الفصل الرابع: طريق يسوع والدخول إلى الملكوت

الفصل الرابع
طريق يسوع والدخول إلى الملكوت
8: 31- 10: 52
1- موقع هذه المرحلة
إن تحليل "القطب المركزي" في إنجيل مرقس جعلنا ندرك بشكل أوضح الطابع اللاهوتي الذي يطبعه به كاتبه. فهو يتحدّد على ضوء قيامة يسوع في منظار فقاهي ورعائي. وهكذا يلعب وظيفة "معقم الجماعة"، والشاهد للقائم من الموت الذي يسبق أخصّاءه على طرقات العالم فيعلّمهم كيف يتبعوا خطاه حيث هو ويوافقون حياتهم مع حياًته. ففي نظر مرقس، إن "بدء إنجيل يسوع المسيح ابن الله" يعني بشكل جوهري أن نسير على خطى ذاك الذي عرفنا فيه "المسيح" والذي سمّاه الله "ابنه الحبيب"، أن نسير على خطاه لأنه هو يدعونا.
نداء يصعب علينا سماعه والخضوع له حتى النهاية. فالإنسان يظنّ دوماً أنه اكتشف كل سرّ الله كما كُشف في يسوع المسيح، حين يدرك في ومضة سريعة كلمته القديرة ويده الفاعلة. لهذا يتهرّب يسوع من قبضة الجموع ويدعوها لكي تبحث عنه بعد أن استشفّت عملاً من أعماله أو سمعت بعض كلماته. لسنا هنا أمام نهج تربويّ، بل أمام مسيرة الحبّ. هذه المسيرة اكتشفها مرقس، فصوّرها لنا في إيمان يتعرّف إلى يسوع الذي هو المسيح، بانتظار أن يتعرّف إليه كابن الله.
في بداية الإنجيل، بدا الإيمان نتيجة حدث مجيء يسوع إلى الجليل (1: 4- 15). وفي يسوع هذا صار واقع الله حبّاً. دُعي الإنسان إلى الرجوع عن خطيئته والإنفتاح على الإنجيل، على عالم الله الذي صار ملموساً في شخص يسوع. واكتشفنا تجاه تعليمه بما فيه من سلطان، كيف تنكشف حرّية البشر في مستويات مختلفة: الجموع المتحمّسة. الأشخاص الذين نعموا بالمعجزات. التلاميذ. ومن جهة أخرى، أولئك المعارضون ليسوع من كتبة وفريسيين ومعلّمي الشريعة. هذا هو عالم الإيمان في زمن يسوع، في زمن كنيسة مرقس، وفي زمننا.
في المراحل الثلاث الأولى اكتشفنا كيف توزّع الناس: كل الذين سمعوا يسوع أحسّوا أنهم معنيون بتعليمه. غير أن كلماته وأعماله قدرته لا تقنع الجميع. فبعضهم يتقبّل يسوع وآخرون يرفضونه. هو لا يُريد أن يقبل فقط من أجل صفاته البشرية، بل بما هو في ذاته. لقد ارتدى السلطان الإلهي (2: 7) وهو يطلب منّا أن نتعلّق بهذا الإله الذي يكشف عن ذاته في شخصه. لا يريد أن ينحصر في صور يتصوّرها الناس عنه: الشافي، رابي (المعلّم)، المحرّر، المسيح. وإن قبل بها، فلكي يفجّرها. "الخمرة الجديدة توضع في زقاق جديدة" (2: 22). وهكذا نصل في قراءتنا للإنجيل أمام حائط مسدود، أمام الفشل، هذا إذا بقينا على المستوى البشري. فما يطلبه يسوع يتعدّى القوى البشرية.
ولكن يجب أد نتساءل: أما تكون طريقة يسوع التي يقدّمها لنا مرقس بأمانة، هي الطريقة الوحيدة التي يستطيع الله أن يأخذها منذ قرّر أن يتجسّد ويصير قريب كل واحد منّا. ولكنه لا يستطيع أن يكشف كائنه الحميم إلا للذي يتقبّله بإيمان غير مشروط. فإذا رفضناه امحّى يسوع ولاذ بالصمت. هنا نفهم لماذا منع الناس من التحدّث عن معجزات يصنعها. وإن كان فرض على الأرواح الشّريرة أن تصمت، فلأن شهادتها تمثل كذباً كبيراً إن لم يرافقها تمزّقاً يعبرّ عليه الممسوسون بالصراخ.
ومع ذلك، حرّك يسوع اعتراف بطرس في النهاية. فقد أعلن بصدق وباسم التلاميذ: "أنت هو المسيح" (8: 29). لا شكّ في أنه يُسقط على يسوع النظرة اليهودية التي عرفها يهود عصره. ولكن لا يهمّ إن هو أدرك ملء سرّ يسوع. المهمّ أنه سلّم أمره إليه، فعبّر عن انتظاره المسيحاني وانتظار شعبه. فصرخة الإيمان ليست فقط ادراك الله بعقلنا، بل قبضة الله على عقلنا وعلى قلبنا عبرّ تصوّرات نحملها في ذواتنا.
وحده تعلقّ التلاميذ بيسوع سيتيح له أن يكشف عن ذاته كشفاً أفضل. هكذا يستطيع إيمانهم أن ينمو ويكتمل. ووليْ الإنجيل سيدلّ على هذا النموّ عبر خبرة يقدّمها مرقس على أنهّا نموذجية للتلاميذ في كل الأزمنة.
الإيمان الذي أعلنه بطرس والتلاميذ ليس بداية مطلقة. فمنذ مجيء يسوع إلى الجليل (1: 14)، دعاهم، ربطهم بشخصه (1: 16- 20). كانت تلك مبادرة أولى اختلفت عمّا يعمل كل رابي في عصره. التلميذ يختار الرابي. أمّا يسوع فهو الذي اختار تلاميذه. وكانت مبادرة ثانية اختار الاثني عشر (3: 13- 19) وألبسهم قوّته لكي يحقّقوا عمله (6: 7: ذهبوا، 6: 12- 13 فاعلية عملهم).
وهذه المشاركة في نشاط المعلّم، لم تكن بدون مقاومة وعدم فهم ورفض للسيد. لقد واجهوا هجمات الخصوم الذين تساءلوا حول تصّرف المعلّم (2: 7، 12، 16)، وحول تصّرفهم هم (2: 18، 24؛ 3: 22، 30؛ 7: 5). بل واجهوا على الدوام موقف يسوع المميّز الذي لم "يلبّ" انتظار الجموع (1: 37؛ 4: 10، 36)، الذي أراد أن يبقى خفياً (1: 45؛ 3: 12؛ 5: 43؛ 6: 45؛ 7: 24، 36؛ 8: 23). تارة كان يستقبل الناس بحنان حين ينقصهم الخبز (6: 34؛ 8: 2). وطوراً يتخلىّ عنهم لكي يذهب إلى المناطق الوثنية (7: 24، 31؛ 8: 27؛ ولكنه طُرد من هناك، رج 5: 17). إن عبور يسوع إلى الوثنيين، (ونظرة هؤلاء إلى عمله، 7: 37)، كان من شأنه أن يفهم التلاميذ أن فيه تحقّق الرجاء المسيحي من أجل جميع البشر. هذه الخطوة قام بها بطرس فاخرج لقب "المسيح" من شروحات الناس العديدة حول شخص يسوع. وإذا كان يسوع قد منع التلاميذ من التحدّث عن هذا "الإكتشاف"، فلأن فعل الإيمان ليس شرحاً بين شروح أخرى، بل هو قبضة الله، الذي هو سيّد الموت والحياة، على حرّية البشر.
ولقد بدأ هذا الإيمان عمله. سوف يمرّ في المحنة عبر حياة التلميذ الملموسة. وهو سيُعاش عطية من الله نتقبّلها دوماً أكثر من سخاء بشري يتحدّد. حين نسمع الابن الحبيب الذي يكشفه الآب (في التجليّ)، نتقبّل في الوقت عينه نعمة لكي نتبع هذا الابن. غير أن "اتباع يسوع" يمرّ في طريق ابن الإنسان، طريق التجرّد والألم والموت. هناك مقاومة من قبل التلاميذ. كيف التغلّب عليها؟ سؤال تحاول المرحلة الرابعة من انجيل مرقس أن تجيب عليه.
2- تقديم النصّ
على مستوى التدوين المرقسي، يبرز سؤال صعب: إلى أين يصل هذا القسم المخصّص لالتزام التلميذ على المستوى الخلقي؟ يرى معظم الشّراح انه ينتهي بنهاية ف 10 مع شفاء الأعمى على طريق أريحا (10: 46- 52)، وقبل الدخول المسيحاني إلى أورشليم (11: 1- 25). تتوزّعه ثلاثة "انباءات الآلام" التي. دونتها الكنيسة (وبالتالي مرقس) انطلاقاً مما عاشه يسوع. الإنباء الأول يتبع حالاً اعتراف بطرس على طريق قيصرية (8: 31). الإنباء الثاني يتمّ خلال سفر يسوع عبر الجليل (9: 31). الإنباء الثالث يبدأ مع صعود يسوع إلى أورشليم (10: 32- 34) وفي انطلاقه من نواحي أريحا (10: 46).
إذا كان تكرار "الإنباء" المثلث بما سوف يتألمّه ابن الإنسان، يعود إلى مبادرة مرقس، هذا يعني أنه يحدّد بنية المتتالية. أما إذا وجد هذا التكرار في مراجعه، فقد يكون حوّر بعض عناصره. نشير هنا إلى الصعوبة دون أن نقدم لها حلاً الآن. فقد نعود إليها. أما الآن، فنبدأ بقراءة مجمل النصّ علّنا نكتشف إشارات تدلّنا على بنيته.
تبدأ المتتالية الأولى "بالإنباء" الأول بالآلام. وهي تشتمل على سلسلة من الأقوال تتحدّث عن "إتباع يسوع" (8: 34)، كما على خبر التجليّ والسؤال حوله إيليا (9: 12- 13)، وحدث شفاء الولد الذي يقع في داء الصرع (9: 14- 29). أمّا موقعها فيتحدّد في جوار قرى قيصرية فيلبس (8: 27)، وبالقرب من "جبل عالٍ" (9: 2، 9).
ويتمّ "الإنباء" الثاني بآلام ابن الإنسان وقيامته في الجليل أيضاً (9: 30- 32). ويتبعه حوار حول قبول الآخر (9: 33- 41) وحول الشكوك (9: 42- 50) في إطار كفرناحوم (9: 33). وكانت لقاءات متنوّعة على الطريق الصاعدة قي اليهودية (15: 1): حدّثه الفريسيون عن الطلاق (10: 1- 12)، جاؤوه بالأطفال (10: 3 ب- 16). سأله شخص غنيّ عن طريق الملكوت (10: 17- 22)، وهذا ما أعطاه مناسبة ليواصل تعليم تلاميذه.
ويأتي "الإنباء" الثالث عن مصير ابن الإنسان (10: 32- 34) الذي يبدأ الصعود إلى أورشليم (10: 32- 33) بمتتالية قصيرة تشتمل على طلب يعقوب ويوحنا (10: 35- 40) وردّة فعل سائر التلاميذ (10: 41- 45). حينئذ يرد خبر شفاء الأعمى الشحاذ قرب أريحا (10: 46- 52). تلك كانت الخطوط الكبرى في هذه المرحلة الرابعة.
3- من النصّ إلى يسوع
أ- مدخل
إن المقابلة بين نصّ مرقس ونصّ كل من لوقا ومتّى، تدلّ على الحرّية التي مارسها الإنجيليون حين دوّنوا هذا القسم الإرشادي والأخلاقي. فحين أدخل متّى في ف 18 "خطبة الجماعة"، تطلّع إلى المحيط الكنسي فصوّر بنيته الروحية: قبول الصغير الذي يماثل يسوع بنفسه. قبول غفران الله في الصلاة نتشارك فيها مع الإخوة. وجاءت ممارسة الحياة المسيحية فجعلتنا نلمس لمس اليد المسافة بين مثال يقدّمه يسوع وتحقيقه في الواقع اليومي. ولكن في هذه المسافة تنكشف قدرة النعمة الخلاصية (مت 19- 20).
وتوسّع لوقا في هذا القسم، فأدخل فيه عدداً كبيراً من العناصر نجد أكثرها عند متّى، وبعضها عند مرقس. نظّم مواده في إطار صعود يسوع إلى أورشليم حيث يتمّ فصحه وقيامته، فبيَّن لنا كيف هيّا يسوع تلاميذه لرسالتهم الشاملة. ونبّههم إلى حقيقة التزامهم في عمل الرسالة الذي اختاروه.
عند مرقس نجد انطلاقة في هذين الإتجاهين: حين ركّز تأمله في شخص يسوع أراد أن يدرك قرّاؤُه أنهم معنيّون بالمخطّط الفدائي. لهذا تحدّث عن شروط كل حياة مسيحية، بل كل حياة عند البشر. لهذا قدّم مجموعة التلاميذ كنموذج لكلّ جماعة بشرية مدعوّة لأن تكتشف معنى مصيرها في تجسّد ابن الله. لهذا شدّد مرقس على مسيرة الإيمان التي فيها نتدرّج بشكل ملموس لكي نكتشف شخص ابن الله.
عبر صياغة هذا المتتالية المرقسية، بما فيها من فقاهة واضحة، نحاول أن ندرك وجه يسوع في مسيرة التقاليد، أن نسير برفقته ونلمسه كما فعل الناس على طرقات الجليل واليهودية.
ب- تكوين النصّ
كان مرقس أميناً لـ "تاريخ" يسوع فجعلنا ندرك الواقع المجيد للقائم من الموت، وهذا ما يدلّ عليه خبر التجليّ في الإمحاء والتجرّد خلال مسيرته إلى الموت حيث يقود أخصّاءه.
أولاً: الإنباءات الثلاثة
إن الإنباءات الثلاثة بالآلام والقيامة (8: 31؛ 9: 31؛ 10: 33- 34) تبدو عنصراً جوهرياً في تدوين مرقس، بحيث نسب معظم الشّراح إلى الإنجيلي الثاني هذا التوزيع المثلّث. فهذه الإنباءات تحتلّ وظيفة بنيوية في مر لم تحتلّها يا إنجيل آخر. فالقسم الذي يورد إعلان بطرس المسيحاني (8: 31- 10: 45) تشرف عليه هذه الإنباءات. فهي تقدّم الإطار واللهجة والموضوع. وهي تعود بالقسم الثاني من مر إلى أورشليم والآلام بشكل يشبه "القدر": "يجب على ابن الإنسان أن يُسلم".
ما يلفت النظر هو أن "الإنباء" الأول ينبثق بشكل طبيعي من سياقه: إعتراف بطرس في قيصرية فيلبس. أما الإنباءان التاليان فقد جاء بهما مقطعان ذات طابع تدويني (أي من تدوين مرقس). وهكذا نستنتج عامة أن مرقس وجد الإنباء الأول كما هو في ينبوعه. ثم توسّع في الإنباءين الآخرين حسب الخطّ علينه. جاء الانباء الثاني قريباً من الإنباء الأول مع بعض فوارق دقيقة. وتبع الثالث خبر الآلام فاستعاد محطاته الأساسية.
بالإضافة إلى ذلك يقدّم مرقس في إطار كل إنباء ثلاثة مواضيع يضمّها عادة إلى أخبار تقسيمات أو أشفية: وحي (8: 29- 32؛ 9: 31؛ 10: 33- 34). الأمر بالصمت أو تعليم على حدة (8: 27- 30؛ 9: 30؛ 10: 32). عدم فهم التلاميذ (8: 31 ب- 33؛ 9: 32؛ 10: 32 أ، 35). وأخيراً نرى تدرّجاً في ذكر الأماكن التي جاءت فيها هذه الإنباءات الثلاثة: في المدن العشر (دكابوليس)، نحو قرى قيصرية فيلبس (8: 27). مرور عبر الجليل (9: 31). صعود إلى أورشليم (10: 31). نحن هنا أمام نظرة دراماتيكية وفقاهية معاً: فالمسيح الذي عرفته الأمم، وتقبلّه معظم الجليليّين، قد رذله العالم اليهودي الرسمي لأنه لا يتجاوب مع صورة "بطل" وطني وضعوا آمالهم فيه.
إن هذه الصياغة الأدبية تكشف بعض مسائل "تخبّطت" فيها الكنيسة الأولى: لما يكن يسوع ذاك الظافر المنتظر، بل عبد الله الذليل الذي تحدّث عنه أش 52: 13- 53: 12. مجدُه كان من نوع آخر، ويعبرَّ عنه في القيامة عبر الآلام والموت. فما أحسّ به بطرس والتلاميذ من "تشنّجات" ظلّ حياً في الجماعات المسيحية التي تضمنّت يهوداً مرتدين أو وثنيين حيرّهم مثل هذا الكلام. فبولس في كورنتوس واجه هذا اللافهم عينه: "فنحن ننادي بالمسيح مصلوباً، وهذا عقبة لليهود وحماقة في نظر الوثنيين. فالمسيح هو حكمة الله وقدرة الله. فيما يبدو انه حماقة من الله هو أحكم من حكمة الإنسان، وما يبدو أنه ضعف من الله هو أقوى من قوّة الناس" (1 كور 1: 23- 25).
وتساءل الشّراح: أما تكون هذه الإنباءات بآلام ابن الإنسان قد تكوّنت لا الكنيسة الأولى؟ هل تعود إلى يسوع؟ إن لافهم التلاميذ فيما يخصّ القيامة، كما لاحظه مرقس نفسه (9: 10) يجعلنا ننظر إلى الأمور في منظار آخر. كل شيء ينطلق من يسوع. فهو حين ينبئ بآلامه وقيامته، يعبرّ عن يقين لا يستبعد الخوف البشري. وهذه الإنباءات تدلّ في الوقت عينه على تماثل تام بين كيانه ومصيره الذي تقدّم خطوة خطوة في الحدث. ليس يسوع ذاك الحالم العائش في عالم المثل، ولا ذاك المتشائم الذي يرى الأمور بصورة سوداء. ولكنه ليس أيضاً ذاك الإنسان الذي يقوم بالحسابات الدقيقة ليواجه غدٍ مهدّد. يسوع هو إنسان حقيقي وهو يجعل وجوده في مستقبل يجهله. وبما انه مؤمن، فالمستقبل الذي يرتمي فيه هو الله في حرّيته كب عظمته.
ثانياً: من المعجزة إلى التعليم
وخبر شفاء الولد المصاب بداء الصرع (9: 14-29) يتّخذ وجهات عدّة في التدوين الإزائي. لهذا تساءل الشراح: هل ارتبط الواحد بالآخر؟ أم هل أخذ الإنجليون الثلاثة من ينبوع واحد فكانت بينهم ملامسات أدبية؟ إن تدوين مرقس يدلّ على خبر أولاني يتضمّن مرحلتين: شفاء الولد (9: 14- 27). ثم سؤال التلاميذ حول فشلهم في طرد الشيطان (9: 28- 29). غير أن الإنجيلي حوّر في هذا الخبر تحويراً واضحاً، حين ضمّ إلى طرد الشيطان (كما في تحرير المرأة السورية الفينقية، 7: 24- 30) إشارات تميّز الأشفية.
بدأ أولاً فركّز الخبر على يسوع وعلى القدرة التي تنبثق من شخصه. نزل من جبل التجليّ فاجتذب انتباه الجموع: إتخذ مبادرة الحوار معها كما مع والد الولد. وفي النهاية ظهر أنه الأقوى الذي يغلب بشكل نهائي قوى الشر ساعة تبدو وكأنها المنتصرة. ثانياً، وسّع الإنجيلي حوار يسوع مع والد الولد فكشف له النقص في إيمانه. هكذا اكتشف التلاميذ جذور ضعفهم (عدم إيمانهم): مثل هذا الشيطان يقاوم حين يغيب الصوم والصلاة اللذان هما الملجأ الواثق بقدرة الله. أمّا يسوع فتصرف بخضوع تام لأبيه.
ومتتالية التعليم للتلاميذ (9: 33- 50) تضمّ سلسلة من أقوال يسوع ترتبت حسب النهج السامي المعروف ب "الكلمة العاكفة" (كلمة تجلب فكرة). نصّ متنوعّ الأجزاء وقد رتّبه متى ولوقا بشكل آخر (مت 18: 1- 9؛ لو 9: 46- 50). هل مجموعة الأقوال هذه قد كوّنها لوقا أو تسلّمها كما هي من ينابيعه؟ إن المقطع حول الشكوك الذي نجد فيه توازياً يميّز التقليد الشفهي، سبق التدوين المرقسي. أمّا التوسّع (9: 36- 41) الذي موضوعه المركزي "اسم" يسوع، والذي يشتمل على عبارات قصيرة ذات طابع تاريخي، فهو من وضع الإنجيلي. إن الإهتمام بشخص يسوع أو بالاحرى بـ "اسم" (حسب التعبير اليهودي) يسوع، يذكّرنا بتعابير عرفتها الجماعات المسيحية الأولى في أورشليم (أع 2: 38؛ 3: 6، 16؛ 4: 7، 10، 12، 30؛ 5: 28، 41؛ رج فل 2: 9- 10). فهذه الجماعات ربطت تجنّد التلاميذ في الكرازة والإضطهادات، باسم يسوع الذي يعلنون موته وقيامته. تلك كانت نظرة مرقس أيضاً.
وحين كتب مرقس ما كتب عن يسوع، فقد نظر إلى كنيسته العائشة في مجتمع معادٍ للمسيحيين، المائلة إلى الإنغلاق على ذاتها. لهذا يجب فتح هؤلاء المسيحيين على حضور المسيح القائم من الموت والفاعل فيهم، وعلى أية حركة تقبّل يستشفّونها لدى الذين لا يوافقونهم رأيهم. هم من جهة يشهدون في الواقع اليومي. ومن جهة أخرى يقبلون أن يتجاوز عمل المسيح الخلاصي حدود المجموعة الكنسيّة. مثل هذا التقديم كان أميناً لتعليم يسوع: فقد استعاد عدداً من أقواله تلفّظ بها في ظروف مختلفة، وحدّدها في إطارها التاريخي الحقيقي الذي هو مسيرة ابن الإنسان إلى الآلام، لان الآلام هي الطريق إلى القيامة. فلا مهرب من هذا الطريق.
ثالثاً: تعاليم أخرى
ونجد اهتمام مرقس ذاته حين يقدّم تعاليم ثلاثة ليسوع: حول الزواج (10: 2- 12). تقبّل الملكوت (10: 13- 16). التجرّد من المال (15: 17- 31). وكل تعليم يتحدّد موقعه في خبر يسوع وتلاميذه قبل الفصح.
يرى بعض الشرّاح أن الجدال حول الطلاق يتبع رسمة جدال راباني على مستويين: المستوى العلني، المستوى السرّي. حوّر مت 19: 2- 12 الترتيب والخاتمة. أمّا مرقس فشدّد على تفسير الشريعة تفسيراً جذرياً، تفسيراً يستند إلى الشريعة نفسها. إذن، لا نستطيع أن نماثل بين وصيّة (إلهية) وتنازل موقت: مع يسوع عاد زمن الخلق إلى أصوله فدخل في الحقبة الاسكاتولوجية الحاسمة. ففي العالم اليوناني والروماني كانت مبادرة الطلاق للرجل والمرأة حسب الشريعة (في العالم الشرقي واليهودي خاصة، تعود المبادرة إلى الرجل). أمّا الجماعات المسيحية فوجب عليها أن تحدّد موقع خلقية الزواج في إطار نهاية الأزمنة التي هي حاضرة منذ الآن والتي هي آتية قريباً.
ونكتشف هدفاً مماثلاً في خبر تقبّل الأطفال، الذي يستند إلى فعلة "تاريخية" ليسوع. تذكّر مرقس موقب يسوع المليء بالعاطفة في 10: 16: "حضنهم، وضع يديه عليهم، باركهم". وفي 10: 21: "نظر يسوع إلى الشاب وأحبّه". إذا كان يسوع قد فتح بقيامته أبواب الملكوت، فلكي يدخلها كلُّ إنسان، دون المحظورات التي وضعتها الشيع في تلك الأيام من فريسيين واسيانيين. سؤال مهمّ يُطرح ساعة طلب "الصغار" أن يدخلوا في الكنيسة الفتية. والصغار هم الجهلة، العشارون، الخطأة، الوثنيون. هناك من رأى في هذا المقطع تبريراً لعماد الأطفال المولودين من والدين مسيحيين.
قول وخبر يعودان إلى يسوع نفسه. فقساوة القول الذي تفوّه به يسوع وموقفه تجاه تلاميذه، يدلاّن على أن تصّرف يسوع يختلف عن نظرة عصره إنما الأطفال (هم مُلك الوالد). وتبع لوقا ومتّى مرقس في الحديث عن هؤلاء الأطفال (مت 19: 13- 15؛ لو 18: 15-17)، فشدّدا على موقف المؤمن المنفتح على الإنجيل. كما على الإهتمام بالبسطاء والضعفاء. وعلى الإتكال الواثق بنعمة الله ورحمته.
ويصدر المقطع عن التخليّ عن الغنى من تقليد سابق لمرقس. ضمّ مشهد الرجل الغني إلى إعلانات يسوع لتلاميذه حول ضرورة الفقر للدخول إلى الملكوت. إن نداء يسوع الذي يشبه خارجياً التخليّ الذي يطلبه كل رابي من تلاميذه، يختلف عنه بطابعه الشخصي (تعال أنت واتبعني) والمطلق (لا جدال فيه) الذي يعطيه بعداً مسيحانياً واسكاتولوجياً سيشدّد عليه مرقس. فالوضع التاريخي للخبر في حياة يسوع وما يتضمّنه من أمور ملموسة في حياة الكنيسة، يبدوان من الإهتمامات الرئيسية لدى الإنجيلي: لقد صارت نهاية الزمن قريبة. لهذا يلحّ يسوع على المسيحي بأن يتخلى عن الخيرات التي تمنعه من التطلّع فقط إلى مجيء الملكوت (رج 1 كور 7: 29- 31).
يجب أن نمارس الشريعة ممارسة جذرية، فنتعلّق بيسوع تعلّقاً غير مشروط. فالنصّ الموازي في متّى، يتوسّع في موضوع الكمال المسيحي كما نجده في خطبة الجبل (مت 5: 21- 48؛ 19: 16- 30). أما لوقا فشدّد بالأحرى على ما يفعل فينا التجرّد المطلوب، وعلى أهمية مقاسمة ما نملك مع الفقراء لكي نكوّن جماعة الملكوت (لو 18: 18- 30). وهكذا نتجاوز المعنى الحرفي للنصّ فنركزّ عليه تأسيس الحياة الرهبانية، مع العلم أن نداء يسوع إلى التخليّ عن المال يتوجّه إلى كلّ مسيحي. ولكن يبقى أن الحالة الرهبانية تأخذ طوعاً بوصيّة المسيح، لا بمبادرة شخصية بل تلبية لنداء. تأخذ يالجذرية الإنجيلية قاعدة حياة.
رابعاً: ابنا زبدى وابن طيما
ودوّن مرقس "مطلب" ابني زبدى (10: 35- 45). نجد هنا صدى لنزاع حول الأولوية (كما في أيامنا) عرفته الجماعات المسيحية الأولى، وتلميحاً إلى استشهاد يعقوب (سنة 42 أو 44، أع 12: 2)، وربما إلى استشهاد يوحنا أيضاً. لقد كتب مرقس على ضوء الحدث فربط الواقع بنبوءة ليسوع. ثم إن هذا المقطع يتجذّر في حياة يوع العلنية وتلاميذه. فهم قد علّقوا أهمية كبرى على مسألة "الأكبر" (10: 34؛ رج مت 18: 1؛ 23: 1؛ لو 9: 46؛ 22: 24، 26، 27). أما اسم "بوانرجس" أي ابني الرعد، فيجد أساسه في يسوع نفسه. وبدا مرقس كعادته أميناً لنظرته الكرستولوجية فشدّد على السمات التي تجعل التلميذ مثل معلّمه المصلوب. فالتعبير الملموس الذي نجده في الإنباء الثالث بالآلام، يتيح له أن يتوسّع في فقاهة حول اتباع المسيح وما في هذا الإتباع من جدية.
إن التلميح إلى المعمودية والكأس يدلّ المسيحي على الطابع الأسراري (المعمودية، الأفخارسيتا) لالتزام قد يقود إلى الاستشهاد والموت. والقول حول الفدية (10: 45) الذي ينهي هذا المقطع ورد ولا شكّ في فم يسوع في إطار العشاء الأخير أو على ضوئه (لو 22: 27-37؛ يو 13: 12- 20: مقاطع موازية؛ مر 14: 24؛ مت 26: 28؛ لو 22: 20 وكلمات التأسيس الأفخارستي). غير أن بُعد هذا القول لن يصبح واضحاً للتلاميذ والكنيسة إلاَّ على ضوء قيامة يسوع. فهذه القيامة علّمتهم كيف يقرأون نبوءة أشعيا الثاني حول عبد الله المتألم، وهي نبوءة يستلهمها قولُ يسوع.
وبدا حدث ابن طيما (14: 46- 52) تعليماً للتلاميذ على مثال مشهد الولد المصاب بالصرع (9: 4- 29) وأعمى بيت صيدا (8: 22- 26). ولقب "ابن داود" الذي يعطى مرتين ليسوع، سوف يستعيده متّى (20: 30- 31) ولوقا (18: 38- 39): إنه يهيّئ خبر الدخول إلى أورشليم. غير أن مرقس يبرز الاختلاف بين هذ التسمية ولقب "رابوني" (10: 51، يا معلّم) الذي يعبرّ عن محبّة واحترام التلميذ لمعلّمه. والطريق (10: 46، 52) هو في الإنجيل الثاني، طريق الإيمان الذي يجعل التلميذ على خطى يسوع بعد أن يعترف به مسيحاً.
ج- بنية النصّ
من خلال القراءة المتواصلة والتاريخ التدويني، اكتشفنا في هذه المرحلة الرابعة من مر، أهمية الفقاهة عند مرقس: قدّم لنا الإنجيل وحي يسوع عن مصيره، وهو وحي يرتبط بتعليم حول الطريقة التي بها يؤثّر هذا المصير على حياة التلاميذ الخلقية. يبقى علينا أن ندرس البنية ونكتشف التعليم الذي يحمله إلينا هذا الإنجيل الذي اعتبر في الماضي خبراً بسيطاً لا لاهوت فيه!
أولاً: على المستوى الأدبي
سبق ولاحظنا الأهمية التدوينية للانباءات الثلاثة بالآلام والقيامة. فهي محطّات في طريق تنطلق من قيصرية فيلبس (8: 27)، فتمرّ في الجليل (9: 30)، وتصعد إلى أورشليم (10: 32). وفي كل مرّة يتبع هذه الانباءات توصياتٌ حول حياة التلاميذ. أولاً، توصيات عامة تصل حتى إلى الجموع (8: 34- 9: 1). ثمّ توصيات مفصّلة، لأنها تتحدّث عن تكوين جماعة الاثني عشر (9: 33- 50). وأخيراً توصيات دقيقة حول النداء الموجّه إلى العشرة بعد طلب يعقوب ويوحنا بالمقامين الأوّلين (10: 35- 45): وهكذا يتضّح تماثل التلميذ مع معلّمه شيئاً فشيئاً. وبعد هذه التوجيهات، نجد ثلاث متتاليات تمتزج فيها حوارات خاصّة مع التلاميذ (9: 2- 13؛ 9: 28- 29؛ 10: 10- 12؛ 10: 23- 31)، ولقاءات مع الأفراد (9: 14- 27؛ 10: 1- 9، 13- 16، 17- 22؛ 10: 46- 52). وفي كلّ مرّة، تعود الجموع إلى الظهور (9: 14، 15، 25؛ 10: 1، 13؛ 10: 46، 48).
* وهكذا نستطيع أن نقدّم طريقة أولى لقراءة النصّ تدلّ على تواصل تعليم يسوع الذي يتوجّه إلى البشر عبر التلاميذ ويدعو كل واحد لاتباعه. ففي قلب هذا القسم المركزي نجد النداء إلى الحرّية الشخصية. "من أراد" (أو: إن أراد أحد) (8: 34- 35). "من أراد أن يكون أول الناس" (9: 35)". "من أراد أن يكون عظيماً... من أراد أن يكون الأول" (10: 43- 44).
هنا نكتشف تعليم مرقس الذي يبرز تعليم يسوع المثلث حول الآلام والقيامة.
أ- 8: 31- 33: أول تعليم حول الآلام. رفض بطرس والتلاميذ.
ب- 8: 34- 9: 1 توجيهات إلى التلاميذ وإلى الجمع: من أراد.
ج- 9: 2- 29: التجلي والتلاميذ (الشعب). الولد "المصروع" والتلاميذ.
د- 9: 2- 29: التعليم الثاني حول الآلام. خوف التلاميذ.
هـ- 9: 33- 50: توجيهات إلى الاثني عشر: من أراد.
و- 10: 1- 31: الفريسيون والتلاميذ (الجمع). الأطفال والتلاميذ. الرجل الغني والتلاميذ.
أ أ- 10: 32- 34: التعليم الثالث عن الآلام. خوف التلاميذ.
ب ب- 30: 35- 45: توجيهات إلى الاثني عشر: من أراد.
ج ج- شفاء الأعمى (الجموع).
تبرز هذه الرسمة بعض التوازيات التي يبدو فيها موقف يسوع قاعدة للجماعة التي أحاط نفسه بها. ولكنها تغفل أموراً أخرى. لهذا نبحث عن بنية أخرى.
** هنا نقدّم محاولة ثانية تعود إلى القطب المركزي. بعد الظهور المسبق للقيامة في حدث التجليّ، صوّر الإنجيلي التحوّل المتدرّج لدى التلاميذ بالإيمان بالمسيح المخلّص. وأحاط بهذا الظهور شفاءان ابرزا قدرة ابن الإنسان التي تحمل الحياة والنور: إخراج الشيطان من رجل أخرس (9: 14- 29). إعادة النظر إلى برطيما (10: 46- 52). تذكير بمعجزتي الأصم الأبكم في دكابوليس (المدن العشر) (7: 31- 37)، وأعمى بيت صيدا (8: 22- 26)0 التقابلات عديدة على مستوى الوضع واللغة، وهي تشدّد في الوقت عينه على عمل المسيح في حياة المؤمن وعلى الشروط الموضوعة أمام حرّية هذا المؤمن.
حينئذ يبدو النصّ على الشكل التالي:
مقدمة: شفاء ممسوس أخرس. صرخة الإيمان (9: 14- 29) أمام الجمع، وأمام التلاميذ الذين لم يستطيعوا أن يفعلوا شيئاً. صرخة الأب الذي يطلب الرحمة، حوار حول الإيمان، فعلة القيامة.
أ- تعليم حول مصير ابن الإنسان. سؤال حول الأولوية (9: 30- 35). في الجليل، تعليم للتلاميذ الخائفين. في كفرناحوم، نداء إلى الاثني عشر، وسؤال حول الأعظم: "من أراد أن يكون الأول، يجعل نفسه آخر الجميع وخادمهم".
ب- تقبل طفل. حين نتبع يسوع نتقبّل الآخر (9: 36- 41). نقبل باسم المسيح، وكطفل لا سند له، حتى ذاك الذي لا يتبع... "ليس من أحد... الحقّ أقول لكم". ويأتي الجزاء الموعود به.
ج- الدخول إلى ملكوت الله. نرذل الشكوك (9: 42- 50). نتجنّب تشكيك الصغار. تضحياًت وتجرّدات نقوم بها إذا أردنا أن ندخل الحياة. ملح التجرّد والسلام.
د- مشروع الله وفشل الحبّ. وصية أم تنازل (10: 1- 12). عبر الأردن، سؤال حول الشريعة. وصيّة الله وتنازل من قبل موسى: الحبّ أو الزنى (نترك الأب والأم).
هـ- تقبّل ملكوت الله (10: 13- 16). يسوع يستقبل الأطفال. "الحقّ أقول لكم". من تقبّل الملكوت مثل طفل دخله.
دد- نداء الله وعائق المال. الوصية والنقص (10: 17- 22). في الطريق، سؤال الغني حول الحياة الأبدية. وصية الله ونداء إلى تجاوز الذات. التقوى نحو الوالدين واتباع يسوع.
ج ج- الدخول إلى ملكوت الله. التخليّ عن الغنى (10: 23- 27). دهشة التلاميذ. صعب على الغني أن يدخل الملكوت. ما يستحيل على الإنسان هو ممكن لدى الله.
ب ب- تقبّل التلميذ. من تبع تقتل (10: 28- 30). تقبل "من أجلي ومن أجل الإنجيل". أن نترك كل شيء لكي نتبع يسوع. "ما من أحد... الحقّ أقول لكم..." الوعد بمئة ضعف.
أ أ- تعليم عن مصير ابن الإنسان. الأولويه الحقيقيّة (10: 31- 45). على طريق أورشليم، تعليم للاثني عشر الخائفين. محاولة يعقوب ويوحنا: "من هو الأكبر"؟ "كثير من الأولين يصيرون آخرين، ومن الآخرين أولين". "من أراد أن يكون الأول يكون خادم الجميع".
خاتمة: شفاء الأعمى: صرخة الإيمان، قفزة الإيمان (10: 46- 52). خلال الخروج من أريحا. حضور التلاميذ والجمع. صرخة الأَعمى الطالب الرحمة. كلمة القيامة. خلاص بالإيمان.
إن الفائدة من تنظيم النصّ على أساس عودة الألفاظ "المفاتيح"، هي أن تظهر كيف نظر مرقس إلى ملكوت الله وكيف قدّمه إلى الجماعات. فواقع الحياة الأبدية انكشف في قيامة يسوع. إذن، إنه لأمر ملحّ أن نتبعه بدون شرط على طريق المجد. غير أن هذه الطريق تمرّ في مرحلة ضرورية، مرحلة الألم والموت: إذن، نتقبل يسوع حين نقبل أن نتخلىّ عن طموحات الإنسان في الظلم والتسلّط والغنى (هكذا نشاركه في موته)، لكي نأخذ بنظرة الله (الخدمة، الوحدة، الفقر) وهكذا نشاركه في مجده. حينئذ يبدو الإيمان نعمة نتقبلها: وهي تقوم بتحويل القيم في المسيحي وتمنحه حرية داخليّة لا يستطيع الحصول عليها بقواه الخاصّة.
*** ولكن تبقى فجوات في هذا التصميم الذي قدّمناه: انه يدمّر البناء على تعليم يسوع المثلّث حول الآلام والقيامة: فصل حدثَ الولد "المصروع" عن خبر التجليّ الذي يرتبط به ارتباطاً تدوينياً. وحوّل الترتيب العام لمختلف مراحل الإنجيل. وخفّف من أهمية "الصعود إلى أورشليم" (10: 32- 33) الذي يدشّن مرحلة جديدة إطارها الوحيد هو المدينة المقدّسة.
لهذا نقدّم محاولة ثالثة تستطيع أن تجمع جمعاً أفضل مختلف العناصر التي أبرزناها حتى الآن. إن الفائدة من هذا البناء الجديد هي محدودة، لأننا لا نستطيع أن نسجن نصّ كاتب داخل إطار شكلي. على كل حال، إن هذه المحاولات تدلّ على نقاط يتوسّع حولها تدوين مرقس: نكتشف تشعّب كلامه ونكتشف غنى هدفه اللاهوتي.
إذا أخذنا بالوظيفة البانية (عند مرقس) للتعليم المثلّث عن الآلام والقيامة، نكتشف قسمتين متوسطتين. الأولى (8: 34) تتركّز على شخص يسوع، ابن الإنسان. وتكشف مصير كل إنسان لأنه ابن الله. الثانية (9: 33- 10: 31) ترتكز على حياة مجموعة التلاميذ وشروط الدخول إلى الملكوت. وهكذا يبرز الموضوعان الجوهريان في لاهوت مرقس: يسوع وجماعته. ونتوقّف عند التفاصيل.
القسمة الأولى: أول تعليم حول الحاش والقيامة (8: 31- 33). إعلان يسوع ورفض بطرس. الكلمة العاكفة: "ورائي، خلفي".
(1) يكشف ابن الله مصير كلّ إنسان: من الموت إلى الحياة.
أ- تعليم (يتوجّه إلى الجمع وإلى التلاميذ) حول معنى الحياة البشرية (8: 34- 9: 1): خلّص حياًته، فقدها... جيل فاسق أثيم. رؤية الملكوت يأتي بقوة. الكلمة العاكفة: رأى، شاهد.
ب- صوت الآب وقيامة الموتى (9: 2- 10). أخذ يسوع معه ثلاثة تلاميذ إلى الجبل: "هذا هو ابني الحبيب، فله اسمعوا". الأمر بالصمت حتى قيامة ابن الإنسان. الكلمة العاكفة: ابن الإنسان.
ج- سؤال التلاميذ حول إيليا (9: 11- 13). إعلان الكتبة وتعليم يسوع. ما قال الكتاب المقدّس عن ابن الإنسان. الكلمة العاكفة: الكتبة.
أ أ- جدال (أمام التلاميذ والجمع) حول عجز التلاميذ عن طرد الروح (9: 14- 19). رأى الجمع يسوع... "جيل كافر! إلى متى أبقى معكم"؟ الكلمة العاكفة: كافر، بلا إيمان.
ب ب- صرخة الأب وقيامة ابنه (9: 20- 27). جاؤوا بالولد إلى يسوع. "أؤمن. ولكن أعن قلّة إيماني".! بدا الولد وكأنه مات. أقامه يسوع. الكلمة العاكفة: اليد.
ج ج- سؤال التلاميذ حول عجزهم (9: 28- 32). إعلان حول الصلاة، وتعليم ثان عن الحاش والقيامة، عن آلام ابن الإنسان وقيامته (في الجليل). الكلمة العاكفة: سأل.
- القسمة الثانية، قال يسوع: سيسلّم ابن الإنسان. فما فهموا هذا الكلام.
(2) جماعة ابن الإنسان: دخول إلى الحياة.
أ- عمل الإنسان باسم يسوع: المجازاة (9: 33- 41). الأول يكون آخر الجميع. لا يتبعنا... ما من أحد... الحقّ أقول...
ب- التجرّد، رفض الشكوك (9: 42- 50). ما العمل للدخول إلى الحياة، إلى الملكوت (ثلاث مرات)؟ الدينونة ونار المحنة.
ج- وصية الله وتنازل موسى (15: 1- 12). خلال سفر في اليهودية، سأله الفريسيون. وحدة في الزواج لا انفصال فيها. الأب والأمّ، الزنى.
د- تقبّل الملكوت: يسوع والأطفال (10: 13- 16: من جاء إلى يسوع قبَل الملكوت. قبله مثل طفل. "الحق أقول لكم".
ج ج- الوصايا والدعوة إلى المحبّة (10: 17- 22). في الطريق، مسألة رجل غنيّ. التخليّ عن الغنى. الأب والأمّ، الزنى.
ب ب- التجرّد الضروري والخلاص الذي نتقبّله (10: 23- 27). مش أجل الدخول إلى الملكوت (ثلاث مرات). خلاص مستحيل على البشر، ممكن لله.
أ أ- التخليّ عن كل شيء من أجل يسوع: مئة ضعف (10: 28- 31). لقد تبعناك. كثيرون من الأولين يصيرن آخرين. "الحقّ أقول لكم: ما من أحد".
- الختام: التعليم الثالث حوله الحاش والقيامة (10: 32- 34). دهشة التلاميذ وخوفهم. ومع ذلك، قالت لهم يسوع في الطريق الصاعدة إلى أورشليم: "سيسلم ابن الإنسان...".
في القسمة الأولى تظهر بوضوح مبادرة الله وعمله القدير الذي علامته قيامة ابن الله (ب). فهي تحدّد المعنى الجذري لحياة البشرية (أ) في توافق مع ما يقوله الكتاب المقدس عن مصير المسيح المتألم (ج). فتجاه قدرة الله، يكتشف الإنسان نفسه ضعيفاً كل الضعف حين يكون وحده: فيسوع هو الذي يحرّك الإيمان في قلب اللامؤمن، ويحوّله معيداً إليه ملكة النطق (ب ب). لهذا، يبدأ فيكشف للإنسان لا إيمانه (أأ)، ثم يأخذه معه، وسط مخاوفه، في طريق القيامة.
وتتوسّع القسمة الثانية في حياة المسيحي الخلقية التي هي كلها إتباع ليسوع واقتداء به. حين يسير نحو آلامه، يتقبّل ملكوت الله من الآب. ويبارك الأطفال والذين ليسوا بشيء في نظر العالم فيدلّ كيف يقدر الإنسان أن ينال الحياة الأبدية (د). هنا ندرك كيف يتمّ عمل الإنسان باسم المسيح، فيصبح خدمة للجميع لأن يسوع يربطه بقدرته (أ). بعد هذا يستطيع أن يقوم بكل تجرّد يمنعه من مواجهة المحن وبناء السلام (ب) وتقبّل شريعة الحياة والحبّ من الله، وهي شريعة تتجاوز عمقاً وفاعلية، كل المساومات والتنازلات البشرية (ج). وحين يصير الإنسان طفلاً يقبل بضعفه وعجزه، يستطيع أن يكتشف صلاح الله الموجود في الخليقة. فعبر الوصايا يدعوه نداء الحبّ لكي يشرك الآخرين في أمواله ويتقبّل كنز السماء (ج). وحين يعي عجزه المطلق عن تخليص نفسه، يستطيع أن يسقم نفسه إلى قدرة الله (ب ب)- ويتقبّل منه جزاء مئة ضعف يُعطى مع الإضطهادات. كما يتقبّل الوعد بالحياة الأبدية (أأ).
لقد أمَّنت الإنباءات الثلاثة بالحاش والقيامة تماسك هذه المجموعة. قدّمت على أنها "تعليم" يسوع فبدت كلمة حياة. إنها تأخذ فاعليتها من شخص يسوع الذي يسير نحو آلامه وموته. وهي تستقي مادية القيامة المخفية في كل لحظة من لحظات يسوع على الأرض، وتنتعش بحبّ الآب الكلي القدرة.
ثانياً: على المستوى البنيوي
نكتفي على المستوى البنيوي أن نذكّر ببعض العناصر التي جمعناها في قراءتنا.
* المستوى الزمني
إن الإشارات التي تدلّ على الزمن هي نادرة في هذه المتتالية: فإذا وضعنا جانباً الإشارة الليتورجية حول التجلي (9: 2، بعد ستة أيام) لا نملك إلا سلسلة كرونولوجية للأحداث تجري على مدّ سفر الألم والذلّ (8: 31؛ 9: 12، 31؛ 10: 33- 34). وفي الوقت عينه منفتح على المجد (8: 38؛ 9: 9، 43، 45، 47؛ 10: 17، 23، 24، 25، 30). كل شيء يجري بالنسبة إلى يسوع كما بالنسبة إلى تلاميذه في انشداد الحياة الحاضرة.
* الإطار الجغرافي
ويجعلنا الإطار الجغرافي ندرك هذا الإنشداد. فمجموعة التلاميذ هي دوماً في الطريق (لا راحة). يتبعون يسوع في الطريق، ويتوقّفون من وقت إلى آخر ليسألوا المعلّم. في المرحلة السابقة سرنا في طريق تبتعد عن الجليل إلى المناطق الوثنية. وفي هذه المرحلة، ننطلق من دكابوليس (المدن عشر) ونمرّ في جبل عالٍ لا يُذكر اسمه (9: 2، 9). بعد وقفة التجليّ ووقفة لشفاء الولد، إنطلق يسوع من جديد عبر الجليل (9: 3) فتوقّف في كفرناحوم، في البيت (9: 33- 34). ثم قام فانطلق نحو اليهودية والأردن (10: 1) حين أوقفه الفريسيون. وفي عودته إلى البيت بعد الجدال، سأله التلاميذ (15: 1). جاؤوا بأطفال ليباركهم. وحين انطلق (10: 17) جاءه غنيّ يطلبه. وبعد ذهاب الغني، تحدّث يسوع مع تلاميذه. ونجد نفوسنا فجأة صاعدين نحو أورشليم (10: 32- 33)، فيحدّد يسوع أن على ابن الإنسان أن يموت. وبعد ذلك، ولدى الخروج من أريحا (10: 46) نرى الأعمى الذي شُفي على قارعة الطريق يتبع يسوع في الطريق (10: 52). الطريق هو طريق الآلام والقيامة حيث يسبق يسوع أخصّاءه. أما هم فيتبعونه بخوف وتردّد. أما البيت فهو الموضع الذي فيه يدرّب المعلّم تلاميذه فيردّ على أسئلتهم.
* على مستوى الأشخاص
مسيرة التلاميذ في هذه المرحلة مسيرتان: إتباع يسوع، الاستماع إليه. أما سائر الأشخاص الذين يتدخّلون، فهم "يساعدون" بشكل أو بآخر على تكوين التلاميذ. هذا هو الموضوع الأول: ويدلّ الطريق والبيت على زمني التعليم، على خبرة ملموسة ثم على تفكير في ما عاشوه. غير أن خبرة الطريق تتمّ مع يسوع، وهو الذي يردّ على تساؤلات التلاميذ: فهم أنفسم صاروا في الطريق إلى الملكوت، بل إن الملكوت يقيم فيهم منذ الآن.
كل أويقات هذه المرحلة الرابعة تضمّ التواصل والتحرّك اللذين يميزان كلّ حياة، ويدلاّن على انشداد بين الله والإنسان: فكر الله وأفكار البشر (8: 33؛ 9: 5، 7؛ 9: 19، 23؛ 10: 9، 18، 27). إنشداد بين العالم الحاضر والعالم الآتي (8: 36- 38؛ 9: 12، 13، 41، 42- 48؛ 10: 15، 17، 21، 23، 26، 30، 39- 40). وهذا الانشداد يحدّد انقلاب القيم (8: 34- 35؛ 9: 12، 29، 35- 37، 38، 50؛ 10: 9- 12، 14، 21، 28، 31، 43). ويظهر الإيمان كالإطار الملموس الذي فيه يعيشون هذا الإنشداد ويتجاوزونه بقدرة النعمة ونورها. هذا الإيمان يعيشونه في إتباع يسوع المسيح، ابن الإنسان وابن الله معاً، وفي الإقتداء به. إنه المسيح الحقيقي ورجل الألم، ابن داود وخادم الجميع.
3- التعليم الذي نجده في النصّ
نودّ هنا أن نستعيد نتيجة هذه التحاليل لنكشف الخطوط الرئيسية. ونستطيع القول بإيجاز إن المرحلة الرابعة في الإنجيل تشكّل فقاهة (تعليم مسيحي) موضوعها الخلقية المسيحية.
أ- يسوع ابن الإنسان
إن يسوع سمّى نفسه بشكل عاديّ "ابن الإنسان". هذه العبارة لم يستعملها مرقس حتى الآن إلاّ مرّتين، وفي إطار الجدالات اليهودية. هكذا أكّد على السلطة التي مارسها يسوع على الأرض حين غفر الخطايا (2: 28)، وحدّد الأزمنة المقدّسة (2: 28، السبت).
كان للتسمية في زمن يسوع لون خاصّ استقته من اللغة البيبلية. دلّت على عاطفة عميقة بالانتماء إلى البشرية. هذا ما نجده عند حزقيال الذي يناديه الله مراراً: يا ابن الإنسان. أي: يا إنسان (أنت كسائر الناس) (حز 2: 1- 5...). أما رؤية دا 7: 13 والأسفار الجليانية، فأعطت هذا اللقب لوناً مسيحانياً: دلّت على شخص سرّي كلي القدرة، على شخص إلهي. شخص يأتي في نهاية الأزمنة ليدين العالم.
وحين سمّى يسوع نفسه ابن الإنسان (عبارة نجدها بشكل خاصّ في الأناجيل ثم في أع 7: 56؛ رؤ 1: 13؛ 14: 14، عبارة نجدها في الأناجيل على شفتيه)، دلّ على سلطان الدينونة الشامل الذي ارتداه بصفته ابن الله. وهكذا دشّن في شخصه زمن الرجاء الأخير. ولهذا يربط. الإنجيل هذا اللقب مراراً (رج 8: 31) بلقب المسيح من جهة وبصورة. عبد الله المتألمّ من جهة ثانية (أش 42: 1- 4؛ 49: 1- 6؛ 50: 4- 9؛ 52: 13- 53: 12). كلّ هذا ميّز الإنجيل عن النظرة اليهودية حين جمع عن طريق المفارقة الحياة المائتة والقيامة، والصليب والمجد.
تقبّلت الكنيسة الأولى هذه التسمية التي تعبرّ في الوقت عينه عن الطابع الإلهي والسماوي الذي يدلّ على شخص يسوع، وعن البعد البشري والأرضي، المخفيّ في رسالته. صورة سماوّية، هذا هو أصلها. صورة جليانية، ولا تصبح واقعيّة إلا حين تتمّ على الأرض. صورة نبيّ رسمها الله فعبرّت عن مصير آتٍ من العلاء. صورة جُعلت لتضمّ حياة كاملة. صورة اسكاتولوجية، وهي تعلن تحوّل العالم وملكوت الله.
ب- ملكوت الله
إن يسوع جاء يحمل ملكوت الله إلى تاريخ البشر. فحمل بحرّية مصيرَه الخاصّ، مصير الموت والقيامة، ودعا تلاميذه إلى الدخول في هذا المصير، كما دعا من خلالهم البشر جميعاً. بهذا يقوم "تعليمه" طوال المرحلة الرابعة من إنجيل مرقس: نحن لا ندرس أمثولة بليغة وواقعية! بل ندخل (9: 43، 45، 47؛ 10: 15، 23، 24، 25) في "الحياة الأبدية" (باسيليا تو تيو) (9: 47؛ 10: 14، 15، 23، 24، 25).
أعلن الرابانيون هم أيضاً أن ملكوت الله يقام في هذا العالم عبر وعي لقرب الله (أي معرفة طرق الرب)، عبر الحسّ بالواجب اليومي، عبر المسؤولية تجاه ملك السماوات. اعتبروا ملكوت الله "خلقية"، تعليماً خلقياً. اعتبروه طريقاً، طريقة حياة كانت نتيجتها التعاليم والفرائض التي تعطيها دينامية وشكلاً، روحاً وجسداً. وكان واجب رسالة الشعب اليهودي أن يجعل هذا الملكوت يعمّ الكون في مخافة الله وحبّ القريب. يبدو للوهلة الأولى أن يسوع دخل في التقليد الراباني. فعند مرقس، يسميه التلاميذ (4: 28؛ 9: 5، 38؛ 10: 35؛ 11: 21؛ 13: 1: 14: 45) وسائر الناس بشكل عام: "معلم" (ديدسكالوس)، "رابي" (5: 35؛ 9: 17؛ 10: 17، 20، 51؛ 12: 14، 19، 32). أمّا في مت فلا يستعمل التلاميذ (ما عدا يوضاس) هذه التسمية. إنه محفوظ للجمع، للذين هم في الخارج. فقد قال يسوع: "لا تسمحوا بأن يدعوكم أحد: يا معلّم" (23: 7).
في الواقع، حين كان تعليم يسوع امتداداً لتعليم الرابانيين، فقد أتمّه، فجرّه، أدخل فيه مبدأ فصل. نحن أمام تعليم جديد يتفوّق إلى ما لا حدود له على التعليم القديم، وإن كان التعبير هو هو. فالشريعة التي أعطيت على الجبل المقدس (أش 24: 16؛ رج مر 9: 2) صارت وصية جذرية. عاد يسوع إلى ما أراد الله الخالق في البدء (10: 6). إلى الله ينبوع كل صلاح (10: 18، رج مز 136: 1). ودلّ في الوقت عينه على أن إرادة الله قد تمّت في شخصه: شريعة الله هي منذ الآن ابن الله الذي يجب أن نسمع له (9: 7).
فيسوع لا يعلّم فقط "شريعة أخلاقية" نحفظها لندخل إلى الملكوت. لا يعلّم ما يجب أن "نفعل" لندخل إلى الحياة الأبدية. فالملكوت هو يسوع الذي يدعو البشر للانضمام إليه، للتعلّق به وبرسالته، لاقتلاع ذواتهم من قيمهم ليقبلوا منه الحياة وفرح الخلاص ونعمة بها نُدعى أبناء الله.
ج- الحياة الخلقية
ملكوت الله ليس مثال أخوّة بشرية نحلم بها ولا تتحقّق. ملكوت الله هو المسيح. يقودنا الآب في جماعة حياة ومصير مع الابن الحبيب. لهذا، فالوجود الخلقي للمسيحي يفترق عمّا يقدّمه لنا البشر (طريق الله غير طرقنا). والخلقية المسيحية لا تعلّم في ذاتها بل تبدو كمشاركة في وجود يسوع وحياة يسوع: وحده يقدّم لنا ملء كلمة الله في حياًتنا.
بمَ تقوم هذه الكلمة التي نسميها "إتباع المسيح"، الإقتداء بيسوع المسيح؟ نسمع إلى المسيح، نتعرّف إلى عواطفه (فل 2: 5). نلاحظ أن القسم الثاني من تعليم يسوع في مر، وهو الذي يتحدّد موقعه بين الإنباء الثاني بالآلام والانباء الثالث، نلاحظ انه يعالج المجالات الثلاثة الكبرى في حياة الإنسان. فسؤال التلاميذ حول الأولوية (9: 33- 35) كان مناسبة لتوسّع حول تقبّل الآخر، الخدمة، التجرّد (9: 36- 50) التي تشرف على الحياة المشتركة: هذا هو المجال الاجتماعي والسياسي، حيث تحدّد العلاقات بين البشر على أساس العظمة والسلطة. مع السؤال حول معنى الحياة الزوجية (10: 1- 12) وموقف يسوع من الأطفال (10: 13- 16)، ندخل في المجال العائلي مع عمق العلاقات التي تتّسم بالمحبة والعاطفة. ولقاء الغني مع يسوع (10: 17- 22) والحوار الذي تلا هذا اللقاء (10: 23- 31) يدخلاننا في المجال الاقتصادي مع مشاكل المال واستعمال خيرات هذه الأرض.
خاتمة
انتظر يسوع هذه المرحلة الرابعة ليقدّم لتلاميذه توجيهات حول تصّرفهم في العالم. هو لم يفعل قبل أن يعلنه بطرس باسم الرسل "المسيح" أي ينبوع حبّهم وموضوع رجائهم الأخير. من أراد أن يكون تلميذ يسوع، يُطلب منه أن ينكر ذاته، أن يحمل صليبه، أن يسير وراء المعلّم. قبل أن يقول لنا يسوع كيف يجب أن نعيش، إنه يجتذبنا كتلاميذ على طريق الإيمان، على التعلق بشخصه. لهذا، كان الإيمان ضرورياً لإتباع يسوع إلى أورشليم، لإتباع يسوع في طريق الملكوت. لا شكّ في أن الألم يحيط بنا. ولكن المجد ينتظر أيضاً. الحياة مع المسيح هي توازن بين الحزن والفرح، بين الذلّ والمجد، بين الموت والقيامة. هكذا فعل يسوع، هكذا فعل تلاميذه. وهكذا يُدعى جميع البشر

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM