الفصل الثامن عشر
الخدم في الكنيسة الأولى
الخوري بولس الفغالي
قبل أن نقدّم مقالنا عن الخدم في الكنيسة الأولى، نودّ أن نعرض جواباً على سؤال حول قيمة معلوماتنا عن الخدم كما ترد في أع. ولكننا ندعو إلى تجاوز هذه النظرة التاريخية من أجل الوصول إلى عالم اليوم. فنحن لا نستطيع أن نعود إلى البدايات، متجاهلين القرون العديدة التي تفصلنا عن هذه البدايات. غير أنه لا يمكن للتقليد أن يكون حملاً ثقيلاً يمنع الكنيسة من مواجهة الضرورات الجديدة والإنخراط بعزم في طريق يدعوها إليها الروح: إن التقليد يبقى حيّاً بقدر ما يبحث في أصوله، عن وحي يتيح له دوماً أن يتجاوز نفسه. الكتاب المقدس هو روح اللاهوت وهو يمنع اللاهوت من التحجّر في رؤية للأمور لا توافق الواقع الحي لروح لا يعرف أحد من أين يأتي ولا إلى أين يذهب (يو 3: 8).
وإذا نظرنا إلى أع، لاحظنا أن مسألة الخدم لم تُطرح بالنظر إلى الإحتفال بالافخارستيا. فهذا الإحتفال هو عمل الجماعة: تكلّم لوقا عن المؤمنين فقال إنهم كانوا يتمون "كسر الخبز" (أع 2: 42، 46؛ 20: 7). نحن نفترض أن بولس ترأّس الإحتفال في ترواس (20: 7- 11). ولكن لوقا الذي يقول إن بولس تكلّم وأطال الكلام ولم يزل يسترسل في الكلام، لم يقل عنه إنه كسر الخبز ووزّعه. ونشير هنا إلى واقع له مدلوله، وهو أن لوقا تكلّم عن "كسر الخبز" وعن الخدم، ولكنه لم يربط بينهما.
ونلاحظ أيضاً أن لوقا لا يطرح مسألة الخدمة وكأنها سلطة تشّرع عملاً خدمياً. نظرة لوقا هي غير نظرة المجمع التريدنتيني الذي تكلم عن سلطة تحُدث نتيجة بفضل أقوال وحركات خادم السّر (قال كنوخ مثلاً: تنطلق السلطة من الرسل، تمرّ عبر الجماعات الرسولية ومرسليها كما في أنطاكية، فتصل إلى الخدّام في الجماعات المحلية، رج 6: 1- 6؛ 13: 3؛ 14: 22- 23). ونجد البرهان على ذلك في ف 8. إذا أراد المسيحيون الذين ردّهم فيلبس في السامرة أن ينالوا الروح، وجب على الرسل في أورشليم أن يُرسلوا بطرس ويوحنا ليضعا عليهم الأيدي. نحن نفهم طوعاً أن الرسل تمتّعوا بسلطة خاصّة لم يكن يمتلكها فيلبس، أحد السبعة. هذا ما فهمه سمعان الساحر حين عرض على بطرس ويوحنا: "أعطياني أنا أيضاً هذه السلطة لينال الروح القدس كل من أضع عليه يدي" (8: 19). أخطأ سمعان حين أراد شراء هذه السلطة بالفضة. ولكن أما كان خطأ أعمق من هذا في نظر لوقا؟ قام خطأه على التفكير بأن الإنسان يقدر أن يمارس على الروح سلطة تجعله ينتقل إلى الآخرين. تلك هي أساليب سحريّة.
وهناك أيضاً التعزيمات (أو التقسيمات، صلاة تقال لاخراج الشيطان). إستعاد لوقا ما كتبه مرقس (9: 38- 41) عن ذلك المقسّم الغريب: "يا معلّم، رأينا رجلاً يطرد الشياطين باسمك، فأردنا أن نمنعه (أو: منعناه، كما يقول شهود عديدون)، لأنه لا يتبعك معنا" (لأنه لا يرافقنا، لأنه غريب عن جماعتنا) (لو 9: 49). يرى "التلميذ" أنه لا يحقّ للمقسّم أن يستعمل اسم يسوع، لأنه لا يرتبط بالمجموعة الرسولية. ولكن يسوع يرى غير هذا الرأي: "لا تمنعوه لأن من لا يكون عليكم (أو ضدّكم) فهو معكم" (لو 9: 50، قال مر 9: 40: من ليس ضدنا فهو معنا. أما لوقا فأراد أن يشدّد على البعد الاكليزيولوجي، فنقل النصّ من صيغة المتكلّم إلى صيغة المخاطب). ونجد ما يقابل هذا الحدث مع المقسّمين اليهود في أفسس: أرادوا هم أيضاً أن يستعملوا اسم يسوع، فأنكر عليهم الروح هذا الحقّ، وظلّ كلامهم من دون نتيجة (أع 19: 13- 17). أبرز هذا النصّ قدرة بولس العجائبية في خدمة الكلمة (آ 20). نحن هنا في جوّ قريب من عالم السحر.
إذن، ما هي نظرة لوقا إلى الخدم؟ إنه ينظر إليها في تواصل مع الخدمة الأولانية للرسل (يؤمّن الرسل التواصل بين جماعة قبل الفصح وجماعة بعد الفصح). قال الآب غرالو: يرسم لوقا بطريقته الخاصة تاريخ نموّ الخدم، فيشدّد على التواصل العضوي الذي يربط المراحل المتعاقبة (إنطلاقاً من الرسل). هذه الوجهة فرضت نفسها يوم دوّن لوقا كتابه (80- 85). وزاد الآب غرالو: إن الافق الاكليزيولوجي في أع والرسائل الرعائية هو أفق الزمن الذي واجهت فيه الكنيسة المسائل المطروحة بعد موت الرسل. فإذا انطلقنا من زاوية العلاقة بالرسل المؤسّسين، فالزمن الذي دوّن فيه أع والرسائل الرعائية، قد دشّن الزمن الذي نعيش فيه مع وضعه الخاص بالنسبة إلى الرسالة الأولى مع مشاكلها اللاهوتية والاكليزيولوجية، مع ضرورة الحفاظ على الوديعة (1 تم 6: 21) لنبقى أمناء لإنجيل الذي تسلّمناه.
هذه الملاحظة حول الإهتمام (عند لوقا) بإبراز تواصل الخدم المسيحية مع الخدمة الرسُلية (نسبة إلى الرسل)، تترافق مع حكم تاريخي. كانت بين يدي لوقا تقاليد قديمة استفاد منها ليُلقي الضوء على مسائل طُرحت على الكنيسة في أيامه. في هذا السبيل قال الآب غرالو أيضاً: "هناك مسافة طبيعية بين مادّية أخباره والتفاصيل الأصلية لتاريخ معيوش: فحقيقة التاريخ التي رواها تقف على مستوى آخر، وإن تضمنت تمثلاً يستحيل بدونه تقديم أي تفسير لاهوتي".
إذا كان لوقا قد تميّز باهتمامه بأن يبين رباط التواصل بين الخدم المسيحية والخدمة الرسُلية، فيبدو من الضروري أن نتوقّف عند فكرته عن خدمة الرسل. ويعالج القسم الثاني الرباط بين هذه الخدمة الأولانية والخدم التي ظهرت في جماعة أورشليم: خدمة السبعة، ثم خدمة يعقوب والشيوخ. ويعرّفنا القسم الثالث إلى تنظيم كنيسة انطاكية والكنائس التي أسّسها بولس الرسول.
أ- خدمة الرسل
نقدّم هنا فكرة لوقا عن الرسالة، وطريقته في عرض المنظمة الرسلية، وأسلوبه في إفهامنا أن تعاليم متعلّقة بالخدمة الرسلية، ما زالت تطبّق في الذين يوجّهون الجماعات المسيحية بعد موت الرسل.
1- الخدمة الرسلية
هناك كلمة خدمة (دياكونيا) 1: 17، 25؛ رج 6: 4؛ 20: 4؛ 21: 19) وكلمة "مهمة" أو وظيفة (أبيسكوبي، 1: 20). يقول لنا لوقا جوهر نظرته في الخبر الذي يروي فيه كيف أن الحلقة الرسلية استعادت ملئها (أي عادت إلى عدد 12) بين الصعود والعنصرة، بعد أن خسرته بخيانة يهوذا وارتداده عن الجماعة (1: 15- 26).
هناك أربع سمات تساعدنا على تحديد رسول من الرسل الاثني عشر (نشير إلى أن لوقا لا يورد ظهورات للقائم من الموت على نساء كما فعل ما 28: 9- 10 أو يو 20: 11-18).
السمة الأولى (آ 22): الرسل هم معاً شهود لقيامة يسوع. هذا هو موضوع خدمتهم الخاص. بما إن أحداً لم يشاهد القيامة نفسها، نفهم أن الرسل يشهدون على أن يسوع قام لأنه ظهر لهم بعد قيامته. هذه النقطة واضحة في خطبة بطرس في قيصرية (10: 40- 41) وبولس في انطاكية بسيدية (13: 30-31).
السمة الثانية: أن يكون الرسول واحداً من المجموعة الرسولية خلال كل حياة يسوع العلنية "منذ عماد يوحنا إلى يوم ارتفع عنا" (1: 21- 22). هناك أناس غير الرسل شاهدوا يسوع القائم من الموت مثل اسطفانس وبولس، ولكنهم ليسوا من الحلقة الرسلية. يقول القديس بولس: هؤلاء الذي صعدوا مع يسوع من الجليل إلى أورشليم (13: 31).
السمة الثالثة: لا تكفي مشاهدة كل الأحداث من عماد يوحنا حتى الصعود. هناك اختيار شخصي قام به الرب فجعل الرسل شهوده الرسميين (عيّنهم من أجل وظيفة أو مهمة)، وأمرهم بأن يشهدوا له. هو اختار الرسل، وهو يختار من يخلف يهوذا في هذه الخدمة. بالقرعة برز هذا الإختيار. "أظهرْ لنا من اخترت، يا ربّ" (1: 24- 26).
السمة الرابعة: لا نستنتجها من خبر تعيين متيا، بل من موضع هذا الخبر الذي أقحمه لوقا بين لائحة الرسل (1: 13؛ رج 1: 2) ومجيء الروح على بطرس وسائر الرسل (2: 37؛ رج 2: 4 1). فالرسل حسب وعد يسوع حين ذهابه النهائي (لو 24: 48-49؛ أع 1: 8)، هم الذين نالوا يوم العنصرة قوة الروح القدس التي تجعلهم جديرين بأن يتمّوا مهمّتهم كشهود للمسيح القائم من الموت.
من الواضح إذن أن شهادة الرسل لقيامة يسوع (في نظر لوقا) لا تنفصل عن التقليد الصحيح المتعلّق "بجميع ما عمل يسوع وعلّم" (1: 2). وإن الإنجيل قد وصل إلى الكنيسة على يد "الذين كانوا شهوداً منذ البدء وصاروا خداماً للكلمة" (لوقا 1: 2)، الذين طُلب منهم "ان يقولوا ما رأوا وسمعوا" (أع 4: 20). وعليهم يرتكز التواصل بين زمن يسوع وزمن الكنيسة.
ومن الواضح أيضاً أن مفهوم الرسالة هذا لا يقبل أسلوبَ بولس الذي يطالب بلقب "رسول" لنفسه، ولا لغة المسيحية الأولى التي جعلت الحلقة الرسلية أوسع من مجموعة الاثني عشر. يكفي هنا أن نذكر قانون الإيمان القديم الذي أشار إليه بولس في 1 كور 15: 5-8: "ظهر لكيفا (بطرس) ثم (للرسل) الاثني عشر... ثم ظهر ليعقوب، ثم لجميع الرسل". فالمجموعة المؤلفة من "جميع الرسل" هي غير مجموعة الاثني عشر. وتضم اللائحة يعقوب الذي لم يكن من الاثني عشر.
ليس التماثل بين الاثني عشر والرسل (في المعنى الحصري للكلمة) خاصاً بلوقا. فنحن نجده في رؤ 21: 14: "وكان سور المدينة (أورشليم الجديدة) قائماً على اثني عشر أساساً، على كل واحد منهم اسم من أسماء رسل الحمل الاثني عشر". هذا التماثل يعكس تفكير الحقبة التي تلت موت الاثني عشر، وقابل ميلاً طبيعياً لإمثال (أي تقدمة مثال) الاثني عشر. ويشير إلى اهتمامات زمن أحسّت فيه الكنيسة بالإيمان يهدّده عدد من الضلالات، وبضرورة الحفاظ على تقليد شهود يسوع العظماء. لقد نظر لوقا إلى مهمّة الرسل الاثني عشر من خلال الأمانة التي تطلبها الكنيسة من المسؤولين فيها.
2- تأسيس حلقة الرسل
أولاً: الأمر واضح عند مرقس: إن الاثني عشر هم موضوع تأسيس حقيقي قام به يسوع في بداية حياته العلنية: صعد إلى الجبل ودعا الذين أرادهم "فأقام منهم اثني عشر ليكونوا معه وليرسلهم...". إذن أقام الاثني عشر خلال حياته على الأرض (مر 3: 13-16). واختلف نصّ لوقا (6: 13) بعض الشيء عن نصّ مرقس. صعد إلى الجبل ودعا إليه تلاميذه العديدين واختار من بينهم الاثني عشر الذين سمّاهم رسلاً. إذن، هناك اختيار يميّز الاثني عشر عن الآخرين (رج أع 1: 2). ولكننا لا نجد حديثاً عن تأسيسه بحصر المعنى ولا عن توجيه خاصّ لهؤلاء الذي اختارهم.
ثانياً: كانت رسالة الاثني عشر في الجليل (بالنسبة إلى متّى) مناسبة لتأليف واسع (مت 9: 35- 10: 42) ينطلق من توصيات رسولية عرفها مرقس (6: 6 ب- 13) ولوقا (10: 1- 16. هناك مقابلة بين مر 6: 6 ب- 11 ومت 9: 35؛ 10: 1، 9-11، 14، بين لو 10: 2، 5-7 ومت 9: 37-38؛ 10: 12-13). ضمّ متّى ما قاله مرقس والمرجع الذي استقى منه لوقا إلى تقاليد اخرى، فأبرز مشهد الارسال ابرازاً خاصاً. وعرف لوقا المرجعين (مرقس+ مرجع خاصّ) اللذين استعملهما متّى، ولكنّه أفاد منهما بطريقة مختلفة. ففي 9: 1-6، إستعاد متّى ما قاله مرقس، عن رسالة الاثني عشر ولخّصه. غير أنه أبرز بقوة الخبر الآخر الذي هو إرسال مجموعة اخرى، مجموعة السبعين (أو 72) تلميذاً (10: 1-16). إذن، نستطيع القول إنه لا يعلّق أهمية كبيرة على رسالة الاثني عشر الجليلية. وإن ذكرها خلال العشاء الأخير (لو 22: 35-36)، فليدلّ على أنها قد زالت ومضت.
ثالثاً: حين أورد لوقا خطبة الوداع التي وجّهها يسوع إلى الرسل خلال العشاء الأخير (لو 22: 14= مت 26: 20؛ مر 14: 17)، قدمّ توسعاً (22: 14-38) يدلّ على الأهمية التي يعلّقها على هذه الخطبة (نشير إلى أن خبر العشاء الأخير يحتلّ 25 آية في لوقا، 9 آيات في مرقس و 10 في متّى). فقد أدخل فيها تعميماً عن ممارسة السلطة (لو 22: 24-27) كان ينتمي إلى قرينة أخرى (مر 10: 42-45؛ مت 20: 25-28). ونجد في هذه الخطبة أيضاً وعداً لأثني عشر (لو 22: 29- 30) يرد عند متّى في مكان آخر وبطريقة مختلفة (مت 19: 28). إن بعض الشرّاح يرون في هذا المقطع العمل الإحتفالي الذي به أسّس يسوع الرسل الاثني عشر. لنقرأ هذه الآيات: "أنتم الذين ثبتّم معي في محنتي (التي بدأت اليوم). وأنا أعطيكم ملكوتاً كما اعطاني أب، فتأكلون وتشربون على مائدتي في ملكوتي، وتجلسون على العروش لتدينوا عشائر بني اسرائيل الاثني عشر" (لو 22: 28- 30). ما يجعل هذا الإعلان بارزاً، هو علاقته بتأسيسه الافخارستيا التي هي تتميم للفصح في ملكوت الله (آ 16) وأداة العهد الجديد (دياتيكي: آ 20). ولكننا لسنا هنا بصورة مباشرة أمام الخدمة التي سيقوم بها الرسل في الزمن الحاضر، بل أمام الوضع المميّز الذي هُيّىء لهم في العالم الآتي.
رابعاً: سنبحث عن التأسيس الحقيقي للرسل في الكلمات التي قالها يسوع حين ترك العالم (بعد القيامة) وأقامهم شهوداً له: "أنتم شهود على ذلك" (لو 24: 48). "تكونون لي شهوداً في أورشليم واليهودية كلها والسامرة وحتى أقاصي الأرض" (أع 1: 8). لقد تنظّم الرسل في خدمتهم كشهود للمسيح ساعة عاد المسيح إلى الآب.
خامساً: ولكنهم لن يبدأوا ممارسة وظيفتهم قبل العنصرة. فنهاية الإنجيل (لو 24: 48-49) وبداية أع (1: 4- 5، 8) تشدّدان على هذه النقطة: على الرسل أن ينتظروا في أورشليم مجيء الروح. وهو يعطيهم القوة التي يحتاجون إليها من أجل ممارسة وظيفتهم كشهود. إذاً نستطيع القول بأن تنصيب الرسل في وظيفتهم لم يكن تاماً إلا مع حدث العنصرة. لهذا اهتم لوقا بأن يقول ان متيّا ضُمّ إلى الحلقة الرسولية قبل ذلك التاريخ: وجب أن يكون هنا من أجل تدشين الرسالة بصورة احتفالية. ولقد أفهم لوقا قارئه (ولم يقل بوضوح) أن الروح نزل يوم العنصرة على الاثني عشر وحدهم: فلائحة الأحد عشر في 1: 13 منفصلة عن الإشارة (آ 14) إلى الأشخاص الذين يرافقونهم. وان آ 15- 26 تورد كيف صار الأحد عشر اثني عشر من جديد. بعد هذا، لن يتحدّث النصّ إلاّ عن بطرس وسائر الرسل (2: 14، 37): سلّم إليهم القائم من الموت مهمّة ووكالة، وزاد الروحُ (أفاضه يسوع عليهم بعد أن ناله من الآب، 2: 33) تكريساً جعلهم قادرين على القيام برسالتهم.
3- وصايا يسوع إلى رسله
أولاً: أقحم لوقا في خبر العشاء الأخير (لو 22: 24-27) جدالاً بين الرسل، ممّا جعل يسوع يقدّم تعليماً موازياً لما نجده عند مرقس (10: 42- 45) بمناسبة الطلب الذي قدّمه ابنا زبدى: "واحد عن يمينك وواحد عن شمالك".
إليك القول المركزي في مرقس: "من أراد أن يكون عظيماً فيكم، فليكن لكم خادماً. ومن أراد أن يكون الأول فيكم، فليكن لجميعكم عبدا" (مر 10: 43- 44). تحدّث أبنا زبدى عن المركزين الأولين في الملكوت الآتي، أما يسوع فتحدّث عن المراكز الأولى بين التلاميذ في جماعة تنتمي إلى العالم الحاضر.
ويأتي قول لوقا (22: 26) الموازي فيواصل: "ليكن الأكبر فيكم كالاصغر والرئيس كالخادم". لا تنظر الآية إلى وضع يتمنّى فيه تلميذ أن يكون الأول، بل هي تنطلق من واقع تعيشه الجماعة الآن: لها رئيس يحتلّ المكان الأول. ليس له ان يصير كبيراً، فهو كبير. ولا يُطلب منه ان يكون خادماً وعبداً للجميع. بل يُطلب منه أن يتصرف وكأنه الأصغر أو كأنه الموكّل بالخدمة. الرئيس هو في اليونانية "هيغومينوس". وهي الكلمة التي استعملها أع 15: 22 ليدلّ على المركز الذي يحتله يهوذا برسابا وسيلا في جماعة أورشليم، والتي استعملتها عب 13: 7، 17، 24 لتسميّ رؤساء الجماعة المسيحية.
ولا شكّ في أن لوقا (22: 26) يتجاوز وضع الرسل الذين يتجادلون ليعرفوا من هو الأكبر (آ 24). إن لوقا يفكّر في كنيسة عصره، ويُريد أن يذكّر المسؤولين في الجماعات المسيحية بأن وظيفتهم لا تسمح لهم بأن يتخذوا ألقاباً لشبه تلك التي تُعطى للملوك الوثنيين (آ 25)، بل هي تجبرهم على أن يجعلوا نفوسهم في خدمة إخوتهم (آ 26) على مثال يسوع (آ 27).
ثانياً: نجد في لو 12 تحريضاً على السهر يتألّف من مثلين صغيرين (آ 35- 40)، ويليه سؤال يلفت انتباهنا. "حينئذ قال بطرس: يا رب، ألنا تقول هذا المثل أم للجميع" (آ 41)؟ كيف نفهم هذا التمييز بين "نحن"؟ و"الجميع"؟ إذا عدنا إلى الأمثال السابقة ونصّ مر 13: 37 الموازي، نجد جواباً يطلب السهر من التلاميذ ومن كل الناس أيضاً. ولكن الآيات التالية تُدخلنا في وجهة أخرى. فلوقا جعل من سؤال آ 41 لا مقدّمة تفسير يتطرّق إلى تعليم الآيات السابقة، بل انتقالة أدبية بين نداء إلى السهر موجّه إلى الجميع وبين تعليم عن الأمانة يتوجّه بصورة خاصة إلى أناس يتحمّلون مسؤولية في الجماعة: هم الرسل وهم كل الذين يمارسون مسؤولية في الكنيسة (في أيام لوقا).
قدمت آ 41 السؤال فجاء الجواب في آ 42- 46. يمثّل الخادمُ المسؤول عن توزيع الطعام لرفاقه. إن كان أمينا، أقيم وكيلاً على خيرات سيده. ولكن إن استغل سلطته سيكون العقاب كبيراً. هذا ما يقوله ويكتفي به مت 24: 45- 51. أما لوقا فيسمّي هذا الخادم "الوكيل" (أويكونوموس أي: الأقنوم في اللغة الديرية) وهي الكلمة التي يستعملها بولس ليدلّ على الرسل (1 كور 4: 1- 2). وهو ينطبق على الأساقفة (تي 1: 7) والمسيحيين الذي نالوا موهبة ليضعوها في خدمة الآخرين (1 بط 4: 10). الأويكونوموس هو الذي يمارس سلطة ويحمل مسؤولية لخير الجميع: طوبى لذلك الرجل إن أتمّ مهمّته بأمانة. ولكن الويل له إن استغلّ سلطته على حساب من أوكل أمرهم إليه.
ويزيد لوقا على هذا المثل تنبيهاً أخيراً (آ 47-48) يشدّد على مسؤولية من يقوم بالخدمة: "من أعطى كثيراً يُطلب منه الكثير، ومن ائتمن على كثير يُطالب باكثر منه". لا شكّ أننا أمام سؤال بطرس وتمييزه بين "نحن" و"الجميع". ولكن لوقا ينظر إلى الرسل، ومن خلالهم إلى الذين يقودون الكنيسة في أيامه.
ب- خدم جديدة في أورشليم
لقد مارس الرسل خدمتهم في أورشليم. وإن ذهب بطرس ويوحنا إلى السامرة فهما قد ذهبا كممثّلين للرسل الذين في أورشليم (8: 14). وإن زار بطرس السهل الساحلي (لدة، يافا، قيصرية، 9: 32- 10: 48)، فقد ظلّ مرتبطاً بأورشليم التي عاد إليها ليبرّر موقفه أمام الرسل والاخوة (11: 1- 18). وإن ابتعد وقتاً قصيراً عن أورشليم خلال اضطهاد هيرودس أغريباً فلوقا لا يقول لنا أين ذهب (12: 17)، كما لا يذكر لنما شيئاً عن إقامته في أنطاكية (رج غل 2: 11- 14). إذن، إرتبط الرسل الاثنا عشر بأورشليم، وسنرى في أورشليم بروز خدم جديدة: السبعة، يعقوب والشيوخ. كيف نظر لوقا إلى هذه الخدم بالنسبة إلى خدمة الرسل؟
1- تأسيس السبعة (6: 1- 6)
نتوقّف عند ثلاث نقاط: تقديم الحدث من وجهة لوقا، الحدث من الوجهة التاريخية، تحديدات الخبر عن طريقة تأسيس السبعة.
أولاً: من السهل أن ندرك تفسير الحدث في خبر لوقا. فقارىء أع يعرف بواسطة 4: 32- 5: 11 أن مسيحيّي أورشليم مارسوا المشاركة في الخيرات: كانوا يبيعون ممتلكاتهم ويضعون الثمن عند أقدام الرسل الذين كانوا مسؤولين عن توزيعها. ونعرف حين نقرأ بداية ف 6 أن هذا التوزيع لم يُرضِ الجميع. فقد أحسّ الهلّينيون أنهم مغبونون لأن "أراملهم لا يأخذن نصيبهن من المعيشة اليومية". فدعا الرسل المسيحيين إلى جمعية عامة اختاروا سبعة رجال يهتمون بخدمة الموائد ويحرّرون الرسل من خدمة جانبية تلهيهم عن مهمّتهم الرئيسية التي هي خدمة كلمة الله. لم يكن لهؤلاء السبعة أهمية الرسل، ولكن صاحب أع رأى فيهم أسلاف خدّام المحبّة الذي يعملون بامرة الأساقفة والشيوخ (أو القسوس).
ثانياً: أما واقع الحدث فيبرز بصورة مختلفة إن نحن أخذنا بعين الإعتبار مجمل المعلومات التي قدّمها لنا لوقا نفسه. نلاحظ أولاً أن نشاط اسطفانس وفيلبس "الإنجيلي" (21: 8) لا يدلّ على أنهما من "خدّام المائدة" (6: 2). فالسبعة لا يقومون بالمهمة التي حدّدها لهم الرسل، بل هم خدّام الكلمة على مثال الرسل.
وحصل اضطهاد بعد مقتل اسطفانس (8: 1)، فأجبر المسيحيين على ترك المدينة المقدسة: "تشتّتوا كلهم ما عدا الرسل". نحن نندهش من بقاء الرسل في أورشليم. أما يشكّلون أول أهداف المضطهدين؟ ولكن، هل ظلّوا وحدهم في أورشليم؟ فبعد أن روى لوقا ارتداد المضطهد شاول (بولس) بيّن أن كنيسة فلسطين كانت تنعم بالسلام وتعرف الإزدهار (9: 31)، حين تابع المشتّتون طريقَهم: وصل فيلبس إلى قيصرية (8: 40)، وتابع آخرون طريقهم إلى فينيقية وقبرص وأنطاكية (11: 19). وكان من بين هؤلاء أناس من قبرص ومن القيروان (11: 20) الذين انتموا إلى مجموعة الهلينيين. لن نفهم هذه المعلومات إلاّ إذا افترضنا أن المسيحيين الهلينيين (يهود يتكلمون اليونانية) وحدهم تشتتوا بعد موت اسطفانس: لم يُقلق الرسلُ ولا المسيحيون العبرانيون (يتكلّمون العبرية أو بالأحرى الأرامية). فقد توصّلت السلطة اليهودية إلى التمييز بين المسيحيين تمييزاً يقابل واقعهم (6: 1).
ومارس اسطفانس (6: 9) أحد السبعة، نشاطه في مجامع اليهود الهلينيين. هذا يعني أنه كان ينتمي إلى المسيحيين الهلينيين. وقد كان فيلبس أيضاً هلينيا، لأنه أقام في مدينة هلينية، هي قيصرية، بعد أن عمّد الحبشي الذي لم يكن يتكلم الأرامية. ونيقولاوس آخر السبعة، إنتمى إلى مجموعة الهلينيين وهو مرتدّ (بروساليتوس جاء حديثاً إلى اليهودية) يعيش في أنطاكية. لا نعرف إلاّ اسم الأشخاص الأربعة الآخرين المذكورين في 6: 5، ولكن أسماءهم هي أسماء يوناينة. إذا كان السبعة أعضاء في المجموعة الهلينية، أما يكون معقولاً أن مسيحيّي هذه المجموعة اختارتهم، لا الجماعةُ المسيحية كلها التي شكّل فيه الهلينيون أقلية ضئيلة.
وهكذا يبدو لنا تأسيس السبعة في وجه جديد: برزت صعوبات بين المسيحيين الهلينيين والآخرين، فرأى الرسل أن افضل وسيلة للمحافظة على السلام هي في منح المجموعة الهلينية تنظيماً خاصاً بها. وهكذا صار الهلينيون جماعة مستقلّة عن جماعة العبرانيين، وكانت لهم قيادة جماعية. وإن عدد المختارين يؤكد هذا التفسير، لأن الجماعات اليهودية كانت توضع عادة في عهدهّ سبعة مدبرين يكونون مسؤولين عنها.
إدْا كانت الأمور حصلت بهذا الشكل، نفهم أن يكون لوقا تراجع أمام صورة انقسام الكنيسة الأولى إلى مجموعتين متوازيتين (ومستقلتين)، فتحدّث عن السبعة الموكّلين على خدمة المحبّة. وهذا العرض يتيح له أن يبيّن أن المبادرات الرسولية المنسوبة إلى هؤلاء الرجال، لم تتعارض يوماً مع مبادرات الرسل الاثني عشر الذين تسلّموا مهمتهم من يسوع.
ثالثاً: كيف تأسسّ السبعة؟ يميّز الخبر مراحل ثلاث: عرض قدّمه الرسل (آ 2- 4). إختيار تمّ على يد الجماعة كلها (آ 5). وضع أيدي الرسل على السبعة (آ 6). هنا يتساءل المؤرخ: هل استعاد لوقا معلومات تقليدية وصلت إليه من مرجع قديم أم صوّر رسامة تمّت ساعة كان يدوّن كتابه؟
هناك. معلومتان لا شكّ في طابعهما التقليدي القديم: الخلاف بالنسبة إلى الأرامل (آ 1)، أسماء هؤلاء السبعة (آ 5). ولا بدّ من الإقرار بأن هذه الآيات الست (6: 1- 6) مطبوعة بفنّ لوقا في تدوين كتابه، وهي قريبة من هذه الإجمالات التي عرفها أع في الفصول الخسمة الأولى والتي استعملها لوقا لينتقل من موضوع إلى آخر. أجل، لقد استعمل لوقا 6: 1- 6 كمقدّمة لقصة اسطفانس، وهناك موازاة دقيقة بين خطبة الرسل في 6: 2- 4 وخطبة بطرس في 1: 16- 22 (يعرض بطرس ضرورة ايجاد من يحلّ محلّ يهوذا). وهكذا نكون أمام تدوين لنصّ الخطبة في 6: 2- 4 لا يتعدّى أيام لوقا.
ونقرأ آ 6: "ثم أحضروهم أمام الرسل، فصلّوا ووضعوا عليهم الأيدي". الرسل (لا الجماعة كلها كما قال دوبي مثلاً) هم الذين وضعوا الأيدي. من أين جاء لوقا بهذه الآية؟ لقد تذكّر مشهد تعيين يشوع كخلف لموسى في عد 27: 15-23. نشير هنا إلى أن اليهودية المتأخّرة تستعمل هذا النصّ من أجل رسامة الرابانيين. هنا نفهم المعنى العميق لوضع الأيدي، ونفهم أن الذين اختيروا ليخفّفوا عن الرسل ظلّوا خاضعين للذين وضعوا عليهم الأيدي.
2- يعقوب وشيوخ أورشليم
دخل الشيوخ (11: 30) ويعقوب (12: 17) على المسرح بشكل كتوم، ولكنهم ارتبطوا بالرسل ارتباطا وثيقاً خلال مجمع أورشليم (ف 15). ولما غاب الرسل، صاروا المسؤولين عن كنيسة أورشليم.
أولاً: يُذكر الشيوخ (أو القسوس) للمرّة الأولى في جماعة أورشليم في 11: 27- 30، وذلك بمناسبة الكلمة التي أرسلها مسيحيّو أنطاكية من أجل إخوتهم في اليهودية: وقد حمل بولس وسيلا هذه المعونة وسلّماها إلى الشيوخ.
نتساءل: لماذا لم يقل لوقا إن لمّة (تبرّع) أنطاكية "وُضعت عند اقدام الرسل" (4: 35، 37، 5: 2)؟ هل كان الرسل غائبين؟ ولكن لوقا يحدّثنا عن بطرس الراجع من قيصرية (11: 1-18) والحاضر في أورشليم خلال اضطهاد هيرودس أغريبا للمسيحيين (12: 1- 25). هل نفترض أن الرسل تخلّوا عن المسائل المادية؟ هذا ما يفترضه تأسيس السبعة في 6: 1- 6 ولكن السبعة وجماعة الهلينيين تركوا أورشليم بعد مقتل اسطفانس. فهل نفترض أن الشيوخ المذكورين في 11: 30 يلعبون بالنسبة إلى "العبرانيين" الدور الذي يلعبه السبعة في جماعة الهلينيين؟ الأمر ممكن لاسيّما حين نرى طريقة لوقا في عرض الأشخاص. فالشيوخ يظهرون كالسبعة في إطار خدمة المحبّة. وسنرى في ف 15 أنهم يشكّلون بجانب الرسل مرجعاً تعليمياً.
لم يعطنا لوقا معلومات عن أصل الحلقة "الكهنوتية" (الشيوخ) في أورشليم. هل كانت هذه الحلقة نموذجاً لتأسيس السبعة، أم انها تبعت طريقة تأسيس السبعة؟ لم يزل الشرّاح في جدال، ولكن يجب أن نلاحظ ان وجود مثل هذه الحلقة على رأس جماعة ما زالت مرتبطة بالديانة اليهودية، أمر معقول من الوجهة التاريخية. ونزيد أن قرّاء لوقا لم يدهشوا حين عرفوا أنه كان لجماعة أورشليم شيوخها، شأنها شأن الجماعات المسيحية التي تعرّفوا إليها.
إن نحن تساءلنا عن أصل الحلقة الكهنوتية، لم نفهم هدف لوقا حين ذكر الشيوخ للمرة الأولى. حين نتساءل من أين جاؤوا ننظر إلى الوراء. أما لوقا فيتطلع إلى الأمام: إنه يريد أن يهيّىء القارىء للدور الذي سيلعبه الشيوخ في المجمع. ادخلهم على المسرح في 11: 30 من أجل الخبر اللاحق. وسنجد الأسلوب عينه حين نصل إلى يعقوب: يقدّمه لوقا بطريقة كتومة، ويهيّئه للدور المهمّ الذي سيلعبه في مجمع أورشليم.
ثانياً: يظهر يعقوب للمرة الأولى في 12: 17. بعد أن نجا بطرس من السجن بطريقة عجيبة، وترك أورشليم خفية، طلب من الجماعة أن تخبر "يعقوب والاخوة". أي يعقوب يعني؟ لا يعقوب الرسول وأخ يوحنا الذي عرفنا بمقتله في 12: 2. ولكن قارىء لوقا يعرف أشخاصاً آخرين تسمّوا بهذا الاسم: الرسول يعقوب بن حلفى (لو 6: 15؛ أع 1: 13)، ووالد يهوذا الرسول (لو 6: 16)، ووالد مريم، إحدى النساء القديسات (لو 24: 10). في الواقع نحن هنا أمام يعقوب آخر لم يذكر حتى الآن: هو الذي سمّاه بولس "اخ الرب" (غل 1: 19). كان الشخص معروفاً، فلم يتعب لوقا بالتعريف به.
والطريقة التي بها يرد الاسم للمرة الأولى لها معناها العميق: على لسان بطرس الذي استعدّ لأن يترك اورشليم. إذن بطرس هو الذي يقدّم لقارىء أع يعقوب هذا الذي سيصير رئيس كنيسة أورشليم. هناك رباط تواصل بين رئيس الحلقة الرسولية (أي الاثني عشر) والكنيسة الأولى، وبين الذي اخذ المشعل من يده. صار يعقوب رئيس كنيسة أورشليم، ولكنه لم ينل سلطته من دون بطرس.
إن أولوّية يعقوب في جماعة أورشليم المسيحية المتهودة، امر لا جدال فيه من الوجهة التاريخية. يشهد على ذلك بولس الذي يرى في يعقوب وكيفا (بطرس) ويوحنا العمداء في كنيسة أورشليم (غل 2: 9). يشير لوقا إلى أن بطرس اعترف بهذه الأولوية، ولكنه لا يقول شيئاً عن أصل سلطته. كل ما نعرفه هو أنه "اخ الرب" وانه خلف بعد موته سمعان "اخ الرب" (اوسابيوس التاريخ الكنسي 4/ 22: 4). لقد علّقت كنيسة أورشليم أهمية حاسمة على رباطات الدم والقرابة: غاب الرب، فحلّ محله اقرب اقربائه. ولكن لوقا ربط يعقوب ببطرس، وسنجد الاثنين معاً في مجمع أورشليم.
ثالثاً: نجد في مجمع أورشليم كل الأشخاص الذين ساسوا الكنيسة الأم. يبدأ الخبر فيورد خطبتين: تكلّم بطرس اولاً (15: 7- 11)، فكانت هذه الخطبة آخر كلمة يقولها في أع. بعد هذا، ترك المسرح نهائياً وقد انتهى دوره بالموافقة التامة على عمل بولس الرسولي وثوابته اللاهوتية. ثم تكلّم يعقوب، فعبرّ عن توافقه مع سمعان واستند إلى الانبياء (آ 13-18). هكذا أبرز التواصل بين رئيسي كنيسة أورشليم. بعد هذا، عبرّ يعقوب عن سلطته (آ 19: ولذلك أرى، أو أرتني)، فعرض الاجراءات العملية التي ستكون موضوع القرار المجمعي.
ولكن القرار الذي اتخذ فيما بعد، لم يتّخذ باسم يعقوب أو بطرس، بل باسم الرسل والشيوخ. فإلى الرسل والشيِوخ جاء وفد أنطاكية (آ 2). والرسل والشيوخ هم الذين استقبلوا الوفد (آ 4)، ودرسوا قضيته (آ 6)، واتخذوا القرار بالاتفاق مع الكنيسة الأم (آ 22). لهذا كان من الطبيعي أن يدوَّن القرار المجمعي باسمهم (آ 23)، لأنه يتضمّن القرارات التي اتخذها الرسل والشيوخ الذين في أورشليم والتي تشكّل شريعة يجب العمل بها (16: 4). في هذا الظرف، تشكّل الحلقة الرسولية والحلقة الكهنوتية (تكلّم باسمهما بطرس ويعقوب) السلطة العليا في الكنيسة. وهذا الجمع بين الشيوخ والرسل يفترض أن الشيوخ يتمتّعون بسلطة تعليمية. فلا ينحصر دورهم في أمور إدارية كما نظنّ حين نقرأ 11: 30.
بعد المجمع، لن يتحدث أع عن بطرس ولا عن الرسل. ولكن مكانهم ليس بفارغ. فقد حلّ محلّهم يعقوب والشيوخ (أو القسوس، أو الكهنة).
رابعاً: سنجد يعقوب والشيوخ في أورشليم خلال زيارة بولس الأخيرة لها. وصل فاستقبله الإخوة (21: 17). ثم زار يعقوب، "وكان الشيوخ كلهم حاضرين" (آ 18). وبعد أن روى بولس كل ما أجرى الله على يديه بين الوثنيين، طلب منه يعقوب والشيوخ أن يبرهن أنه ما زال أميناً لليهودية (آ 20- 24). ذكّروه أن على الوثنيين المرتدين إلى المسيحية أن يحفظوا الشرائع التي فُرضت سابقا (آ 25) على يد الرسل والشيوخ (15: 29) والتي يسمّيها يعقوب والشيوخ شرائعنا (نحن): ذهب الرسل، فاعتبر المسؤولون في كنيسة أورشليم أن قرار المجمع الذي شاركوا في إتخاذه مع الرسل هو قرارهم. فكأني بالقرار لا يرتبط بشخص، بل بمسؤولي كنيسة أورشليم الذين يُعتبرون السلطة العليا.
ج- انطاكية والكنائس البولسية
حين يتحدّث لوقا عن كنيسة أنطاكية، فهو يشير إلى وجود أنبياء ومعلّمين يتمتعون بمكانة خاصّة في قيادتها (13: 1-3). ويذكّر بالنسبة إلى الكنائس البولسية تأسيس الشيوخ والقسوس (والكهنة) في الجماعات التي تأسّست خلاله الرحلة الرسولية الأولى (14: 22- 23) ويورد خطبة مهمة وجهها بولس لشيوخ افسس (20: 17- 35).
1- الانبياء والمعلمون في انطاكية
تشكل 13: 1- 3 مقدّمة لخبر الرسالات البولسية. وإذ ربطها لوقا بكنيسة أنطاكية، أعطانا بعض التفاصيل الهامة عن تنظيم هذه الكنيسة وحياتها. وها نحن نقرأ هذه الآيات بالتفصيل.
أولاً: آ 1: وكان في كنيسة أنطاكية أنبياء ومعلّمون هم: برنابا، شمعون الذي يدعى نيجر، لوقيوس القيرواني، ومناين وهو صديق الوالي هيرودس من الطفولة، شاول.
لا جدال في القيمة الوثائقية لهذه اللائحة التي تتضمّن أسماء خمسة. تذكر، مع برنابا وشاول، ثلاثة أشخاص لا نعرفهم إلا في هذا المكان ولن يلعبوا أي دور في أع. لا شكّ في أن لوقا استند إلى تقليد قديم له قيمته التاريخية.
لا يقول لوقا إن هؤلاء الخمسة شكّلوا حلقة دبرت مصير الجماعة. ولكن كما كانت لائحة الرسل في 1: 13 ولائحة السبعة في 6: 5، هكذا نجد لائحة العاملين في أنطاكية في 13: 1.
نال هؤلاء الخمسة لقبين: نبيّ، معلّم. لا شكّ في أننا أمام أمر تاريخي. في 1 كور 12: 28-29، يدلّ هذان اللقبان على مواهب تخصّ أشخاصاً مختلفين، أما هنا، فالأشخاص الخمسة هم أنبياء ومعلّمون. نحن أمام موهبتين متكاملتين: نرى مثلاً في 15: 32 أن الأنبياء يتميّزون بموهبة تحريض الإخوة وتثبيتهم على الإيمان. أما المعلّمون أو "الملافنة"، فهم الذين يعلّمون المؤمنين ويلقّنونهم مبادىء الإيمان.
كيف صار هؤلاء الانبياء والمعلّمون على رأس كنيسة انطاكية؟ هذا ما لا يقوله لنا لوقا. وإذ نعرف (11: 20) أنه وُجد قيروانيون بين مؤسسّي هذا الكنيسة، نتساءل: أما كان لوقيوس القيرواني واحداً منهم؟ على كل حال، لا يجعل لوقا برنابا واحداً منهم: جاء فيما بعد موفداً من أورشليم (11: 22)، جاء في مهمّة رسميّة إلى أنطاكية، فعمل الكثير من أجل الرسالة في هذه المدينة العظيمة. ونستطيع القول إنه لولا تأثيره لما جاء بولس واتخذ مكانته بين المسؤولين. ونقول إن اللقبين يفهماننا أن سلطتهم ارتبطت بموهبة خاصة تجعلهم "خدّاماً للكلمة" جديرين بهذا الأسم.
ولكن خدّام الكلمة هؤلاء أسسّوا حلقة منظمة (مؤسسة)، وهذا ما نستنتجه من لائحة أسمائهم.
ثانياً: آ 2: وبينما هم يحتفلون بخدمة الرب (شعائر العبادة) ويصومون، قال الروح القدس: "خصّصوا لي برنابا وشاول لعمل دعوتهما إليه".
نحن هنا أمام عمل ليتورجي. ولكن هل يحتفل بهذه الليتورجيا الخمسةُ أم المسيحيون المجتمعون في "كنيسة"؟ يبدو أن المعنى والغراماطيق يدلاّن على الخمسة فقط، كما يقول معظم الشرّاح. ولكن يُطرح سؤال ينقسم حوله الشرّاح، فيقول البعض: نحن أمام اجتماع صلاة خاص بالخمسة. وقال آخرون: كانت الجماعة حاضرة وإن لم يُشر النصّ إلى حضورها.
ما هو موضوع هذه الآية؟ ما حدث في يوم من الأيام في انطاكية حوالي السنة 40 ورواه لوقا لقرائه حوالي السنة 80. إنطلق من التقليد، ودوّن هذا النصّ بطريقته. فهو يجمع الصلاة والصوم، وهذا ما فعله مرتين في إنجيله (لو 2: 37؛ 5: 33)، ومرتين أخريين في أع (13: 3، 14: 23). قال الروح القدس. لقد اعتاد لوقا ان ينسب العمل مباشرة إلى الروح الذي يوجّه بنفسه الكنيسة. والدعوة المذكورة هنا (دعوتهما) عبر كلمة نبوية، سنجدها في 16: 10 عبر حلم ورؤية: لقد فهم بولس ورفاقه المهمة التي دعاهم الله إليها.
كيف كانت الليتورجيا في انطاكية؟ سنتعرّف إليها حين نقرأ آ 3 و14: 23. بعد هذا لن يُذكر حضور الجماعة مع صلوات المسؤولين، ولكن النصّ يتضمّن هذاً الحضور. وهذا ما نقوله عن آ 2: نحن أمام ليتورجيا جماعية يرئسها الخمسة بصفتهم معلّمين وأنبياء. هل كان هناك كسر خبز؟ هذا ما لا يقوله لوقا.
ثالثاً: آ 3: وبعد ان صاموا ووضعوا عليهما الأيدي، صرفوهما.
ونتساءل عن الفاعل. إذا عدنا إلى الغراماطيق، نفهم أن الفاعل هو الانبياء والمعلّمون المذكورون في آ 1. ولكن إذا عدنا إلى 6: 6، نرى أن السبعة نالوا وضع اليد لا من المسيحيين الذين اختاروهم (كما يقول الغراماطيق)، بل من الرسل (كما يقول المنطق). أما في 13: 1-3، فلا نميّز بين فاعل غراماطيقي وفاعل منطقي: فالانتباه يتركّز كلّه على مسؤولي الجماعة بحيث لم يُذكر المسيحيون حتى في آ 3 حيث يُفرض أن يكونوا موجودين. ولكن هذه الاعتبارات تقودنا إلى نتيجة مستحيلة: هل ننسب إلى الخمسة فعلة وضع الأيدي التي تعني اثنين منهم؟ إذا، يجب أن نفترض أن الثلاثة الآخرين وضعوا الايدي على برنابا وشاول.
هنا نزيد بصورة هامشية أننا إن قرأنا 1: 23-26، سنتعب لنعرف ما يتعلّق بالرسل وما يتعلّق بجماعة المئة والعشرين في تعيين الرسول الثاني عشر. وفي 14: 23 سيطرح علينا تأسيس الشيوخ صعوبة أخرى. وهكذا يرى بعض العلماء التباساً في نصوص لوقا. ولكن هذا يدلّ على أننا نطرح على لوقا أسئلة لا تهمّه.
ووضع الثلاثة أيديهم على برنابا وبولس. ولكن ما قيمة هذه الفعلة في نظر صاحب أع؟ هذا ما سيشرحه لوقا نفسه حين يتذكّر نقطة الانطلاق في نهاية السفرة التي تبدأ هنا: "نزل المرسلان من أتاليا ومنها سافرا في البحر إلى أنطاكية التي خرجا منها ترعاهما نعمة الله من أجل العمل الذي قاما به" (14: 26). إن عبارة "العمل الذي قاما به" هي صدى للآية 13: 2: العمل الذي دعوتهما إليه. وعبارة ترعاهما (أو تسلّمتهما نعمة الله) تعطينا معنى وضع الأيدي كما في 13: 3: طقس توصية (يوصون بهما) وتشفُّع من أجل تتميم مهمّة محدّدة. وسيتكرّر النصّ في الإنطلاقة التالية: ذهب بولس برفقة سيلا بعد أن تسلّمته (ترعاه) نعمة الله (بصلاة) الإخوة (15: 40). لم تُذكر هنا فعلةُ وضع الأيدي، بل الصلاة التي قالها الإخوة عليه.
هل نحن هنا أمام رسامة كهنوتية ينالها بولس من رفاقه؟ لا. ثم إن ما فعل في 14: 26 تكرّر في 15: 40. وسيبيّن لوقا بوضوح المعنى الذي ينسبه إلى هذه الفعلة في 14: 26: يسلّم كنيسة الله إلى اناس تُوكَل إليهم مهمّة محدّدة ومحدودة في الزمن. ونزيد: حين أحاط لوقا بداية أسفار بولس بأبهّة احتفالية، أراد أن يبيّن الرباط الوثيق بين هذه الرحلات وكنيسة أنطاكية التي تكفل عملاً قام تحت مسؤوليتها على يد شخص لم يكن رسولاً (ابوستولوس) من الرسل الاثني عشر (بحصر المعنى) بل رسول (ابوستولوس) الروح القدس، والموفد من أنطاكية (13: 4؛ 14: 4، 14).
أرسلت كنيسة أنطاكية برنابا وبولس في مهمة. وقبلها أرسلتْ كنيسة أورشليم برنابا إلى أنطاكية (11: 22). كما أرسل مجمع أورشليم يهوذا وسيلا إلى أنطاكية (15: 12، 25، 27، 32- 33). وسترسل أنطاكية بولس وبرنابا إلى أورشليم (11: 30؛ 12: 25؛ 15: 2- 4). كل هذا يدلّ على سلطة كنيسة أورشليم التي اعطت لكنيسة أنطاكية صفة شرعية.
2- الشيوخ في الكنائس البولسية
يورد لوقا مرتين (أع 14: 13؛ 20: 17) أن بولس أسسّ "شيوخا" أو قسوساً. نحن نعرف أن رسائل بولس الأولى (ولكن نجده أيضاً في تم 5: 1، 2، 17، 19؛ تي 1: 5) لا تستعمل هذا اللقب ساعة انتظرنا أن نجده: هو يطلب في 1 تس 5: 12-13 إلى المسيحيين المحبّة (والاكرام) للذين يتعبون، للذين وظيفتهم أن ينبّهوا أصحاب السلوك السيّىء. ويطلب بولس من المسيحيين في كورنتوس (1 كور 16: 15- 16) بأن يسمعوا للذين كرّسوا انفسهم لخدمة الإخوة. وتشير فل 1: 1 إلى وجود اساقفة في فيلبي (تتوجّه فل إلى الاخوة والى الاساقفة والشمامسة): إن اللقب المعطى لهم يقابل ما يقوله أع 20: 28 عن شيوخ أفسس: لقد جعلهم الروح أساقفة على القطيع الذي أوكل إليهم. عليهم أن يرعوا كنيسة الله.
لن نقابل بين لوقا وبولس في إستعمال الكلمات التي يمكن أن يكون معناها قد توضّح على مرّ الزمن. ثم إن لوقا يستند إلى مراجع قديمة، وقد يكون عاد إلى ما يراه في كنيسته حين يكتب أع. إن النقد الأدبي للنصوص يفرض علينا أن نأخذ بعين الإعتبار الحكم التاريخي.
أولاً: لتسرة، ايقونية، انطاكية بسيدية
إذا ألقينا نظرة إلى الخريطة، وجدنا أن بولس وبرنابا وصلا إلى آخر رحلتهما الرسولية حين بلغا أنطاكية بسيدية. ذهبا من الجنوب إلى الشمال. وفي أنطاكية مالا إلى الشمال الشرقي وكأنهما يريدان العودة إلى انطاكية سورية حيث انطلقا عبر طرسوس. هذه ستكون عكس مسيرة بولس خلال الرحلة الرسولية الثانية (15: 41- 16: 6). ولكنّ لما وصلا إلى دربة عادا أدراجهما، فطال السفر واعترضتهما اخطار جديدة: كيف العودة إلى مدن لقيا فيها الإضطهاد؟ ولكنهما أرادا أن يشجّعا الإخوة ويحرّضاهم على التشبّث بالإيمان، ويقولا لهم أن علينا أن نمرّ في مضايق عديدة لندخل ملكوت الله (14: 22). ورافق كلام التحريض هذا الموجّه إلى المرتدّين الجدد، إجراء هامّ اتخذاه: "عيّنا لهم قسوساً (شيوخا) في كل كنيسة، وبعد أن صلّيا وصاما، إستودعاهم (سلّماهم) إلى الرب الذي آمنوا به" (14: 23). هل استودعا التلاميذ إلى الرب قبل أن يتركاهم في حفلة وداع؟ ولكن، إن دلّ الضمير على القسوس، فقد نكون أمام طقس رسامة. إن التفسير الثاني هو الأصحّ: سلّم بولس وبرنابا الشيوخ إلى الرب. فنحن لا نستطيع ان نفسّر 14: 23 دون الأخذ بعين الإعتبار ما كتبه لوقا في 14: 26: كان بولس وبرنابا قد سُلّما إلى نعمة الله من أجل العمل الذي أتمّاه. هذه الآية كما قلنا، تذكّرنا بطقس وضع الأيدي في 13: 3، وتدلّ على أننا نسلِّم إلى الله من نعيّن لهم مهمّة خاصة. ولكننا نقرأ التوازي الحاسم في 20: 32 حين يعلن بولس ساعة يترك شيوخ أفسس في نهاية حياته الرسولية. وإن دور هاتين الآيتين يشبه دور الخطبة الصغيرة بصورة نهائية: "والآن أسلّمكم إلى الرب وإلى كلمة نعمته". الكلمات هي هي، وتقال في وضعين متشابهين. ثم إن هناك رباطاً بين النصين في مسيرة أع: إن 14: 22-23 يشكّل في نهاية الرحلة الرسولية الأولى رسمة الخطبة الطويلة التي يوجّهها بولس إلى شيوخ أفسس التي وجّهها بولس إلى الوثنيين (14: 15- 17) والتي كانت رسمة الخطبة الكبيرة التي وجّهها إلى وثنيّ أثينة في ذروة حياته الرسولية كما يقول لوقا (أع 17: 22- 31). في الواقع لا نستطيع أن نفسّر البداية وننسى التوسيع الكبير الذي يعلنه والذي يتضمّن المواضيع التي ستبرز بصورة واضحة.
فالتوازي بين 13: 3؛ 14: 26؛ 20: 32 يتيح لنا أن نفترض أن صلاة بولس وبرنابا في 14: 23 تعني الشيوخ الذين عيَّناهم: ففي إطار احتفالا ليتورجي، سلّماهم إلى الرب الذي آمنوا به. ونزيد أن 13: 3 يتيح لنا أن نتذكّر في هذه المناسبة فعلة وضع اليد التي لم يرَ لوقا حاجة في ان يذكرها في الآية التي ندرس. هل يحقّ لنا ان نتكلم عن رسالة؟ هذا موضوع لم يطرحه لوقا. نحن أمام صلاة من أجل إتمام مهمّة معيّنة: يدعو بولس وبرنابا الرب ليحمي هؤلاء الذين سينفصلون عنهم.
ثانياً: الخطبة الوداعية لشيوخ افسس
تشكّل هذه الخطبة التعبير الأكمل والأوضح لفكر لوقا حول مهمّة المسؤولين عن الجماعات المسيحية، حول مهمة الشيوخ (20: 17) الذين يمارسون وظيفة الرعاية (20: 28). لا شكّ في أن وظيفة هؤلاء الوجهاء تربطهم بجماعة محلّية هي جماعة أفسس. فعليهم أن يرعوا كنيسة الله التي اقتناها بدم ابنه. إن كل جماعة محلّية هي تحقيق ملموس للكنيسة الواحدة وغير المنقسمة. وحين يقوم المسؤولون عن الجماعة المحلّية بواجبهم، فهم يقومون بخدمة كنيسة الله.
وتنسب آ 28 تأسيس الشيوخ إلى مبادرة الروح القدس: "أقامكم الروح القدس أساقفة على الرعية لترعوا كنيسة الله". نحن أمام كلام مهم من الوجهة اللاهوتية، ولكنه لا يقول لنا شيئاً ملموساً عن ظروف هذا التأسيس. ولكن إذا عدنا إلى منطلق لوقا، نعرف أنه لم يعد له ان يكرر ما قاله في 14: 23: سيفهم القارىء أن بولس عيّن هؤلاء الشيوخ، ولكنه فضّل أن يتحدّث عن مبادرة الروح.
وتطرح آ 32 سؤالاً: "والآن أسلّمكم إلى الربّ وإلى كلمة نعمته". هذه العبارة هي اختلافة لما قرأنا في 14: 23: "بعد أن صلّيا وصاما، سلّماهم إلى الرب الذي به آمنوا". قلنا إن هذه الكلمات (14: 23) تعني الشيوخ، وإن كثيراً من الشرّاح يعتبرون أننا أمام رسامة. فإذا كان هذا التفسير صحيحاً، فهذا يعني أن هؤلاء الشيوخ الذي "رُسموا" سيكونون امتداداً للتقليد الرسولي وخلفاء للرسل في سلطتهم.
وإذا أردنا أن نفهم حقاً وجهة لوقا، ننظر إلى الحالة التي يصوّرها في هذه الخطبة. هناك اولاً غياب بولس النهائي: "لن ترون وجهي" (آ 25). إذن، يتخلّى بولس عن كل مسؤولية تتعلق بالجماعة. ثمّ إن هذا المستقبل يبدو قاتماً، وهو يوافق الزمن الذي عاش فيه لوقا. إن الجماعة تتعرّض لمخاطر كبيرة آتية من الخارج ومن الداخل (آ 29 و 30): "ينطقون بالأكاذيب ليضللوا التلاميذ فيتبعوهم". الخطر يهدّد نقاوة الإنجيل ووحدة الكنيسة. قد يكون المتهودون او الغنوصيون المضلّلين. لا يهتم لوقا بطبيعة الخطر بقدر ما يهتم بخطورة الوضع الذي ستجد فيه الجماعة نفسها.
هذا الإطار يبرز التوصيات التي تحدّد مهمّة الشيوخ. عليهم أن يسهروا على نفوسهم وعلى كل الرعية التي اوكلت إليهم (آ 28). عليهم أن يكونوا حذرين تجاه الذين ينشرون التعاليم الضالة (آ 31). وتشدّد آ 31 على واجب تنبيه كل واحد بمفرده ليعود إلى الصراط المستقيم، كل الذين يثير موقفهم مخاوف المسؤولين. وبصورة عامة، يُدعى الشيوخ إلى أن يتمثلّوا ببولس: لم يتهرّب من الوعظ والتعليم (آ 20)، بل بلّغ المؤمنين مشيئة الله كلها (آ 27). وتشدّد نهاية الخطبة على تجرّده ومحبته للمؤمنين (آ 33-35). ليتذكر الشيوخ كيف كان ينصح كل واحد (31) فيتعلّمون كيف يمارسون خدمة تنادي (أو تشهد) ببشارة نعمة الله (آ 24).
وتلخص آ 32 هدف خدمتهم: "تشييد البناء (أي الكنيسة، تقويتها) ومنح الميراث وسط كل المقدسين". ولكن تحقيق هذا المشروع سيكون عمل سلطة تخصّ كلمة الله. فبدل أن يسلّم بولس هذه الكلمة إلى الشيوخ، ها هو يسلّم الشيوخ إلى كلمة الله التي تقدر ان "تشيد البناء وتمنح (المؤمنين) الميراث وسط المقدسين".
إن الشيوخ هم حماة التقليد الرسولي، ودورهم هو امتداد لدور الرسل الذين هم كافلو التقليد الإنجيلي. إرتبطت الكنيسة بيسوع بكرازة الرسل وهي تنتظر من شيوخها كرازة توافق كرازة الرسل وتحفظها في الأمانة لأصولها. مثل هذه النظرة إلى الخدمة الكهنوتية توافق ما نقرأه في الرسائل الرعائية.