الفصل الخامس
نظرة عامة إلى أعمال الرسل
الخوري بولس الفغالي
أعمال الرسل أو أعمال بعض الرسل هذا هو العنوان الذي عرف منذ القرن الثاني المسيحي. هذا هو عنوان كتاب يتضمّن أقوال وأعمال المسؤولين الأولين في الكنيسة ولا سيما بطرس وبولس. بل هو لا يتوقّف عند سيرة هؤلاء الكبار بقدر ما يحدّثنا عن الروح القدس الذي ينعش الجماعة المسيحية، وعن الكلمة التي تنطلق من أورشليم لتصل إلى أقاصي الأرض. ما إن وصل بولس إلى رومة ووصلت معه الكلمة حتى انتهى الكتاب لا بالحديث عن استشهاد بولس (وبطرس)، بل بالإشارة إلى التعليم الذي يُعلن بجرأة وحرّية في شأن الرب يسوع.
1- سفر الأعمال
نتوقّف هنا عند عنوان الكتاب، عند كاتبه، عند زمن كتابته.
أ- عنوان الكتاب
سفر الأعمال هو امتداد لإنجيل لوقا. كان الإنجيل الكتاب الأول الذي وجّه إلى تيوفيلوس (1: 1). وكان سفر الأعمال الكتاب الثاني. حوى الكتاب الأول جميع ما عمل يسوع وعلّم من بدء رسالته إلى اليوم الذي ارتفع فيه إلى السماء. وحوى الكتاب الثاني مسيرة الكلمة من أورشليم واليهودية والسامرة حتى أقاصي الأرض. إنطلق من حدث العنصرة وقدّم لنا برنامج الرسالة كما عيّنه يسوع لتلاميذه. البرنامج هو الشهادة ليسوع، الشهادة لعمل الروح، الشهادة للكلمة مهما كلّفت هذه الشهادة من تضحيات.
قد يكون العنوان الأصلي: من لوقا إلى تيوفيلوس، الكتاب الثاني. أما العنوان الحالي "أعمال الرسل" فقد جُعل هنا خلال القرن الثاني ساعة أقرّت الكنيسة بشكل شبه رسمي بقانونيّة الكتاب. وأوّل مرّة يرد فيها هذا العنوان هو المطلع المناوىء لمرقيون الذي دوّن حوالي سنة 180. وبعد هذا الوقت بقليل ضخّم قانون موراتوري العنوان فقال: "أعمال جميع الرسل".
إذا عدنا إلى المخطوطات وجدنا صوراً مختلفة لهذا العنوان. ففي السينائي نجد في رأس الكتاب: "أعمال". وفي الفاتيكاني والبازي والسينائي نجد في خاتمة الكتاب: "أعمال رسل" (أي بعض الرسل). ونقرأ في عدد من المخطوطات الجرارة: "أعماله الرسل". وفي خاتمة الإسكندراني والملكي (باريس، القرن الثامن): "أعمال الرسل القدّيسين". أما المخطوط رقم 33 والموجود في ميونيخ من أعمال المانيا (القرن العاشر) فيقول في رأس الكتاب: "أعمال الرسل القدّيسين للوقا الإنجيلي". أمّا التقليد الطباعي الحالي فاتّفق في كل لغات العالم على العنوان الذي نجده في كتاب العهد الجديد: أعمال الرسل.
ب- كاتب سفر الأعمال
إن نسبة أعمال الرسل إلى لوقا الطبيب تعود إلى القرن الثاني. وأول إيراد واضح لهذا القول نجده في "المطلع المناوىء لمرقيون". نقرأ فيه: لوقا الطبيب انتمى إلى أنطاكية سورية. وبعد أن تحدّث عنه ككاتب للإنجيل الثالث أردف: "وبعد ذلك، كتب لوقا نفسه أعمال الرسل". ونسب "قانون موراتوري" الإنجيل وأعمال الرسل إلى "لوقا الطبيب". وجاءت شهادة مماثلة من إيريناوس وترتليانس واكلمنضوس الإسكندراني في نهاية القرن الثاني. ومن أوريجانس في القرن الثالث، ومن أوسابيوس وإيرونيموس في القرن الرابع.
أمّا التقليد القائل بأن صاحب سفر الأعمال ولد في أنطاكية سورية، فيعود إلى القرن الثاني، ساعة اتخذت النسخة الغربية لسفر الأعمال وجهها النهائي. فالنصّ الغربي في 11: 28 يبدأ بهذه الكلمات: "وحين كنا مجتمعين معاً". فالمشهد يقع في كنيسة أنطاكية. وقد تكون هذه النسخة عينها -أو ما هو أقدم منها- قد سمّت لوقا في 20: 13: أحلّت محل صيغة المتكلّم الجمع (أما نحن فتوجّهنا) العبارة التالية: "أنا لوقا والذين كانوا معي توجّهنا". هذا ما نقرأ في تفسير افرام السرياني لسفر الأعمال.
كل هذا يقودنا إلى التنبّه لأقسام سفر الأعمال التي يُروى فيها الخبر في صيغة المتكلّم. هناك ثلاث نقاط يتّم فيها الإنتقال من صيغة الغائب إلى صيغة المتكلّم الجمع. والطريقة التي بها يتمّ هذا التبدّل يدلّ على أن الكاتب كان بنفسه حاضراً الأحداث التابعة. وهذه الأقسام الثلاثة التي ترد في صيغة المتكلّم الجمع هي 16: 10-17 (فركبنا السفينة)؛ 20: 5-21 (سبقونا إلى ترواس وانتظرونا هناك)؛ 27: 1- 28: 16 (ولما استقرّ الرأي أن نسافر في البحر... ركبنا). هل نحن أمام يوميات مسافر؟ هل دمج لوقا أخبار مُشاهد عيان؟ ولكن لماذا لا يكون لوقا صاحب هذه اليوميات؟
إن كان الجواب إيجابياً، فهذا يعني أنّ صاحب سفر الأعمال كان رفيق بولس في أسفاره. فالرسائل البولسية تذكر عدداً من هؤلاء الرفاق. ومنهم لوقا الذي نقرأ عنه في كو 4: 14: "يسلّم عليكم لوقا الطبيب الحبيب". هذا لا يدلّ قطعاً على أن لوقا هو صاحب سفر الأعمال. ولكن توافق التقليد منذ القرن الثاني يجعل من غير المعقول أن يكون التقليد القائل بأن لوقا هو صاحب الإنجيل الثالث وسفر الأعمال، أن يكون من دون أساس في الواقع.
أما عن علاقة لوقا بأنطاكية سورية، فيدلّ عليها أهتمام الكاتب بأنطاكية. فهناك حديث مستفيض عن بداية الكنيسة في أنطاكية في ف 11 و 13. ولا ننسَ أنّ لوقا حين ذكر الخدّام السبعة في 6: 5، لم يذكر موطن أحد سوى موطن نيقولاوس الذي هو أنطاكي الأصل. فإذا كان لوقا أنطاكياً، فنحن نستطيع أن نرى فيه واحداً من يونانييّ هذه المدينة التي. بشّرها رجال من قبرص وقيريني جاؤوا إليها على أثر الإضطهاد الذي أصاب الكنيسة بعد موت اسطفانس (11: 20). وهكذا كان لوقا يونانياًَ، شأنه شأن ابفراس وديماس. وهذا ما نكتشفه في كو 4: 10- 14 حيث رفاق بولس المتهوّدون هم أرسترخس، مرقس، يسوع المدعو يسطس (يذكرون وحدهم). وهكذا كان لوقا الكاتب الوحيد الآتي من العالم الوثني لا في العهد الجديد بل في الكتاب المقدّس كله.
ج- متى دوّن سفر الأعمال
أولاً: سفر من القرن الأول
ظهرت نظريّة في القرن التاسع عشر تعلن أن سفر الأعمال دوّن في القرن الثاني المسيحي. ولكن تبيّن أن هذه النظرة خاطئة وأن سفر الأعمال دوّن في القرن الأولى. فالدروس الاركيولوجية (علم الآثار) تعرّفت إلى لسترة ودربة كمدينتين في ولاية ليقونية (14: 6) وأن أيقونية كانت مدينة في فريجية الغلاطية. هذا فضلاً عمّا نقرأ في سفر الأعمال عن أشخاص وأوضاع تطابق ما نعرفه عن المجتمع في القرن الأول المسيحي.
هذا من جهة، ومن جهة ثانية هناك إشارات لا شكّ فيها إلى سفر الأعمال تعود إلى النصف الأول من القرن الثاني، وهذا ما يدلّ على انه دوّن قبل ذلك الوقت. لقد توالت أسفار منحولة سمّيت "أعمال يوحنا"، "أعمال بولس"... ظهرت حوالي سنة 150 فاتخذت الأعمال نموذجاً لها واستندت إلى سلطتها. وقد لمّح يوستينوس الشهيد (+150) في دفاعه الأول (1/50) إلى مقطع هام من أعمال الرسل. وقبل ذلك الوقت أشار بوليكربوس في رسالته إلى الفيليبيّين (1/ 2) التي دوّنت حوالي سنة 120 إلى المسيح "الذي أقامه الله من بين الأموات فحطّم قيود الموت". هذا ما يعود بنا إلى أع 2: 24 (أقامه الله وحرّره من سلطان الموت). أمّا خبر موت يهوذا الذي رواه بابياس، وهو معاصر لبوليكربوس، فهو يستند، على ما يبدو، إلى أع 1: 18 ي.
وهناك برهان ثالث. كانت رسائل بولس قد جُمعت قبل نهاية القرن الأول، ورسالة بطرس الثانية تتحدّث عنها فتقول: "كما كتب أخونا الحبيب بولس في جميع رسائله" (2 بط 3: 15-16). وهذا ما دفع لوقا إلى أن يدوّن سفر الأعمال ليكون مقدّمة لهذه المجموعة من الرسائل.
ثانياً: بعد سنة 80
إن عدداً كبيراً من الشرّاح الحاليين يقولون إن سفر الأعمال قد دوّن بين سنة 75 وسنة 90، بل بعد سنة80. نحن هنا في موقف يتوسّط موقفين. موقف أول يجعل تدوين سفر الأعمال في القرن الثاني. وقد حاولنا أن نردّ عليه. وموقف ثان يجعله سابقاً لدمار الهيكل سنة 70 ب.م.
ما هي براهين الموقف الثاني؟ يقولون إن الكاتب لا يتحدّث عن موت بطرس وبولس كما لا يتحدّث عن دمار الهيكل. ويقولون بارتباط لاهوتي بين رسائل بولس ومؤلّف لوقا الذي يتألّف من الإنجيل الثالث وسفر الأعمال، فلا يجب أن تكون المسافة كبيرة. ثم إننا لا نجد أثراً لاضطهاد نيرون، كما لا نجد أثراً للثورة اليهودية التي بدأت سنة 66 وانتهت بدمار الهيكل وأورشليم سنة 70. هذا يعني بحسب هذا الموقف الثاني أن سفر الأعمال دوّن سنة 61 أو 62 وذلك قبل اضطهاد نيرون الشهير الذي بدأ سنة 64 على ما يبدو.
نبدأ فنقول إن لوقا قد تحدّث بشكل لا يقبل التردّد عن موت بطرس وبولس. ففي ف 12 نقرأ من خلال السطور موت بطرس الذي يشبه موت يسوع، وقيامته التي تشبه قيامة يسوع. ومن لا يرى في صعود بولس إلى أورشليم صورة عن صعود يسوع الذي ينتهي بموته في أورشليم. ففي 20: 35 يقول بولس لشيوخ أفسس: "لن تروا وجهي بعد اليوم". وفي آ 38 يتحدّث عن "رحيله". وفي 21: 13 يقول لأهل صور: "أنا مستعدّ لا للقيود وحدها، بل للموت في أورشليم من أجل اسم الربّ يسوع". وكما قال يسوع: لا مشيئتي، بل مشيئتك، قال الحاضرون: لتكن مشيئة الرب.
حين كُتب سفر الأعمال كان السلام يعمّ الكنيسة، ودمار أورشليم بعيداً، والإنقسام بين العالم اليهودي والعالم المسيحي قد تمّ. لهذا لم يحتج لوقا أن يتحدّث عن كل هذا. بل سيشدّد بالأحرى على عدالة رومة في معاملة بولس، ويبرز دور اليهود في الإضطهاد الذي سيصيب الكنيسة في انطلاقتها الأولى.
ربط بعض الشّراح سفر الأعمال بما كتبه المؤرّخ فلافيوس يوسيفوس. ولكن لا يبدو أن هناك رباطاً بين المؤلّفين، وبالتالي لا نستطيع أن نحدّد زمان مؤلّف بالعودة إلى المؤلف الثاني.
وقرأ بعضهم لو 1: 3 (بعد أن تتبّعت كل شيء من أصوله بتدقيق) على الشكل التالي: "بعد أن تتبّعت كل شيء عن قرب ومنذ زمن بعيد"، فرأوا فيها إشارة إلى العمل الرسولي الذي قام به لوقا مع بولس. ولكن يبدو أن لوقا يتحدّث هنا عن بدايات الرسالة التي لم يشارك فيها.
إرتبط إنجيل لوقا بمرقس فجاء تدوينه بعد دمار أورشليم وهو الذي يلمّح إلى هذا الحدث مرتين. نقرأ في لو 19: 43-44: "سيجيء زمان يحيط بك (يا أورشليم) أعداؤك بالمتاريس، ويحاصرونك، ويطبقون عليك من كل جهة، ويهدمونك على أبنائك الذين هم فيك، ولا يتركون فيك حجراً على حجر، لأنك ما عرفت زمان مجيء الله إليك". وفي 21: 20- 24: "فإذا رأيتم أورشليم تحاصرها الجيوش، فاعلموا أن خرابها قريب... فيسقطون بحدّ السيف، ويؤخذون أسرى في جميع الأمم، ويدوس الوثنيون أورشليم إلى أن يتمّ زمان الوثنيين". هذا يعني أن إنجيل لوقا دوّن بعد سنة 70، ومثله سفر الأعمال الذي دوّن بعده.
ويمكننا القول إن المناخ العام في الكاتب يتيح لنا أن نحدّد موقعه قبل اضطهاد دوميسيانس الكبير الذي حصل سنة 95. وفي إطار لاهوت سفر الأعمال الذي يبرز موضوع الوحدة والتواصل التاريخي للخلاص، لعبت المقاطع الواردة في صيغة المتكلّم الجمع دوراً هاماً. فعلى مستوى قرّاء الرسالة، دلّت على رباط ملموس بين الجماعة التي قبلت الإنجيل وشهادة بولس حامل الكرازة الرسولية. هذا الرباط أمّنه لوقا الذي جاء شاهداً لنشاط بطرس وبولس حوالي سنة 85.
2- مراجع الكتاب ونصوصه
أ- مراجع سفر الأعمال
إذا كنا لا نستطيع أن نستند إلى المؤرّخ يوسيفوس، الذي كتب "القديميات اليهودية" سنة 93، فلا بدّ من العودة إلى المراجع التي كانت في متناول لوقا حين دوّن سفر الأعمال.
هناك أولاً المرجع الأنطاكي الذي يضمّ 6: 1- 8: 4؛ 11: 19- 30؛ 12: 25 (ورجع برنابا وشاول من أورشليم بعدما أتمّا عملهما) وخبر السفر الذي يتبعه. وهناك من يزيد 15: 3-33 (كل ما يتعلّق بمجمع أورشليم) بعد 11: 30 (أرسلوا معوناتهم إلى شيوخ الكنيسة مع برنابا وشاول). في هذه الحالة، تكون السفرة إلى أورشليم هي تلك التي يتحدّث عنها 15: 3 ي. لا نقول إننا هنا أمام وثائق مكتوبة، بل أقلّه أمام تقليد شفهي أنطاكي غرف منه لوقا من أجل كتابة سفر الأعمال.
وهناك ثانياً يوميات مسافر. يبدو أنه وجد "بيان" برحلات بولس. وقد تضمّن خبر هذه الرحلات 13: 4-14: 28 و15: 36- 21: 16. ويقول شرّاح إن بولس استعمل "مفكّرة" تذكّره بالأحداث التي حصلت له، وقد دوّنها رفاقه. وقد يكون لوقا نفسه دوّنها. فالأقسام الواردة في صيغة المتكلّم الجمع (نحن، ركبنا السفينة، 16: 11) تتضمّن مثل هذا المرجع. فمقدّمة هذه المقاطع وخاتمتها اللتان تردان بشكل مفاجئ، وتوزّع هذه المقاطع بشكل غريب، كل هذا يجعلنا نأخذ بهذا الإفتراض. فإذا توقّفنا على المستوى الإجمالي (السنكروني) نبرز وظيفة هذه المقاطع التي تدلّ على تواصل حي بين الكاتب وقرّائه، كما تدلّ على النشاط البولسي. أما إذا توقفنا على المستوى التفصيلي (دياكروني)، تشير هذه المقاطع إلى وثائق سابقة أفاد منها صاحب أعمال الرسل.
رافق لوقا القدّيس بولس فعرف الكثير من أحداث حياته. وقام بأسفار عديدة جعلته في موقع يسهل فيه أن يستقي المعلومات "كما نقلها أولئك الذين كانوا من البدء شهود عيان للكلمة" (لو 1: 3). بما أنه وُلد في أنطاكية، فهذا يعني أنه تعلّم كثيراً من مؤسّسي هذه الكنيسة: من برنابا، وربّما من بطرس (رج غل 2: 11). وأحد المسؤولين في كنيسة أنطاكية هو "مناين، صديق الوالي هيرودس من الطفولة" (13: 1) الذي أعلمه بالكثير عن هيرودس (وعائلته) فتحدّث عنه في الإنجيل وأعمال الرسل. ورافق لوقا القديس بولس إلى قيصرية حيث عرف الشيء الكثير عن فيلبس وعن بناته اللواتي كنّ يتنبّأن. كما رافقه إلى رومة (كو 4: 10، 14؛ فلم 24). كل هذا أتاح للوقا أن "يتتبّع كل شيء من أصوله بتدقيق" (لو 1: 3)، "فيدوّن رواية الأحداث التي جرت بيننا" (لو 1: 1).
ب- نصوص سفر الأعمال
في "النصّ المتداول" الذي يرد في معظم المخطوطات، يبدو سفر الأعمال في شكلين قريبَين الواحد من الآخر: النصّ السوري أو الأنطاكي، والنصّ المصري أو الإسكندراني. هذا ما نجده خصوصاً في المخطوطات الإسفينية (خطّ كبير): الفاتيكاني، السينائي، الإسكندراني، الأفرامي. كما نجده في البرديات 45، 50، 74، وعند آباء الكنيسة في الإسكندرية. وهناك شكل ثالث للنصّ هو الشكل "الغربي"، وهو يختلف اختلافاً واسعاً عن النصّين السابقين. نجد هذا النصّ الغربي بشكل خاص في الكودكس البازي، في البرديات 8، 29، 38، 48، في اللاتينية العتيقة، في هوامش السريانية الحرقليّة، في أجزاء سورية فلسطينية اكتشفت في خربة مرد، في تفسير للقديس أفرام حفظ في اللغة الأرمنية. ونجده بشكل خاص في المخطوط القبطي 14، هذا عدا عن نصوص إيريناوس (في اللاتينية)، وترتليانس، وقبريانس، وأوغسطينس (يرتبطون باللاتينية العتيقة التي عُرفت أول ما عرفت في أفريقيا الشمالية).
إن هذه اللائحة المتخالطة تدلّ على معرفتنا الناقصة للنصّ "الغربي" كما يظهر في سفر الأعمال. وقد نتساءل: هل وُجد نصّ "غربي" في حالة خالصة، أم برز كتوسيع للنصّ المتداول في مصر أو في سورية؟ ويبقى السؤال من دون جواب حتى الساعة. فإذا قابلنا النصّ الغربي بالنصّين السابقين، وجدنا أن هذا النمط يتضمّن بعض السمات الأصيلة. أولاً: هو أطول من النصّ المتداول بعد أن عرف ما يقارب 400 إضافة. ثانياً: تمّ تحسين الرباط بين الأحداث المختلفة. ثالثاً: ألغيت الصعوبات أو خفّفت. رابعاً: اللغة المستعملة تخفي بعض الأشكال الأرامية في التعبير. خامساً: تبدو الإيرادات البيبلية أقلّ قرباً من السبعينية. سادساً: يبدو بطرس وبولس موضوع إجلال عميق. سابعاً: يستفيد النصّ من الظروف ليهاجم الشعب اليهودي.
إنتشر هذا الخطّ النصوصي في الشرق كما في الغرب، وبرز منذ أواسط القرن الثاني. فتساءل الشرّاح: أما يكون هو النصّ الأصيل؟
هنا نودّ أن نذكر بعض المقاطع من النصّ الغربي لنعطي القارئ فكرة عنه. الأول يرد خلال الحوار بين فيلبس وخصي ملكة الحبشة. قال النصّ المتداول: "هنا ماء. فما يمنع أن أتعمّد". وزاد النصّ الغربي: "إن كنت تؤمن بكل قلبك، فذلك جائز. أجاب الخصي: أؤمن أن يسوع المسيح هو ابن الله". نحن هنا ولا شك أمام تعابير عمادية قديمة كما في 9: 20 (التبشير بأن يسوع هو ابن الله). الثاني يحدّثنا عن بطرس (10: 25): "ولما اقترب بطرس من قيصرية، ركض أحد الخدم أمامه ليعلن عن مجيئه. فوثب كورنيليوس إلى الخارج وجاء إلى لقائه". والثالث يحدّثنا عن عودة بطرس إلى أورشليم بعد عماد كورنيليوس (11: 2): "وقرّر بطرس، بعد زمن طويل، أن ينطلق إلى أورشليم، فخاطب الاخوة لكي يثبّتهم، ثم مضى، وهو يعظ كثيراً ويعلّم الناس في المناطق. ولما وصل إليهم بشّرهم بالنعمة التي منحها الله. ولكن الاخوة المختونين تجادلوا معه".
وخلال انعقاد مجمع أورشليم، سيشدّد النصّ الغربي على توافق الكنيسة من أجل الحلّ المقدّم لنزاع أنطاكية. نقرأ في 15: 4: "رحّبوا بهم بسخاء وكرم". وفي آ 5: "وقام أولئك الذين أمروهم بالصعود إلى الشيوخ وهم مؤمنون من الفريسيين، فتدخّلوا ضدّ الرسل". وفي آ 6 قال النصّ المتداول: "فاجتمع الرسل والشيوخ". فزاد النصّ الغربي: "وجميع" (الاخوة). وفي آ 7: "قام بطرس وقال لهم". فزاد النصّ الغربي: "في الروح القدس". وفي آ 12: "فسكت المجتمعون". أمّا النصّ الغربي فقال: "ولما وافق الشيوخ على ما قال بطرس".
والنصّ الأخير الذي نتوقّف عنده يحدّثنا عن سفر بولس إلى أوروبا وعن سجنه في فيلبي. نقرأ في 16: 10: "حين استيقظ بولس روى لنا رؤياه، ففهمنا أن الرب يدعونا لنبشرّ أهل مكدونية". وفي آ 35 نقرأ: "ولما كان النهار، إجتمع قادة الحرس في الساحة العامة، وفي المكان عينه، وهم خائفون يتذكّرون الزلزلة التي حدثت. فأرسلوا الجلاّدين فقالوا للسجّان: أطلق سراح هذين الرجلين اللذين تسلّمتهما البارحة". وفي آ 39، يضيف النصّ الغربي: "ولما بلغوا السجن، هم وعدد كبير من أصحابهم، توسّلوا إليهما أن يخرجا. قالوا: نحن كنّا نجهل أمركما، وأنكما رجلان صدّيقان. ولما قادوهما إلى الخارج طلبوا منهما أن يخرجا من هذه المدينة، لئلاّ يعود إلى الإجتماع أولئك الذين كانوا قد قاموا وصاحوا ضدّكما".
ج- قيمة النصّ الغربي
رأى بعض الشّراح في النصّ الغربي الدفقة الأولى في التدوين اللوقاوي. وبعد هذا جاءت "طبعة" ثانية مصحّحة هي النسخة "الشرقية"، أي السورية والمصرية. ورأى آخرون في النسخة الشرقية مراجعة موجزة للنصّ الغربي. وفي الجهة المقابلة، أبرزت فئة ثالثة الطابع الأولاني للنصّ الشرقي. هو الأول وقد أضاف عليه النصّ الغربي ما أضاف. وكانت حرب بين العلماء انتهت بمواقف معتدلة تبرز النصّ المتداول ولا تنسى أصالة النصّ الغربي. يبدو أن هذا الأخير جاء بعد النصّ "الشرقي". فهو يهتمّ بالتنسيق بين النصوص، وهذا ظاهر حين نقابل بين ف 9 و22 و26 حيث نقرأ خبر دعوة بولس. مثلاً في 22: 9 نقرأ في النصّ المتداول: "وكان الذين معي يرون النور". هنا زاد النصّ الغربي: "فارتعبوا". هذه الإضافة هي اختلافة لما نقرأ في 9: 7: "وأما رفاق شاول فوقفوا حائرين يسمعون الصوت ولا يشاهدون أحداً". ويهتم النصّ الغربي أيضاً بتقديم الشروح اللازمة لتساؤلات تشغل بال القارئ. لماذا أرسل الحكّام حرساً يقولون للسجّان: "أطلق الرجلين" (16: 35)؟ الجواب: تذكّروا الزلزلة فخافوا. ويحاول النصّ الغربي أن يتحاشى كل تضارب على مستوى التدوين، كما يضيف العبارات الليتورجية (8: 37: أؤمن أنّ يسوع المسيح هو ابن الله) وبعض التوسّعات اللاهوتية. قال النصّ المتداول في 15: 20: "نكتب إليها (أي: الأمم) أن تمتنع عن رجاسات الأصنام (اللحوم المقدّمة للأصنام، رج 15: 29؛ 1 كور 8- 10)، وعن الفجور (ربما الزواج بين الأقارب كما يأمر بذلك لا 18: 6-18)، وعن لحم المخنوق (لم يسل دمه. رج لا 17: 10- 16). وعن الدم (تمنع الشريعة أكل الدم. رج لا 17: 10- 12). يهمل التقليد الغربي "الفجور" في بعض مخطوطاته، و"لحم المخنوق" في مخطوطات أخرى. ويقول: "أن تمتنعوا عن الرجاسات الوثنية، عن الفجور وعن الدم، وعن أن تفعل بالآخرين ما لا تريد أن يفعله الآخرون بك". غابت عبارة "لحم المخنوق" وأضيفت القاعدة الذهبية (رج مت 7: 12) فحدّدت موقع "المحرمات" لا على مستوى طقسي، بل على مستوى خلقي. حينئذ تتخذ لفظة "الفجور" معنى عاماً (ركب المعاصي)، ولفظة "الدم" تدلّ على القتل وسفك الدم.
وفي النهاية يضيف النصّ الغربي إشارات جغرافية أو زمنية. في 12: 10 نقرأ: "فخرجا وجازا شارعاً واحداً". ويزيد النصّ الغربي: "ونزلا الدرجات السبع". وفي 20: 15 تضيف بعض المخطوطات: "وتوقّفنا في تروجليون". هذا على مستوى المكان، أما على مستوى الزمان فنعرف أن بولس كان يعلّم في مدرسة تيرانوس "من الساعة الخامسة إلى الساعة العاشرة"، أي "من الحادية عشرة قبل الظهر حتى الرابعة مساء". هذه الإشارة يضيفها النصّ الغربي، ويضيف في 27: 5: "بعد خمسة عشر يوماً" نزلنا إلى ميناء ميرة في ليكية. وأخيراً نقرأ في 28: 16 إضافة قد تكون أصيلة: "لما دخلنا رومة، سلّم قائد المئة السجناء إلى رئيس المشاة (وربما: رئيس الغرباء)، وأُذن لبولس أن يتّخذ منزلاً خارج المعسكر".
إذا كان النصّ الغربي ثانوياً على المستوى الأدبي، فهذا لا يعني أن النصّ الإسكندراني (الذي هو أساس النصّ المتداولة) هو النصّ الأصلي. نحن لا نمزج نصّاً بنصّ بطريقة انتقائية، ولا نخاف أن نأخذ عنصراً نجده في النصّ الغربي. أما الأسلوب الحالي فيقوم بأن ننشر النصّ المتداول ونترجمه، ونضع النصّ الغربي في الحاشية. يبقى علينا أن نحدّد المحيط الذي وُلد فيه كل من هذين النصّين، وأن نحاول التعرّف إلى الطريقة التي بها عادا ربّما إلى تقليد شفهي واحد غرف منه كل واحد على طريقته. أما النصّ الملهم بحسب تعليم الكنيسة فهو ذاك الذي عرفته اللاتينية الشعبية في زمن المجمع التريدنتيني، وبالتالي هو النصّ المتداول الذي نقرأه في الترجمات المختلفة.
توقّفنا في قسم أول عند سفر الأعمال بشكل عام، وفي قسم ثان عند مراجع الكتاب ونصوصه. يبقى لنا في قسم ثالث أن نتطرّق إلى مبادئ تنظيم الكتاب.
3- مبادئ تنظيم الكتاب
هناك ثلاثة مبادئ تشرف على تنظيم سفر الأعمال: الرسالة، الجغرافيا، الأشخاص.
أ- موضوع الرسالة
المبدأ التنظيمي الأولى هو مبدأ لاهوتي. ففي هذا الخبر الذي يوجّهه الروح القدس، يبرز الكاتب انتشار البشارة الحلوة في الكون كله، وسط اليهود أولاً ثم وسط الوثنيين. قال بطرس في خطبة الهيكل متوجّهاً إلى اليهود: "لكم أولاً أقام الله فتاه يسوع وأرسله بركة لكم، فيرتدّ كل منكم عن شروره" (3: 26). هذا ما يدلّ على أولوية شعب إسرائيل في تاريخ الخلاص كما نقرأ في 2: 39: "لأن الوعد لكم ولأولادكم ولجميع البعيدين بقدر ما يدعو منهم الرب إلهنا". هناك السامعون اليهود، وخصوصاً المسؤولين عن موت يسوع (رج 2: 23). وهناك البعيدون أي الوثنيون كما يقول أش 57: 19 (رج أع 22: 21). وسيقول بولس لليهود في أنطاكية بسيدية: "كان يجب أن نبشّركم أنتم أولاً بكلمة الله، ولكنكم رفضتموها، فحكمتم أنكم لا ترون أنفسكم أهلاً للحياة الأبدية. ولذلك نتوجّه الآن إلى الأمم (الوثنية)" (13: 46).
أجل، سيُحمل الإنجيل إلى الأمم، من أورشليم "إلى أقاصي الأرض". هذا ما نقرأه في 1: 8. وسيقول بولس في خاتمة الكتاب: "لقد أرسل خلاصُ الله هذا إلى الوثنيين" (28: 28). هذا الإعلان عن انتقال الإنجيل إلى الوثنيين هو الإعلان الأخير في الكتاب، وهو يبدو بشكل احتفالي. غير أننا سنجد الموضوع عينه في وسط الكتاب. حين وصل بولس وبرنابا إلى أنطاكية جمعا الكنيسة، وأخبرا بكل ما أجرى الله على أيديهما، وكيف فتح باب الإيمان للأمم (للوثنيين) (14: 27). أجل هذا هو الحدث الأساسي الذي يصل بين قسمَي سفر الأعمال، أعلن في 10: 45 (أفاض الله هبة الروح القدس على الوثنيين) وفي 11: 1 (سمع الاخوة أن الوثنيين أيضاً قبلوا كلمة الله)، 18 (أنعم الله على الأمم الوثنية أيضاً بالتوبة سبيلاً إلى الحياة). هذا الحدث يعلن بلوغ الأمم الوثنية إلى الإيمان.
وهناك نصوص عديدة أخرى تشدّد على أهمية إعلان البشارة. هذا الإعلان بدأ منذ العنصرة، وقد ابتهج لوقا بأن يذكر الشعوب التي وصلت إليها البشارة ساعة دوّن إنجيله (2: 9- 11). كما ابتهج بدعوة شاول (بولس) الذي أرسل ليحمل اسم الله "إلى الأمم (الوثنية) والملوك وبني إسرائيل" (9: 15). هذا الموضوع كان لوقا قد أشار إليه في إنجيله فتمنّى ساعة "يرى كل بشر خلاص الله" (لو 3: 6). وأنهى إنجيله قائلاً بأن "بشارة التوبة تعلن إلى جميع الشعوب، إبتداء من أورشليم" (لو 24: 47).
وينتج عن هذا الموضوع اللاهوتي استنتاجان على المستوى الأدبي. الأول: إن فكرة الإنتشار الرسولي للكلمة حملت معها فكرة الحواجز التي اصطدم بها المبشّرون. لهذا، كوّن الكاتب وحدات أدبية صغيرة تبرز عمل الرسالة أو تحاول الدفاع عن الكنيسة الفتية. أمّا أخبار الرسالة فهي 2: 1- 41 والإنطلاقة الأولى مع العنصرة؛ 8: 1- 40: الذهاب إلى السامرة مع فيلبس؛ 9: 1- 31 : إهتداء شاول الذي بدأ حالاً يبشرّ في مجامع دمشق وأورشليم؛ 9: 32- 11: 18: إنطلاقة بطرس خارج أورشليم وتعميد كورنيليوس وعائلته، 13: 1- 14: 28: الرحلة الرسولية الأولى لبولس ورفاقه. أمّا أخبار "الدعوى والمحاكمة" فنجدها في 3: 1-4: 31 وذلك بعد شفاء كسيح الباب الجميل؛ وفي 5: 17-42 حيث عزم اليهود على قتل الرسل ثم اكتفوا بجلدهم؛ وفي 6: 1-8: 1 مع اختيار السبعة وموت اسطفانس؛ وفي 12: 1- 23 حيث سجن بطرس...
أما الإستنتاج الثاني فهو مبدأ تنظيم أول يفصل الناس بين يهود ووثنيين فيقسم سفر الأعمال قسمين كبيرين، حسب عادة عرفها العالم اليهودي. ولكن كيف تتمّ القسمة؟ هناك من يجعل القسم الثاني يبدأ مع رحلة بولس في ف 13. وهكذا يكون القسم الأول ف 1- 12، والقسم الثاني ف 13-28. وهناك من يجعل الحدّ الفاصل بين القسمين خبر مجمع أورشليم (ينتهي في 15: 36). في هذا المجمع يلتقي بطرس ببولس قبل أن يختفي بطرس من الكتاب. نحن هنا في النهاية اللاهوتية للقسم الأول الذي يدور حول أورشليم. أما القسم الثاني فيجعل نقطة انطلاقته في أنطاكية، المنفتحة على الشرق والغرب، المتّصلة بالعالم اليهودي والمنفتحة على العالم الوثني.
ب- موضوع الجغرافيا
وهناك مبدأ تنظيم ثان لسفر الأعمال، يجعلنا على المستوى الجغرافي. وإن لوقا يسجّل بعناية واهتمام المحطّات الجغرافية التي تتوزّعها الرسالة. فمنذ 1: 8 نعرف المسيرة التي تسيرها كلمة الله: أورشليم، اليهودية، السامرة، حتى أقاصي الأرض. كادت الكنيسة تصبح منغلفة على ذاتها (كما هو الحال في طوائفنا)، كادت تنحصر في إطار يهودي ضيّق هو إطار أورشليم بكل ما فيه من قيود على مستوى الممارسات. فجاء اضطهاد اسطفانس فاقتلع هذه الجماعة الفتية وأطلقها على طرق العالم. هنا ترد كلمة تشتّت ثلاث مرات (8: 1، 4؛ 11: 19). بسبب هذا التشتّت الذي هو بشكل غير مباشر عمل الروح، وصل المؤمنون إلى "مناطق اليهودية والسامرة" (8: 1). إنتقلوا "من مكان إلى آخر يبشّرون بكلام الله" (8: 4). "إنتقلوا إلى فينيقية وقبرص وأنطاكية" (11: 19).
ومع بولس ستمضي الكنيسة في موجات متعاقبة إلى قبرص وآسية الصغرى في الرحلة الرسولية الأولى. وفي الرحلة الرسولية الثانية، سيصل بولس ورفاقه إلى أوروبا. وفي النهاية سيصل إلى رومة. منذ 19: 21، يعلن بولس أنه سيمرّ "بمكدونية وأخائية"، وأنه "سيرى رومة أيضاً". وإذ كان بولس لم يزل بعد في أورشليم حين أمسكه اليهود، سمع الصوت الإلهي يقول له: "مثلما شهدت لي في أورشليم هكذا يجب أن تشهد لي في رومة". هي الشهادة تمتدّ في المكان فتصل إلى أقاصي الأرض أي إلى رومة عاصمة العالم الوثني في ذلك الزمان. وحين تصل البشارة إلى رومة ينتهي سفر الأعمال. هناك شرّاح توقّفوا عند الأشخاص ونسوا أهمية الكلمة. تساءلوا: لماذا لم يتحدّث لوقا عن موت بطرس وبولس؟ هل كان هناك بعض الخلاف؟ كلا ثم كلا وكتاب لوقا هو كتاب الوحدة والوفاق. ولكن قد يموت المرسلون، وكان الرسل قد ماتوا ساعة دوّن كتاب الأعمال. غير أن الرسالة لا تموت، والكلمة "لا تزال تنمو وعدد التلاميذ يزداد" (6: 7). هكذا كان في القرن الأول. وهكذا يكون في القرن العشرين وعلى مشارف الألف الثالث.
وهذا المعيار الجغرافي قد لعب دوراً كبيراً في تنظيم مواد الكتاب. فنحن نلاحظ توازياً بين إنجيل لوقا وسفر الأعمال. ففي الإنجيل، بدأت رسالة يسوع في الجليل، ثم كان صعوده إلى أورشليم. وفي النهاية دخل إلى الهيكل وأوقف وحُكم عليه وصُلب. وكذا نقول عن أعمال الرسل: بدأت رسالة الرسل في أرض فلسطين ثم كانت رحلات بولس الرسولية الذي أوقف بسبب نظرته إلى الهيكل التي تشبه بشكل بارز موقف اسطفانس (21: 27 ي؛ رج 7: 44 ي). وهنا نستطيع أن نقرأ لو 9: 51 وأع 21: 15 فنرى المقابلة بين الإثنين. نقرأ في الإنجيل: "ولما تمّت أيام اختطافه، عزم على الدن يتوجّه إلى أورشليم". هو يُختطف في الموت وفي الصعود، وهو يقسيّ وجهه كما يقول أش 50: 7 فيواجه الآلام والصلب. وفي أع 21: 15 نقرأ: "وبعد ذلك بأيام، تأهّبنا للسفر وصعدنا إلى أورشليم". مصير بولس كمصير معلّمه. ونهاية الإنجيل كنهاية أعمال الرسل. إنتهى الإنجيل بإعلان البشارة إلى جميع الشعوب (لو 24: 47). وفي سفر الأعمال نقرأ: "أرسل خلاص الله هذا إلى الأمم الوثنية وهم سيستمعون إليه" (28: 28).
وعلى هذا الأساس الجغرافي، قسم بعض الشّراح سفر الأعمال خمسة أقسام. الأول: في أورشليم (1: 15- 8: 3). الثاني: في السامرة والمناطق الساحلية، في يافا وقيصرية (8: 5- 11: 18). الثالث: في أنطاكية (11: 19- 15: 35). الرابع: حول بحر إيجه أو آسية الصغرى وبلاد اليونان بالمعنى الواسع (15: 36- 19: 21) . الخامس: من أورشليم إلى رومة (19: 21-28: 31). إلى هناك وصل بولس فاستقبله المسيحيون، بل خرجوا من رومة ليكون بولس بشكل رمزي أول الداخلين إليها.
ج- موضوع الأشخاص
أما المبدأ التنظيمي الثالث فيستند إلى الأشخاص الذين نجدهم في الخبر. هنا نميّز بين دورة بطرس (ف 1- 12) ودورة بولس (ف 13-28). ولكن التمييز لا يكون جامداً متحجّراً، بل سلساً ليّناً. فإن ف 9 يحدّثنا عن بولس واهتدائه إلى المسيح وتبشيره في مجامع دمشق وأورشليم. كما أن ف 15 يذكر بطرس وموقفه من الأزمة الكنسيّة خلال مجمع أورشليم.
هنا نلاحظ توازياً تاماً بين بطرس وبولس على مستوى الأقوال والأعمال. شفى بطرس كسيح الباب الجميل (3: 2-26: قم وامشِ) وشفى بولس كسيح لسترة قائلاً له بأعلى صوته: "قم وقف منتصباً على رجليك" (14: 10). مثل بطرس أمام السنهدرين (المحكمة العليا لدى اليهود) فشهد للرب يسوع (4: 5- 7). وهكذا فعل بولس (23: 1-10). جُلد بطرس ورفاقه (5: 40) وجُلد بولس وأُودع السجن (16: 23). كذب حنانيا وسفيرة على بطرس فنالا عقابهما (5: 1 ي). وقاوم عليم الساحر بولس فأصابه العمى (13: 11). أقام بطرس طابيتة من الموت، كما فعل المسيح، فقال: "طابيتة قومي" (9: 40). وأقام بولس افتيخوس الذي مات خلاله كسر الخبز في ترواس (20: 7- 12). وكما كان ظلّ بطرس يشفي المرضى (5: 15)، كان "الناس يأخذون إلى مرضاهم ما لامس جسد بولس من مناديل أو مآزر: فتزول الأمراض عنهم" (19: 12). موازاة تامة بين الرسولين، ذاك الذي عهد الله إليه في تبشير الوثنيين (غير المختونين) وذاك الذي عهد إليه في تبشير اليهود "لأن الذي جعل بطرس لليهود جعلني أنا (بولس) لغير اليهود" (غل 7:2-8).
ونلاحظ أيضاً وجود أشخاص تنضمّ حولهم سلسلة من المعطيات الأدبية. فهناك بطرس ويوحنا (3: 1- 4: 31) بعد الإجمالة الأولى، بانتظار انطلاقتهما إلى السامرة. (8: 14 ي). وهناك بعد الإجمالة الثانية برنابا من جهة وحنانيا وسفيرة من جهة ثانية (4: 36- 5: 11). أما برنابا "فباع حقلاً يملكه وجاء بثمنه وألقاه عند أقدام الرسل" (4: 37). أما حنانيا فاحتفظ بقسم منٍ الثمن، بعلم من امرأته. وهناك "الرسل" (5: 17- 42): دخلوا معاً إلى السجن، فأخرجهم ملاك الرب من هناك. وهُدّدوا فشهدوا معاً. وجُلدوا "فخرجوا فرحين لأنهم وجدوا أهلاً لقبول الإهانة من أجل اسم يسوع".
ونتعرّف إلى السبعة (6: 1- 6). هذا هو عدد الكمال. هذا هو عدد الأمم السبعين (7: 10) حيث تتألّف الجماعة من عشرة أشخاص. وهناك اسطفانس (6: 8- 8: 8) وفيلبس (8: 5- 40). ثم بولس وبرنابا، وبعد ذلك بولس وسيلاس، وفي طريق آخر مرقس وبرنابا. وهكذا نرى أن المرسلين ينطلقون إثنين إثنين كما علّمهم المسيح (لو 10: 1).
توجّه الكاتب، حسب فكرة لاهوتية هي شمولية الخلاص، وحسب مخطّط جغرافي عام فقدّم لنا مجموعة متماسكة تتركّز على الأمكنة والأشخاص. غير أن هذه المواد المختلفة التي جمعها لوقا حسب مبادئ تنظيمية متداخلة، قد بدت في بناء منطقي، فدلّت على الوحدة والتواصل في التاريخ، تاريخ الجماعة وتاريخ الكنيسة.
خاتمة
هذه هي نظرة عامة إلى أعمال الرسل شدّدنا فيها على بعض الأمور، وتركنا جانباً أموراً أخرى لا سيّما تلك التي ترتبط بتاريخية أخبار هذا الكتاب أو بمعناه اللاهوتي. ما أردنا أن نستبق المحاضرين، بل أن نساعد المشاركين على الدخول في هذا الكتاب الذي يعطينا صورة وشهادة عن الكنيسة في انطلاقتها الأولى. يا ليتنا نتعلّم لا أن نقرأ الكتاب قراءة حرفية ونتوقّف عند الحرف دون الروح. يا ليتنا نتعلّم كيف نفهم هذا الكتاب حسب فنّه الأدبي الخاص، ونستلهم المواقف التي وقفها التلاميذ الأولون أمام الصعوبات التي اعترضتهم. يا ليتنا نتعلّم أن نكتشف الأمور الواقعية اليومية من خلال هذه الطريق العجيبة التي سارتها الكنيسة برفقة الرب. فإن أخذنا فقط بالأمور الخارقة ونسينا كيف يتعامل الله مع الأشخاص والأحداث، خسرنا المعنى الأساسي لسفر الأعمال، وخسرنا الثقة بكنيستنا اليوم التي تعرف الصعوبات وتحتاج إلى أن تتذكّر دوماً أن الرب هو معها. لقد أرسل يسوع الإثني عشر للشهادة. وهو ما يزالا يرسل كنيستنا وجماعاتنا وكل واحد منا من أجل هذه الشهادة عينها. وهو يقول لنا: "أنا معكم حتى انقضاء العالم". يبقى علينا أن نبقى معه، وننتظر مجيئه هاتفين مع الروح: "تعال، أيها الربّ يسوع، تعال".