكد على أن حضورهم مهم لينصبوا ثلاث مظال (خيم). إن هذا الإحساس بالملء الذي شعر به بطرس ورفيقاه يرتبط بكلمته عن المظالم. لا ننسَ أننا في عيد المظال. فخلال الأيام الستة التي فيها يمتدّ العيد، كان على كل يهودي أن يقضي ليلته تحت "الخيمة". وتحدّث بطرس عن ثلاث خيام. فالضيوف ثلاثة. وهناك تقليد يهودي يجعل المسكن السماوي في رمز "المظال (الخيام) الأبدية" (لو 16: 9). فالإقامة في الخيمة رمز إلى افتقاد الله الاسكاتولوجي، حين يأتي ليسكن مع شعبه إلى الأبد (هو 12: 10). ظنّ بطرس أن نهاية الأزمنة حلّت، وأن السماء بدأت حضورها على الأرض، فصنع المظال ليدوم إلى الأبد ما ظهر على الجبل يوماً من الأيام.
غير أن لو ومر إعتبرا أن هذا التدخّل ليس في محله. "ما كان يدري ما يقول". "ما كان يدري ما (يجب) أن يقول". فكأني ببطرس يخطئ نوعاً ما. هو يريد أن يجعل هذه السانحة المميّزة حالة أبدية. هل نسي أن الثلاثة هم وحدهم هنا؟ فأين الشعب كلّه المدعوّ إلى التجمّع الاسكاتولوجي؟ هل نسب لنفسه دوراً بأن يؤمِّن لله مقاماً؟ ونستطيع أن نكثر من الأسئلة: لا يفهم بطرس سرّ يسوع المتجليّ، كما لن يفهم سرّ ذلّه في جتسيماني (14: 40). واتجاه مر إلى التشديد على اللافهم عند التلاميذ، دفعه إلى أن يشدّد على حيرة بطرس وإضطرابه.
أمانا فلا يقدّم تفسيراً لاهوتياً لكلام بطرس. ولكن ما هو معنى ما قاله؟ إن التلميذ لا يخطئ حول بُعد الحدث: نحن أمام زيارة السماء على الأرض. هي ساعة "الراحة" التي وعدنا يسوع (مت 11: 29؛ رج عب 4: 11). لم يفكّر بطرس فقط بأن يعمل عملاً مفيداً. بل دلّ على سعادته، على نشوته. وهو يريد أن يثبّت إلى الأبد هذه الرؤية السماوية. أن يجعل حضور يسوع المتجلي مع زائريه "راحة" إسكاتولوجية لا نهاية لها.
هـ- الغمامة (9: 7)
قدّم بطرس إقتراحه، فجاءه الجواب من الله. الغمامة هي مظلّة الله. المظلّة تحوكها يد الإنسان، أما أصل الغمامة فسماوي. المظلة تجعلنا في ظلمة الليل (حسب عيد المظال). أما الغمامة فمضيئة. وهذا التعارض الذي يشير إليه السياق المباشر، سيجد تأكيداً في رمز الغمامة كما نقرأه في الكتاب المقدّس.
في التقليد البيبلي ترافق الغمامة (التي هي علامة تيوفانيا، ظهور الله) ظهورات سماوية مختلفة. لسنا هنا أمام غمامة تحمل شخصاً (ابن الإنسان الذي يأتي في نهاية الأزمنة، دا 7: 13: مت 24: 30 وز)، بل أمام تلك التي تغطي، تظلّل، تحمي: إن الله جعل من الغمام مظلّته، خيمته (مز 18: 12).
ولكن الحدث الذي تمّ هنا يشير إلى نبوءة إحتفظ بها التقليد اليهودي عن نهاية الأزمنة. "في ذلك الوقت يكشف لهم الرب هذه الأشياء (أواني العبادة) ويظهر مجد الرب وكذلك الغمام كما في أيام موسى وحين تمنّى لها سليمان أن يتقدّس الموضع" (أي: الهيكل) (2 مك 2: 8). فكما غطّى الغمام (السحاب) خيمة الإجتماع، وكما ملأ مجد الرب المسكن (خر 40: 34- 35)، وكما اجتاح الغمام والمجد هيكل سليمان (1 مل 8: 10- 12)، هكذا يكون في نهاية الأزمنة: فالمجد الذي ترك الهيكل (حز 10: 3- 4) سيعود مع الغمام. وعلى جبل التجليّ الذي ينيره والمجد الظاهر على وجه يسوع والمضيء في ثيابه، ينزل الغمام كعلامة عن حضور الله نفسه؟
هذه الغمامة لا تغطّي فقط الأشخاص السماويين، بل تغطي التلاميذ أيضاً. هذا ما يقوله لوقا. فالتلاميذ ليسوا مشاهدين فقط. لقد دخلوا في حدث تجاوزهم ولكنه يعنيهم. فالنبوءة المذكورة أعلاه دلّت على الظروف التي فيها حلّ الغمام والمجد: فالموضع الذي فيه أخفيت أواني العبادة "ستبقى مجهولة إلى أن يجمع الله شمل شعبه ويرحمهم" (2 مك 2: 7). وإذا تذكّرنا السياق الذي يرد فيه حدث التجليّ (تكوين جماعة التلاميذ التي تمثل الكنيسة وتحقّق حضورها) نقول إن الله قد بدأ يجمع شعبه. وحين يجمع الغمام السماء بالأرض، فهو يكرّس تجمّع التلاميذ الذي دشّنه يسوع بكلمته.
أجل، لم يتجلَّ يسوع من أجله وحده، بل من أجل تلاميذه: هكذا إكتشفوا الأصل الألهي لتعليم يجب أن يسمعوه. وحين يدخلون في الغمام السماوي، يعرفون أنهم يكوّنون جماعة مع يسوع. ومع السماء، بقدر ما يسمعون كلام يسوع.
خاتمة
التجليّ في مر هو أبيفانيا (ظهور إلهي) المسيح المعلّم أمام تلاميذه المبهورين. يجب أن يحُفظ في الذاكرة بانتظار أن "يفهموا" القيامة من الموت (9: 10). إن السرّ يفرض نفسه على التلاميذ بانتظار أحد القيامة. والتجليّ حسب مت هو كرستوفانيا، ظهور للمسيح. إنه يدلّ على كائن يسوع السرّي. أما لو فيربط بين التجلي والجسمانية. يجعل يسوع يصليّ في هذا الموضع القفر الذي هو الجبل، وقد يكون جبل الزيتون. وقد جاء موسى وإيليا يهيّئان ذهاب يسوع، موته وقيامته وصعوده. أجل، من على جبل التجليّ يفرش مجد الله نوره على طريق مظلم هو طريق الألم والموت. وهذا المجد يفتح القلوب على القيامة

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM