الفصل السابع عشر
الصلاة في أعمال الرسل
الخوري بولس الفغالي
حين يتحدّث سفر الأعمال عن الجماعات المسيحية، فهو يبيّن أنهّا كنائس تصلّي. صلاة في أنطاكية أو تراوس، صلاة في فيلبي أو في صور وقيصرية. ولكن يبقى تصّرف كنيسة أورشليم المثال والنموذج لجميع الكنائس ومنها كنيستنا.
1- كنيسة أورشليم.
لخّص القديس لوقا في اجمالته الأولى (2؛ 42-47) حياة جماعة أورشليم في أربع عبارات بدت له مهمّة كل الأهميّة. وفي هذه العبارات نجد اثنتين تتحدّثان عن الصلاة: هي "كسر الخبز" و "الصلوات". أما الإثنتان الباقيتان فهما: تعليم الرسل والمشاركة في الخيرات. أن تكون آ 42 التي تورد هذه العبارات الأربع من تأليف لوقا (كما قال سرفو)، أو أن تكون وصلت إليه من التقليد السابق، فالوضع لا يتغيرّ بالنسبة إلى حديثنا عن الصلاة. فسواء احتفظ بها بعد أن أخذها من مراجعه، وسواء زادها، فهذا يدلّ على أنه رأى في هذه الإجمالة الأولى صورة ثمينة عن كنيسة أورشليم يجدر بسائر الكنائس أن تحتذي بها.
نلاحظ أولاً في آ 42 هذه صيغة الجمع: تكلّم الكاتب عن "الصلوات". قد تدلّ هذه اللفظة على نمط من الصلاة، ونحن في جوّ مسيحي. وقد تدلّ على نشاط واسع يتضمّن عدداً من الصلوات التي تتنوّع وتتكرّر وتتنظّم إلى أن تصبح هذه الصلوات التي نجدها في مختلف أسفار العهد الجديد.
بين هذه "التمارين" الروحية، هناك ما يشارك فيه "المسيحيون" (لم ينالوا بعد هذا الإسم) اليهود. أو بالأحرى، يشترك المسيحيون مع اليهود في أعمال ليتورجية لا يحسّون أنهم مفصولون عنها أو مبعدون (سيتمّ الأبعاد بعد سنة 70) وخصوصاً في الهيكل. وفي المناسبة، يتحدّث لوقا عن مشاركة المسيحيين في الممارسات اليهودية: "كانوا كل يوم يلازمون الهيكل بنفس واحدة" (2: 46). وبعد هذا، يشير إلى موضع يتجمّع فيه المؤمنون الجدد: "في رواق سليمان" (5: 12 ب؛ رج 3: 11). أن تكون هذه الإشارة غير دقيقة أو ثانوية، فهي تثبّت نيّة الكاتب الذي أراد أن يبيّن مشاركة الكنيسة الأولى الشعب لليهودي في صلاته. فقد خرجت منه، ولم تزل على علاقات معه، وستأخذ الكثير من تعابير صلاته ولا سيّما من سفر المزامير.
ويذكر لوقا أيضاً أن "بطرس ويوحنا صعدا إلى الهيكل لصلاة الساعة التاسعة" (3: 1) أي الساعة الثالثة بعد الظهر. وسوف نرى بعد ذلك بولس، خلال إقامته في المدينة المقدّسة، يشارك في الحفلات الدينية (21: 26؛ 22: 17: "كنت أصلّي في الهيكل) في الهيكل. ويورد لوقا خبر بطرس في يافا: "صعد على السطح، نحو الساعة السادسة (أي: الظهر)، لكي يصلّي" (10: 9).
لا يخبرنا صاحب الأعمال عن مضمون الصلوات التي كان التلاميذ يتلونها مع اليهود، ولكنّه يعلم أن بولس شارك بطقوس دقيقة حول التطهير، بناء على نصيحة يعقوب والشيوخ (21: 20-28). وفي 2: 46 نعرف أن المسيحيين الذين كانوا يأتون إلى الهيكل، كانوا يمارسون في البيوت (التي كانت بمثابة كنائس، مثل بيت أمّ يوحنا مرقس، رج 12: 12) "كسر الخبز" "ويسبّحون الله".
غير أن جماعة أورشليم لا تصلّي فقط في الهيكل: فأعضاؤها يجتمعون كما قلنا "في البيوت" لكي يكسروا الخبز. كيف كانت تتمّ هذه اللقاءات؟ لا يتوسّع لوقا طويلاً في هذا الموضوع. فبمناسبة إجتماع ترأسّه بولس في ترواس (20: 7- 10)، قال لوقا إنّ "الكنيسة" التأمت "في اليوم الأولى من الأسبوع". أي يوم الأحد الذي يبتدىء بحسب الليتورجيا مساء السبت. ويتابع سفر الأعمال كلامه عن اجتماع ترواس: "أخذ بولس يكلّمهم... أطال في الكلام إلى نصف الليل". ذاك كان العمل الأول في اجتماعات الصلاة: "المواظبة على تعليم الرسل" (2: 42)، سواء كانوا بطرس أو بولس أو يوحنا أو برنابا. والعمل الثاني كان يقوم بكسر الخبز الذي يتضمّن عشاء المحبّة (أغابي) والإفخارستيا. يتحدّث 2: 46 عن طعام تتناوله الجماعة كلّ يوم. مثل هذا الطعام يذكّر الحاضرين بما فعله يسوع حين أطعم الجموع. كما يذكّرهم بالعشاء الأخير (22: 19) الذي فيه "كسر الخبز" بعد أن شكر، وأعطى تلاميذه.
ويشير سفر الأعمال أيضاً إلى اجتماعات صلاة أخرى تمّت في بيوت خاصة. ففي ف 1، نرى "الأحد عشر مجتمعين مع بعض النساء، ومريم أم يسوع، ومع أخوته". إجتمعوا "في العلّية". و"كانوا مواظبين على الصلاة بنفس واحدة" (1: 13- 14)، بقلب واحد. نرى هنا الاثني عشر (رج لو 6: 12- 16)، والنّسوة (رج لو 8: 2- 3)، والأخوة الذين قد يكونون أقارب يسوع (رج 1 كور 9: 5؛ مر 6: 3؛ مت 12: 46) أو التلاميذ المذكورين في لو 10: 1 ي (عينّ يسوع اثنين وسبعين تلميذاً).
وجدنا هنا المواظبة على الصلاة ووحدة القلوب. سنجد هاتين الإشارتين مراراً. فالوحدة تتحقّق في جماعة الصلاة، أكان هذا الإجتماع في الهيكل، في العلّية (مع إرتباطها بيسوع وما فعله في العشاء الأخير)، في بيت خاص مثل بيت أمّ يوحنا مرقس (12: 12)، وسمعان الدّباغ في يافا (9: 43)، وكورنيليوس الضابط الروماني. نقرأ في 6: 4 أن الرسل طلبوا لنفوسهم "المواظبة على الصلاة". ونسمع بفم بولس (روم 12: 12): "كونوا مواظبين على الصلاة" (رج كو 4: 2: ويزيد بولس الشكر).
ونستطيع أن نكوّن فكرة معقولة عن مضمون الصلاة التي مارسها في أورشليم، الأحدُ عشر ورفاقهم. فقبل ذلك الوقت بأيام، وإذ كان يسوع يستعدّ ليتركهم، وعدهم وعدين: ستنالون قوّة الروح القدس الذي يحلّ عليكم". وزاد: "ستكونون لي شهوداً في أورشليم... وإلى أقاصي الأرض،. لا يشكّ لوقا في أن صلاة الأحد عشر قد ارتبطت بانتظار الروح وبالإستعداد للرسالة المقبلة. ولقد اعتاد أن يربط قبول الروح بصلاة الجماعة، وهي صلاة لا تتضمّن طلباً أهمّ هن عطيّة الروح الإلهي (لو 11: 13: أبوكم السماوي يمنح الروح لمن يسأله). كما اعتاد أن يجمع إلى الصلاة مهمّة الكرازة الإنجيليّة. فيسوع خلال عماده، أي في بداية رسالته (لو 3: 21- 22). والكنيسة قبل العنصرة والإنطلاق من أجل حمل الإنجيل (1: 14؛ 2: 1- 4). وبولس بعد لقائه للرّب على طريق دمشق وقبل الذهاب إلى الرسالة (9: 10- 17). كلّهم أخذوا يصلّون. هذا ما شدّد عليه لوقا مبيّناً في كلّ إنجيله أن صلاة يسوع ترتبط ارتباطاً وثيقاً برسالته ورسالة تلاميذه. وسنرى في سفر الأعمال كيف أن الجماعة تواظب على الصلاة قبل أن توفد مرسليها.
إنّ جماعة "العلّية" إحتفلت في يوم من الأيام بليتورجية دفعتها إليها ضرورة إحلال شخص محلّ يهوذا (1: 16- 26). يقدّم نمق الصلاة موجزاًَ في آيتين (آ 24-25). ولكن مجمل الخبر يتيح لنا أن نتتبّع مسيرة الصلاة كما تمّت في الجماعة. سنعود إلى هذا النّص فيما بعد.
ونعود أيضاً إلى صلاة أخرى أوردها سفر الأعمال (4: 23- 31). إلتأمت مجموعة كبر في ذلك اليوم. فكنيسة أورشليم تعيش للمرّة الأولى دراما الإضطهاد. فبطرس ويوحنّا، عامودا الكنيسة، قد أوقفا. ولكن أطلق سراحهما فذهبا إلى رفاقهما الذين لم يكونوا يتوقّعون عودتهما، ورويا خبر الإستجواب الذي خضعا له وكيف أطلقا. فحرّك الخبر حماس الجماعة فأخذت تصلّي.
ويحدّثنا ف 12 عن اجتماع آخر للصلاة على أثر سَجن بطرس. ويدلّ الخبر على غيرة الجماعة في صلاتها من أجل الرسول المسجون. يقول 12: 5: "وكانت الكنيسة تصلّي إلى الله بلا انقطاع". هذه العبارة تدلّ على "طول" الصلاة، بل على طابعها الإلحاحي: إن الجماعة تصلّي ولا تملّ أمام وضع لا حلّ له على المستوى البشري. ولكن الرب نفسه تدخّل فحمل النور إلى ذاك القابع في السجن.
وتذكر صلاة الجماعة أيضاً في 12: 12. نجا بطرس بمعجزة، "فتوجّه إلى بيت مريم أمّ يوحنّا الملقّب مرقس حيث كان أخوة كثيرون مجتمعين يصلّون". وتذكّر هذا الصلاة الجماعية ساعة يتيقّن الحاضرون أنها استجيبت، يدلّ على فكر لوقا الذي أشار إلى صلاة في بيت أحد أعضاء الكنيسة. سيذكر هذا الإجتماع أو ذاك للصلاة، ولكن محيطه اعتاد على مثل هذه الإجتماعات بحيث لم يرَ من الإفادة التحدّث مطوّلاً عن هذا الموضوع.
وفي النهاية، نلاحظ نقطة أخرى. لا يقول سفر الأعمال مراراً لمن تصلّي الجماعة. وإن أشار إلى ذلك فبالنسبة إلى الرسل. هنا تتوسّل الكنيسة إلى الله من أجل بطرس المسجون. ثمّ تقدّم فعل شكر بسبب إطلاقه. وسوف نرى بعد ذلك تلاميذ بولس يصلّون معه ساعة كان يودّعهم، ويصلّون لأجله لأنهم "لن يعودوا يرون وجهه" (20: 36 ي). وكان للصلاة من أجل رؤساء الكنائس أهمّية عظمى في الكنيسة الأولى، في الجماعة الرسولية. وهذا ما نجد له صدى في رسائل القدّيس بولس. نقرأ في 1 تس 5: 7: "صلّوا بلا انقطاع". وفي 2 تس 3: 1: "صلّوا لأجلنا". وفي أف 6: 18: "صلّوا كلّ حين... صلّوا لأجل جميع القدّيسين" (ربما الرسل، بدليل ما نقرأ في الآية اللاحقة: "ولأجلي أنا أيضاً"). في كو 4: 3: "صلّوا لأجلنا خصوصاً، لكي يفتح الله لنا باباً للكلمة، فنبشّر بسّر المسيح". وفي عب 18:13 ي: "صلّوا لأجلنا... صلّوا لأجلي لكي أردَّ إليكم عاجلاً".
2- الرسل والتلاميذ يصلّون
يحتلّ الرسل مكانة خاصة في قلب جماعة أورشليم المصلّية. ويهتمّ سفر الأعمال بأن يذكر صلاة رؤساء هذه الجماعة. بل يعلن: إذا كان هناك وسائل عديدة لخدمة الجماعة، فالخدمة التي يقومون بها أولاً هي خدمة الكلمة والصلاة. يرى لوقا أن الرسل يقومون بعمل فاعل من أجل خلاص الجماعة حين يتمّون وظيفة الوعظ ويقومون برسالة الصلاة.
إن الأحد عشر الذين ذكرت أسماؤهم، يكوّنون النواة الرئيسية لهذه الجماعة المصلّية "في العلّية" قبل العنصرة. وتوجّه بطرس ويوحنّا للصلاة في الهيكل. وإذ كانا يستعدّان للذهاب إلى الصلاة، اجترحا معجزة: شفيا كسيح الباب الجميل. ويقولان إن هذا الشفاء تمّ "باسم يسوع المسيح النّاصري" (3: 6- 16). إنّ التّقارب بين الصلاة والمعجزة التي تمّت باسم يسوع، لم يكن من قبيل الصدف. كلتاهما تسيران معاً. وساعة أقام بطرس طابيثة في يافا، "أخرج الجميع وجثا على ركبتيه وصلّى. ثمّ التفت إلى الجثة وقال: طابيثة، قومي" (9: 40). وهكذا بيّن لوقا أن بطرس فعل كما فعل يسوع خلال حياته على الأرض (رج مر 5: 40- 41) مع فارق بسيط: إن يسوع "هذا الرجل" الذي يعمل "باصبع الله" (لو 11: 20) فيعتبره الإنجيليون "رجلاً يتمتّع بسلطان" (مر 1: 27)، هذا الرجل لا يحتاج إلى صلاة تربطة بذلك الذي يعمل باسمه.
وحين اجترح بولس معجزة (28: 8: شفى والد بوبليوس)، صلّى هو أيضاً. وهكذا فعل إيليّا حين شفى ابن الأرملة (1 مل 17: 20). وأليشاع حين أقام ابن الشونمية (2 مل 4: 33: "صلّى إلى الرّب"). يسوع ركع فصلّى (لو 22: 41). وحافظ الرسل على هذه العادة مثله (7: 60: ركع اسطفانس؛ 9: 40؛ 20: 36: ركع بولس معهم وصلّى؛ 1 2: 5).
في يو 11: 41، صلّى يسوع حين اجترح معجزة. ولكن صلاته ليست طلباً، بل "فعل شكر" و "شهادة" (تكلّمت من أجل الجمع، يو 12: 42). إنّ يسوع "لا يصلّي من أجل نفسه"، بل لأجل جميع البشر الذين يحيطون به لكي يعرفوا أنه يعمل باسم الآب، باسم من أرسله. في مر 6: 41، صلاة يسوع على الخبزات هي صلاة مباركة (نظر إلى السماء وبارك). وفي مر 8: 6 هي صلاة شكر وإفخارستيّا (شكر، كسر). في مر 7: 34 "تطلّع يسوع إلى السماء". ولكن الإنجيلي لا يقول إنّه صلّى، وإن كانت الصلاة متضمّنة. ولكن سيفهم الرسل حاجتهم إلى الصلاة من أجل اجتراح معجزة (مو 9: 29: "هذا الجنس لا يخرج إلاّ بالصلاة").
وجاء خبر كورنيليوس (10: 1- 11: 18) فكان مناسبة حديث عن صلاة بطرس (10: 9؛ 11: 5). "صعد بطرس على السطح، نحو الساعة السادسة". واختطف بطرس. رأى رؤية حاسمة ستكون في أساس تحوّل جذري في الكنيسة. لقد اكتشف بطرس أن الله لا يحابي الوجوه (لا يفضّل أحداً على أحد). فمن اتقاه في كلّ أمّة وعمل البرّ، يكون مقبولاً عنده" (10: 34- 35). ولما كان الوقت المناسب، أمر أن يعمّد كورنيليوس، وإن لم يكن يهودياً، مع أهل بيته. إن لوقا الذي جمع بين مواضيع الوحي الإلهي والصلاة، اعتبر أن هذا "الإتصال" الذي حوّل مصير الكنيسة تحويلاً عميقاً لا يمكن أن يتمّ خارج إطار الصلاة.
وصلّى الرسل. وطلبت شفاعتهم من أجل أعضاء الجماعة. هكذا فعل سمعان حين طلب إلى بطرس أن يبتهل إلى الرّب من أجله لئلا يصيبه الشر الذي ذكره الرسول (8: 24). وصلّى الرسل ساعة "نقلوا" الروح. إنحدر بطرس ويوحنّا إلى السامريين وصلّيا من أجلهم "لكي ينالوا الروح القدس" (8: 15). وصلّى الرسل حين سلّموا إلى السبعة رسالة الخدمة. "أقاموهم أمام الرسل، فصلّوا ووضعوا عليهم الأيدي" (6: 6).
وصلّى الرسل مع الجماعة وفي وسط الجماعة. لقد لعبوا في قلب الكنيسة دور الرئاسة والقيادة. هذا ما نكتشفه في خبر اختيار متيا. إنّ هذا الإجتماع الذي انتهى بصلاة، قد أداره بطرس من بدايته إلى نهايته (1: 15-26). وهذا من نكتشفه في صلاة 4: 23- 31. فلفظة "سيّد" ولفظة "عبيدك" تدلاّن على أن الحلقة الرسولية هي التي توجّه الصلاة. ويزيد الأب دوبون: "إن موضوع الصلاة في ف 4 يعني ممارسة خدمة رسولية بكل معنى الكلمة. وهذه الصلاة قد استجيبت حالاً بالنسبة إلى المصلّين كلهم. إلاّ أنّه يجب القول إن الرسل هم الذين صلّوا. ونزيد فيما يخصّ حدث ترواس (20: 11): إنّ بولس لعب دوراً خاصاً في "كسر الخبز" كما في إيصال الكلمة. هو في وسط الجماعة وهو يرتدي سلطة خاصة، فيُذكر وحده.
وبجانب الاثني عشر، يصلّي المسيحيون. وقد احتفظ لنا سفر الأعمال بصلاة مثالية تلاها اسطفانس ساعة استشهاده.
حين قربت ساعة الموت، صلّى اسطفانس فأبرز الطريقة التي بها يتقبّل التلميذ الموت: راح الشهيد للقاء الحدث وهو يصلّي. وحين "صرخ بملء صوته" متوجّهاً إلى الله "رقد": رقاد بدأ في الصلاة فهيّأ الطريق ليقظة القيامة.
والتّعارض ملفت بين هدوء اسطفانس الذي "جثا على ركبتيه" وكان يصلّي، وبين هيجان الجلاّدين "الذين استشاطوا غيظاً وصرفوا بأسنانهم... وصرخوا بصوت جهير". هجموا بعصبيّة على اسطفانس، وجرّوه، ورجموه بعد أن جعلوا ثيابهم لدى شاهد اسمه شاول.
إختلف تصّرف اسطفانس عن تصّرف خصومه، فجاء موافقاً لما قاله يسوع: "باركوا لاعنيكم، صلّوا لأجل الذين يفترون عليكم. من ضربك على خدّك فقدّم له الآخر" (لو 6: 28- 29). أجل، قدّم اسطفانس الوجه الآخر ثمّ صلّى للذين يفترون عليه (6: 11-14)، صلّى على نيّة الذين رجموه.
وما اكتفى بأن يطبّق كلام يسوع، بل اقتدى بيسوع الذي كان الشهيد الأول. قدّم حياته كما فعل يسوع. قال: "أيهّا الرب يسوع، إقبل روحي". ثمّ صرخ صرخة عظيمة فصلّى من أجل جلاّديه. هكذا صلّى يسوع. قال: "أغفر لهم يا أبتِ لأنهم لا يدرون ماذا يعملون". وصرخ: "يا أبتِ في يديك أستودع روحي" (لو 23: 34، 46).
إختلفت صلاة يسوع عن صلاة اسطفانس. توجّه إلى الآب. أما اسطفانس فتوجّه إلى الرب يسوع.
إذن، صلاة أشهر السبعة هي طلب وهي أكثر من طلب. إنهّا بالأخصّ فعل أيمان. فساعة كان يموت، وساعة كانت الظواهر تبرز انتصار خصوم الإنجيل، "رأى" اسطفانس يسوع. ذاك الذي خافه اليهود وقتلوه (آ 52)، يراه اسطفانس حيّاً كما أعلنه بطرس في خطبة العنصرة. "وإذ قد ارتفع بيمين الله، وأخذ من الآب الروح القدس الموعود به، أفاض... قال الرب لربيّ: إجلس عن يميني حتى أجعل أعداءك موطئاً لقدميك" (2: 33- 35).
ولكن اسطفانس رأى أيضاً يسوع كابن الإنسان "الواقف عن يمين الله". فيسوع كابن الإنسان سينزل في يوم من الأيام من "السماوات المفتوحة" "ليتسلّط على الممالك والسلطات، يقيم ملكاً لا يزول ولا يدمّر، حتى يمتلك قدّيسو العلّي هذا الملك إلى الأبد" (دا 7: 13- 14). هذا ما يراه اسطفانس. ولكنّه يرى أكثر من هذا بنظره الذي يستنير بالإيمان الإنجيلي. يرى أن ابن الإنسان سوف يتدخّل قريباً. هذا الشخص ليس جالساً على مثالا المسيح الذي يصوّره المزمور ملكاً منتصراً. إنّه واقف كالمحارب المستعدّ للإنطلاق إلى الحرب. وهو واقف أيضاً لكي يستقبل شهيده بالكرامة التي يستحقّ.
يجب أن نقرّب بين نصّ أع هذا ونصّين في لوقا (2: 29- 32؛ 23: 42). فما "يراه" اسطفانس عبر "السماوات المفتوحة" وفي قسمات ابن الإنسان المستعدّ ليتدخّل من أجل تلميذه، قد رآه سمعان الشيخ في الهيكل من خلال وجه يسوع الطفل. وهكذا تشجّع سمعان الشيخ القريب من الموت واسطفانس ساعة رجمه لأنهما "فهما" عمل الله الخلاصي الذي يتحقّق في يسوء المسيح منذ الآن من أجل ملء خلاص آتٍ ساعة يشاء الربّ.
ونقابل بين اسطفانس ولصّ "اليمين". قال هذا ليسوع: "أذكرني، يا رب حين تأتي في ملكوتك". هو رجاء يتحقّق في مستقبل غير محدّد. ولكن اسطفانس رأى أمله يتحقّق، وتأكّد أن يسوع "يتذكّر" كنيسته ومختاريه المضطهدين "حين يأتي في ملكوته".
3- الكنائس الجديدة
أما الكنائس الفتية التي ولدت في فينيقية وسورية وآسية الصغرى وأوروبا، فقد اقتدت بالكنيسة الأمّ في أورشليم، وتفرّغت للصلاة.
تذكّرَ لوقا بشكل خاص الصلاة التي تُتلى في إنطاكية. فالمسيحيون يجتمعون حول الأنبياء. جاؤوا من مكان بعيد، مثل أغابس (11: 27 ي). أو خرجوا من الجماعة نفسها مثل هؤلاء الأشخاص الخمسة المذكورين في بداية ف 13، والذين لا نعرف منهم إلاّ الأول (برنابا) والأخير (شاول).
إنّ الحدث المروي في 13: 1- 3 هو مقدّمة لأولى رحلة رسولية قام بها بولس مع برنابا. فكّر مسيحيو إنطاكية بمسؤوليتهم الرسالية، فاهتمّوا بإيفاد أشخاص من كنيستهم. تأسّست جماعة إنطاكية على يد أهل قبرص وقيريني الذين شتّتهم الإضطهاد بعد مقتل اسطفانس (11: 20- 21)، فوجب عليها أن تذهب إلى البعيد لتقيم جماعات أخرى. ولاحظت برنابا وشاول اللذين تميّزا بحسّ غريب من أجل الرسالة، وبرغبة عميقة في المشاركة في هذه "المغامرة" الرسولية. إلتأمت الجماعة المحلّية في الصلاة وتفحّصت الأمور على ضوء ما قاله الأنبياء. أمرَ الروح فأفرز برنابا وشاول للعمل الذي انتدبا له.
خلال الصلاة ظهر الروح للجماعة. وفي الصلاة تهيّأت الرسالة وتقرّرت. وبالصلاة بدأت الرسالة: قبل أن يُطلق المرسلان اللذان اختارهما الروح عبر صوت نبويّ، بدأت الجماعة بالصيام والصلاة. لقد أرادت الجماعة أن تستودع المرسلين إلى نعمة الله من أجل العمل الذي سيكملانه (رج 14: 26). ورافق الصلاةَ رتبةُ وضع الأيدي. بعد ذلك تركوا الرسولين ينطلقان. صرفوهما.
ونبقى في إنطاكية خلال حفلة مماثلة تدخّل فيها النبي أغابس. كان قد أنبأ بمجاعة شديدة (11: 27- 30) مهّددا الجماعة بالعقاب بسبب خياناتها (رؤ 2- 3). حينئذٍ تأثّر الحاضرون، فأرسلوا مدداً إلى الأخوة الساكنين في اليهودية. قد نفكّر أنّه خلال جماعة صلاة، بدا الرجاء بالمجيء الإسكاتولوجي حاراً، فحرّك أغابس هذا الرجاء والصلاة التي ترافقه. فأعلن أن المجاعة التي هي علامة تسبق نهاية الزمن (مر 13: 8 وز؛ رؤ 6: 5- 6) ستحلّ في الأرض. إذن يسوع هو قريب جداً، بما أن العلامات التي تسبق مجيئه صارت ظاهرة. وكان جواب الحاضرين: "الرب أتى" (على مثال الكورنثيين، 1 كور 16: 22). وكان توسّل على مثال مؤمني سفر الرؤيا: "تعالَ، أيها الربّ" (رؤ 22: 20). بعد هذا، دلّ التلاميذ على سخائهم وأرسلوا معونة للأخوة.
وتحدّث سفر الأعمال أيضاً مرتين أو ثلاثة عن صلاة مارستها هذه الجماعات. ولكن هذه الإشارات ذُكرت بالنظر إلى بولس الذي يحتلّ وسط اللوحة. فكما أن القسم الأول من أع (ف 1- 12) يُبرز الدور المحفوظ للرسل في جماعات أورشليم (ومكانة صلاتهم)، هكذا يبيّن القسم الثاني (ف 13-28) مكانة بولس الفريدة في الكنائس التي أسّسها أو رعاها.
فبولس يصلّي (9: 11) ساعة يستعدّ لإستعادة البصر وقبول الروح. وعبارة "إستعادة النظر" و "سقوط القشور عن عينيه"، تدلّ على الإستنارة التي تمّت في قلب بولس فجعلته يرى كلّ شيء بعيون جديدة (رج 2 كور 4؛ 6): "فالإله الذي قال: ليشرق من الظلمة نور هو الذي أشرق في قلوبنا لكي تسطع فيها معرفة مجد الله المتألّق في وجه المسيح". حينئذٍ نجد مرة أخرى موضوع الصلاة في ارتباطه مع إيصال حقيقة حاسمة تأتينا منه (هذا ما حصل لبطرس، رج 10: 9؛ 11: 15). والصلاة ترتبط بعطية الروح القدس وبداية الرسالة: فكما أن الأحد عشر أطالوا الصلاة في العليّة قبل أن ينالوا روح العنصرة وينطلقوا في عمل التّبشير الذي دعاهم الروح إليه، كذلك صلّى بولس ثلاثة أيام قبل أن ينال، بواسطة حنانيا، هذا الروح عينه، وقبل "أن يكرز في المجامع بأن يسوع هو ابن الله" (9: 20).
وصلّى بولس في الهيكل (21: 26)، فاختطف ونال حياً من أجل المهمّة التي تنتظره. "إمضِ، فإني سأرسلك بعيداً إلى الأمم". وحصل له أن صلّى في السجن برفقة سيلا في فيلبي. نقرأ في 16: 25-26: "كان بولس وسيلا يصلّيان ويسبّحان الله والمحبوسون يسمعونهما. فحدثت بغتة زلزلة جديدة...". تدلّ الزلزلة على جواب الله وحضوره. فكما تزلزل الموضع الذي كانت كنيسة أورشليم مجتمعة فيه، فامتلأوا جميعاً من الروح القدس (4: 31)، كذلك سيصير سجن فيلبي بعد الزلزلة موضع التّبشير من قبل بولس وسيلا، وموضع الإيمان بالنسبة إلى السّجان وأهل بيته (16: 30- 34).
حين كان بطرس في السجن، كانت الجماعة تصلّي لأجله بلا انقطاع (12: 5، 12). وحين سُجن بولس، كان مع رفيقه "يصلّيان ويسبّحان الله" (16: 25). وفي مالطة، وساعة وضع اليد على والد بوبليوس الذي "كان طريح الفراش وقد أخذته الحمّى والزحار"، دخل بولس وصلّى (28: 8). وصلّى بولس أيضاً من أجل ارتداد الذين يلتقي بهم. دافع بولس عن نفسه فقال له أغريبا: "إنّك بقليل ستقنعني أن أصير مسيحياً"! فقالوا بولس: "أصلّي بأن تصيروا مثلي، أنت وجميع الذين يسمعونني اليوم" (26: 9). ويصلّي بولس أيضاً من أجل الذين سلّمهم مهمّات في الجماعة. نقرأ في 14: 23: "ورسما (بولس وبرنابا) لهم كهنة في كلّ كنيسة بعد أن صلّيا وصاما، ثمّ استودعاهم الرب الذي به آمنوا".
وأخيراً يصلّي بولس قبل أن يودّع تلاميذه الأعزاء. ففي ميليتس، أمام شيوخ أفسس الذين استدعاهم (20: 17-18)، "جثا معهم جميعاً وصلّى" (آ 36). أما مضمون هذه الصلاة فهو الخطبة التي سبقتها. لمّح بولس إلمط المصير المظلم الذي ينتظره ولكنه توسّع بشكل خاص في الصعوبات التي ستجابه الكنيسة بعد ذهابه: "بعد فراقي، سيدخل بينكم ذئاب خاطفة، لا تشفق على القطيع، ومنكم أنفسكم سيقوم رجال يحاولون بأقوالهم الفاسدة، أن يجتذبوا التلاميذ وراءهم" (آ 29- 30).
وفي النهاية، كانت صلاة مماثلة جمعت بولس ومسيحييّ مدينة صور عند شاطىء البحر. يروي لوقا الخبر فيقول: "ولما قضينا هذه الأيام، خرجنا وسرنا وهم يشيعوننا بأجملهم مع النساء والأولاد، إلى خارج المدينة، فجثونا على الشاطىء وصلّينا" (21: 5). وكانت نتيجة هذه الصلاة التي تعبرّ عن ضيق المؤمنين الذين عرفوا أنهم لن يروا وجه بولس مرّة ثانيةً: "لتكن مشيئة الرب" (21: 14).
أجل، إنّ بولس يصلّي بصورة مستمرة. أما موضوع صلاته العادي فهو مهمّته الرسولية، وثبات المسيحيين، وإيمانهم ومحبّتهم وصبرهم في الإضطهاد، ونجاح العمل الرسولي من أجل مجد الله. مثل هذه الصلاة تلتقي مع صلاة يسوع: "أطلبوا أولاً ملكوت الله". تلتقي مع الصلاة التي علّمنا إياها ربنا: "ليتقدّس اسمك، ليأتِ ملكوتك، لتكن مشيئتك".
خاتمة
هذه هي صلاة المؤمنين الأولين كما نكتشفها في أعمال الرسل. هي صلاة لا تتقيّد بمكان: في الهيكل، في المجمع. ولكن بشكل خاص في البيوت التي كانت "الكنائس" الأولى بالنسبة إلى المسيحيين. وهي صلاة لا تتقيّد بوقت ولا بساعة، بل بأحداث الحياة الهامّة. صلّى يسوع ساعة اختار تلاميذه، ساعة بدا الموت قريباً... وعلى مثاله صلّت الكنيسة الأولى: انتظرت تحقيق الوعد (1: 14) فصلّت. أرادت أن تختار من يحلّ محلّ يهوذا فصلّت (1: 24). سُجن بطرس ويوحنا فصلّت (4: 23- 31). كان انقلاب في حياة بولس فصلّى (9: 11). صلاة الكنيسة صلاة مستمرّة. هي تصلّي "بلا انقطاع" (26: 7). تواظب على الصلاة (2: 42) حول الرسل.
هذه هي صلاة الكنيسة الأولى. منها نتعلّم. ولا سيّما قبل أعمالنا الرسولية. فمشروع البشارة هو مشروع الله، وبقدر ما نتّحد معه بالصلاة، نستطيع القول إن رسالتنا هي بحسب مشيئته. ولا ننسَ أبداً هذا المشهد الإنجيلي. الحصاد كثير والفعلة قليلون. ماذا كان جواب يسوع؟ صلّوا إلى رب الحصاد... هذا هو نداء المسيح. هذا هو ندا الكنيسة. هذا هو نداء الرسالة، وسفر الأعمال خير معلّم لنا في هذا المجال.