الفصل التاسع
صورة الرسول في أعمال الرسل
الأب د. إفرام عازر الدومنيكي
المقدّمة:
إنّه لمن الضروري أن أوضح معنى كلمة "رسول" والذي أعالجه هنا بالمعنى الحصري أي أنها عبارة تطلق على الإثني عشر الذين اختارهم يسوع ليكونوا شهود حياته وموته وقيامته. ولكن بالمعنى العام قد تطلق هذه التّسمية على أي إنسان يكون صاحب رسالة للإنسانية، كرسول سلام أو رسول محبّة... كما أن كلّ مسيحي معمّد يعتبر رسولاً. ولكن هنا لا نتحدث إلاّ عن المعنى الخاص الذي يطلقه العهد الجديد وبالتحديد أعمال الرسل عن الإثني عشر.
ليس من السّهل إعطاء فكرة عن صورة الرسول، لأن موضوع كتاب أعمال الرسل هو بالدرجة الأولى إيصال البشارة إلى أقاصي الأرض من خلال شهود هم خدّام للكلمة. إن صورة الرسول ترتبط إرتباطاً وثيقاً بالكلمة. وكتاب أعمال الرسل ليس كتاباً عن أعمال الرسل أو عن حياتهم، بل هو رواية تصف نقل البشارة من خلال رسل ورسولات واكبوا البشارة. لدينا جماعات متعدّدة تقبّلت البشارة من أورشليم إلى روما وإلى ما بين النهرين وآسيا الصغرى... هذا من جهة. ومن جهة أخرى، أودّ أن أوضح هذه الفكرة إنطلاقاً من عبارة نردّدها في قانون الإيمان المعروف بقانون نيقية والذي تتلوه كنائسنا الكاثوليكية والأرثودكسية على السواء. تؤكّد العبارة على أن الكنيسة رسولية. ولكن في لغتنا السرّيانية المحليّة (السورث) وهي لغة غالبية مسيحي العراق، توقّفنا على ما أظن في التّعبير عن هذا المصطلح بعبارة أكثر دقّة ووضوحاً وتعبيراً وهي "مرسلة للرسل"، عوضاً عن رسولية التي تحتوى بالتأكيد على هذه الفكرة، ولكنها تزيل الغموض من جراء ما فُهمت هذه العبارة بفكرة قيام كرسي أسقفي أو بطريركي بطريقة شرعية، وإثبات هذه الشرعية استناداً إلى أحد الرسل. فليس جزافاً إن انطلقت من هذه العبارة لأقدّم صورة، أو بالأحرى، صوراً متعدّدة لنموذج الرسول، كما يقدّمها كاتب أعمال الرسل.
أولاً: صورة الرسول منسوجة على صورة المسيح
يصبّ الكاتب كلّ اهتمامه في نقل البشارة إلى أقاصي الأرض. فهو يهتمّ في الربط بين كتابه الأول (الإنجيل) وكتابه الثاني أو ما سمّي بكتاب الأعمال، في حين أنه ينبغي أن يطلق عليه اسم حياة الجماعة المسيحية الأولى في كيفية معايشتها لحدث البشارة ونقله إلى العالم. فليس لدينا إذن صورة واحدة أو بالأحرى صيغة قالب لصورة رسول من الرسل. بل لدينا صور متعدّدة لجماعات مسيحية، وبتعدّد الجماعات تتعدّد صور الرسول أو الرسل. فالرسول هو صورة تتجسّد في جماعة، وحياة الجماعة تصقل صورة رسولها. ولكن إن شئنا أن نعبر عن الصورة الحقيقة للرسول، فلا صورة أنقى وأبهى من وجه يسوع المسيح لأنه هو صورة الله كما قال بولس في رسالته إلى أهل فيليبّي (فل 2). أو بحسب تعبير الرسالة إلى العبرانيّين (عبر 1): "إنه صورة جوهره وشعاع مجده". وهذه الصورة الحقيقية يتحدّث عنها كاتب أعمال الرسل. هذه الصورة ارتسمت على قلب الرسل وتألّق ضياؤها حيثما حلّوا ورحلوا. فالرسول الأول والأوحد هو يسوع المسيح (عبر 3/ 1). وستبقى هذه الصورة عالقة في ذاكرة الكنيسة وستطالب مرسليها في العودة إلى هذه الصورة لأنها هي وحدها تعكس وجه الله. لا صورة لرسول من دون الربط بينه وبين الكلمة التي ينقلها.
إنّ الموازنة قائمة ما بين أعمال الرسل والإنجيل بحسب لوقا. فأنَّ ملامح الرسول تتجلّى من خلال مواقف يسوع ومواقف الرسل. فالرسول هو الذي ينزل إلى الشارع ويطوف القرى والمدن للقاء الإنسان المتألمّ والمهمّش والمريض الذي يحتاج إلى شفاء. نموذج العجائب والتعابير نفسها كما جاءت في إنجيل لوقا، نجده في كتاب أعمال الرسل: إقامة طابيثا، شفاء الكسيح على باب الهيكل. كما أن حرية الكلام تجاه المؤسسة الدينية تأخذ مكاناً مهما وهي صفة الرسول. الأهم من ذلك هو الإهتمام بالإنسان لا بالمؤسسة. كما أن صورة الرسول، هي تلك التي فيها يتنحّى الرسول جانباً ليفسح المجال للكلمة وللروح. لكي يعمل كما شاء.
ثانياً: من هو الرسول
من الأمور التي لا تقبل النقاش، هو أن المسيح أراد أن يستمر عمله بعد قيامته وصعوده من خلال شهود واكبوا حياته: هم شهود حياته وموته وقيامته. منذ بدء حياته العامة، أراد يسوع أن يتضاعف حضوره وأن ينشر رسالته بواسطة رجال أصبحوا شهوداً له. لقد ورد في إنجيل يوحنا (1/ 35- 51) أن التلاميذ الأولين هم إندراوس وسمعان وفيليبس ونتنائيل. أما الأناجيل الإزائية فتقدّم لائحة أخرى يتصدّرها سمعان، ثمّ يليه اندراوس ثم يعقوب فيوحنا (متى 4/18- 22؛ مرقس 1/16- 20؛ لوقا 5/ 1- 11). ونوجز ما ورد في الأناجيل: دعاهم ليصبحوا صيادي بشر. إختار اثني عشر ليكونوا معه ولكي يبشّروا بالأنجيل ويطردوا الشياطين. ويوفدهم في إرسالية قصيرة إلى الجليل لكي يتكلّموا باسمه ويزودهم بسلطانه: "من قبلكم قبلني ومن قبلني قبل الذي أرسلني". ويرى متّى في هذه الإرسالية صورة لرسالتهم في المستقبل. هو يكلّفهم بتوزيع الخبز في البرية ويوليهم سلطة خاصة على الجماعة التي سيديرون شأنها. سيشكّل الإثنا عشر أسس إسرائيل الجديد، وهذا ما يرمز إليه عدد الاثني عشر. وفي القيامة، يكلّف القائم من بين الأموات هذه المجموعة بمهمّة إيجاد تلاميذ وتعميد جميع الأمم. إنّهم شهود للمسيح الذي قام من بين الأموات وهو يسوع الذي واكبوه وعاشوا معه (1/8 و 21). وهكذا يصبح الإثنا عشر أساس الكنيسة: "ويقوم سور المدينة على اثني عشر أساساً، على كلّ منها اسم من أسماء رسل الحمل الاثني عشر" (رؤيا 21/ 14). وإن كان الاثنا عشر هم الرسل بالمعنى الحصري- وهذا ما يبرّر عبارة كنيسة "رسولية"- إلاّ أن رسالة الكنيسة بالمعنى الأعم لا تنحصر في نشاط الاثني عشر. فالمسيح الرسول (عبر 3/ 1) اختار اثني عشر لنشر حضوره، وهؤلاء سوف ينقلون هذه المهمّة إلى آخرين، لا بصفة شهود للقيامة -وهو غير قابل للنقل- وإنّما في ممارسة التكليف الرسولي.
أما كتاب أعمال الرسل فإنّه يصبّ اهتمامه على مجموعة الاثني عشر التي أعيد تشكيلها بعد اختيار متيا (أعمال 1/5-26). لا بدّ من اختيار رسول يحلّ محلّ يهوذا حتى تعود صورة إسرائيل الجديد في الكنيسة الناشئة. ومنذ اختيارهم متيا، يعرف الاثنا عشر أن عدداً كبيراً من التلاميذ يمكنهم توفير الشروط اللازمة: فالذي يعيّنه الله ليس رسولاً بالمعنى الحصري، إنما هو شاهد يكمّل الاثني عشر (أعمال 1/ 21- 22). ومنذ حياته العامة، قد مهّد يسوع الطريق أمام هذا الإمتداد في التفويض الرسولي. فإلى جانب التقليد السائد الذي كان يذكر رسالة الاثني عشر، قد حفظ لوقا تقليداً آخر، بموجبه "أقام يسوع اثنين وسبعين آخرين ثمّ أرسلهم يتقدّمونه" (لو 10/ 1). وتتضمّن هذه الإرسالية الموضوع نفسه الخاص بالاثني عشر، والطّابع الرسمي نفسه (لو 10/16). ففي فكر يسوع، لا يقتصر التكليف الرسولي إذن على الاثني عشر.
مصدر شرعية الرسول آت من عملية اختيار وتكليف من قبل المسيح أولاً ومن ثمّ من قبل جماعة التلاميذ الذين أوكلت إليه مهمّة مواصلة عمل يسوع. لا يستطيع أحد أن ينتحل دور رسول أو يسمّي نفسه رسولاً ما لم ينل التفويض وعملية الإرسال من قبل جماعة بصفة شرعية حتى وإن أدّعى أنه مرسل من قبل الله.
وتأخذ الصلاة دوراً أساسياً في حياة الرسول. فالكتابان (إنجيل لوقا وأعمال الرسل) يتمحوران على الصلاة. فيسوع، قبل أن يختار الاثني عشر، يقضي الليل في الصلاة ثمّ ينزل في الجبل ويختار له رسلاً. وكذلك الرسل في أعمال الرسل، لا يختارون أحداً إلا بعد الصلاة.
ثالثاً: الرسول خادم
يتّسم دور الرسل كما جاء في كتاب أعمال الرسل، بثلاث مهام: جمع هبات المؤمنين وتوزيعها على المحتاجين (4/ 34- 35)، وترؤس الصلاة، وكسر الخبز في البيوت (6/ 4). ولكن منذ السنين الأولى رأى الاثنا عشر أنهم عاجزون عن إدارة شؤون الجماعة. لقد ازداد عدد التلاميذ (المنضمّين إلى الإيمان الجديد). فلن يقدروا تأمين التّعليم لهؤلاء، ولا أن يستمرّوا في توزيع المعونات للمحتاجين، ولا أن يترأسّوا الإحتفال بعشاء الرّب وكسر الخبز. ولهذا اتخذوا قراراً باختيار سبعة رجال يعاونونهم في مهامهم. ويصف كتاب أعماله الرسل بدقّة تفاصيل اختيار هؤلاء الرجال السبعة (6/ 1-6). لقد اهتمّ كاتب أعمال الرسل، وهو يتابع نشأة الكنيسة، في رغبة الرسل لمشاركة جماعات أخرى في رسالتهم. فان جماعة الرسل واعية أنه لا ينبغي أن تكون جماعة مغلقة على ذاتها بل ينبغي أن تنمو وتتكاثر وتتخذ شكلها كما تمليه الحاجات. ولكن من جهة أخرى، لا يحقّ للجماعة أن تختار مسؤوليها: فهي تقدّم من تختارهم إلى الرسل الذين في الصلاة ووضع الأيدي يعهدون إلى من اختارهم الجماعة مهمّة الخدمة.
تجدر الإشارة هنا أنه لا ينبغي أن نرى في هذا النّص ما يسمّى إقامة "درجة الشماسية" diaconos. فإنه لمن الفائدة أن نذكر أن لقب "شمّاس" لم يعطِ لهؤلاء الرجال السبعة الذين تم أختيارهم من قبل الرسل. إنهم خدّام للكلمة. فإن أحدهم وهو فيلبس يحمل لقب "المبشّر" (21/8). ولم تقتصر خدمتهم على توزيع المعونات على الأرامل فحسب، بل بنقل البشارة إلى غير المؤمنين كما هي الحال مع اسطفانس وفيليبس. وهذا الأخير يقوم بتأسيس كنيسة (8/ 5). ولكنّهما يأتيان بعد الرسل. إذ إن بطرس ويوحنا ذهبا إلى السامرة لتثبيت ما قام به فيليبس (8/14-17). فيحتفظ الاثنا عشر بدور رئاسي، بينما يحتفظ من يكلّفهم هؤلاء بدور آخر. فهكذا أراد يسوع أن يستمّر التّكليف الرعائي المسلّم إلى الاثني عشر خلال الأجيال: فمع احتفاظه برابطة خاصة تربطه بهم، يقوم الآخرون بدور ثانٍ . لكنّ الجميع هم خدّام الكلمة.
كما أن كتاب أعمال الرسل يسلّط الضوء على كنيسة إنطاكيا التي أسّسها مسيحيون، لم يذكر الكتاب اسمهم بالتّحديد. ولكن منذ السنوات الأولى لنشأة كنيسة إنطاكيا عُهدت مسؤولية رعايتها إلى برنابا الذي فوّضته كنيسة أورشليم (11/ 25)، ثمّ أصبح شاول معاوناً له (11/ 25- 26). وبعد فترة عهدت قيادة الجماعة إلى مجموعة من الرجال سموا ب "الأنبياء" (13/ 1). ومن بين هؤلاء برنابا وشاول اللذين أوكلت إليهما مهمّة تأسيس كنائس في بلاد وثنية. ومن جديد يسبق الرسالة الجديدة وضع الأيدي يرافقها الصلاة والصّوم (13/3). ومنذئذٍ يحمل هؤلاء المبشّرون لقب "رسل" (14/ 4، 14) أسوة بالاثني عشر. أما مرقس الذي رافقهما فلقبّ ب "الخادم" "hypérétés" وهو اللقب الذي يعطيه لوقا في إنجيله عندما يتحدّث عن الخادم في مجمع النّاصرة حيث وعظ يسوع (لوقا 4/20)
لدينا إذن إشارة عن الخدّام في الكنيسة، وخدّام تحت سلطة الرسل، ومعاونين للاثني عشر أمثال طيموثاوس (16/ 1- 3) أو الشيوخ الذين تمّ تعيينهم من قبل بولس وبرنابا لمّا أسّسا كنائس في لسترا وإنطاكيا بسيديه (14/23).
وفي هذه الأثناء تمرّ كنيسة أورشليم بشدائد. فيعقوب أخو يوحنّا يلقى حتفه ويضطّر بطرس إلى الهرب منها (جرت هذه الأحداث تحت ولاية أغريبا الأول حوالي سنة 44 قبل وفاة هيرودس أغريبا الأول). وعندئذٍ يتزعّم يعقوب أخو يسوع (12/17) مهام الكنيسة وتعاونه جماعة من الشيوخ (ورد ذكر هؤلاء لأول مرة لما حدثت مجاعة في أيام كلوديوس، حوالي سنة 48- 49 وهي السنة التي تمّ فيها مجمع أورشليم) (أعمال 11/27- 30). فهؤلاء الشيوخ سيشاركون الرسل في القرارات التي تتخذ. فثمّة "معادلة" ما بين شيوخ أورشليم وأنبياء كنيسة إنطاكيا.
أما الإشارة الأخيرة عن الشيوخ فجاءت في الفصل (20) من كتاب أعمال الرسل. قرّر بولس (حوالى سنة 58) مغادرة اليونان ومقدونية وآسيا (روم 15/23)، فكان لا بد من أن يتولّى آخرون مهام مسؤولية الجماعات التي أسّسها. فيتوجّه بولس في حديثه إلى شيوخ أفسس مع توصيات (20/17). فهؤلاء سوف لن يروا وجهه.
نستنتج مايلي.
- وظيفة الشيوخ هي رسالة راعوية كما ورد في 1 بط 5/ 2.
- هذه الرسالة هبة من الروح القدس وليست بمبادرة الإنسان.
- عليهم أن يتمّوا عملهم بحبّ كبير للكنيسة.
إن كتاب أعمال الرسل يظهر إذن كيف أن عمل الأثني عشر قد تم تسليمه وتناقله خلال جيل كامل (أي خلال 30 عاماً) من تاريخ الكنيسة الناشئة.: لقد تقاسمه الاثنا عشر مع السبعة، ثمّ شاركتهم فيه عناصر جديدة انضمّت إلى الكنيسة مثل برنابا وشاول ويهوذا وسيلاس. ثمّ يسلّم بولس بدوره مهام السهر على الكنيسة للشيوخ. وأخيراً يرى الكاتب أن عملية النقل والتسليم تمّت بنفحة الروح.
إذا دخلنا في تفاصيل الحديث إلى رسائل بولس (وهي من أولى كتابات العهد الجديد)، فإننا نسجّل بعض ملاحظات ومنها: مما لا شك فيه هو أن سلطة بولس الرسولية قد سلّمها إلى بعض معاونيه (سيلفاس وطيموثاوس وطيطس) الذين هم أيضاً رسل المسيح.
إن شهادة كاتب أعمال الرسل في العهد الجديد واضحة في نقطة اعتبرها أساسية: لا تقوم أية جماعة بكيانها إذا استغنت عن الرسل أو من يقوم مقامهم في إدارتها. إن الجماعة تستلم شرعية وجودها من خلال انتمائها إلى جماعة الرسل نفسها. فكلّ رسالة حقيقية هي تلك التي تتخذ من الرسل قاعدة للانطلاق. يجب أن تتسم بالصفات التي تحلّى بها الرسل أنفسهم. إنهم خدّام الكلمة: هم لا يفرضون سلطتهم كما في مؤسسة أو بتفويض دستوري، بل هم شهود لكلمة تأخذ مجراها بحسب عمل الروح من دون ممارسة أي ضغط.
رابعاً: بولس نموذج الرسول.
يختفي بطرس بسرعة في كتاب أعمال الرسل الذي يسترسل في إظهار وجه بولس. يؤكّد بولس أنه "دعي" ليكون رسولاً حيث تراءى له القائم من بين الأموات (غل 1/ 15- 16، راجع أعمال 9/ 5/ و27)، وهو يبيّن أن رسالته نابعة من دعوة خاصة. فلم "يُرسَل من قبل البشر" (حتّى وإن كان هؤلاء هم الرسل) وإنما من قبل يسوع شخصيا. وهو يذكر بهذا الأمر ليؤكد سلطانه الرسولي. "فنحن سفراء في سبيل المسيح، وكأنّ الله يعظ بألسنتنا" (2 قور 5/ 20). "ما أسمعناكم... لم تتقبّلوه على أنه كلام بشر، بل على أنه كلام الله" (ا تس 2/13). "قبلتموني قبولكم لملاك الله، قبولكم للمسيح يسوع" (غل 4/14). فالرسل "عاملون معاً في عمل الله" (1 قور 3/9). وحتى لا يحوّل السفير هذا السلطان وهذا المجد لمنفعة خاصة، يتعرّض الرسول لبغض العالم، يضطهده أعداؤه ويسلم للموت حتّى يعطي الحياة للبشر (2 قور 4/7 و 6/ 10).
ترتسم على وجه بولس ملامح الرسول كما رسمتها الأناجيل. وبسبب الدور الذي لعبه في الكنيسة الناشئة فيأتي جنباً إلى جنب مع بطرس. رسائله وأعمال الرسل تسلّط الضوء على هذه الشخصية الفذّة. من خلال هذه المصادر نستطيع أن نرسم صورة للرسول. ولولا خبرته الشخصية وما كتبه كشهادة خاصة وما كتب عنه لوقا، لكان من الصعب فهم هذه الشخصية المتشعّبة والتّحدث عنه بشكل مميز إنطلاقا من كتاباته أسلط الضوء على قسم من ملامح الرسول واعتبرها خيوطاً أساسية في لحمة نسج العهد الجديد.
خامساً: إستنتاج
1- فهم لسر المسيح
إنه سر المسيح في الأمم (قول 1/27). وعملية نقل هذا السر خاص ببولس. إنه نعمة خاصة به. أما مهمة "سفير في سبيل المسيح" فهي هبة الروح لجميع الرسل (1 قور 2/6-16) نال بولس بنعمة من الله معرفة خاصة لهذا السر (أفسس 3/4) وهو مكلّف بأن يعلنه على الناس. وفي سبيل إتمام هذا السر يتحمّل الإضطهاد ويعاني الآلام ويُلقى في السجن (بولس 1/24-29 و أفسس 3/1/21). وفي كنيسة فيزلي في فرنسا نجد "عاموداً يبين موسى الذي يصبّ القمح في الرحى وبولس يستلم الطحين". إنها الرحى السرّية. فعمل الرسول يقوم على نقل البشارة من خلال احتوائه للحدث ونقله بطريقة تتجاوب ورغبات الأنسان. لا يعيش الإنسان مما يأكل بل بعملية امتصاص وهضم واحتواء. ومن هنا نكتشف أهمية بولس من حيث إنه أخرج المسيحية من نطاقها الضيّق بعد أن كان ينظر إليها كـ "بدعة" يهودية. من خلال عملية النقل، يصحّ القول عنه "لولاه لما كانت المسيحية".
2- محبة الجماعة.
من دون هذه المحبّة للكنيسة لا يوجد راع جدير بهذا الإسم. الرسول الحقيقي هو الذي يكون على أهبّة الإستعداد لإعطاء ذاته من أجل جماعته. فالرسالة لا تقوم على أساس وظيفة مبنيّة على شاكلة المؤسسات، بل تتطلّب موهبة روحيّة تلزم كل قوانا وعواطفنا وتقودنا إلى المحبّة الراعوية.
3- التّجرد والمجانية.
إن التّجرّد مرتبط بشكل حميم بالمحبة. لقد أعطى بولس ميزة جوهرية نابعة من خبرته الشخصية في طريقة عمله الرسولي وعلاقته بالجماعات التي ارتبط بها في البشارة: "ما رغبت يوماً في فضة ولا ذهب ولا ثوب أحد، وأنتم تعلمون أن يديّ هاتين سدّتا حاجتي وحاجات رفقائي وقد بيّنت لكم بأجلى بيان أنه بمثل هذا الجهد يجب علينا أن نسعف الضعفاء، ذاكرين كلام الرب يسوع وقد قال هو نفسه: السعادة في العطاء أعظم منها في الأخذ" (أعمال 20/33- 35؛ راجع أيضاً 18/3). كان بولس يعمل بيديه لسدّ حاجاته (1 تس 2/9 و2 تس 3/8 و1 قور 4/12 و 9/13- 15). وكان يتقبّل عند الحاجة مساعدة خارجية (فل 4/ 15-19 و2 قور 11/9). وترتسم ملامح الرسول في التّجرّد بدءاً من قاعدة وضع أسسها يسوع نفسه لما أرسل تلاميذه يقول لهم: "لا تقتنوا نقوداً من ذهب ولا من فضة ولا من نحاس في زنانيركم، ولا مزوداً للطريق ولا قميصين ولا حذاء ولا عصا لأن العامل يستحقّ طعامه" (لوقا 10/7؛ راجع متى 10/ 9-10). يتميّز بولس وبرنابا عن بقية الرسل الذين كانوا يعيشون على نفقة الجماعة (راجع 1 قور 9/ 4). بولس يوضح موقفه في رسالته الثانية إلى أهل قورنتس، ويضطر بولس للدّفاع عن نفسه (2 قو 11/ 1- 29).
إن عمل البشارة بالإنجيل ينبع من روح التّجرد. وبولس رفض العيش من حق مشروع يأتيه من تعب الإنجيل (1 قور 9/4). وفي الرسائل الراعوية يطلب ألا يقبل في الخدمة من هو "محبّ للمال" (1 طيم 3/3؛ راجع طيطس 1/7). ويذهب كاتب رسالة بطرس الأولى في هذا النهج: "فالشيوخ الذين بينكم.... أرعوا قطيع الله الذي وكّل إليكم وأحرسوه طوعاً لا كرهاً، لوجه الله، لا رغبة في مكسب خسيس..." (1 بط 5/1- 4).
يتّضح لنا إذن أن للرسول ملء الحق في العيش من الخدمة ولكن بإمكان الإنسان أن يرفض الحق وأن يعمل لكسب حياته وألا يكون عبئاً على الجماعة وأن يكون حراً لعمل البشارة.
4- الرسول نموذج للجماعة.
إن كان بولس قد عمل بيديه، فلقد فعل هكذا "ليجعل من نفسه قدوة" (2 تس 3/9؛ راجع أعمال 20/35). كيف يستطيع حث جماعة تسالونيقي على العمل إن كان هو مثالاً للبطالة؟ إنّها لفكرة عزيزة على قلب بولس من أن أول عمل رسولي هو إعطاء الحياة كنموذج لحياة مسيحية حقيقية. وليس من باب الكبرياء إذا ما قدّم بولس نفسه قدوة لأنه هو نفسه اقتدى بالمسيح (1 قور 11/ 1). ولهذا فإنه لا يتردّد أن يطلب من المؤمنين أن يقتدوا به. ويدعو طيموثاوس وطيطس أن يكونا قدوة للمؤمنين (1 طيم 4/12؛ طيطس 2/7-8).
إن الخدمة دعوة لحياة مسيحية لا عيب فيها. لا نفع في بشارة يصبح الكلام خارجاً عن المتكلّم إذا "لم يصغي إلى ما في داخله" (القديس أوغسطينوس).
5- دعوة إلى حياة أهل بالإنجيل.
- على الرسول أن يعظ ويشدّد ويناشد: "فقد عاملنا كلا منكم كما يعامل الأب أولاده، كما تعلمون، فوعظناكم وشدّدناكم وناشدناكم أن تسيروا سيرة جديرة بالله الذي يدعوكم إلى ملكوته ومجده" (1 تس 2/11-12).
- حث للدخول في روح الإنجيل في واقع الحياة. فكرازة الرسل ليست عامة أو نظرية ولكنّها ترافق الإنسان في حاضره وفي العمل اليومي. فإن الرسالة تتجذّر في الإصغاء إلى حاجات الناس.
6- تنشئة الإيمان.
لا ينبغي أن نجعل من بولس أستاذاً للأخلاق، بل ما يطلبه من المؤمنين إنما هو تطوير حياة الإيمان واكتشاف "ما في المسيح من غنى لا يسبر غوره" (أفسس 3/8). ولقد طرأ تطور في فكر بولس حول المسيح والإتحاد به (فل 3/9- 11؛ راجع غل 2/19-20). فالذي يعيش في المسيح منذ العماد، اتشح المسيح (غل 3/27) وأصبح "خليقة جديدة" (2 قور 5/17). الرسالة إلى أهل رومة تجمع كل العناصر في الرسائل الأخرى وتكشف عن هوية المسيح الخادم الذي هو علامة غفران للبشرية (روم 3/ 25).
7- تبشير البعيدين.
كان لبولس مكانة فريدة في نشاط الكنيسة الأولى، فهو رسول الأمم، وله فهم خاص لسر المسيح، وهذا الدّور ارتبط بشخصه.
لم يكن بولس الأول في نقل البشارة إلى الوثنيين. فمن قبل، قد بشّر فيلبس السامريين (أعمال 8)، وقد نزل الروح على الوثنيين في قيصرية (أعمال 10). ولكن بولس كلّف خصيصاً ببشارة الوثنيين، بجانب بشارة اليهود. وهذا ما طلبه بولس من بطرس أن يعترف به، لا لأنه كان يريد بذلك أن يكون مرسَلاً من بطرس: إنه مرسَل من قبل المسيح مباشرة، ولكنّه حرص أن يرجع إلى رئيس الاثني عشر، حتى "لا يسعى عبثاً"، ولا يسبّب إنقسامات في الكنيسة (غل 1/2).
استحوذت الرسول فكرة تبشير الغير المؤمنين والرغبة التي كانت تسكن جوارحه أن يحمل الإنجيل بعيداً. أعمال الرسل تنقل النشاط المكثّف لجعل كلمة الله مسموعة إلى "أقاصي الأرض" (أعمال 13/ 47). وهكذا سوف يخاطر بحياته في سبيل نشر الكلمة: "أسفار متعدّدة، أخطار من الأنهار، أخطار من اللصوص، أخطار من بني قومي، أخطار من الوثنيين، أخطار في المدينة، أخطار في البرية، أخطار في البحر، أخطار من الأخوة الكذّابين، جهد وكدّ، سهر كثير، جوع وعطش، صوم كثير، برد وعري، فضلاً عن سائر الأمور من همّي اليومي والإهتمام بجميع الكنائس" (2 قور 11/ 26- 28). ويدعو الجماعات التي أسّسها أن تؤدي الشهادة للذين هم "في الخارج" (1 تس 4/ 12؛ راجع 1 قور 14/ 25).
لم يتوقّف الرسول عند جماعته. ولكن ينبغي فتح الباب واسعاً أمام الروح كما نرى النموذج في شخص شاول وبرنابا (أعمال 13/ 2).
خلاصة.
إن بدء رسالة الرسل تبتدئ بدعوة. يسوع هو صاحب الدعوة. هذه الدّعوة لها بعد نبوي. إذ إن يسوع يدعو رجالاً ليكملوا رسالته. فالاثنا عشر هم خلفاء خدّام الله كخدّام الله في العهد القديم على شاكلة إبراهيم وموسى وداود والأنبياء. لم يدّع أحد منهم أنه هو صاحب إمتياز أو انتحل الدعوة، بل نالها من الله.
فإذا كانت رسالة الاثني عشر امتداداً لرسالة يسوع، فرسالتهم نموذج لكل دعوة في الكنائس وينبغي أن تستند على نفس المقياس: التقاء دعوة وحكم صائب من قبل المسؤولين لكي يتمّ الإختيار على من هو مؤهّل ليكون شاهداً للكلمة لا ليكون موظفاً في الكنيسة أو موزّع أسرار. الخادم في أعمال الرسل هو خادم للكلمة (1 طيم 3/2-7: بولس يقرّر اختيار طيموثاوس؛ راجع أيضاً أعمال 16/ 1- 3).
من خلال الرفقة ليسوع الذي "اختارهم ليكونوا معه"، أصبح الاثنا عشر شهوداً لأعمال يسوع: عرفوا كيف قبل العشارين والخطأة وكيف منح الغفران للزانية وكيف أبهج حياة زكّا الذي أحسّ بأنه محبوب من قبل الله.
من خلال الرفقة مع يسوع يتعلّم الرسل أنهم رجال صلاة. فكل اختيار للشيوخ أو للخدّام تم بعد صلاة. إنهم يتعلّمون من يسوع إنسانية الله وحنانه للإنسان. فلا عجب إذا سمّي إنجيل لوقا "إنجيل الحنان". والحنان يتجلّى من خلال أعمال الرسل ومواقفهم في شفاء الإنسان.
الرغبة في الخدمة، خدمة الأخوة وحذرهم من المغالاة والمنافسة على المناصب. وإن العمل القيادي هو من أجل خدمة الجماعة وللجماعة وليس في سبيل الإستعلاء على المراكز.
من الملفت للنّظر أن يسوع أرسل تلاميذه اثنين اثنين. يرى الباحثون أن إرسالهم بهذا الشكل هو للتّأكيد من صحة كلامهم وشهادتهم وليس في سبيل ترويج أفكار شخصية. فالرسول هو حامل البشارة. إن هذه العلامة هي ثمرة محبّة الأخوة بعضهم لبعض. والكنيسة الأولى مارست هذه العادة (بطرس ويوحنا، برنابا وشاول، برنابا ومرقس ثم بولس وسيلاس... راجع أعمال 3/ 1، 8/14- 25، 13/12، 11/30، 15/40).
أخيراً إن رسالة الرسول هي رسالة تحرّر وتشفي: لقد أعطي للرسول سلطان طرد الشياطين وشفاء المرضى. مارس جميع الرسل هذه النعمة. لم يُقم يسوع الاثني عشر للدفاع عن عقائد الإيمان ولا للدفاع عن حقائق. البشرى السارة هي في نقل الفرح إلى قلب الإنسان لاكتشاف وجه الله. إن القيام ببناء جماعات في أعمال الرسل يعني الشعور بروح الوحدة والمحبّة. لم يقل لنا الكتاب إن الرسل شيّدوا القصور أو الكنائس، بل كانوا واحداً مع الجماعة. إن موهبة الشفاء معطاة للرسول. هي شفاء العالم المبني على العنف والتّقتيل والتّخريب. هي مشاركة الفقير والمهمش في الدفاع عن حقه لنيل قليل من بلسم حنان الله.