الفصل السادس: معنى حياة الإنسان

الفصل السادس
معنى حياة الإنسان
8: 34- 9: 1
"من أراد أن يخلّص نفسه يهلكها. ومن يهلك نفسه يخلّصها". هذه المفارقة المزدوجة التي تبدو بشكل موازاة متعارضة، نجدها في أشكال مختلفة في ستة مقاطع من الأناجيل. هناك موازاة مثلّثة بعد اعتراف بطرس: مت 16: 25؛ مر 8: 35؛ لو 9: 24. ثم نجدها في خطبة الرسالة (مت 10: 39) وفي لوحة يوم ابن الإنسان (لو 17: 33) وفي إعلان يسوع لموته بعد موكب الشعانين (يو 12: 25). كل هذه الأشكال تعود إلى كلمة واحدة تلفّظ بها المعلّم فكان لها كل هذا الصدى في الجماعات المسيحية.
1- الألفاظ المهمة في التعارض
تتأسّس النقيضة الأساسية كلها على التعارض بين ثلاث ألفاظ: الحياة (النفس)، خسر، خلّص. وهي ألفاظ سوف نجدها في مختلف الأشكال.
أ- الحياة (النفس)
ترد هذه اللفظة 11 مرة في العبارات الست. مرتين في كل عبارة. ومرة واحدة في لو 17: 33. الحياة هي النفس. نسمة الحياة، مبدأ الحياة والشعور والفهم. النفس هي الشخص البشري. وهي تعارض الجسد حسب الثنائية اليونانية. إن السبعينية ترجمت "نفش" العبرية إلى "بسيخي" اليونانية (600 مرة من 755). غير أن اللفظتين العبرية واليونانية لا تتوافقان كل الموافقة. تعني "نفش": الحلق، نسمة الحياة، الكائن الحي، الإنسان. الحياة كوجود ملموس. وهي لا تعارض الجسد أبداً (كما في اليونانية).
تكلّم يسوع في لغة ساميّة. وحين استعمل "بسيخي" يجب أن نفهم "نفش". وحده مت 10: 28 قابل النفس مع الجسد (سوما). هو لا يتحدّث عن النفس الخالدة، لأنه متأكد أنها لن تمتلك كل حقيقتها إلاّ في القيامة.
ب- خسر نفسه (حياًته)
في التعابير الستة ترتبط "بسيخي" 11 مرة يفعل "خسر" (ابولوناي)، ترتبط نشقّي العبارة في 5 مرّات، ما عدا في يو 12: 25 حيث يتكلّم عن "أبغض حياًته".
في العهد القديم، "خسر حياًته" يعني "مات". رج لا 7: 20، 21، 25، 27؛ 32: 30. ويعطي يسوع اللفظة ذات المعنى: موت الجسد. حين يجادل خصومه حول الأشفية التي يصنعها يوم السبت يقول: "أيحلّ يوم السبت أن نعمل الخير أم الشّر؟ أن نخلّص نفساً أم نهلكها" (لو 6: 9)؟ يقول مر 3: 4 (نص موازٍ): نخلّص نفساً أم نقتلها. غير أن يسوع يتطلّع إلى "هلاك، اسكاتولوجي. فحين يدعو تلاميذه إلى أن يشهدوا له دون أن يخافوا المضطهدين، يقول لهم: "لا تخافوا الذي يقتلون الجسد ولا يستطيعون أن يقتلوا النفس (الإنسان). بل خافوا من يستطيع أن يهلك النفس والجسد في جهنم" (مت 10: 28). قد يُظنّ أن متى يعارض بين النفس والجسد. على الطريقة. اليونانية.. ولكننا لا نجد مثل هذا التعارض أبداً في الأناجيل. وفي نظر يسوع لا حياة. حقيقية إلاّ في الخلاص الاسكاتولوجي (مر 9: 43، 45، 47؛ مت 18: 8- 9؛ 25: 46). "النفس" التي نخسرها في جهنّم هي الإنسان كله. ونجد ذات الخسارة التامة في القول المعروف: "ماذا يفيد الإنسان إن ربح العالم كله وخسر نفسه" (حياًته، وجوده) (مت 16: 26؛ مر 8: 36؛ قال لو 9: 25: إذا هلك أو عرّض نفسه للخطر)؟ وهكذا، حين يتحدّث يسوع عن "حْسر نفسه أو حياًته" فهو يتطلّع إمّا إلى الحياة الأبدية وإما إلى وجودنا بعد حياًتنا على الأرض. والمعنى هو هو في الحالين.
ج- خلّص نفسه
ترد هذه اللفظة (سوزاين) خمس مرات في عباراتنا: مر 8: 25 ولو 9: 24: في شقي العبارة. مت 6: 25: في الشقّ الأوّل. وقد جعل متى مكان العبارة "وجد حياًته" (نفسه)، مرتين في 10: 39 ومرة واحدة في الشق الثاني من 16: 25. وقدّم لو 17: 33 ويو 12: 25 ألفاظاً مماثلة.
يربط العهد القديم "نفش" بفعل خلّص (ملط، فدى، يشع) ليدلّ على حياة الجسد التي تنتزع من الموت. الإنسان هو في خطر: خلّص نفسك، حياًتك (تك 9: 17؛ 1 صم 19: 11؛ إر 48: 6). لا النداء إلى النجدة: خلّص نفسي، حياًتي (أي 33: 28). في صرخة الأمل: يخلّص حياة المساكين (مز 72: 13؛ 109: 31). في فعل الشكر: خلصتَ حياًتي (مز 31: 8؛ أش 38: 17؛ تك 32: 30). في التهديد: لن يخلّص حياًته (عا 2: 14- 15).
لا ترد هذه العبارة مراراً في أقوال يسوع. نتذكّر كلامه خلال شفاء السبت (مر 3: 4؛ لو 6: 9). ونجد ما يقابلها في التحريض للثبات في الإضطهاد. يقول لو 21: 19: "بثباتكم تقتنون نفوسكم" (حياًتكم). أما مت 24: 13 ومر 13: 13 فقالا: "من يثبت إلى المنتهى فذاك يخلص".
ولكن نلاحظ أن فعل "خلّص" في فم يسوع وفي العالم اليهودي الذي عاصره، يحمل رنّة اسكاتولوجية تتجاوز الخلاص الزمني. فيسوع يرى في هذا الخلاص علامة عن مجيء الملكوت (مت 11: 5؛ لو 7: 22؛ مت 12: 28؛ لو 11: 20).
2- قول يسوع بعد اعتراف بطرس
إنّ قول يسوع في الأناجيل الإزائية (مت 16: 25؛ مر 8: 35؛ لو 9: 24) يتخذ توجهه الخاص من قرائنه. أثار يسوع اعتراف بطرس أمام مجموعة التلاميذ. ثم فرض عليهم الصمت حول مسيحانيته. وأنبأهم للمرة الأولى بآلامه القريبة. وبعد هذا الوحي المأساوي، جمع الإزائيون الثلاثة عدة أقوال تمثل النتيجة الملموسة لهذا التعليم، لمن يريد أن يتبع يسوع. الأول يفرض عليهم أن ينكروا ذواتهم ويحملوا صليبهم. أي أن يكونوا أمناء له حتى الموت الهالك الذي يعرفه المحكوم عليه بالموت (مر 8: 24 وز). والقول الثاني يعلن: "من خسر حياًته خلّصها". وقد جاء القول الثالث يفسرّه كما يلي: لا شيء يفيد إن ربحنا العالم، إذا قادنا هذا الربح إلى تعريض حياًتنا للخطر (مر 8: 36- 37 وز). والقول الرابع الذي فيه يختلف متى عن مرقس ولوقا، فهو يعلن الدينونة الاسكاتولوجية التي يتمها ابن الإنسان بالنسبة إلى أمانة تلاميذه (مر 8: 38 وز). والقول الأخير يرد في أشكال مختلفة فيوجّه أنظارنا نحو المجيء القريب للملكوت (مر 9: 1 وز). يا هذا السياق، يبدو من الواضح أن القول عن الربح والخسارة يتوجّه إلى التلاميذ، يدعوهم إلى اتباع المعلّم ولو خسروا حياتهم، يعدهم بالخلاص يا المجيء الاسكاتولوجي.
أ- مرقس
وقدّم كل إنجيلي نسخته. عبّر عنها مر 8: 35 كما يلي: "فمن أراد أن يخلّص نفسه يخسرها (يهلكها). ومن خسر نفسه (حياًته) من أجلي ومن أجل الإنجيل يخلّصها".
توجّه هذا القول إلى الجموع كما إلى التلاميذ (آ 34). ودلّ هكذا أن كلامه لا يعني فقط حلقة صغيرة من تابعي يسوع على طرق فلسطين، بل جميع الذين يتجنّدون له ويتبعونه. عليهم أن يكونوا مستعدّين لأن يفقدوا حياتهم، أن يحملوا صليبهم. وهذه التضحية تفرض نفسها "من أجلي ومن أجل الإنجيل". لا نجد هذه اللفظة الأخيرة إلاّ عند مرقس (بين العبارات الست). الإنجيل هو عمل الكرازة الرسولية. فمن خسر حياًته من أجل الإنجيل دخل في مشروع يسوع، حمل تعليمه وقاسمه صليبه. غير أن المرسل الذي يفقد حياًته من أجل يسوع ومن أجل الإنجيل، يتأكد بأنه يخلّصها.
يدلّ السياق على أنّ هذا الخلاص يتمّ في مجيء ابن الإنسان في المجد (آ 38). أما من أراد أن يخلّص نفسه، فهو من يستحي بيسوع وبتعليمه في هذا الجيل الفاسق الأثيم (آ 38). فهو من يخاف الموت فيرفض شهادة الدم ليسوع. وهذه الجبانة (وهذا التراخي) تقوده إلى خسران حياًته. نلاحظ أن مرقس لا يميّز بين الحياة الحاضرة والحياة الآتية. فالحياة التي نخسرها أو نخلّصها هي "النفس" (بسيخي). هي الوجود الملموس للتلميذ. كل حياًته المجنّدة في العمل الرسولي مع ما في هذا العمل من خطر. فالذي يدخل في عمل يسوع يخسر إذا تراخى. ويخلص إذا كان أميناً.
ب- لوقا
نقرأ في 9: 24: "فمن أراد أن يخلّص حياًته يفقدها. والذي يفقد حياًته لأجلي فهذا يخلّصها".
وجّه لوقا هذا القول إلى "الجميع" (آ 23). وهذا ما يدلّ على بُعده الشامل الذي لا يظهر في مر. فمن أراد أن يتبع يسوع، دُعي لأن يخسر حياًته "لأجله" (كما في مر ما عدا "لأجل الإنجيل"). وتفسر آ 26: يجب أن لا يستحي بيسوع ولا بأقواله. لسنا أمام موضوع الكرازة بالإنجيل، بل أمام الأمانة ليسوع حتى الموت. وهكذا يتجاوز لوقا المرسلين، فيطبّق هذا القول على جميع تلاميذ المسيح.
ج- متى
كان مت 16: 25 شبيهاً بما في لو 9: 24، ما عدا في الألفاظ الأخيرة. "فمن أراد أن يخلّص نفسه يفقدها. أما من يفقد نفسه من أجلي فهو يجدها".
حُفظ القول للتلاميذ وحدهم (آ 24). وهكذا اختلف مت عن مر ولو. وهذا ما يوافق الوضع الذي صوّره الإزائيون الثلاثة، كما يوافق مضمون القول. غير أن متى وجّهه أيضاً إلى جميع التلاميذ في المستقبل. فعبارة "وجد حياًته" تجد ما يقابلها في العهد القديم (أم 21: 21؛ رج 8: 35. غير أننا نجد "حييم" أي الحياة، لا "نفش"). وهي تبدو بشكل تعارض مع "خسر حياًته". غير أنها تضعف التوازي بين "ربح وخسر".
إذا كان متّى قد استعمل هذه الإختلافة، فلأنه يستعمل وحده فعل "وجد" ليدلي على اكتشاف الطريق الذي يقود إلى الحياة (7: 14)، والسلام للنفوس (11: 29)، وملكوت السماوات (13: 44، 46). وإن قال هنا "وجد حياًته" فهو يدلّ على اكتشاف الموهبة العجيبة، موهبة الحياة الحقيقية التي تقابل حياة الأرض. حياة الأرض هذه لا نحاول أن نخلّصها مهما كان الثمن، بل نخسرها من أجل يسوع.
وهكذا اتفق الإزائيون الثلاثة فرأوا في قول يسوع نتيجة لسرّ موت المعلم بالنظر إلى التلاميذ. فهموه في وضع اضطهاد عرفته الكنيسة بعد موت اسطفانس. في هذا الوضع، من أراد أن يخلّص نفسه يفقدها. ومن يقبل أن يفقدها يخلّصها. لا نجد عند مرقس ولوقا تمييزاً بين الحياة الأرضية والحياة الاسكاتولوجية (في كلا الحالين، نحن أمام حياة النفس). أما متى فينظر إلى الخلاص علماً أنه اكتشاف اسكاتولوجي للحياة الحقيقية. بالإضافة إلى ذلك، يطبّق مرقس هذا القول على الواعظين بالإنجيل. ويطبّقه متى ولوقا على كل تلاميذ المسيح.
3- القول الإنجيلي في مناسبات أخرى
أ- إعلان الاضطهاد للإثني عشر (مت 10: 39)
في إضمامة الأمثال التي جمعها متى ليجعل منها خطبة يسوع للإثني عشر قبل إرسالهم مت 10: 5- 42)، يحدّد القسم الأكبر تصّرف الرسل تجاه الاضطهاد (آ 16- 39). وينتهي هذا القسم بالقول الذي ندرس (آ 39) والذي تسبقه حالاً (كما في سياق اعتراف بطرس) الدعوة إلى أن نحمل الصليب ونتبع يسوع (آ 38؛ رج مر 8: 34- 35). هذا يدلّ على أنّ القولين كانا معاً في مرحلة قديمة من التقليد، وأن متى استقاهما من ينبوعين مختلفين.
إن التعبير عن كلمة يسوع هنا (مت 10: 39) هو قريب ممّا في 16: 25: "من وجد نفسه أضاعها. ومن أضاع نفسه من أجلي وجدها".
نلاحظ اختلافين بين نصيّ مرقس. حلّ فعل "وجد" محلّ فعل "خلّص" (ورد فعل "وجد" في الشق الثاني من مت 16: 25). وجاء التعبير في صيغة اسم الفاعل (واجد نفسه) فدلّ على الأصل الساميّ لهذا القول.
فكرة متى واضحة في هذا القول الذي يظهر في السياق. نحن (كما في مر 8: 35) أمام الرسالة. وهنا، رسالة الإثني عشر. فحين يحمل الرسل أمام العالم تعليم ملكوت السماوات (آ 7)، يعرفون أنهم يواجهون الاضطهاد. فعليهم أن يكونوا جاهزين لكي يخسروا حياتهم، لكي يتخلّوا عن طلب حياتهم. حينئذ يجدونها عطية عجيبة يمنحها الآب لهم بناء على شهادة ابنه (آ 32). الوعد هنا هو كما في 16: 25: "وجدها".
ب- إعلان يوم ابن الإنسان (لو 17: 33)
تفرّد لوقا فقدّم خلال صعود يسوع إلى أورشليم، لوحة عن المجيء الاسكاتولوجي لابن الإنسان (7: 22- 37). ونحن نجد معظم عناصر هذا المقطع لا خطبة متى الاسكاتولوجية (24: 17- 18، 26- 27، 28، 37، 39، 40- 41). في هذا الإطار الاسكاتولوجي، يقدّم لوقا هذا القول (آ 33) مرة ثانية، لأنه وجده في مرجع غير مر 8: 35 الذي منه أخذ 9: 24. أما تدوين هذا القول فلا يختلف عن 9: 24: "من طلب أن يخلّص نفسه يهلكها. ومن أهلك نفسه يجدها (أو: يحفظها)".
غابت عن هذه العبارة لفظة "لأجلي" في الشقّ الثاني. كما غاب فعل "خلّص"، وحلّ محلّه: وجد، حفظ. إن فعل "باريبوياين" الذي يعني حفظ نجده مراراً في السبعينية (يش 6: 17؛ مز 79: 11؛ حز 13: 18- 19؛ 2 مك 3: 35) وهو يترجم فعل "حمل" ويدلّ على البقاء على قيد الحياة. هذه اللفظة تقابل "خلّص" ولكنها أكثر يونانية. والفعل الثاني "زووغوناين" (حفظ) يرد يا السبعينية (خر 1: 17- 18، قض 8: 19؛ 1 صم 27: 9- 11؛ 1 مل 20: 21؛ 2 مل 7: 4) وهو يترجم أيضاً فعل "حمى"، شأنه شأن الفعل الأول.
وهكذا يفكّر لوقا في الحياة الجديدة للعالم الآتي. وأمام النظرة إلى مجيء ابن الإنسان، يجب على كل تلميذ أن يتخلىّ عن طلب المحافظة على حياًته الزمنية. عليه أن يخسرها لكي يلد لحياة جديدة تتميّز عن الأولى.
ج- إعلان تمجيد يسوع (يو 12: 25)
جعل يوحنا بعد دخول يسوع المسيحاني إلى أورشليم (12: 12- 19) وطلب اليونان بأن يروا يسوع (12: 20- 22)، إعلاناً ليسوع حول سرّه الفصحي الذي سوف يتمّ (12: 23- 26). يبدأ هذا الإعلان بتأكيد يقول إن ابن الإنسان سوف يتمجّد (آ 23). نجد هذا التأكيد في 13: 31- 32، كما نجد صدى له ثا 17: 1، 5. إنه يعبّر عن طابع الوحدة بين آلام الابن ومجده في يو. بعد هذا، يأتي مثَل حبة الحنطة التي يجب أن تموت لكي تحمل ثمراً (آ 24). هذا ما يدلّ دلالة واضحة على موت يسوع.
حينئذ يبرز الشكل اليوحناوي للقول الذي ندرس (آ 25). وفي النهاية يدعونا يسوع لاتباعه (آ 26).
إن قول يسوع في آ 25 يبدو مرتبطاً بما في مر 8: 35 وز، مع نداء إلى خسران الحياة. "من أحب نفسه خسرها. ومن أبغض نفسه في هذا العالم حفظها لحياة أبدية".
لا يتحدّث الشقّ الأوّل عن خسران النفس أو طلب النفسي كما في الأناجيل الإزائية، بل عن الحب (في صيغة اسم الفاعل كما في مت 10: 39: فيلون أي محبّ). ويختلف الشقّ الثاني أيضاً عن العبارات السابقة. حلّ محلّ "خسر" و"خلّص"، "أبغض"، "حفظ". وبدت معارضة جديدة بين هذا العالم والحياة الأبدية.
إن اسمي الفاعل (محب، مبغض) يشكّلان نقيضة واضحة وملموسة، نجد مثلها في التوراة وفي لغة يسوع (مت 6: 24؛ لو 16: 13؛ مت 10: 37؛ لو 14: 26). ثم إن عبارتي "هذا العالم" و"الحياة الأبدية" تميّزان الإنجيل الرابع (ترد الأولى 11 مرة في يو وتغيب من الإزائيين. وترد الثانية 17 مرة عند يو، 3 في مت، 2 في مر، 3 في لو)، ولا توجدان في العبارات الخمس السابقة التي تورد قول يسوع. هذا يعني أن يوحنا قد وضعهما.
أما فعل "حفظ" الذي يقابل "خلّص" في مر 8: 35 ولو 9: 24، فهو يماهي عن طريق المفارقة بين حياة يجب أن نبغضها وحياة نحفظها في حياة أبدية. لا شك في أن التماهي بين حياة نخسرها وحياة نخلّصها، يبدو موضوعاً أساسياً للقول في جذوره. غير أن "حفظ الحياة في الحياة الأبدية" يجد باعثاً له عند يوحنا في تفكيره حول الحياة الأبدية التي بدأت منذ الآن للذي يؤمن (يو 3: 15- 16، 36؛ 5: 24؛ 6: 40، 47، 54؛ 17: 3). هذا يعني أننا ننسب هذا الفعل إلى التدوين اليوحنّاوي.
أي معنى يعطي يوحنا لقول يسوع؟ حين جعله بعد قولين يشيران إلى موت يسوع وخصبه (آ 23- 24)، طبّقه على هذا الموت: إن يسوع خاطر بحياًته (يو 10: 11، 15، 17؛ رج 15: 13)، خسرها "في هذا العالم". وهو ينبوع الحياة الأبدية إلى الأبد. ولكن الآية التالية (آ 26) تدعو من يخدم يسوع أن يتبعه، وبالتالي أن يبغض مثله حياًته في هذا العالم لئلا يخسرها. وهكذا يطبّق يوحنا هذا القول على التلاميذ على مثال الإزائيين. بدت أصالة يوحنا واضحة حين طبّق القول أولاً على يسوع وعلى موته. ثم حين تحدّث عن "أحب وأبغض" لا "خلّص وخسر". حين شدّد على الموقف الشخصي لا على أعمال تدلّ على هذا الموقف. وأخيراً، قابل بين هذا العالم حيث يجب أن نخسر الحياة وبين الحياة الأبدية التي بدأت منذ الآن والتي لا نستطيع أن نحافظ عليها إن لم نبغض ذواتنا.
خاتمة
حين تلفّظ يسوع بهذا القول، هل أراد أن يقدّم لتلاميذه شريعة لحياتهم، كما فهم الإزائيون؟ أو هل فكّر في مصيره الشخصي والآلام الآتية، كما يقول يوحنا؟ إذا نظرنا إلى مجمل أقواله التيه يتوخّى فيها أن يقود تلاميذه، "لا أن يتحدّث عن نفسه، يكون الجواب الأوّل هو المعقول. غير أن شريعة الحياة هذه صارت معروفة ومعاشة في خبرته البشرية. فهو لا يعبّر أبداً عن متطلّبة لأخصّائه إلا إذا كان قد قبلها بنفسه. إذن، هو يقدّم في قوله قاعدة حياًته.
قبلَ يسوع أن يخسر حياًته المائتة من أجل الملكوت، لأنه متأكّد في ثقته التامة بالآب، أنه يحقّق في ذبيحته ملء حياًته كابن. لهذا استطاع أن يقدّم لأحبّائه هذه المتطلّبة الهائلة. فهم مدعوون مثله لأن يمرّوا في التضحية ليكمّلوا ذواتهم ويصلوا إلى الحياة الحقيقية

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM