الفصل العاشر
شخص المسيح في أعمال الرسل
الخوري جان عزّام
مقدمة:
منذ سنتين، قدمت شخص المسيح في انجيل لوقا بالارتكاز على دراسة ديناميكية الرواية عند لوقا ومن خلال اظهار العناصر الأساسية لتلك الرواية في حبكها وعقدها وحلولها وعناصر التشويق والأجوبة، وخاصة من خلال تطور التعرف إلى المسيح في لوقا تدريجياً بدءاً من رسالته في الجليل، وصعوداً في مسيرته إلى أورشليم والأحداث النهائية من آلامه وموته وقيامته التي جرت في تلك المدينة.
وعندما فكرت بأن أقدم شخص المسيح في الأعمال، وجدت ان هذه المنهجية في دراسة الكريستولوجيا في أعمال الرسل غير مؤاتية، لان رواية لوقا في الأعمال تتبع اسلوباً مشابها لتلك التي وردت في الإنجيل، ولكن هذه المرة موضوعها الأساسي هو الكنيسة التي انطلقت من أورشليم إلى العالم الوثني (ما يقابل الجليل في الإنجيل) وعاصمته روما، بحركة معاكسة او مسيرة معاكسة لمسيرة المسيح، فيصير الإنجيل او أعمال الرسل وكأنهما كتاب واحد يتطور بشكل محوري حوله شخص المسيح.
ولذلك، فقد فتشت عما يميز كريستولوجيا أعمال الرسل فاهتديت إلى ثلاثة أبعاد رئيسة، مع العلم انها قد لا تكون الوحيدة، وهي:
1) القاب المسيح في اعمال الرسل، وهو ما يميز جزءاً أساسياً من كل الدراسات الكتابية عن كريستولوجيا لوقا، في هذا لم آت بجديد يذكر إلاّ من حيث اختيار الألقاب وعرضها بحسب قناعاتي.
2) الكريستولوجيا في الكرازة، وهنا وجدت بعض التلاميح العابرة في هذا البحث او ذاك ممن تسنى لي قراءة اعمالهم، ولكني ارجو انني وضعت اسساً جديدةً وافكاراً رائدة تصلح لمزيد من البحث والتطوير.
3) الكريستولوجيا في حياة الكنيسة الأولى، وهو ما كتبته نتيجة تأملي الشخصي واختباري الحياتي للمسيح في الجماعة بالارتكاز طبعاً على النصّ وضمن حدوده.
هذه هي الأقسام الثلاثة الكبرى لموضوعي، وستتبعها خلاصة لاهوتية مقتضبة تشكل القسم الرابع والأخير ثم انهي بخاتمة رعائية هي أيضاً نتيجة اختباري في الجماعة والرعية، وفيها معاناتي من كل ما يمنع شمس القيامهّ من السطوع ببهائها في كنيسة اليوم كما في أيام الرسل، وإيماني بقدرة الله على ادخالنا في عنصرة جديدة اليوم كما في كل العصور.
1- القاب المسيح في أعمال الرسل
أ- المسيح
يظهر لقب المسيح اثنتي عشرة مرة في أعمال الرسل وفيه تبيان لشخص يسوع الناصري على انه هو المسيح الموعود والمنتظر بحسب ما اعلن عنه العهد القديم: فداود "رأى من قبل قيامة المسيح وتكلم عليها" كما يقول بطرس في كرازته الأولى في معرض شرحه لليهود بأن يسوع القائم من الموت هو المسيح (2: 31). "والله اتمَ ما أنبأ به من ذي قبل بلسان جميع الأنبياء، وهو ان مسيحه سوف يتألم"، والكلام للرسول بطرس عينه في كرازته الثانية بعد شفاء المقعد على باب الهيكل (3: 18). ولقد كان الرسل متحمسين لاكتشافهم المسيح في شخص يسوع إلى درجة انهم "كانوا فرحين، عندما صرفوا من المجلس اليهودي، بأنهم وجدوا اهلاً لأن يهانوا من أجل الإسم، وكانوا لا ينفكون كل يوم في الهيكل وفي البيوت يعلمون ويبشرون بأن يسوع هو المسيح" (5: 42).
وهكذا ايضاً فيليبس الشماس الذي كان يبشر اهل السامرة بالمسيح (8: 5)، وبولس الذي افحم اليهود المقيمين في دمشق، مبيّناً ان يسوع هو المسيح (9: 22) وذهب يشرح في تسالونيقي "ان يسوع الذي أبشركم به هو المسيح" (17: 3) وكذلك في كورنتس (18: 5) وفي أخائيا (18: 28) وفي قيصرية (26: 23). ولا يختلف الأمر عندما يظهر اسم يسوع المسيح مجتمعاً. فالمقصود بوضوح هو: "يسوع الذي هو المسيح" وليس مجرد اسم علم (8: 12؛ 9: 34؛ 10: 36 الخ...).
ومن الواضح ايضاً ان ليس لهذا اللقب في اعمال الرسل أي طابع سياسي وطني، بل خلاصي شامل. فالمسيح الذي يبشر به الرسل هو ذاك الذي "يجب ان تتقبله السماء إلى زمن التجديد لكل ما ذكره الله بلسان انبيائه الأطهار في الزمن القديم" (3: 21). وترتبط بلقب المسيح ألقاب أخرى لها طابع مسيحاني مثل القدوس والبار والحجر الذي رذله البناؤون وقد صار رأساً للزاوية (4: 11)، "وسيد الحياة" الذي لا يرد إلا في 3: 15 و5: 31 وعب 2: 10 و 12: 2.
ب- الرب
يرد هذا اللقب اكثر من 20 مرة في الأعمال. وفي معرض الكلام عن تمجيد الله الآب ليسوع. ولكنه يرد مرات كثيرة اخرى كلقب يسبق اسم "يسوع" او اسم "يسوع المسيح" "الرب يسوع"، "ربنا يسوع المسيح"، "الرب يسوع المسيح" (2: 36)
ويتبع هذا اللقب ايضاً لقب "الاسم" الذي يرتبط بدعاء المؤمنين باسم يسوع المسيح، والمعمودية باسم يسوم او باسم يسوع المسيح، والقدرة على الشفاء التي عند الرسل باسم يسوع
والكنيسة اختبرت كون يسوع الناصري رباً واعترفت به كذلك انطلاقاً من اختبارها المزدوج للقيامة:
فمن جهة، اختبرت في التاريخ ان هذا الإنسان يسوع الناصري الذي ظهر في حياته واعماله كنبي حامل لكلمة الله، مؤيد من الله بالآيات والعجائب وبالكلمة، وكخادم متألم قدم نفسه كحمل للذبح ليرفع خطايا العالم، هو نفسه قد انتصر على الموت ولم ينله الفساد بل أقامه الله ورفعه إلى السماء بالمجد ليجلس عن يمين القدرة الإلهية.
ومن جهة ثانية، اختبرت ان الروح المحي الذي ناله يسوع منذ البدء وبه اقامه الله من الموت، قد أفاضه يسوع على الرسل وعلى المؤمنين بالعماد (راجع 2: 38) مما اكد سلطانه لا على موته فحسب بل على كل موت وقدرته على اعطاء الخلاص (أع 3: 6) لكل من يدعو باسمه!
ج- الخادم والنبي
يرد لقب خادم اربع مرّات في الأعمال: مرتين في كرازة بطرس الثانية (3: 13 و26) ومرتين في ابتهال الجماعة بعد اطلاق بطرس ويوحنّا من السجن (4: 27 و30).
ويطرح السؤال: هل هذا اللقب يعني شخص يسوع بصورة العبد المتألم الذي تكلم عنه اشعيا 53 او بصورة خدام الله في العهد القديم مثل موسى وداود الخ...
لا شكّ ان المعنيين موجودان حتماً في اعمال الرسل. فمن جهة، اعتبرت الكنيسة ان يسوع قد جسّد في حياته صورة خادم الله المثالية. وهناك ربط متكرر لشخص يسوع بداود وموسى، وقد وردت التسمية نفسها عن داود في صلاة الجماعة بعد اطلاق بطرس ويوحنّا حين قالت مبتهلة إلى الله: "أنت قلت بلسان ابينا عبدك داود" وبعدها مباشرة: "تحالف حقاً في هذه المدينة هيرودس وبنطيوس بيلاطوس، والوثنيون وشعوب اسرائيل على عبدك يسوع الذي مسحته" (4: 25 و27). ولكن، نجد ان الإطار المذكور فيه هذا اللقب، هنا كما في عظة بطرس الثانية، هو آلام يسوع وموته وتمجيد الله له بالقيامة. كما ان اعمال الرسل تكرر مرات عديدة على لسان فيلبس، وبولس وغيرهما: إن بشارتهما كانت ترتكز فيما ترتكز على التأكيد بأن المسيح كان ينبغي ان يتألم بحسب قصد الله المسبق وتحقيقاً للأنبياء (8: 35- 35). هذا لاهوت لوقاوي واضح عن المسيح يظهر في الإنجيل كما في الأعمال (راجع لو 24). من هنا نستنتج بأن لقب "عبد" ليسوع المسيح يتضمن البعدين المذكورين آنفاً. وبالرجوع إلى ارتباط المسيح بموسى، نجد أن لقب عبد يرد عن يسوع مرة ثانية في ابتهال الجماعة، وهذه المرة واضح خروجه عن إطار الالام والموت وارتباطه بتعبيرين: "باسطا يدك" وهو ما تدعو الجماعة الله ليعمله و"لتجري الشفاء والآيات والاعاجيب باسم عبدك القدوس يسوع" (4: 30). وهو ما يذكرنا بدون شكّ بسفر الخروج حيث "بسط اليد والذراع" هي من اعمال الله وموسى عبده تأهبا لاجراء الآيات والخوارق التي سمحت بخلاص شعب اسرائيل من يد فرعون وتسلطه. وهنا، يجدر بنا ان نقرأ كل الفصل 4 حتى الآية 31 على ضوء حدث الخروج ومجابهة موسى لفرعون بجرأة كما فعل الرسل امام المجلس اليهودي باسم يسوع. وليس هنا المجال لمثل هذه المقارنة، ولكني أرجو ان يسنح الوقت للكتابة عنها لاحقاً (راجع أع 7: 35 و36).
فيسوع إذاً هو ذاك النبي الذي اعلن عنه موسى في تث 18: 15 وعد 12: 7 بقوله: "سيقيم الله لكم نبياً باسمي، فله اسمعوا...". وقد وردت هذه الآية مرتين في الأعمال (3: 22 و7: 37).
فالمسيح المعلن في اعمال الرسل هو ايضاً النبي النهيوي، وليست القاب "قدوس" و"الحجر الذي رذله البناؤون" و"العبد" سوى تأكيد لهذه الصورة المزدوجة لوجه المسيح. وكما يقول SCHILLEBEECKX: "ان فكرة النبي النهيوي ترتكز على وجه موسوي ووجه مسيحاني، وهي في اساس الاعلانات المسيحانية الأربعة في الكنيسة الأولى، والتي تعرف بالكريستولوجيا الفصحية وتتضمن: الاعلانات المرتكزة على ابراز شخصية يسوع (الرجل التاريخي) صانع العجائب، والاعلانات التي ترتكز على اعلان قيامة يسوع المسيح، والاعلانات التي ترى في يسوع حكمة الله (بولس) وتلك التي ترتكز على الدعاء "ماراناتا" (بولس ورؤيا).
وبحسب رأينا، فان كريستولوجيا اعمال الرسل لا يمكن فهمها فهماً صحيحاً إلاّ إذا وضعناها في إطارها التاريخي والحياتي للرسل وللجماعات الأولى، وبتحديد اكثر للكرازة وحياة الجماعة الأولى.
2- الكريستولوجيا في الكرازة
أ- ما هي الكرازة
لا ترد كلمة كرازة في اعمال الرسل ولا كلمة كارز. ويرد فعل كرز- اعلن- بشر في أع 1: 2 بحسب النصّ الغربي وهو ما لا تنقله اكثر الترجمات الحديثة. والمرّة الأولى التي يرد فيها الفعل هي في أع 8: 5 عن كرازة فيليبس في السامرة الذي "كان يعلن لهم المسيح" وبولس الذي كان يعلن في المجامع اليهودية بأن يسوع هو ابن الله، وفي 10: 37 بالإشارة إلى المعمودية التي اعلنها يوحنّا وبعدها مباشرة في قول بطرس في أع 10: 42 بأن يسوع قد اوصاهم (اي الرسل) بأن يعلنوا للشعب ويشهدوا انه هو (اي يسوع) الذي اقامه الله ديّانا للاحياء والأموات "وله يشهد جميع الإنبياء بأن كل من آمن به ينال باسمه غفران الخطايا" (راجع ايضاً 15: 21 و13:19).
وإذا كانت الكرازة في اصلها اليوناني تعني اعلان خبر جديد، فإنها في اعمال الرسل تعلن هذا الخبر بالارتباط مع العهد القديم الذي سبق واعلن الوعد به على لسان الانبياء. وهنا يأتي الاعلان ليؤكد تحقيق امر ينتظره اليهود. فهو ليس بجديد من حيث مضمونه (مجيء المسيح وتحقيق الوعود ونوال غفران الخطايا، إلخ)، بل من حيث الشخص الذي حققه، والطريقة التي تحقق بها.
ب- مضمون الكرازة في اعمال الرسل
لن نكرر هنا ما سبق وقيل تفصيلا في موضوع الاب يوحنّا الخوند، ولكننا نود ان نؤكد على ما يلي:
اولاً: كل الكرازات فيها قسم تاريخي يربط الاعلان الحالي او الخبر السار بتاريخ الخلاص وبمضمون الوعود المعطاة للاباء الأولين (أع 25:2-35).
ثانياً: الخبر السار ليس في اعلان قيامة يسوع من الموت وحسب، بل في التمييز بأن هذه القيامة هي تأكيد لكون يسود الذي عرفه اليهود السامعون هو المسيح المنتظر (أع 2: 22- 24 و 36).
ثالثاً: كل كرازة تنتهي بالدعوة إلى التوبة، وليس المقصود الرجوع عن خطايا معينة، بل الإيمان بالخبر السار. والـ Metanoia هي هذا بالتحديد: تغيير الرأي، ترك مسلك معين والبدء بمسلك جديد، تغيير الإتجاه (أع 2: 37- 40).
رابعاً: العماد هو تحقيق لمضمون الكرازة من حيث قبوله السامعين لها وتوبتهم اي ايمانهم بالبشرى السارة من خلال الإيمان باسم يسوع المسيح والإنضمام إلى الجماعة المؤمنة (أع 2: 41- 42).
وإذا اردنا التعمق اكثر في مضمون الكرازة وخلفياتها، يمكننا التوقف عند الملاحظات التالية:
اولاً: ان الكرازة تنتج عن حدث العنصرة بالأساس، والعنصرة اليهودية هي ذكرى تجديد العهد في سيناء، حيث تجلى الله بالبرق والرعود والنار والدخان وبكل مظاهر العظمة والابهة التي تليق به والتي ترافق كل . ظهور له للافراد او الشعب (خر 3: 1- 6 و19: 16- 19). وإذا راجعنا الأناجيل نجد ان الرسل الذين رأوا الرب القائم من الموت كانوا مدهوشين وفرحين، ولكن ذلك لا يحركهم للكرازة واعلان الخبر السار، حتى ان بداية اعمال الرسل تؤكد عدم تأثير هذا الحدث بحياتهم الشخصية، بل ظلوا واقفين جامدين إلى ان حلّ الروح القدس عليهم، كما وعدهم المسيح نفسه، فكان المحرك الأولى لشهادتهم وتبشيرهم.
ثانياً: بالرغم من اختبار العنصرة فان الرسل لا يعلنون شيئاً في كرازتهم عن اختبارهم لهذا الحدث، بل ان اساس الاعلان هو قيامة يسوع "الذي صلبتموه انتم وجعله الله رباً ومسيحاً" (أع 2: 36). وبتعبير آخر، ذاك الذي اعتبره اليهود لصا وكافراً واسلموه إلى القتل، يُعلن لهم اليوم انه الرب نفسه الذي تجلى في العهد الأول على سيناء.
وكما يعترف الكثير من شرّاح اعمال الرسل، فكلمة ربّ هنا لا ترتبط اساساً بالفكر الهيليني، وان تطورت بهذا المعنى لاحقاً، بل هي مرتبطة بال آدوناي وهو ما كان يدعى به الله في العهد القديم وترجمته السبعينية بالرب!
تؤكد الكرازة إذاً على ان يسوع الناصري الذي أيّده الله بينكم بما جرى على يديه من معجزات وأعاجيب وآيات (أع 2: 22) و"مسحه بالروح القدس والقدرة..." (أع 10: 38) والذي انتهى بالصلب كالقاتل المجرم، هو إله سيناء (الربّ) وهو المسيح المنتظر!
فقيامة المسيح كحدث ليست المحور الأساسي للكرازة، بل كونها قد اظهرت ان يسوع القائم هو "الرب" الذي له المقدرة على اعطاء القيامة (بالمعمودية) لكل من يؤمن باسمه. الرسل انفسهم عاشوا هذه الـ Metanoia من خلال العنصرة، إذ انهم نالوا فيها روح يسوع المحيي وانتقلوا هم ايضاً من موت خطاياهم إلى حياة جديدة بالمسيح، وهم بدورهم يدعون السامعين إلى اختبار قيامة المسيح (مغفرة خطاياهم والمعمودية باسم يسوع) من خلال نوال الروح نفسه.
الخبر السار إذا هو ان ذاك الرجل يسوع ظهر بالقيامة انه المخلّص الإلهي!
ثالثاً: في هذا الإطار نفهم لماذا لا تتوقّف الكرازة عند بنوة المسيح الإلهية، فهي ليست مجالاً للكلام عن جوهر كيان المسيح الإلهي، بل عن اختبار قدرته الإلهية المنبثقة من قيامته والعنصرة. انها كريستولوجيا اعلانية (Kérygmatique) تركز على الحدث واختباره الواقعي، اكثر منها كريستولوجيا اقناعية (Apologétique) وعقائدية (Dogmatique).
وهنا، لا بد من التأكيد بأن قول الرسل انهم "شهود" على الحدث المعلن (2: 31) لا يعني ابداً اختبارهم لقيامة المسيح بحد ذاتها، بل ايضاً اختبارهم لمفاعيل قيامته الخلاصية من خلال اعطائه لهم الروح المحيي. هذا الروح الذي يشهد هو ايضاً ليسوع: "نحن شهود على هذه الأمور، والروح القدس الذي وهبه الله لمن يطيع (المسيح) هو ايضاً يشهد" (5: 32).
رابعاً: لان هذه الكريستولوجيا ترتبط بتاريخ الخلاص في العهد القديم وبتحقيق هذا من خلال قيامة يسوع وافاضته للروح القدس على المؤمنين، فهي تفتح الزمن على الاسكاتولوجيا النهائية وتعلن ان المسيح هو "ديان الأحياء والأموات" (10: 42) وهو القائم عن يمين قدرة الله (2: 34- 35 و7: 56) وهو "سيد الحياة" (3: 5 و 5: 31). وكلها تعبير عن اشتراك المسيح بالالوهة من حيث التدبير الخلاصي (اي الاختبار التاريخي للخلاص من خلال احداث واقعية). فهي إذا، كريستولوجيا تدبيرية (Economique) وهي المحرك الأساسي لكل رواية لوقا من البداية:
- حدث يسوع المسيح بالروح القدس وبشارته والامه وموته وقيامته وصعوده إلى السماء (الانجيل).
- حدث الكنيسة صورة المسيح، بحلول الروح عليها، وكرازتها بين اليهود، والإضطهاد الذي تعرضت له، وانتشارها وتوسعها نحو السامرة، فانطاكيا وآسية الصغرى واليونان وروما (أعمال الرسل).
3- الكريستولوجيا في حياة الجماعة الأولى
إلى جانب لقب الربّ الذي نجده غالباً على لسان الرسل والمسيحيين الأولين، في كلامهم عن يسوع المسيح او في صلواتهم، نلاحظ ان لقب "الاسم" هو الاكثر استعمالاً في البعد الليتورجي والمواهبي لحياة الرسل والجماعة الأولى. فالكنيسة لم تعترف باسم يسوع المسيح مخلّصاً على شفاهها وحسب، كما ورد في (أع 4: 2): "فما من اسم آخر تحت السماء اطلق على احد الناس ننال به الخلاص"، بل عاشت مفاعيل هذا الخلاص واختبرت قدرة الاسم يوماً فيوماً، بينما كانت البشارة تنتشر وعدد المؤمنين يزداد، والربّ يضمّ إلى جماعة المخلصين مؤمنين جدداً.
فما من دخوله في شركة المؤمنين إلاّ للذين ينالون الخلاص فعلاً ويعتمدون باسم الربّ يسوع فيتحولون إلى صورته بنوالهم الروح القدس. وعلامة حلوله: التكلم بالألسنة (10: 45) وتمجيد الله (10: 36) والابتهاج (8: 8 و17، 16: 34). والإنضمام إلى الجماعة يعني الدخول في شركة ووحدة بين الأخوة المؤمنين بالاسم. وعلامة هذه الوحدة: الصلاة بقلب واحد والمشاركة وكسر الخبز اي الافخارستيا، بنفس الفرح والابتهاج وتمجيد الله (2: 42-47 راجع 20: 7).
ولا بدّ ان نتوقف قليلاً عند الافخارستيا التي هي محور الليتورجية المسيحية الجديدة: فالجماعة الأولى شعرت بدون شكّ بحاجة للتعبير عن ايمانها الجديد (وان لم يكن واضحاً بعد انفصالها عن الديانة اليهودية) من خلاله ذكرى الربّ يسوع الذي حوَّل الفصح اليهودي (العبور من عبودية مصر إلى حريّة ارض الميعاد) إلى فصحه هو عندما عبر إلى الآب- ليهب الحياة الأبدية للمؤمنين به
وخارجاً عن الحياة الليتورجية، نجد ان اسم يسوع هو في اساس الآيات والعجائب التي كانت تجري على ايدي الرسل فتدعم الكرازة وتساعد الكثيرين على الإيمان بهذا الاسم او تمجيد الله والابتهاج (4: 21؛ 12:5؛ 8:8 الخ...)
ثم هنالك الجرأة العظيمة التي كانت تميز الرسل والمسيحيين في تبشيرهم واعلانهم للمسيح، حتى انهم لم يخشوا السجن والاضطهاد والاستشهاد باسم يسوع المسيح، كما حصل لاسطفانس وبطرس وبولس وغيرهم، فتحقق بذلك واقعياً وحياتياً مضمون الخبر السار، وهو ان المسيحي ينال روح المسيح المحيي ويتغلب على الموت مثله، بحيث ان لا شيء يقف حاجزاً امام انتشار الكلمة والبشارة.
4- خلاصة لاهوتية
هذه الأطر الثلاثة للكريستولوجيا في أعمال الرسل، اعنى ألقاب المسيح والكرازة وحياة الجماعة، تؤكد شمولية الكريستولوجيا في الأعمال وعدم الحاجة إلى أي مصدر آخر في العهد الجديد لتكملتها، اعني من حيث اساس الإيمان بشخص المسيح في حياته والامه وموته وقيامته واعتلانه رباً ومسيحاً واعتلان الوهيته بحضوره الحي والخلاصي مع الرسل في بشارتهم وفي طقوسهم وفي تماثل حياتهم بحياته حتى الاستشهاد.
وإذا كان يصح القول ان أعمال الرسل يعطينا كريستولوجيا البدايات فلا يصح القول انها كريستولوجيا بدائية! وكم بالأحرى إذا ذهبنا مذهب بعضهم في القول انها كريستولوجيا التبني الإلهي ليسوع Christologie Adoptioniste. ويصح القول فيها ايضاً انها إلى حد كبير كريستولوجيا تصاعدية Christologie Ascendante، من حيث ابرازها لوجه المسيح الإنساني والتاريخي حتى تمجيده في القيامة وجلوسه عن يمين الله ديانا للاحياء والأموات. ولكن هذه التسمية لا تكفي إذا انتظرنا ان تتضمن هذه التصاعدية تعابير مثل "ابن الله" التي لا ترد في الأعمال إلاّ مرّة واحدة (9: 20) وبمعنى "المسيح" اكثر منه بمعنى الاقنوم الثاني. ويصح القول ايضاً، إدط هذه الكريستولوجيا هي خلاصية (Sotériologique) من حيث ارتباطها بالتاريخ الخلاصي وبالوعود الخلاصية وتحقيقها في المسيح كما ذكرنا ذلك آنفاً. ولكن هنا يجب ان نميز بين البعد الخلاصي كإعلان لخلاص يأتي والبعد الخلاصي الديناميكي اي اختبار هذه الخلاص وهو يتحقق وينمو بدفع وزخم دائم ومستمر، نقطة انطلاقه أورشليم واتساعه يصل ليشمل العالم القديم كله حتى عاصمة الأمبراطورية الرومانية.
خاتمة رعائية
ليست الكنيسة الأولى مثالاً بعيدا عن ايامنا يصعب تحقيقه! المسيح الذي اختبرت الكنيسة الأولى شخصه الحي في وسطها وقدرته على توحيدها في جسد واحد وقلب واحد، هو جسده القائم من الموت بقوة الروح المحمى الذي نالته بالعنصرة والمعمودية، هذا المسيح هو هو لم يتغير! نحن نؤمن بأن المسيح قام من الموت لأجلنا ووهبنا القيامة وقد نلنا نحن أيضاً الروح القدس في المعمودية، ولكن اي إيمان كريستولوجي عندنا؟ أليس إيماناً نظرياً مبنيّاً على عقائد، كما إلى اربعين سنة مضت، نحفظها عن ظهر قلب ونرددها، واليوم نتجادل حولها بنظريات مختلفة ومقارعات لاهوتية تغذي العقول وتنفخ اصحابها! أين نحن من إيمان كريستولوجي معاش، مبني على اختبار القيامة، لا اعني قيامة المسيح فقط، بل قيامتنا نحن وتحولنا إلى اشخاص هم احياء لأن المسيح حيّ فيهم؟
- وإيمان الكنيسة الأولى اعطاها زخماً لا حدود له في إعلان المسيح والبشارة، ليس مبنياً على قدرات بطولية وجهد انساني، بل على هذا الفرح العظيم الذي اختبرته في دعوتها لتكون مسيحاً آخر في جيلها! أين زخمنا؟ أين فرحنا؟ أين هو استعدادنا للموت في سبيل البشارة محبّة لا بالقريب فقط بل بالعدو والمضطهد (على مثال اسطفانس وبطرس وبولس)؟
- جيلنا متخم بالدراسات والعلوم والتقنية والكتب تملأ الأرض ولكنه جيل حزين و"قرفان" لا يجد معنى لوجوده وهو أيضاً بحاجة إلى الخلاص! فما هو دور الكنسة اليوم؟ ان تزيد الكتب وتكثر المقالات وتغرق في النظريات والمجادلات، ام دورها ان تعلن المسيح بالسير على الطرقات وبالصعود إلى السطوح واعلان الكرازة والبشرى السارة؟
- ليتورجية الكنيسة الأولى كانت ليتورجية حيّة ملؤها الفرح والإبتهاج، لا بل هي انفجار فرح فصحي يحركه الروح لا الحرف، الإبتهال والتسبيح والشكر لا الطقوس الجامدة والتقويات الفارغة!
فأين نحن من تلك الليتورجية الحيّة؟ أي افخارستيا نحتفل بها؟ هل هي افخارستيا- الاعلان والشكر، ام هي قداس التقوى والخشوع وترداد الصلوات؟
ولماذا تحول القدّاس إلى كبش محرقة لكل المناسبات السياسية والخطابات البروتوكولية؟ وأين هي تلك الجماعة؟ هل هي الرعية المؤلفة من عشرة الاف لا يعرف فيها الجار جاره أو الكنيسة التي تحوي اناساً يجلسون الواحد بعيدا عن الآخر؟ اين القلب الواحد والجسد الواحد؟ اين الاحتفال الفصحي بموت وقيامة المسيح؟
مع كل ذلك فإن إيماني ثابت:
أ- اؤمن ان المسيح حي ايضاً في كل ما ذكرت من شوائب، والشكر لله لانه اوصل لنا الإيمان بابنه يسوع من خلال كنيسته التي ادخلتنا في العماد والإيمان حتى في ضعفها.
ب- اؤمن ان الوقت قد حان للعودة إلى كريستولوجيا اعلانية Kérygmatique مبنية على اختبار عمل الله في التاريخ Sotériologique et Economique، ومشذبة طبعا بكريستولجيا عقائدية Dogmatique، فنعود كنائس رسولية تبشيرية اكثر من كوننا كنائس طقسية طائفية، وتعود لطقوسنا التي اورثنا إياه، الاباء المباركون حيوية فصحية تجددنا وتجدد عالمنا.