الفصل السادس
إنفتاح الكنيسة على الوثنيّين
في أعمال الرسل
الأب موسى الحاج
مقدمة:
يظهر لنا كتاب أعمال الرسل بمثابة وثيقة مهمّة لمعرفة الجيل الثاني من المسيحيّة. عندما نقرأه، نكتشف عمق غناه لجهة المعلومات المهمّة حول التاريخ الداخلي للكنيسة وتطوّر اللاهوت وتفتّح الأدب المسيحي بين سنة 70 و 100 م، وانتشار الإيمان من أورشليم إلى روما عبر آسيا.
هذا الكتاب هو أشبه بحبّة الحنطة التي سلّم بذارها السّيد المسيح القائم من الموت إلى الرسل. سوف تقع هذه الحبّة في العالم الروماني المترامي الأطراف حيث كان الطريق ممهّداً لاستقباله هذه الكلمة.
حديثنا اليوم موضوعه "انفتاح الكنيسة على الوثنيّين". هذا العنوان يصلح لأن يكون عنواناً عاماً لكتاب أعمال الرسل لأنه موضوع أساسّي ويحتلّ القسم الثاني من هذا السفر (11؛ 19 متى 28) دون إغفال أول إتصال بين الرسل والوثنيّين على يد بطرس مع كورنيليوس في قيصريّة البحر (ف10). ولمعرفة مضمون أيّ كتاب، فما علينا سوى قراءة المقدّمة حيث يفصح الكاتب عمّا سيقوله، والخاتمة حيث يذكِّر بما قاله. يدلّنا الكاتب في خاتمة الكتاب على شخص بولس الذي يقيم في روما عاصمة العالم الوثني، فيعرض على اليهود ما جاء على لسان أشعيا (6: 9- 10) "بأنّ خلاص الله هذا أُرسل إلى الوثنيّين" (28: 28)، فنكتشف أحد أهداف لوقا وهي أن يدلّنا على امتداد ملكوت الله تدريجيّاً إلى العالم كلّه، ويبيِّن خلاص الله.
أ- هدف لوقا
أمّا انتشار ملكوت الله فليس بالأمر السهل، إنما هناك صعوبات سوف تطرح نفسها، منها الإنفتاح على الوثنيين من قبل أناس جاؤوا من العالم اليهودي، (وهذا ليس بالأمر السهل). لكنّ الروح القدس هو العامل الخفيّ الذي يدفع الكنيسة لتبشِّر السامريّين وتعمّد الوثنيّين. وستكون منفتحة على اليهود وعلى الوثنيّين كما تحدّد ذلك في مجمع أورشليم (ف 15).
وهناك العناصر الجغرافية والتي لها أهميتها في هذا الإنفتاح. يبدأ الكتاب في أورشليم وينتهي في روما بحسب ما رسم يسوع يوم صعوده إلى السماء. هذه المسيرة التي تنطلق من العالم اليهودي، من أورشليم لتصل إلى الوثنيّين. وقد دوّنها لوقا في كتابين، الإنجيل وأعمال الرسل.
ب- لماذا كتب لوقا أعمال الرسل
نعرف أن الإنجيليّين الثلاثة، متّى، مرقس ويوحنا، هم من أصل يهودي. هؤلاء قد اعتبروا أن أحداث التاريخ لا تحمل نفس المعنى الذي يراه غير اليهوديّ. وهم وضعوا نشأة الكنيسة في كتاب واحد ليُظهروا عمل المسيح الحيّ فيها إلى أن تنتهي الرسالة في الجليل، جليل الأمم.
أمّا لوقا فهو من أصل وثني. فبعدما مسّته نعمة الربِّ يسوع، رأى ضرورة تأليف كتاب ثان. فحيث إن نهاية الأناجيل الأخرى تكون في الجليل جعل لوقا نهاية إنجيله كبدايته في أورشليم. وشرح في هذا الكتاب الثاني الذي وجّه في معظمه إلى العالم الوثنيّ الواسع الإنتشار كيف بدت الكنيسة.
إذن، هناك شعبان مختلفان، ولكل منهما نظرته إلى الأمور الدينية: هناك اليهودي والوثني. فبينما ينطلق اليهودي من الله في نظرته إلى الكون والعالم، نرى الوثنيّ يتبع الطريق المعاكس، فهو لا يرى الله بوضوح، إنه يعرف نظريات وفلسفات تضع حقيقة وجود الله موضع التساؤل. ولكنّه يكتشف الروح الذي يعمل في الجماعات والأشخاص. إنّه يكتشف الله إنطلاقاً من الواقع المحسوس (التأثير بعد عودة الروح إلى طابيثة قبل ارتداد كورنيليوس 9: 36 ..). الوثنيّ ينطلق من الطريق المعاكس الذي يراه اليهوديّ، ينطلق من الروح إلى يسوع فإلى الله.
ج- موقف اليهودي من الوثني
نلاحظ الموقف المتشدِّد في أعمال الرسل لقبول المسيحيّين من أصل وثني. ولا بدّ هنا من ذكر بعض الأسباب. وأول انفتاح على الوثنيّين أتى على يد بطرس الذي دفعه الروح القدس ليدخل إلى بيت كورنيليوس في يافا، وقد قال بطرس في هذه المناسبة: "تعلمون أنّه قد حرِّم على اليهودي أن يخالط أجنبيّاً، أو يدخل منزله. بيد أن الله بيّن لي أنّه لا ينبغي أن أدعو أحداً من الناس نجسا أو دنساً" (10: 28).
من هنا يمكننا إدراك موقف اليهود والمرتدّين منهم إلى المسيحيّة حيال الوثنيّين. فالدخول إلى اليهودية يفرض على الوثنيّ أن يختن أولاً وأن يسلك بحسب الشريعة الموسوية أي عدم الإختلاط في الأكل والزواج والحياة الإجتماعية مع الوثنيّين لأنهم يعتبرون نجسين بنظر اليهود. وهذا ما قاله يعقوب في مجمع أورشليم: "على الوثنيّين المهتدين أن يتجنّبوا رجس ذبائح الأصنام والزنى والميتة والدم" (15: 20، 29).
أمّا دخول بطرس إلى بيت كورنيليوس فمعناه التّخليِّ عن الإمتيازات عند اليهود للإنفتاح على العالم. وهذا الموقف يفسِّر معنى الآية: "ما طهّره الله، لا تنجّسه أنتَ" (16:10).
بالرغم من كل هذه الصعوبات فقد شقّت كلمة الله طريقها كما سنرى ذلك في أعمال الرسل.
د- البشارة وامتدادها
في مقدّمة أعمال الرسل يذكر لوقا بقول المسيح لرسله قبيل صعوده: "ستنالون قوّة هي قوّة (الروح القدس) الذي يحلّ عليكم، وتكونون لي شهوداً في أورشليم في اليهوديّة كلِّها والسامرة، حتّى أقاصي الأرض" (1: 8). مجمل الكتاب يتحدّث عن هذه الرسالة التي سلّمها يسوع القائم من الموت لرسله. تدشّنت المرحلة الأولى بعنصرة اليهود في أورشليم (2: 1- 41) وامتدّت حتّى نهاية الفصل السابع. بعد هذا تحدّث الفصل الثامن والتاسع عن المرحلة الثانية في اليهودية والسامرة التي بدأت بعنصرة السامريّين (8: 5- 25).
أمّا المرحلة الثالثة، فقد تدشّنت في الفصل العاشر بقبول المجموعة الأولى من الوثنيّين في الكنيسة.
1- الإنتشار الأول: "وتكونون لي شهوداً"
فيما تتحدّث الفصول الخمسة الأولى عن الدور الذي قامت به الجماعة في أورشليم في الوسط اليهودي، نبدأ باكتشاف آخر في الفصل السادس لننطلق إلى عالم جديد، يبدأ بتعيين سبعة شمامسة ومنهم اسطفانوس الشهيد الأول في المسيحيّة.
هؤلاء السبعة هم من الهلّينيّين، أي إنهّم يهود يتكلّمون اليونانية، جاؤوا من الشتات وأقاموا في أورشليم منتظرين أن يموتوا ويدفنوا فيها. لقد كانوا منفتحين على العالم الخارجي أكثر من العبرانيّين وذلك بفضل ثقافتهم واتصالاتهم. هؤلاء هم جماعة منظّمة لها مسؤولها، يحملون أسماء يونانية. آخر المذكورين هو نيقولاوس الذي كان وثنياً إنطاكياً قبل أن يهتدي إلى اليهودية. ولقد طرح هؤلاء الهلّينيون هذا السؤال: هل الكنيسة شبعة يهوديّة كالفريسيّين والناصريّين والأسينيّين، أم جماعة متجذّرة في اليهودية ولكنّها منفتحة على العالم الخارجي؟
أول من باشر الإنفتاح على الوثنيّين هم هؤلاء الشمامسة (8: 1- 2) وذلك في السامرة واليهوديّة.
2- الإنتشار الثاني
الإنفتاح الأول تمثّل بقبول الهلّينيّين وإعطائهم إمكانية تكوين جماعة تخدم اليهود الآتين من عالم الإنتشار. لقد دفع الروح الكنيسة إلى الخروج من حالها الضيّق جغرافياً ولاهوتياً، لتنطلق إلى السامرة واليهودية. فتشهد مع فيلبّس، وهو أحد الشمامسة السبعة، دخول السامرة واعتناق أهلها البشارة الجديدة. (قنداق الحبشة 8: 38) وفي قراءة تسلسلية لأحداث أعمال الرسل، تبرز صورة شاول الذي يمثِّل إسرائيل القديم. بعد توبته سوف يقوم بدور كبير لتكوين إسرائيل الجديد.
وفي عودة إلى ما ورد، يمكننا اختصار النقاط التالية قبل الدخول في تفاصيل الإنتشار الثالث:
1- بدأت الجماعة في أورشليم وهي من أساس يهودي.
2- إلى جانبها، هناك الجماعة اليهودية الهلّينيّة بخدّامها السبعة.
3- مع هؤلاء تبدأ البشارة فتأخذ طابعاً شمولياً.
4- بعد توبته، أصبح شاول يجسِّد اليهود العائشين في الشتات والذين انفتحوا على كلام الله.
5- البشارة تمتد إلى الوثنيين، ولم يكن شاول أول الذاهبين إليهم.
6- بطرس، المسؤول عن جماعة الإثني عشر، يبدأ البشارة مع كورنيليوس أولاً.
7- نشهد في هذا الوقت موت يعقوب (12: 2) وموت هيرودس (20؛ 23) وتحرير بطرس من السجن (2: 11).
لقد أصبح كلّ شيء جاهزاً للإنطلاق إلى الرسالة، إلى العالم الوثني، وذلك مع بطرس وبولس وبعض المعاونين.
3- الإنتشار الثالث
أولاً: دور بطرس الرسولي
بداية الإنتشار الثالث (إلى أقاصي الأرض) جاء على يد بطرس رئيس الرسل يوم عمّد الضابط الروماني، حيث نقرأ له أطول خبر في أعمال الرسل (10: 1- 11: 18). أدخل إلى الكنيسة رجلاً "يخاف الله"، قريباً من اليهودية من جهة العقيدة، غريباً عنها ونجساً من جهة الشريعة. ومع أنه يخاف الله اعتبره العبرانيّون وثنياً (2: 10). هذا الخبر رئيسي في نظر لوقا، وهو يدلّ على أن الخطوة الحاسمة باتجاه الوثنية قد قام بها بطرس نفسه مدفوعاً بالروح حيث قال: "أنعم الله إذن على الوثنيّين أيضاً بالتّوبة إلى الحياة" (11: 8). إذاً، هناك وسيلة لخلاص الوثنيّين. ولا حاجة لأن يصيروا يهوداً بالختان. مع كورنيليوس، بدأت محطة هامة في امتداد الكنيسة ووعيها لرسالتها: لقد تعمّد أول الوثنيّين وحلّ الروح القدس عليه وعلى أهل بيته (10: 44)
إن عنصرة قيصرية أعطت أهميّة حاسمة في تاريخ الكنيسة الرسولية. ولكن هذا الأمر لن يبرز كاملاً إلاّ في خطبة الفصل الخامس عشر. هذا التبدّل لم يتمّ بسهولة، فكان على الروح أن يرسل رؤية إلى بطرس ثمّ يحلّ على كورنيليوس وعائلته قبل أن يُعطى لهم العماد.
ثانياً: دور بولس الرسولي
تبدو الفصول 13 إلى 28 في أساسها على أنهّا خبر نشاط بولس الرسولي. سيُذكر اسمُه 137 مرة منها 9 مرات بشكل شاول وآخرُها في الفصل 13 آية 9 حيث سيتمّ العبور من الإسم العبري شاول إلى الإسم اليوناني بولس، ساعة توجّه للمرة الأولى للوثنيّين وهو ممتلئ من الروح القدس.
من خلال نشاط بولس الرسولي، سوف تتحقّق المرحلة الثالثة من البرنامج المحدّد: "ستكونون لي شهوداً حتى أقاصي الأرض" (1: 8). ومع أنّ بولس كان يبدأ بشارته في المجامع اليهودية، يشدّد لوقا على النجاح الذي أحرزه بولس بين الوثنيّين (14: 27).
ثالثاً: النشاط الرسولي لكنيسة إنطاكية (11: 19- 26)
لقد حدث شيء جديد في إنطاكية: أخذ التلاميذ يخاطبون مباشرة اليونانيّين أو الوثنيّين "فاهتدوا إلى الرب". نحن هنا أمام نموذج جديد لكنيسة تولد خارج أورشليم، فتنطلق فقط بفضل كرازة كلام الله والروح. ولن ترسل الكنيسة تجاه هذه الظاهرة الجديدة بطرسَ ويوحنا، بل برنابا. فهو رجل مستقيم وممتلئ من الروح القدس. سيذهب كذلك إلى طرسوس يطلب بولس، وكلاهما سيقودان هذه الجماعة لسنين طويلة.
رابعاً: البشارة في آسيا الصغرى (ف 13- 14)
المرحلة الحاسمة في الإنتشار ستعبرها الكنيسة إلى آسيا الصغرى بفضل الروح القدس. وستتخذ الرسالة منحى واضحاً في إنطاكية بسيدية. فبعدما رأى بولس وبرنابا تصلّب اليهود، قالا بجرأة: "كان يجب أن نبشرِّكم أنتم أولا بكلمة الله، ولكنكم رفضتموها فحكمتم أنّكم لا ترون أنفسكم أهلاً للحياة الأبدية. ولهذا نتوجّه إلى الوثنيّين" (13: 46).
يفسِّر بعض الباحثين أنّ قرار التوجّه إلى الوثنيّين ليس تبعاً لرفض اليهود، إنّما للصعوبة التي أبداها هؤلاء حيال قبول البشارة الجديدة. لقد تعرّفوا قبل غيرهم على الله ولكنّ هذه المعرفة لا تعطيهم إمتيازاً على الآخرين.
خامساً: إنيِّ قد جعلتك نوراً للأمم (13: 47)
موقف بولس هذا يطابق ما جاء في نبوءة أشعيا: "إنِّي قد جعلتك نوراً للأمم، ليبلغ خلاصي إلى أقاصي الأرض" (13: 47). ويضيف بولس الرسول في موضع آخر قائلاً: "لكن الله أعانني إلى هذا اليوم لأشهد له عند الصغير والكبير، ولا أقول إلاّ ما أنبأ به موسى والأنبياء، من أن المسيح يتألّم ويكون أول من يقوم من بين الأموات ويبشِّر اليهود وسائر الشعوب بنور الخلاص" (أع 26: 22).
فمنذ ارتداد بوليس (9: 15)، يعرف قارئ أعمال الرسل أنّ الربّ قد أعدّ بولس ليحمل اسمه أمام الأمم الوثنيّة، وسوف نرى نشاطه في الجماعة المسيحيّة (11: 26) وفي المجامع (9: 10- 22، 13: 5). والسبب الذي دفعه إلى اتخاذ هذا الموقف الحاسم من اليهود هو عداوتهم للبشارة الجديدة. فخطا الخطوة الأولى (13: 46- 47) وتبعتها خطوات متتالية في آسيا.
وإنّ موضوع خلاص الوثنيّين حاضر في وعود الله لإسرائيل، في رسالة شعب الله، حين تتمّ هذه المواعيد في الأيام الأخيرة. هذا الوقت وصل مع يسوع المسيح، وعلى إسرائيل الآن أن يحقِّق دعوته تجاه الأمم الوثنية. لقد أقرّ الرسل أنَّ يسوع هو المسيح المنتظر، هو مسيح إسرائيل. ولكنّه مسيح الوثنيّين أيضاً وهم الذين يُدعون إلى المشاركة في المواعيد دون أن يصيروا يهوداً.
ثمّ نلاحظ في قراءتنا كيف أن كرازة بولس تلاقي أولاً القبول والترحاب (13: 42- 43) وبعدها تأتي المعارضة التي يقف وراءها اليهود (13: 44- 45). هذه المعارضة اعتبرها بولس وبرنابا من صلب الرسالة، فيقول بولس: "يجب علينا أن نجتاز مضايق كثيرة لندخل ملكوت الله" (14: 19). وعندما قدّم بولس وبرنابا تقريراً عن رسالتهما للكنيسة: "أخبرا بكلّ ما أجرى الله على أيديهما وكيف فتح الله باب الإيمان للوثنيّين" (14: 27).
ذاك كان هدف الرسالة في نظر لوقا وقد قطعت حتى الآن طريقاً مهمّاً: فمنذ جماعة أورشليم الأمينة لتعليمات يسوع خلاله حياته، والتي لا تخاطب إلاّ اليهود، إلى انفتاح باب الإيمان أمام الوثنيّين بفضل الهلّينيّين المدفوعين بالروح. وبعد اجتماع أورشليم (ف 15)، كانت النتيجة أن لا علاقة للختان بالخلاص كما ذكر ذلك بطرس الرسول.
وفي هذا المجمع، أقرّت الكنيسة نهائياً أنهّا كنيسة من أجل العالم. لم يبق لها إلاّ أن تضع هذا الإيمان موضع العمل فتحمل البشارة إلى أقاصي الأرض والتاريخ. في نظر لوقا، بولس هو الآن رسول الأمم الذي سيوكل إليه حمل الإنجيل إلى قلب العالم المعروف آنذاك، إلى روما.
وقد شدّدت مداخلة يعقوب في هذا المجمع على أن المحبّة يجب أن تتقدّم على الحق، داعياً إلى احترام الآخرين، أي المسيحيّين من أصل يهودي، بهدف الإبقاء على الوحدة. المقصود في خطاب يعقوب هو تفهّم الآخر للعيش معه عملاً بنبوءة عاموس: "في ذلك اليوم، أقيم مسكن داود المتهدِّم، فأسدّ شقوق جدرانه، وأرحمه وأعيد بناءه كما كان في الأيام القديمة ليرث بنو إسرائيل بقيّة أرض آدوم وجميع الأمم الذين دعي اسمي عليهم (11:9).
بعد مجمع أورشليم (ف 15)، نشهد غياب بطرس عن مسرح الأحداث. فانتهت، من الوجهة اللاهوتية، الرسالة التي سلّمه إيّاها يسوع وختمها الروح. لقد تمّ كلّ شيء، إنما بقي موضوع امتداد الكنيسة على المستوى الجغرافي. وعمل إيصال الإنجيل إلى روما سوف يكون من عمل بولس، شاهد المسيح، الذي يتحمّل وحده، من خلال النظرة التي اختارها لوقا، الرسالة الموكولة أولاً إلى الرسل.
سادساً: من أورشليم إلى روما
إنّ رحلة بولس الأولى (ف 13- 14) هي خاصّة وهدفها أن تدلّ على أنّ الله فتح للوثنيّين باب الإيمان. وإذا كان بطرس له الفضل في تبشير أول وثني (كورنيليوس)، فإن الفضل يعود لبولس الذي بشّر أول مسؤول روماني وهو سرجيوس بولس (13: 7).
وابتداء من الفصل 16 وحتى 20، نحن أمام رحلة واحدة طويلة يمرّ خلالها بولس في أنطاكية (18: 22) ويجول مرّتين في منطقة تبشيره، فيتوقّف مرّة أولى في كورنتس ومرّة ثانية في أفسس، والرحلة الأخيرة تقوده إلى روما (21- 28).
وسط الإضطهادات والسجون، سيؤسِّس بولس الجماعات في فيلبي وتسالونيكي وبيريه. أما أثينا فهي محطة مهمّة في بشارته (17: 16- 34) حيث خطب في الإريوباغس وجاء كلامه نموذجاً لخطبة يلقيها المبشِّر على سامعين وثنيّين.
ثمّ تابع رحلته نحو كورنتس ليقيم فيها سنتين وهناك يواجه العقليّة الوثنيّة ويكتشف مع الكورنتيّين الأخلاقية المسيحيّة قبل أن يذهب إلى روما لتكون محطته الأخيرة في إيصال البشارة إلى عاصمة الأمبراطورية.
خاتمة:
وهكذا نصل من خلال كلِّ هذه النصوص إلى النتيجة التالية: حين كتب لوقا أعمال الرسل، بين أنّ تعليم الخلاص (إنجيل يسوع المسيح) ظهر "لكلّ بشر"، فوصل إلى أقاصي الأرض. إنّ نعم الله أُعطيت أيضاً للغرباء. أجل إن الكرازة الرسولية قد توجهّت إلى العالم الوثني.
الوجهة التي وقف عندها الكتاب ليروي انتشار التعليم الإنجيلي، ليست وجهة المؤرّخ فقط. ولا يكتفي بأن يورد الظروف التي دفعت الكنيسة الأولى لأن تتوسّع وسط الوثنيّين. بل أراد أن يبيّن أن هذا الإتجاه الجديد (أراده الآب ووجّهه الروح القدس) يُتمُّ النبوءات المسيحانية. إذا للتاريخ الذي يكتبه لوقا مدلول لاهوتي: يسوع هو المسيح الذي وعد به الأنبياء: إحتمل الموت وقام وعمل لكي تعلَن البشارة باسمه إلى كل الأمم الوثنيّة. أجل يفهمنا أع أن الأسفار المقدّسة تمّت فيما يتعلّق بتبشير الوثنيّين، بل هي تبرِّر الرسالة المسيحية لدى الوثنيّين كامتداد ضروري لعمل الخلاص الذي أنجزه يسوع المسيح.
مع لوقا، لم يعد التاريخ مجرّد سرد للوقائع وحديثاً عن أشخاص من الماضي، بل مرآة لحاضرنا. ننظر إلى الماضي فنكتشف فيه ما نعيشه اليوم. يريد كاتب أعمال الرسل أن يدلّنا على المؤمن في مهبّ الريح، المؤمن العارف أنّه مع يسوع الحيّ اليوم. فبالرغم من كلّ الصعوبات التي لاقاها الرسل وبالأخص بطرس وبولس، فإن عمل الروح القدس كان يعمل فيهما. فاليوم، كما في الأمس، الروح ما زال يعمل، وما زال المسيح حيّاً في كنيسته.
لقد آمن لوقا بالإنتصار النهائي للإنجيل، ولكن هذا الإنتصار لن يتحقّق إلاّ عن طريق الألم والشهادة، وهو يتحقّق فينا إذا لم نُطفئ الروح ونخمد النبوءات. هذا ما قام به بطرس وبولس والرسل، مرتكزين على كلمة الله التي قال عنها أشعيا: "وأما كلمة الله فتثبت إلى الأبد" (أش 40). والبشارة المسيحية لا ترتبط بأي قيود. لقد بدأت تنتشر إنطلاقاً من بقعة صغيرة في فلسطين وامتدّت حتّى وصلت إلى روما. هذه البشارة ما زالت تتابع عملها لتصل إلى أقاصي الأرض وإلى كل إنسان. ما هو دورنا؟ الوثنيّون فينا وحولنا، هلاّ أصغينا لصوت الروح لنشترك نحن أيضاً بنشر كلمة الله في هذا الشرق وفي العالم؟ هذا ما أراد لوقا أن يقوله لنا في كتاب أعمال الرسل.