الفصل الثامن: حوار حول إيليا

الفصل الثامن
حوار حول إيليا
9: 11- 13
يحتلّ شخص إيليا مكانة هامة في الأناجيل، وهو يرتبط دوماً بشخص يوحنا المعمدان. ورد اسمه مراراً في الجدالات الدفاعية التي مارسها المسيحيون الأولون مع اليهود. ولقد انتشر في العالم اليهودي في القرن الأول أن إيليا سوف يعود قبل مجيء يوم الرب العظيم، قبل مجيء المسيح. وهكذا عارض اليهود المسيحيين: لا يمكن أن يكون يسوع الناصري هو المسيح لأن إيليا لم يأتِ بعد. فأجاب المسيحون: بل جاء إيليا في شخص يوحنا المعمدان.
لن ندرسَ في هذا الفصل فقط حوار يسوع مع تلاميذه بعد التجليّ، بل نحاول أن نتعرّف إلى شخص إيليا في كل العهد الجديد. ونبدأ في العهد القديم.
1- العهد القديم
إن أول قول يشير إشارة واضحة إلى "تهيئة" قبل مجيء الله، قد تلفّظ به النبي خلال المنفى في بابل. أعلن هذا النبي تحريراً قريباً للشعب المسبيّ و"خروجاً" بقيادة الله، فهتف: "صوت يهتف: هيّئوا في البرية طريقاً للرب. ارسموا في الفيافي طريقاً مستقيماً لالهنا... حينئذ يتجلىّ مجد الربّ والخلائق المجتمعة تراه" (أش 40: 3). ترك اسرائيل بابل ليعود إلى بلاده، فعبرَ برية سوريا كما عبر في الماضي برية سيناء. وسار الله في المقدمة، كما في الخروج الأول في عمود من الغمام. يجب أن نسوّي البرية لكي يتمّ هذا الخروج الجديد بدون عوائق.
لا يذكر النصّ هنا شخصاً محدّداً عليه أن "يهيّئ طريق الربّ" في البرية. لهذا فُهم القول بشكل غير شخصي. لهذا فسرّته جماعة قمران بشكل استعارة وطبّقته على الجماعة: هو شعب إسرائيل. "وبالأحرى الغيارى في الشعب. يذهبون إلى البريّة ويعدّون لمجيء الربّ". نقرأ في كتاب التهذيب: "حينئذ ينفصلون من وسط الناس الأشرار ويذهبون إلى البرية ليهيئوا هناك طريقاً له كما كتب: هيئوا في البرية طريق.. ارسموا في الفيافي طريقاً لالهنا". هذا الإعداد كان دراسة الشريعة التي أعطاها الله لموسى، وممارستها ممارسة دقيقة. هكذا اعتقد المتشيّعون للعهد أنهم يعجّلون في مجيء المسيح وإعادة بناء إسرائيل.
وحدّد تقليد آخر قول أشعيا الثاني. فأعلن إرسال مبعوث خاص تكون مهمته تهيئة القلوب لمجيء الله. وبعد قرن من العودة من المنفى، هتف الله بفم النبي ملاخي: "ها أنا أرسل ملاكي ليهيّئ الطريق أمامك. وفجأة يدخل الرب الذي تطلبون، إلى هيكله. وملاك العهد الذي تريدون، ها هو يأتي" (ملا 3: 1). الله (الذي سمّي هنا ملاك العهد) يستعيد موضعه التقليدي لا الهيكل الذي أخلي ودمّر في كارثة سنة 587 وأعيد بناؤه بعد العودة من المنفى. إن مجيء الرب سيدلّ على حلول يوم الغضب العظيم، لأنه سيكون مثل نار آكلة تطهر الشعب كما يطهّر الذهب وتُنقّى الفضة (ملا 3: 2- 3). قبل ذلك اليوم، سيأتي رسول سريّ ويعدّ الطريق أمام وجه الربّ حسب نبوءة أش 40: 3 التي أستعيدت هنا.
من يكون هذا الرسول؟ سيدلّ عليه بوضوح قول نبوي في ملا: إنه إيليا الذي اتخذ مكانة هامة في التقليد اليهودي. وارتبطت شهرته لا بنشاطه العجائبي وحسب، بل بما أنه خُطف حياً إلى السماء حسب خبر 2 مل 2: 1- 13. وبدل أن يحياً حياة منتقصة في الشيول، في ظلال الموت، عاش بجسده قرب الله أو في فردوس أرضي، اعتبره التقليد موجوداً بين السماء والأرض. كان إيليا حياً حقّاً، وكان يهتم بشعبه فيتدخّل من أجل حمايته. كما كان يتشفّع إلى الله من أجله. وكان تقليد في زمن المسيح قد جعل من إيليا المحامي عن التعساء والبائسين. هكذا نفهم كلام الجنود حين سمعوا يسوع على الصليب يتنهّد: إيلي ايلي كما سبقتاني. "ها هو يدعو ايليا إلى عونه. لنرَ إذا كان ايليا يأتي وينجيّه" (15: 34- 36).
واعتبر التقليد أن ايليا هو الرسول الذي سيعود ليعين الشعب من أجل الإعداد لمجيء الله. هذا هو معنى كلمات ملاخي الأخيرة: "ها أنا أرسل إيليا النبي قبل أن يأتي يومي العظيم الرهيب. فيعيد قلب الآباء إلى أبنائهم، وقلب الابناء إلى آبائهم لئلا آتي فاضرب الأرض بالابسال" (ملا 3: 23- 24).
"يوم" الربّ هو يوم الغضب العظيم، يوم يأتي ويعاقب العصاة. ويكون دور إيليا دور المهدّئ. وهو سيعيد الشعب المقدّس إلى ممارسة أمينة للشريعة. "أذكروا شريعة موسى عبدي التي فرضتها في حوريب لكل إسرائيل".
وستعود الفكرة عينها في ابن سيراخ. بعد أن صوّر عمل الرجال العظام في إسرائيل تحدّث عن إيليا بهذا الكلام: "أنت الذي قد عيّنت في التهديدات المقبلة لتهدئ الغضب قبل أن يشتعل، لتردّ قلب الآباء إلى الابناء، وتعيد أسباط يعقوب" (سي 48: 10). استعيدت كلمات ملا وفي النظرة عينها: تهدئة غضب الله قبل أن يشتعل أي: إعادة الشعب المقدّس إلى ممارسة الشريعة. وزاد ابن سيراخ هذه الحاشية: قبل مجيء يهوه ستكون مهمة إيليا إعادة اسباط يعقوب، جمع المشتتين، تخليص بني إسرائيل من الضيق الغريب. هكذا يستطيع الله أن يجيء فيملك على شعب تنقّى روحياً وأعيد بناؤه سياسياً.
2- المعتقدات الشعبية حول إيليا
في زمن المسيح، تطوّر التقليد حول عودة إيليا، أقلّه في بعض الأوساط: ربطوا هذا النبي لا بمجيء الرب، بل بمجيء (باروسيا) المسيح. لما توضّحت التقاليد عن المسيح، نسب إليه دور هام في ممارسة الانتقام الإلهي في يوم الدينونة الاسكاتولوجية. وبمختصر الكلام، سلّم الله إلى مسيحه مسؤولية الدينونة الأسكاتولوجية. بعد هذا، انتشر تقليد يربط عودة إيليا بمجيء المسيح الذي هو الديّان الاسكاتولوجي. فسفر اخنوخ، وعزرا الرابع يؤكدان انه، قبل ظهور المسيح، سيعود على الأرض كل الذين خطفوا إلى السماء دون أن يمرّوا في الموت. هنا إشارة إلى اخنوخ وإيليا. دعوة هذين الشخصي هي علامة عن مجيء المسيح. وقد لاقى هذا التقليد صدى في عدد من الكتابات الرابانبة.
إذن، توضحت التقاليد شيئاً فشيئاً ونمت لتصل إلى فكرة تقول بمرسل يأتي ليهيّئ طرق المسيح. وهذا المرسل هو إيليا. ونجد صدى لهذه المعتقدات في الأناجيل. فبعد مشهد التجليّ، سأل التلاميذ يسوع: "إذن، لماذا يقول الكتبة إن المسيح سيأتي أولاً (مر 9: 11)؟ أولاً، يعني قبل المسيح. نحن هنا أمام تعليم معروف لدى الكتبة، وقد انتشر وسط الشعب. وأرسل اليهود الذين يمثّلون لا نظر يوحنا رؤساء الشعب، وفداً إلى المعمدان يسأله: "هل أنت المسيح؟" أجاب بالنفي. فالحّوا: "هل أنت إيليا" (يو 1: 19- 21)؟ هذا يعني أنهم انتظروا عودة أعظم الأنبياء وربما كسابق للمسيح. ونجد آثار هذا الانتظار في اعتبارات ردّدها محيط هيرودس. رأوا معجزات يتمها يسوع، فقالوا: "هذا يوحنا المعمدان الذي قام من بين الأموات"! وقال آخرون: "بل هذا هو إيليا الذي عاد" (مر 6: 14- 16؛ لو 9: 7- 9). بما أنه لم يظهر شخص عظيم يدعو اليهود إلى التوبة أو يكثر المعجزات، طرح السؤال في الوعي الشعبي ولدى العظماء. أما يكون هذا إيليا الذي عاد ليهيّئ طرق المسيح؟
3- يوحنا المعمدان
لم يكن هذا المعتقد الشعبي مجرّد خرافة. بل كان يقابل واقعاً في مخطّط الله: فقبل مجيء المسيح، وقبل إقامة الملكوت، أرسل الله نبياً عظيماً، وملأه بروح إيليا وقدرته: إنه يوحنا المعمدان.
لا معنى لشخص يوحنا ولا سبب لوجود يوحنا في الأناجيل، إلا بالنظر إلى إيليا وقدرته: إنه إيليا الذي عاد إلى الحياة. إيليا الذي عاد إلى الأرض. وهذا ما ندركه بسهولة من خلال أخبار الطفولة. حين حاء الملاك يبشّر زكريا بالولادة المقبلة لآخر أنبياء العهد القديم، قال: "سيمتلئ (هذا الولد) من روح إيليا وقدرته فيردّ قلوب الآباء إلى البنين والعصاة إلى حكمة الأبرار ويعدّ للربّ شعباً مستعداً كلّ الاستعداد" (لو 1: 15- 17).
ما نلاحظه هو أن قول الملاك هذا يرتبط بتقاليد تنتظر عودة إيليا كسابق للرب، لا كسابق للمسيح. هذا يعني أن لوقا لم يؤلّف هذا المقطع، بل استقاه من تقليد قديم، وربّما من تقليد يهودي. ومهما يكن من أمر، فأقوال الملاك هذه تذكّرنا بشكل واضح أو ضمني بمختلف أقوال العهد القديم التي تشير إلى "سابق" الرب. إن يوحنا "سيسير أمام الله" مثل "مرسل" (ملاك) ملا 3: 1، الذي أرسل لكي يمهّد طريقاً حسب ملا 3: 23. غير أن النظرة تبدلّت بعض الشيء: في ملا، كان إيليا شخصياً هو الذي يعود. في قول الملاك، هو نبيّ جديد يرسل ليهيّئ طرق الربّ.
وأعلن الملاك أيضاً: "يردّ الكثيرين من بني اسرائيل إلى الرب... فيهيّئ للرب شعباً مستعداً كل الاستعداد". هذا تلميح إلى سي 48: 10 الذي ذكرناه: "يعيد بناء أسباط يعقوب". ولكن الحكيم فكّر في بناء اسرئيل السياسي قبل مجيء الرب. أما الملاك فأعلن بناء روحياً: إن يوحنا سيهيّئ طرق الربّ فيكرز بالتوبة والعودة إلى أمانة في عبادة الله. ورغم هذه التحوّلات، يبقى بلاغ الملاك واضحاً: إن الطفل الذي يولد من اليصابات، يتمّ الأقوال الإلهية، فيلعب دور إيليا ليعدّ الشعب لمجيء الله.
وهذا ما فهمه زكريا. فبعد ولادة يوحنا وختانته، هتف: "وأنت أيها الطفل نبيّ العليّ تدعى. لأنك تسير أمام الربّ لتهيّئ طرقه، لتعطي شعبه معرفة الخلاص بغفران خطاياهم" (لو 1 76- 77). لقد استعاد الكاهن كلمات ملا 3: 1 وأش 11: 3.
4- في حياة يسوع العلنيّة
وبعد ثلاثين سنة، ظهر يوحنا يكرز بمعموديّة التوبة. حين صوّر الإنجيليون عمله، شدّدوا على ما يقرّبه في شخصه ورسالته من إيليا. لبس يوحنا معطفاً من وبر الجمال. ذاك كان اللباس الذي يميّز الأنبياء حين يعلنون أقوالهم (مر 1: 6؛ مت 3: 4؛ زك 13: 4). شدّ يوحنا حقويه بحزام من جلد الحيوان. هذا هو التفصيل الذي ساعد الملك احزيا على التعرّف إلى إيليا النبي الرهيب: "كيف كان الرجل الذي اقترب منكم وقال لكم هذا الكلام"؟ ذاك كان كلام الذين أوفدهم. فجاءه الجواب: "رجل بحزام من جلد حول حقويه". حينئذ قال الملك: "هو إيليا التشبيّ" (2 مل 1: 7- 8؛ رج مر 1: 6؛ مت 3: 4).
كرز يوحنا في البرّية وعمّد. فقد أعلن أشعيا: "أعدّوا في البرية طريقاً للرب" (أش 40: 3؛ مر 1: 4). وأعلن اقتراب يوم الغضب العظيم وضرورة التوبة. فيوم الرب جاء، حيث تُلقى كل شجرة يابسة في النار، حيث يميّز القش من الحنطة ويحرق في النار، حيث "يعمّد" الناس في النار. وعى يوحنا أنه يهيّئ "يوم الرب العظيم الرهيب، كما أعلنه ملا. سيأتي الرب" كنار من يعمل في المعادن، فينقي أبناء لاوي ويطهّرهم كالذهب والفضّة (ملا 3: 2- 3؛ مت 3: 7- 11؛ لو 3: 7- 17).
أعلن يوحنا: "الذي يأتي بعدي هو أقوى منّي" (يو 1: 27؛ مت 3: 11). أذن، هو يسير أمام آخر، كما قال ملا 3: 1. وهذا الآخر يقوم مقام الله، هو مسيحه. وأخيراً، عمّد يوحنا يسوع في الماء. وقد رأى التقييد المسيحي القديم في هذا الطقس مسحة ملوكية نالها المسيح ساعة نزل الروح عليه وأقام.
وقال الإنجيل الرابع بعد هذا المشهد، إن المعمدان سمّى يسوع الناصري "حمل الله"، مختار الله... الذي يعمّد في الروح القدس (يو 1: 29، 34: في بردية من القرن الثالث نقرأ: مختار الله. النصّ العادي: ابن الله). إنه المسيح. وهكذا نجد التقليد اليهودي الذي يشير إليه يوستينوس، ابن نابلس في فلسطين (القرن الثاني): هو إيليا (أي يوحنا المعمدان) الذي يدهن المسيح بالزيت ويظهره للجموع. وهكذا يبدو أن المعمدان نفسه (شأنه شأن الإنجيليين) وعى أنه يلعب دور "السابق" كما تحدّثت عنه الأقوال النبوية. وعى أنه يسير في خطى إيليا.
5- كلام يسوع عن المعمدان
كانت ليسوع مناسبات عديدة، خلال حياًته العلنية، لكي يتكلّم عن يوحنا المعمدان. وقد فعل ما فعل في الإطار عينه: لقد لعب يوحنا الدور الذي نسبته النبوءات إلى إيليا (الذي عاد حياً). فبعد أن أرسل المعمدان وفداً إلى المسيح يسأله إن كان ذاك الذي ينتظره اليهود، شهد يسوع ليوحنا شهادة احتفالية: "ماذا جئتم إلى البرّية تنظرون؟ أقصبة تحرّكها الريح؟ أم ماذا جئتم تصنعون؟ أن تشاهدوا نبياً؟ أجل، أقول لكم، بل أعظم من نبي. هذا هو الذي كتب عنه: ها أنا أرسل ملاكي قدامك ليمهّد لك الطريق" (كما 11: 7- 10).
إذن، يوحنا هو في رأي المسيح المرسل السرّي الذي أعلنه النبي ملاخي بأنه يفتح الطريق أمام الربّ. ونرى ذلك مراراً في الأناجيل، حيث يضيف يسوع على نفسه أقوال العهد القديم التي تقال في الله. ثم يحدّد فكرته في نصّ يجعله الإنجيلي هنا وإن انتمى إلى تقليد آخر: "فجميع الأنبياء والناموس تنبأوا إلى يوحنا. وهو إن شئتم أن تفهموا، إيليا المزيع أن يأتي. من له أذنان فليسمع" (مت 11: 13- 15). بهذه الكلمات الأخيرة، نبّه يسوع سامعيه إلى أن الساعة خطيرة. إذا كان إيليا قد عاد في شخص يوحنا المعمدان، فهذا يعني أن مجيء ملكوت الله صار قريباً.
ولمّح يسوع أيضاً إلى يوحنا المعمدان كإيليا الجديد في مناسبة أخرى. بعد التجليّ، أوصى يسوع تلاميذه بأن لا يحدّثوا أحداً عن هذا المشهد قبل أن يقوم ابن الإنسان من بين الأموات. ثم طرح التلاميذ عليه هذا السؤال: "إذن، كيف يقول الكتبة إن إيليا سيأتي أولاً"؟
في مت 17: 9- 12، يبدو السؤال وكأنه لا يرتبط ارتباطاً خاصاً بكلمات يسوع التي تسبق هذا الكلام بشكل مباشر. تقوّى التلاميذ في إيمانهم بتجلي المسيح وبإعلان الله الاحتفالي من الغمامة، فتيقنوا الآن أن يسوع هو حقّاً المسيح الذي ينتظره إسرائيل. ولكنهم ما زالوا في حيرتهم: لماذا تعليم الكتبة هذا حول إيليا الذي يأتي أولاً؟ بما أن المسيح هو هنا (قد جاء)، فكيف لم نر بعد إيليا الذي يهيّئ له الطريق أولاً؟ أجاب يسوع على هذا السؤال معلناً: أجل، إن عودة إيليا ستعيد ترتيب الأمور (رج ملا 3: 23؛ سي 48: 10). ولكني أقول لكم: سبق وجاء إيليا. ولكنهم لم يعرفوه. بل عملوا به ما شاؤوا. "وكذلك ابن البشر، فإنه سيتألم أيضاً من قبلهم" (مت 17: 12). وزاد الإنجيلي: "ففهم التلاميذ عندئذ أنه كلّمهم عن يوحنا المعمدان" (آ 13).
لا شكّ في أن متَّى لمّح إلى آلام يوحنا، وهو بذلك أيضاً هيّا الطريق المؤلمة ليسوع. ولكنه أراد قبل كل شيء أن يقدّم جواباً للتلاميذ المتحيرّين: أجل، لقد جاء إيليا في شخص يوحنا المعمدان. غير أن اليهود لم يفهموا أن يوحنا كان "السابق"، أنه يفتح الطريق لمن هو أعظم منه. وبالتالي، لم يريدوا أن يعرفوا المسيح الذي سار يوحنا أمامه.
هذا في مت. أما في مر 9: 9- 13، فالنظرة مختلفة. لقد ارتبط سؤال التلاميذ ارتباطاً حميماً بالسياق الذي يسبقه. قال يسوع: لا تخبروا أحداً بما رأيتم "إلاّ متى قام ابن الإنسان من بين الأموات". لم يفهم التلاميذ هذا التلميح إلى موت المسيح. "حفظوا الوصيّة متسائلين في ما بينهم ما معنى: متى قام من بين الأموات"؟
حينئذ طرحوا عليه السؤال: "لماذا يقول الكتبة إن إيليا يأتي أولاً"؟ إذا كان إيليا يأتي قبل المسيح ليعيد ترتيب الأمور، ليعدّ الشعب لاستقباله، فلماذا يجب على المسيح أن يتألمّ؟ أما يهيّئ تعليمُ إيليا مجيئه؟ أجاب يسوع ملمّحاً لهم أنهم أساؤوا فهم معنى الكتب. واتخذ كلامه شكل سؤال. "إن إيليا يأتي أولاً ويصلح كل شيء. ولكن أما هو مكتوب أيضاً عن ابن الإنسان أنه يتألمّ كثيراً ويُرذل؟ ولكن أقول لكم إن إيليا قد جاء، وصنعوا به كل ما أرادوا، على حسب ما هو مكتوب عنه".
شدّد مر أكثر من مت على ضرورة الألم، قبل إقامة الملكوت، وذلك بالعودة إلى الكتب المقدّسة. فكما أن عبد يهوه المتألم صوّر مسبقاً آلام المسيح، هكذا صوّر إيليا الذي اضطهدته امرأة قاسية (ايزابيل) وملك ضعيف تسيطر عليه امرأته (أحاب) يوحنا المعمدان الذي اضطهدته هيرودية، وقتله هيرودس، وتجاهله رؤساء الشعب. أجل، عندما يعود إيليا في شخص يوحنا المعمدان، كان عليه أن يصلح الأمور ليهيّئ مجيء المسيح. وكان من المفروض أن يستقبل المسيح في شعبه الذي جاء يخلّصه. ولكن كلّ هذا مشروط: أن يتقبّل الشعبُ البلاغ الذي أرسل إليه. في الواقع، لم يشأ ذلك. لم يتعرّف إلى إيليا في شخص يوحنا المعمدان. لهذا لن يتعرّف إلى المسيح في شخص يسوع. لهذا كان يوحنا "سابقاً" متألّماً، كما كان يسوع المسيح المتألمّ بحسب الأسفار المقدّسة.
6- مشهد التجليّ
في مشهد التجليّ الذي أشرنا إليه في المقطع السابق، يظهر إيليا أيضاً مرّة أخرى، ولكن دون تلميح واضح إلى رسالة المعمدان. أخذ معه يسوع التلامذة الثلاثة المميّزين: بطرس، يعقوب، يوحنا. وأخذهم إلى جبل عالٍ لا يسمّيه الإنجيليون (طابور، حرمون، جبل الزيتون بالنسبة إلى لوقا. المهم، ليس جبل صهيون). وبدأ يسوع هناك الصلاة. وفجأة تجلىّ (تبدّل منظر وجهه) أمام تلاميذه: تبدّل شكله الخارجي، صارت ثيابه بيضاء كالثلج. شعّ المجد من كل شخصه. وفي الوقت عينه، ظهر بجانبه موسى وإيليا يحادثانه (مر 9: 2- 8؛ مت 17: 1- 8؛ لو 9: 28- 36). ما هو مدلول هذا المشهد؟ لماذا موسى وإيليا هما هنا في اشعاع مجد المسيح؟
إن ظهور المسيح (كرستوفانيا) في التجليّ يشبه ظهور الله (تيوفانيا) في سيناء، على موسى (خر 33- 34). في الحالتين، تمّ الظهور على قمّة جبل عالم. وتراءى مجد الله من خلال الغمام. وكان للمشهدين هدف واحد: كشف شخصية الله في سيناء، كشف شخصية المسيح للتلاميذ. في سيناء طلب موسى أن يرى الله، فأظهر الله مجده وأعلن اسمه: "يهوه، يهوه، الرحيم الأمين". في التجليّ، تراءى المسيح في المجد وأعلن الله له اسمه: "هذا هو ابني الحبيب، فله اسمعوا". إذن، نعم بطرس ويعقوب ويوحنا بما نعم به موسى في الماضي. "رأوا مجد المسيح" (لو 9: 32) وسمعوا وحياً عن اسمه: ابن الله.
ولكن يجب أن لا ننسى أن إيليا نال نعمة مماثلة (1 مل 19: 1- 18). اضطهدته إيزابيل فاضطرّ للهرب إلى البرية. وبعد مسيرة أربعين يوماً وأربعين ليلة، وصل إلى جبل الله، إلى حوريب (أي: سيناء)، إلى القمة التي أقام فيها موسى. وجاءت التيوفانيا مع إيليا على مثال التيوفانيا مع موسى. ففي العهد القديم، صعد موسى وإيليا وحدهما إلى قمة سيناء ليريا المجد الإلهي. وكما أن مشهد طابور يقابل تيوفانيات العهد القديم، كان من الطبيعي أن يكون موسى دمايليا مع المسيح في مشهد التجليّ.
فلحضورهما قيمة رمزية نستطيع أن نفسرّها كما يلي: كشف الله عن نفسه لموسى ليعقد معه ومع شعبه الميثاق (العهد) القديم. الميثاق الاحتفالي الذي عقده الله مع شعبه. والتيوفانيا التي نعم بها إيليا قد ارتبطت أيضاً بالميثاق القديم. لا بعقد الميثاق، بل بإعادة بنائه وتنقيته. إيليا هو المدافع الأكبر عن حقوق الله التي داسها كهنة البعل. وحين سأله الله عما جاء يفعل على قمة الجبل، أجاب: "غرت غيرة للرب القدير لأن بني إسرائيل تركوك، وهدموا مذابحك وقتلوا أنبياءك بالسيف. بقيت وحدي وهم يطلبون نفسي" (1 مل 19: 10). فكلّفه الله بأن يعلن العقاب للشعب الخائن للعهد: كلهم يموتون بالسيف ما عدا البقية التي لم تحن ركبها للبعل.
ارتبطت هاتان التيوفانيتان ارتباطاً مباشراً بالميثاق القديم. ظهر الله لموسى ليقطع العهد، ثم ظهر لإيليا ليعيد هذا العهد إلى نقاوته. موسى هو المشترع الأكبر الذي به عقد الميثاق. إيليا هو النبي الأكبر الذي به تنقّى الميثاق. موسى يمثل الشريعة وإيليا الإنبياء. وهكذا يظهران في ملا الذي يعلن عودة إيليا: "تذكّروا شريعة موسى عبدي... ها أنا أرسل إيليا النبي قبل أن يأتي يومي العظيم الرهيب" (ملا 3: 22- 24).
ولكن كرستوفانية طابور هي استباق للعهد الجديد، للميثاق الجديد. يبدو يسوع ممجّداً، وهذا هو أول شعاع على جسده من دخوله في المجد الذي يتحقق يوم القيامة والتمجيد عن يمين الآب. هناك يعلن المسيح "ابن الله". هذا إعلان لتتويجه كالملك المسيح تتميماً لكلمة مز 2: 7 (أنت ابني، أنا اليوم ولدتك) الذي طبّقه التقليد المسيحي القديم على سرّ قيامة المسيح وصعوده (أع 13: 33 روم 1: 4 عب 1: 1- 5). إذن، مشهد طابور هو استباق لدخول المسيح في المجد. والتحقيق النهائي للميثاق الجديد. وموسى وإيليا هما هنا لكي يكونا شاهدين للميثاق الجديد كما كانا شاهدين للميثاق القديم. حضورها يدلّ على أن ملكوت الله اقترب. هذا الملكوت قد رأى التلاميذ إشعاعه. إنه في امتداد الميثاق القديم الذي عقده الله في موسى، وأعاد بناءه في إيليا بانتظار كماله لا يسوع المسيح.
خاتمة
هذه صورة عن إيليا مع تشديد على مشهد التجليّ والحوار الذي تمّ بين يسوع وتلاميذه حول عودة إيليا التي هي في الحقيقة إشارة إلى يوحنا المعمدان الذي تألمّ فكانت آلامه إشارة مسبقة إلى آلام المسيح. كان بالإمكان أن يمتدّ تأملنا حتى رؤ 11: 1 ي والشهيدين اللذين يمثلاًن إيليا وموسى في شهادتهما الأخيرة عبر الكنيسة التي تصل لا الشهادة حتى الموت عبر أبنائها. ولكننا اكتفينا بهذا القدر بعد أن دللنا على ارتباط إيليا بيوحنا المعمدان من جهة (يأتي بروح إيليا وقدرته) وعلى ارتباطه بيسوع الذي يكون صعوده مثل صعود إيليا. غير أن صعود إيليا كان في الرمز والرجاء. أما صعود يسوع فكان حقيقة وواقعاً. وهو سيعود كما قال الملائكة للتلاميذ: "إن يسوع هذا الذي ارتفع عنكم إلى السماء، سيأتي هكذا، كما عاينتموه صاعداً إلى السماء" (أع 1: 11).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM