الفصل الخامس: يسوع ابن الإنسان

الفصل الخامس
يسوع ابن الإنسان
8: 27- 33
من هو يسوع؟ سؤال طرحه المعلّم على تلاميذه. من أنا في نظركم أنتم؟ قال له بطرس أنت المسيح. ومن هو هذا المسيح، وما هي علاقته بابن الإنسان؟
إن خبر 8: 27- 30 قد هيّأه 6: 14- 18 (يسوع هو إيليا، نبي كالأنبياء الأقدمين، يوحنا). وهو يبيّن أن التلاميذ الذين تحدّث باسمهم بطرس، سيذهبون أبعد مما ذهب إليه الناس. فقد رأوا نشاط يسوع. لهذا فهو لا يأتي ليهيّئ الدرب لغيره مثل يوحنا (الذي رمز إليه إيليا). إنه المخلّص النهائي. أجل، يسوع هو المسيح الذي أعلنه الأنبياء بمن فيهم يوحنا المعمدان. ذاك هو إيمان الكنيسة الأولى (1: 1).
وما قاله يسوع في 8: 31- 33 هو تعليم يسوع حول الطريقة التي بها يتمّ رسالته: إنها تمرّ في الألم والموت. نحن هنا في حقبة ثانية من إنجيل مرقس. في الأولى كانت الأمثال والمعجزات. وفي الثانية، وحي يسوع المحفوظ لتلاميذه. نقرأ هنا ما يُسمّى الإنباء الأول بالآلام. وسيأتي الإنباء الثاني (9: 30- 32) الذي لم يفهمه أيضاً تلاميذه. والإنباء الثالث (10: 32- 34) يكون مفصّلاً وقد كتب على ضوء حدث آلام يسوع وموته: "يحكمون عليه بالموت، يدفعونه إلى الأمم، فيهزأون به، ويبصقون عليه، ويجلدونه، ويقتلونه، ثم يقوم بعد ثلاثة أيام".
1- في قلب الإنجيل
مع اعتراف بطرس على الطريق الموصلة إلى نواحي قيصريّة فيلبّس، ندرك ذروة من ذروات إنجيل مرقس. وقبل أن نتابع مسيرتنا على خطى يسوع، نودّ أن نستعيد المراحل السابقة ونكتشف بُعد الوحي فيها. وهذه الوقفة ليست اعتباطية. فالإنجيلي نفسه يدعونا إليها. وهذا ما نفهمه إذا تعرّفنا إلى الطريقة الشخصيّة التي بها دوّن الإنجيلي القسم المركزي من إنجيله (8: 27- 9: 13).
كنا قد شدّدنا على الرباط الذي تؤمّنه مختلف "الإجمالات" حول يسوع، في بداية المراحل الثلاث الأولى (1: 14- 15؛ 3: 7- 12؛ 6: 6- 7). وإذ ربطت هذه المعالم التدوينية بين مرحلة ومرحلة، ركّزت في كل مرّة الانتباه على شخص يسوع، فذكّرت بأعماله السابقة وهيّأت الدرب للمقبلة. كنا دوماً في طريق متدرّجة عاشها التلاميذ: دعوة الرفاق الأربعة الأولين (1: 16- 20). تعيين الإثني عشر (3: 13- 19). إرسال الإثني عشر (6: 8-13).
أما الإجمالة التي بها تبدأ المرحلة الرابعة، فتتخذ لوناً خاصً: فإنباء يسوع بموته القريب يمثّل منعطفاً في حياًته كما في حياة التلاميذ، بل في حياة كل إنسان يسير على خطاه. فبطرس عرف باسم رفاقه أن المعلّم هو المسيح. وهكذا وصلنا إلى غاية القسم الأول من وحي يسوع بحسب مرقس. فقد قال في 1: 1: "بداية إنجيل يسوع (الذي هو) المسيح".
والآن ها هو يتحدّث عن "ابن الإنسان" وهو لقب لم يعطه لنفسه إلا مرتين في ما سبق: دلّ على سلطته على الخطايا (2: 10) وعلى سيادته على السبت (2: 28). إن يسوع يرسم برنامج الألم والموت (8: 31؛ رج 9: 12) ويعرض على التلاميذ صليباً يجهلونه (8: 34). وهذه النظرة سيتحدّد موقعها في حقيقة مخطّط الله، لأن صوت الآب يستعيد المبادرة، كما في العماد (1: 11) فيدلّ على "ابنه الحبيب" (9: 7). إنه "ابن الإنسان" لأنه "ابن الله" (15: 39). هذان هما اللقبان اللذان يشرفان على القسم الثاني من الإنجيل مع ما في الآية الأولى من الإنجيل: "بداية إنجيل يسوع (الذي هو) المسيح. (الذي هو) ابن الله" (1: 1).
إذن، يرتسم اتجاه حاسم في مسيرة الإنجيل، فيحدّد قطباً يتمّ حوله انقلاب كبير. على المستوى الأدبي، دلّ مر على هذا الإنقلاب حين دوّن بعناية خاصة الوصلة بين اللوحتين الكبيرتين (1: 1- 8: 27؛ 8: 28- 16: 20) اللتين تؤلّفان إنجيله. لقد رتب الإجمالة العادية بشكل "نقطة مركزية" نكتشف فيها مصير يسوع ومصير الإنسان وقد ارتبطا برباط لا يفكّ. واستعمل مر المتتالية التقليدية التي استعادها مت 16: 13- 17: 13 وأوجزها لو 9: 18- 36.
هذه "النقطة" تبدو كما يلي: إعلان بطرس لإيمانه (8: 27- 30). الإنباء الأول بالآلام (8: 31- 33). الشروط لإتباع يسوع (8: 34- 9: 1). التجليّ (9: 2- 8). السؤال حول إيليا (9: 9- 13).
لقد أبرز مرقس النقطة المركزية في قلب إنجيله. فجاءت مرتبطة بالمرحلة الثالثة والمرحلة الرابعة. فيها نكتشف شخص المسيح ونكتشف وجه الكنيسة. وفيها نكتشف بشكل خاص مدلول "السرّ المسيحاني" الذي طلب يسوع من تلاميذه المحافظة عليه في البداية (8: 30) وفي النهاية (9: 9).
2- كيف يبدو النصّ (8: 27- 33)
هناك ثلاثة مقاطع. سؤال يسوع حول نظرة الناسك إليه (8: 27- 28). إعلان بطرس وفرض الصمت من قبل يسوع (8: 29- 30). تعليم يسوع الذي يردّ عليه بطرس بعنف.
أ- من هو يسوع (آ 27- 28)
إن نشاط يسوع يطرح سؤالاً على الناس. فأجابوا بحسب آمالهم وتصوّراتهم الشخصية. بعضهم فعل كما فعل هيرودس (6: 14- 16) فظنّ أن هذا الإنسان هو يوحنا المعمدان الذي قد عاد إلى الحياة. ورأى آخرون فيه "إيليا" أو أحد الأنبياء. إذن اكتشفوا فيه شخصاً قديراً في القول والعمل، وربطوه بانتظارهم المسيحاني. غير أنهم نظروا إلى المستقبل على مثال ما في الماضي، دون أن يستطيعوا الإنفتاح على الجديد في وحي يسوع.
أجل، من هو يسوع؟ أين صار التلاميذ بعد هذه المسيرة الجغرافية بل الروحية الطويلة؟ إن يسوع يسير معهم نحو قرى دكابوليس (المدن العشر) التي تحيط بقيصرية فيلبّس. وقعت هذه المدينة قرب ينابيع الأردن قرب مغارة الإله "بان". لهذا سمّيت اليوم بانياس. كانت مدينة جديدة، وقد بُنيت سنة 3 ق. م. إكراماً للإمبراطور أوغسطس. بناها هيرودس فيلبّس الثاني، شقيق انتيباس، وتترارخس (رئيس الربع) إيطورية وتراخونيتيدس. تزوّج سالومة الراقصة التي ستتدخّل في خبر مقتل يوحنا المعمدان.
ماذا ذهب يعمل يسوع في هذه المنطقة التي يسيطر عليها نفوذ هيرودس؟ سأل تلاميذه، كما سبق له وسأل أعمى بيت صيدا (8: 23، 27). سألهم على دفعتين. سألهم أولاً: "ماذا يقول الناس عني؟ من أنا" (آ 27)؟ حين دعاهم ليكونوا صدى الآراء المعلنة بشأنه، ذكّرهم "بخمير هيرودس والفريسيين" الذي يجب أن يحتفظوا منه (8: 15). وفي الواقع، إستعاد جوابهم الآراء التي عُرضت أمام هيرودس (6: 14- 16): بالنسبة إلى هيرودس، يسوع كان يوحنا المعمدان الذي قام من بين الأموات (يتضمّن الكلام إشارة إلى قيامة يسوع. هو الذي يقوم، لا يوحنا المعمدان). في نظر البلاط، هو إيليا، نبيّ الأزمنة الأخيرة. وبالنسبة إلى فئة ثالثة، هو أحد الأنبياء الذي تسلّم المشعل النبويّ بعد سنوات عديدة من الصمت.
ولكن، هل ينفصل التلاميذ عن الجمع، أم يقولون ما يقوله الجمع؟ هل فتحوا عيونهم ليروا وآذانهم ليسمعوا، أم ظلّت قلوبهم مغلقة خلال كل هذه المدة التي قضاها يسوع معهم؟
ب- أنت هو المسيح (آ 29- 30)
لا يكفي أن نورد آراء الآخرين. فيسوع يطلب من كل واحد أن يحدّد موقعه بالنسبة إليه. وقف بطرس باسم التلاميذ. اكتشف في يسوع تتمة انتظار إسرائيل، دون أن يقابله بشخص من الأشخاص. فيسوع في نظر بطرس، ليس السابق. وليس المنادي بالعهد المسيحاني. إنه من يحقّق هذا العهد.
ولكن ما هي فكرة بطرس عن المسيح؟ شافي المرضى؟ طارد الشياطين؟ المعلّم الذي لم يتكلّم مثله إنسان؟ الظافر على الأعداء ليملك في شعبه؟ من رآه حتى الآن يسير في خطّ هذه التسميات الأربع.
قال له: "أنت المسيح". فعل إيمان واضح وشخصي. لقد تجاوز التلاميذ قساوة القلب التي كانوا يتألمّون منها. وها هم يعلنون إيمانهم بفم بطرس. ومع ذلك "زجرهم" يسوع، كما فعل مع الأرواح النجسة (1: 25؛ 3: 12). كما فعل مع البحر الهائج (4: 39). ومنعهم من أن يكشفوا هويته لأي كان.
لماذا لا يتكلّمون إن كانوا اكتشفوا حقاً من هو؟ هل يُشعل السراج ليوضع تحت المكيال أم على المنارة؟ أما يجب أن يظهر كل خفي ويعلن كل مكتوم (4: 21- 22)؟ لا شك في ذلك. ولكن فعل إيمانهم، مهما كان صادقاً وصريحاً، ليس بكامل: لا يكفي أدن نقول بعض الحقيقة عن يسوع لكي نتكلّم عنه. لقد اكتشف التلاميذ أن يسوع هو المسيح. يجب أن يكتشفوا أيضاً أنه ابن الإنسان وابن الله. لقد اكتشفوا أنه المسيح الممجّد. ولكن يبقى أن يكتشفوا أنه عبد الله المتألم الذي يصل إلى المجد عبر الآلام والموت.
أجل، جاء سؤال يسوع مطروحاً بطريقة شخصيّة. وأنتم ماذا تقولون؟ من أنا (8: 29). هنا تصّرف بطرس كشخص مسؤول ولم يتهرّب. دعاه يسوع. وسمّاه بطرس أي الصخر. هو الأول في كل لوائح التلاميذ. إذن، هو سيتكلّم. كان نشيطاً في المرحلة الأولى: أبصره يسوع مع. أخيه اندراوس على شاطئ بحر الجليل ودعاه مع أخيه فتبعاه (1: 16- 18).. زاره يسوع وشفى له حماته "بناء على طلبه" (أخبروه بأمرها) (1: 29- 30). تكلّم باسم التلاميذ وجموع المنطقة: "الجميع يطلبونك" (1: 37). في المرحلة الثانية، اختير بين الإثني عشر (3: 16) ومع يعقوب ويوحنا ليشهد قيامة ابنة يائيرس (5: 37). في المرحلة الثالثة ظلّ صامتاً صمت المفكّر والمتأمّل. وفي النهاية، أجاب باسم التلاميذ جواباً شخصياً: "أنت هو المسيح" (آ 29).
وفي النهاية، كُشفت هوية يسوع. فقد طُرحت في السابق أسئلة عديدة في صدده. بعد شفاء مجنون كفرناحوم، ذُهل الناس وقالوا: "ما هذا" (آ 27)؟ لم يصلوا بعد إلى الشخص، بل توقّفوا عند العمل المدهش، عند هذا التعليم الذي يفعل في الناس حتى على مستوى الجسد. وبعد شفاء المخلّع وغفران خطاياه دُهش الناس ومجّدوا الله قائلين: "ما رأينا قطّ مثل هذا" (2: 12)، إنه لشخص فريد.
غير أن أهله وذوي قرابته، ظلّوا على مستوى اللحم والدم، فلم يروا فيه أكثر من ابن العائلة والقبيلة. يقوم بهذه الأعمال! إذن، فقد رشده. رجل متهوّس (3: 21). وحاولوا إعادته إلى "الحظيرة". فهم لا يريدون "مشاكل"! وكانت خبرة التلاميذ في السفينة جعلتهم يقولون: "من هو هذا؟ فالبحر والرياح تطيعه" (4: 41)! هو شخص قدير، هو يعمل ما يعمله الله سيّد البحر والرياح.
وبعد شفاء مجنون الجدريين، كان الجميع معجبين بما فعل (5: 20). أما أهل بلدته، فتعجّبوا من كلماته وتساءلوا: "من أين له هذا؟ وما هذه الحكمة التي أوتيها" (6: 2)؟ وإذ رأوه يمشي على البحر "ظنّوا أنه خيال" (6: 49). وبعد شفاء الأصمّ الأبكم، قالوا عنه كما في تك 1: 1 ي (ورأى ذلك إنه حسن). قالوا: "لقد أحسن في كل ما صنع" (7: 37). إنه يقوم بعمل خلق جديد.
والآن، تحوّلت كل هذه الأسئلة إلى إعلان، إلى فعل إيمان. "أنت هو المسيح". وهذا الإعلان لا يحيط بكل سرّ يسوع الذي انكشف شيئاً وشيئاً. ولهذا حافظ يسوع على التوصية بالصمت (8: 30). غير أن هذا لم يمنع الأرواح النجسة من أن تؤكد صارخة: "أعرف من أنت: قدّوس الله" (1: 24، 34). "أنت هو ابن الله" (3: 11). "ما لي ولك، يا يسوع ابن الله العلي" (5: 7)؟ لماذا الخلاف بيني وبينك؟ مثل هذا التدخّل يريد أن يدمّر طريقة يسوع المتدرّجة في الكشف عن ذاته. ولهذا كان يسوع يفرض الصمت على هذه الأرواح النجسة.
إن المسيرة التي بدأها بطرس باسم التلاميذ ستتكرّر وتتثبّت، ولكننا نستطيع منذ الآن أن نقول إنها وصلت إلى عتبة هامة. وهكذا تحقّق القسم الأول من الإنجيل: "بدء إنجيل يسوع المسيح" (1: 1).
ج- ابن الإنسان يتألمّ (آ 31- 33)
أعلن بطرس ما أعلن، فأجابه يسوع. هنا يبدأ مر قسماً جديداً من إنجيله يقابل البداية في 1: 1: "وبدأ يعلمهم". بما أن ما يتمثّله التلاميذ عن المسيح ما زال غير كافٍ، أعطاهم لا معلومات إضافيّة، بل تعليماً يشكّل "بداية" جديدة. تحدّث عن الألم، عن استبعاده من وسط الشعب، عن الموت قتلاً... مع وعد بالقيامة لم يقدر أن يدخل في نظرتهم.
كان الإعلان واضحاً في قسمه الأول. ولكنهم شُدهوا أمام الطريقة التي بها قال هذه الكلمة (8: 32). هذا ما يشدّد عليه مرقس مستعيداً عبارة استعملها في ما مضى قبل شفاء مخلّع كفرناحوم (2: 2: كان يبشّرهم بالكلمة). كما استعملها في نهاية التعليم بالأمثال (4: 33: كان يلقي عليهم الكلمة، يكلّمهم بالكملة). ولكن وحي يسوع الجديد ظلّ لهم لغزاً، كما في الماضي، وصار ينبوع عمى.
وتصّرف بطرس بعنف كما فعل يسوع ضدّ الأرواح النجسة. "زجر" معلّمه الذي "زجره" بدوره. لم يتحمّل بطرس فكرة مسيح "يجب" (ينبغي) أن يتألمّ ويموت. أما في نظر يسوع، فمقاومة بطرس لا تتوافق ودعوته كتلميذ ورسالته التي تطلب منه أن "يكون معه" (3: 4)، أن يسير على خطاه لأنه المعلّم. إن كان بطرس قد عرف حقاً هوية معلّمه، فيجب عليه أن يكتشف دوماً متطلّبات لا يتوقّعها عن النداء الذي به يدعوه لإتباعه "اذهب ورائي" (آ 33؛ رج 1: 17). كان على التلميذ أن يتبع، أن يمشي وراء المعلّم. فإذا هو يسير أمام معلّمه، بل يقف له "حاجزاً" في طريقه. هذا هو مدلول لفظة "شيطان".
إن بطرس يقاوم تعليم يسوع، لأنه لا ينظر إلى الأمور حسب الله. لأن أفكاره ليست أفكار الله. فالمسيح الذي ينتظره بطرس ورفاقه يوافق أفكار البشر. ولكن ما هو المثال الذي يضعه الإنسان أمامه؟ الإنسان أم الله؟ الله هو الذي يعطي الإنسان قيمته.
مسألة صعبة بالنسبة إلى التلاميذ. هل يقدرون أن يقبلوا طابع الألم في رسالة يسوع، كما يراه الله؟ سيقول لهم يسوع مرة ثانية ومرة ثالثة إنه سيتألم (9: 31؛ 10: 33- 34). "لم يفهموا هذا الكلام، وهابوا أن يسألوه" (9: 32). وفي المرة الأخيرة، دلّوا أنهم لم يفهموا شيئاً لأنهم يتزاحمون على مقاعد الشرف، على الأولوية، ساعة علّمهم يسوع أنه جاء ليَخدم لا ليُخدم. جاء ليبذل نفسه فداء عن كثيرين، فداء عن جماعته.
3- من النصّ إلى يسوع
أ- تكوين النصّ
إن الوحدة الأدبية (8: 27- 33) التي ندرس، تتضمّن اعتراف بطرس على طريق قيصرية فيلبّس والإنباء الأول بالآلام. هناك من يعتبر أن الرباط بين هذين الحدثين سابق لعمل مرقس التدويني. أما السؤال المطروح فهو أن نعرف إذا كان هذا الرباط يعود إلى يسوع الذي اهتمّ بتصحيح التمثلاًت المسيحانية (الخاطئة) لدى تلاميذه، وبإعادة الآمال التي وضعوها فيه إلى وجهتها الصحيحة. أو إذا كان هذا الرباط يعود إلى الجماعة الأولى التي حاولت على ضوء آلام المسيح وقيامته، أن تنقّي نظرتها إلى شخص مؤسّسها من كل شائبة، من كل التباس.
لمقدم أبرر مر البعد الكرستولوجي للمقطع، لا ليعارض بين لقبي يسوع: لقب المسيح ولقب ابن الإنسان. لقب "المسيح" الذي رفضه يسوع (كما يظنون) ليحلّ محلّه لقب ابن الإنسان. فعل مر ما فعل ليجعلنا ندرك إدراكاً أفضل إيمان التلاميذ الذين واجههم سرّ يسوع وفرض نفسه عليهم. فيسوع أجبر مراراً على إنارتهم وإفهامهم الطابع المحيّر للرسالة التي كُلّف بها.
في النهاية، تبدو نظرة مر أمينة لتاريخ يسوع، حتى لو نسبنا إلى الإنجيلي التنظيم الأدبي لهذه المتتالية المؤسّسة على عناصر مشتّتة في التقليد، وصياغة بعض السمات الخاصة مثل قول يسوع الذي فيه يسمّى بطرس "شيطاناً" أو التوصية بالصمت المفروض على التلاميذ.
إذا كان مرقس يعيد مع الكنيسة الأولى، قراءة مسيرة يسوع التاريخية على ضوء القيامة. إذا كان يشدّد على عدم الفهم لدى التلاميذ، فلأنهم واجهوا التحدّي أمام أقوال معلّمهم وأعماله، وفُرض عليهم أن يتجاوزوا ما فهموا أو استشفوا منه، ليسلّموا ذواتهم إلى شخصه وسرّه.
لا شكّ في أننا نجد في هذا المقطع اهتمامات كرستولوجية (علم عن يسوع المسيح) واكليزيولوجية (علم عن الكنيسة): فهذا ما يتطلّبه وضع الجماعات المسيحية الأولى. فلقب "المسيح" الذي أعطاه الإيمان المسيحي ليسوع، صار اسم علم واختفت جذوره اليهودية (الملك الذي أرسل الله من يمسحه بالزيت المقدّس). وعبارة "ابن الإنسان" التي وُلدت هي أيضاً في محيط يهودي، لم تعد تتقيّد بسفر دانيال. بل كانت تذكّر المسيحيين بالطريقة التي بها كان يسوع يدلّ على نفسه، كما يدلّ على تتمّة رسالته بشكل يحيّر العقول: بالآلام والموت.
لقد أكّد مرقس للمسيحيين الذين يميلون، شأنهم شأن بطرس، أن يرفضوا الألم لهم ولمعلّمهم. أكد لهم أن كل محاولة من هذا النوع تبدو أرضية، شيطانية، ولا تتوافق مع أفكار الله.
ب- تعليم النصّ
في نظرة مرقس، تبدو الكرستولوجيا والاكليزيولوجيا مرتبطتين ارتباطاً وثيقاً. ولكن أيضاً الاكليزيولوجيا والاسكاتولوجيا. إذا كان يسوع سمّي المسيح كذلك الذي يتمّ رجاء إسرائيل، فهو أيضاً ابن الإنسان أي إنسان بين البشر، يسير في طريق الألم مع الذين يقاسمهم وضعهم. وهو في الوقت عينه مختلف كل الاختلاف عن سائر البشر لأنه ابن الله الوحيد. فالذين منذ اليوم يسمعون كلمته ويكتشفون شهادة حياًته، هم مدعوّون لإتباعه والالتزام بعيش ما عاشه وما يعيشه الآن في كل مؤمن لأنه القائم من الموت.
هكذا يتحدّد مصير كل إنسان: ما هو أثمن شيء عنده، حياًته (نفسه)، لا معنى لها ولا قيمة إلا في قرار يتخذه بأن يصير تلميذاً، بأن يتجرّد عن كل شيء ليتقبّل من المسيح تحرّر كيانه. سأل يسوع كل واحد: ماذا تقول؟ من أنا في نظرك؟ جوابه على السؤال يعني تأكيد هويته وتقرير وجهة حياًته.
منذ جاء إلى الجليل (1: 14) بدأ يسوع يعلن إنجيل (الخبر الطيب، البشرى) الله الذي ظهر في شخصه حين عماده في الأردن: "أنت هو ابني الحبيب، فيك مسرّتي" (1: 11). ما يدلّ عليه منذ البداية هو علاقته بالله. هذا ما أخبر به مرقس قرّاءه. ولكن الأرواح النجسة وحدهم عرفوا في العمق هذه القداسة التي يتساءل عنها البشر (1: 34، 3: 11). ومُنع التلميذ من الحديث عن "المسيح" بعد إعلان بطرس (8: 30) لأن هذا اللقب قد يعني تسمية خارجية في فم الذين يتفوّهون به. ومع التجليّ ودعوة الآب لسماع ابنه الوحيد، دُعي التلاميذ إلى اكتشاف بنوّته الإلهية في مسيرة حياًته اليوميّة التي تلاشت في الموت. فالأفعال التي تدلّ على القوة والأقوال التي تشير إلى السلطان، قد دلّت بما فيه الكفاية على أن البشرية قد تحوّلت بمجيء ابن الله. فهل هناك حاجة إلى علامات أخرى (8: 11- 12)؟ إن موت يسوع، واعتراف قائد المئة (15: 39) وتعليم القيامة، كل هذا يوضح الأمور فلا يبقى أي التباس.
إذا أردنا أن نكتشف بنوّة يسوع الإلهية، نتساءل لماذا "يخفّف" الوحي دوماً (كنور لا يصل كله ساطعاً). هنا نصل إلى ما يسمّى السرّ المسيحاني الذي هو خاص بمرقس. عبارة استعملها الشّراح وقد لا تكون كافية. فيسوع لا يطلب بأن ينحفظ "السرّ" حول الواقع المسيحاني لشخصه، بل أن نتعمّق في "سرّ لاهوته". لهذا يجب أن نتكلّم مع القدّيس بولس عن "السرّ المغلّف بالصمت" (روم 16: 25، السرّ المكتوم) كما ظهر في يسوع. ولكن لا بدّ من استعمال هذه العبارة.
وها نحن نعود بإيجاز إلى الوصيّة بالصمت التي فرضها يسوع خلال رسالته، والتي بدت تتراجع بعد اعتراف بطرس، أمام تدخّلات تلاميذه التي دلّت على عدم فهمهم لمهمة يسوع الفدائية.
حين جاء إلى كفرناحوم، قدّم مرقس مجيئه كتفجّر عمل الله في تاريخ البشر. وبيّن لنا في الوقت عينه اهتمام يسوع بأن يخفّف من وقع أعماله، وإلحاحه بأن يبقى بعيداً عن الجموع. وهكذا كان شبه تعارض في موقفه: حرّك إعلان الشياطين ولكنه فرض عليهم أن يصمتوا (: 31؛ 3: 11). طهّر الأبرص ولكنه طلب منه أن لا يتكلّم عن شفائه (1: 44- 45). وكانت التوصية عينها لوالدي ابنة يائيرس بعد شفائها (5: 43). ولكن من يستطيع أن يمنع انتشار الخبر؟
في العالم الوثني بدأ يسوع يعمل بطريقة مختلفة، لأنه أرسل المجنون المعافى يعلن على الجراسيين المعادين رحمة الرب من أجله (5: 19- 20). وفي بلاد صور لا يستطيع أن "يختفي" رغم القرار الذي اتخذه (7: 24). وفي المدن العشر، شفى الأصمّ الأخرس بعيداً عن الناس وأوصاهم ألا يقولوا لأحد لئلا يذيع الخبر (7: 33، 36). فكأن يسوع يريد أن يفلت من حماس أثاره بنفسه (7: 37). وتبع شفاءَ أعمى بيت صيدا أمرٌ بأن لا يدخل إلى القرية (8: 26).
ثم إن مر لا يشير إلى أية ردّة فعل على تكثير الأرغفة في المرة الأولى (6: 43- 44) وفي المرة الثانية (8: 8- 9) ساعة يتحدّث يو في هذا الموضع عن مظاهرة ذي طابع مسيحاني (6: 14). لماذا يخفي يسوع الوحي بهذه الطريقة، ولا الوقت عينه ينشره بسخاء ما بعده سخاء وحرية تامة؟
في هذا التعارض، أراد مر أن يعبّر عن لطافة الله الذي يعطي ذاته وفي الوقت عينه يُمّحى في شخص يسوع. هو لا يفرض نفسه أبداً. كما لا يرفض الألقاب التي تعطى له. ولكنه يمنعنا من الإستيلاء عليها وكأنها تعابير حاسمة ونهائية نسجنه فيها. لا شكّ في أنها مؤسّسة تأسيساً لاهوتياً. ولكن لا نستطيع أن نتكلّم بالحقّ عن الله إلا بوحي يعطيه عن ذاته في موت يسوع وقيامته. لهذا، حين نزل يسوع من الجبل، وضع حداً للتوصية بالصمت: "متى قام ابن الإنسان من بين الأموات". فحين يبلغ الوحي كماله في القيامة، نستطيع أن نتكلّم عن ابن الله في العالم، لان الروح القدس الذي حلّ على يسوع في العماد (1: 10) يعطي النطق للذين يعلنون الإنجيل (13: 11) ويكون كافلاً لكرازتهم.
ولكن هناك شيئاً آخر يوقف إعلان كلام الملكوت: عدم فهم التلاميذ. ومع ذلك فقد نُظّموا كمسؤولين عن التعليم، وارتدوا السلطان، ومُنحوا نعمة سرّ الملكوت. فإن مر يعرف أن الكلمة هي كبذرة تُلقى في الأرض فتنمو وتحمل ثمراً. وهو يعرف أن الإنجيل الذي يعلن في الكنيسة هو كلمة الله من أجل العالم. وهو يعرف أيضاً أن هذه الكلمة يعارضها ثقل قلب الإنسان. لهذا نحتاج إلى قدرة الله ونعمته، وهو يفتح طريقه عبر لا إيمان التلاميذ وقساوة قلوبهم: هنا نلامس نواة إنجيل مرقس: إن سرّ ابن الله ينكشف للإنسان، لا حين يزيل نفسه، بل حين ينشر كل قدرته في قلب عدم فهمنا ومقاومتنا له.
توصيات بالصمت ولافهم التلاميذ. كل هذا يدخل في فعلات رحمة الله. فالله الذي لا يدركه الإنسان، صار قريباً منا في شخص يسوع. وهو يدلّنا على قصر نظرنا البشري وعدم شفافية عيوننا. ولكنه بهذا الطريقة يخلّصنا: حين يكشف الله للإنسان عجزه عن أن يخلّص نفسه بنفسه، فهو يعطيه أن يربح حياًته من خلال معارضته وخطيئته. ففي كنيسة مرقس، كما في كنيستنا، الإلتباس هو هو بين اعتراف إيماني وميول مسيحانية. فالإنسان يريد أن يخلّص نفسه بنفسه وساعة يشاء. يريد أن يكتشف شفافية الله في وقت يحدّده هو. ولكن ابن الإنسان يتابع مسيرته آخذاً كل الآلام، آخذاً كل رذل وموت، لكي تصل نعمة القيامة إلى جميع البشر.
خاتمة
سرّ الإيمان المسيحي هو سرّ الله الذي صار ملموساً للإنسان. وحين كشف عن هويته في طبيعة ابنه البشرية، لم يبعد السرّ عن أنظارنا التي تريد أن ترى وأصابعنا التي تريد أن تلمس، بل هو "غطّسنا" فيه وقال لنا انه القاعدة والنور لحياًتنا. فإن كان السؤال حول معنى حياًتنا يعذّبنا، فلأننا مصنوعون لله. وكل المحررين الذين حلمنا بهم، والمسحاء الذين تصوّرناهم يُمحون أو يشهدون لذلك الذي يرسله الله إلينا لكي يعلّمنا ويشفينا ويطرد الشّر منا. أما نحن فلا نريد تحرّراً يبني حسب فكر الله! هذا هو وضع التلاميذ. هذا هو وضعنا نحن. لهذا يجب علينا أن نرافق يسوع، نسمع له لنفهم الحكمة الحقّة، لنفهم أن ما هو جهل عند الله أحكم من حكمة البشر، وما هو ضعف عند الله أقوى من قوّة البشر

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM