الفصل الخمسون: زكّا، الكنيسة وبيتُ الخطأة

الفصل الخمسون
زكّا، الكنيسة وبيتُ الخطأة
19: 1- 10

1- فِعلةٌ نبويّة
نحن في نهاية حياة يسوع العلنيّة. أخذ يسوع التلاميذ الاثني عشر على انفراد وقال لهم: "ها نحن صاعدون إلى أورشليم، فيتمّ كلّ ما كتبه الأنبياء في ابن الإنسان. فيسلَم إلى حكّام غرباء، فيستهزئون به ويبصقون عليه. وبعد أن يجلدوه يقتلونه، وفي اليوم الثالث يقوم" (18: 31- 33).
وفي الواقع، إنطلق يسوع إلى أورشليم ليموت هناك رغم غَباوة (عدم فهم) الرسل الذين ظلّ هذا الكلام مُغْلقاً عليهم، فما أدركوا معناه. ستتمّ الأحداث التالية في إطار دراماتيكيّ، وهي: شفاء الأعمى على طريقٍ أريحا، ارتداد زكّا. وهذا المُناخ يُبرز فعلات يسوع التي تتطلّب منّا اهتماماً خاصاً.
فهذا الشفاء وهذا الاهتداء الظاهر ليسا في نظر المسيح أعمال الرحمة الماديّة أو الروحيّة فحسب. إنهما يرتبطان بهذه اللغة النبويّة (تُعبِّر عن عمل الله وإرادته) التي أتقنها يسوع وهو رأس الأنبياء. فقد كان يعرف أن لغة البشر تترجم مدلولات بشريّة، ولكنها تبقى عاجزةً عن التعبير عن الواقع الروحيّ الذي لا يقع تحت الحواسّ. وما كان يجهل في امتداد تقليد إسرائيل النبويّ، أن الفعلة قد تحلّ في بعض الظروف محلّ الكلمة فتدلّ على اللامنظور بصورة أخّاذة. فعلات المسيح النبويّة تشكّك تعليماً ملموساً يدركه حتى الوضعاء، ويجعل الحكماء مُعجَبين فيتأمّلون في معنى هذه الكلمات الصامتة والغنيّة. لا شكّ في أننا نرى هنا استعداداً لفعلات سيجعلها يسوع تتمّ حتى نهاية التاريخ في الأسرار السبعة. واهتداء زكّا ينتمي إلى هذه الأقوال التي ترافقها الأعمال، كما أنه يقدّم لنا تعليماً محدّداً عن رحمة الله، عن مكانة الخطأة في مخطَّط الخلاص، عن البُعد السرّيّ الذي يمتلكه كلّ بيت يفتح أبوابه للمسيح.
حين اقترب يسوع من أريحا حيَّاه أعمى وناداه: "يا ابن داود، ارحمني". فرحمه وشفاه. حينئذ انضمّ هذا الأعمى الذي رأى إلى مرافقي الربّ. وأخذ الشعب كلّه ينشد مدائح إله يصنع مثل هذا المعجزات. وانتشر خبرُ هذه المعجزة عَبْرَ أريحا فوصل صداه إلى رئيس العشّارين (يجمعون ضريبة العُشر) فيها.
"ودخل يسوع أريحا وأخذ يجتاز المدينة. فجاء رجل اسمه زكّا. كان رئيس العشّارين، وكان غنيّاً" (آ 1- 2).
لم يعتَدْ لوقا أن يقدّم لنا التفاصيل عن الأشخاص الذين يتحدّث عنهم. ولكنه يكشف لنا هنا اسم هذا الموظّف: زكّا أي الطاهر والنقيّ. أما نتعجّب أن يكون هذا العشّار والسارق نقيّاً؟ لا، هذا الإسم لا يليق به. هو خاطىء بفعل وظيفته: يسرق الناس، ويعطي من حصيلة سرقته قسماً للحاكم الرومانيّ. هو خائن لربه ووصاياه، وخائن تجاه شعبه. زكّا هو المحروم الذي ترفض الجماعة أن تتعامل معه. إنه عشّار، ومن مهنته هذه حصل على الغنى، وحصل في الوقت نفسه على كل مصائبه.
2- رجل محروم
إنتمى العشّارون إلى النظام الضرائبيّ الرومانيّ. كان المُحتلُّ يبيع هذه الوظيفة بالمَزاد العلنيُّ، فينالها الذي يدفع المبلغ الأكبر. والمال الذي يقدّمه يمثّل مجمل الضريبة التي يُلزم نفسه بدفعها للصندوق العامّ. لهذا وجب عليه أن يكون غنيّاً جدّاً ليقوم بواجباته تجاه الدولة. وإن لم يجمع المال الذي وعد به، وجب عليه أن يدفع للسلطة من جيبه الخاصّ.
مثل هذا النظام يؤمّن المداخيل للدولة دون ان تدفع أجراً للموظّفين. ولكن العشّارين كانوا يبحثون عن وسائل تساعدهم على دفع المال الذي تعهّدوا به وعلى تأمين الربح الوفير لجيوبهم. لهذا كانوا يظلمون الناس ولاسيّما الفقراء والضعفاء، وهذا ما جعل الناس يكرهونهم.
كان زكّا رئيسَ العشّارين في أريحا التي كانت تخضع لرومة، شأنُها شأن سائر المدن اليهوديّة. وربما كان من هؤلاء الذين ذهبوا إلى يوحنا المعمدان يسألونه عن شرعيّة وظيفتهم (3: 12). حينئذ جاءهم الجواب: "لا تجمعوا من الضرائب كثر مما فُرض لكم " (3: 13). لم يكن المعمدان مغشوشاً فيما يخصّ "صدق" العشّارين في وظيفتهم. كان يعرف الوسائل التي يستعملونها من غشّ وعنف وحيلة وضغوط متنوّعة لكي يدخل المال إلى جيوبهم. ولهذا ختم لوقا كلامه عن يوحنا المعمدان فقال: "فجميع الذي سمعوا يوحنا، حتى العشّارون أنفسُهم، أقَرّوا بصدق الله فقبلوا معموديّة يوحنا" (7: 29). إن هذه الإشارة الخاصّة تفهمنا بما فيه الكفاية الطابعَ غيرَ العاديّ لموقف روحيّ لدى أُناس من هذه الطبقة الممقوتة.
ولهذا كان العشّارون يُشبّهون بخطأة مُعلَنين يبتعد عنهم الأتقياء. وإن الإنجيل سيذكر هاتين الفئتين معاً. قال: "وكان العشّارون والخاطئون يدنون من يسوع ليسمعوه" (15: ا؛ رج 5: 35؛ 18: 13). ولا يتردّد متّى في أن يجمعهم مع الزُناة ليُبرز رحمة الله التي حملها المسيح إلى البشر. قال: "العشارون والزُناة يسبقونكم إلى ملكوت الله" (مت 21: 31). والأخ الذي يرفض التوبيخ الأخويّ، فالشريعة الإنجيليّة تشبهه بالوثنيّين والعشّارين (مت 18: 17) وتجعله في عِداد المحرومين. نحن نفهم من هذه الكلمات أننا أمام أناس يعيشون خارج سلالة إبراهيم الروحيّة، أناس ليس لهم وصول إلى بركة الله.
وإذا أردنا أن نفهم قساوة مثل هذا الحكم على العشّارين، يجب أن نتجاوز المستوى الأخلاقيّ لأعمالهم التي بها يظلمون القريب. إنهم يمثّلون سلطان سياسة غريبة عن السلطة التيوقراطيّة (حكم الله بواسطة الكهنة) في إسرائيل، ويقومون بعمل وثنيّ في نظر الناس الأتقياء. كان اليهود يتساءلون صادقين: هل يُسمح لهم أن يدفعوا الجزية لقيصر؟ ولهذا بدا لهم العشّارون كأداة لهذا الخضوع الوثنيّ الذي يُبعدنا عن كلّ ديانة. لهذا مُنع العشّارون من حقّ الشهادة في المحكمة، كما شك الناس في إمكانيّة رجوعهم إلى الله بالتوبة.
وهكذا بدا العشّارون كالمحرومين فانعزلوا على ذواتهم. هنا نفهم إتّهام اليهود الأتقياء ليسوع بأنه يتعامل مع هذه الفئة الخاطئة في إسرائيل. تصرّفُه يشكّل خطراً على المجتمع الذي يرفض حتّى التحيّة لهؤلاء الخطأة، فكيف لا يرفض الأكل معهم؟!
3- واجتاز يسوع أريحا
"وحاول زكّا أن يرى من هو يسوع. ولكنه كان قصيراً، فما تمكّن أن يراه لكثرة الزحام. فأسرع إلى جمّيزة وصعدها ليراه، وكان يسوع سيمرّ بها" (آ 3- 4).
إذن إجتاز يسوع أريحا، ووصل إلى الحقول أو على الأقلّ إلى ضواحي المدينة. وإذ أراد زكّا أن يرى يسوع عابراً لم يختَر سطح بيت، بل شجرةَ جمّيز ساعدته أغصانها الواطئة على الصعود. إنطلق القديس أمبروسيوس من وضع الجميزة التي هي شجرة مثمرة ففسَّر هذا النصّ في إحدى عظاته. قال: "وهكذا رأى (يسوع) زكّا فوقه: فارتفاع إيمانه جعله يبرز وسط أثمار أعمالٍ جديدة كما على قِمّة شجرة مثمرة... زكّا في الجميزة هو ثمرة جديدة في فصل جديد. وفيه يتحقّق أيضاً النصّ القائل: أعطت التينةُ أولى ثمارها (نش 2: 13). فالمسيح جاء لتلد الأشجارُ أناساً لا أثماراً".
وكان أمبروسيوس قد لاحظ فيما قبل أنّ زكّا "أحسن صنيعاً حين صعد الشجرة بحيث صار شجرةً صالحة تثمر أثماراً صالحة (مت 7: 17)، بحيث استطاع أن يحمل ثمرة الشريعة بعد ان انتزع من الزيتونة البريّة الأصل، وطُعِّم على غير طبعه في زيتونة صالحة" (رج روم 11: 24). فأسقف ميلانو (اي أمبروسيوس) رأى في زكّا رمز الأْمم الوثنيّة. ولكنه لم يقل إن زكّا كان وثنيَّاً، كما فعل بعض الشُرّاح القدماء ( منطلقين من كلمة المسيح: "هذا الرجل هو أيضاً من أبناء ابراهيم" (آ 9). إن زكّا هو من نسل إبراهيم، وخطيئته لم تُخرجه من ميراث الوعد الروحيّ. غير أن زكّا صار شبيهاً بالوثنيّين لأنه بدا فقيراً بالأعمال الصالحة التي به يستحقّ الملكوت. وهذا الفقر جعله في مصافّ الناس الغرباء عن الوعد.
وإذ أشار أمبروسيوس إلى مَثَل الزيتونة والتطعيم كما هو واردٌ في الرسالة إلى رومة، فقد ذكّرنا بالبُعد العميق لسرّ النعمة: طُعمٌ من طبيعة بريّة يُطعَّم على زيتون جويّ، وهذا ما يخالف كلّ السُنن. والإنسان الذي طُرد من الوعد، على ما يبدو، نَعِم بخيرات هذا الوعد بصورة مجّانيّة. فالحركة التي بها ترك زكّا مدينة أريحا ليصعد الجمّيزة، جعلت منه كائناً يستعيد حيويّته الروحيّة بفعل النعمة التي تأخذ المبادرة في كلّ دعوة إلى الربّ. لا شكّ في أنّ الشخص وتصرّفه يستدعيان تفسيراً رمزيّاً: فزكّا قصير القامة وهو لا يستطيع أن يرى يسوِع. لهذا عليه أن يصعد شجرة. ولكن هذا النوع من التفسير يلتقي المسيرة الحقيقيّة والتاريخيّة التي قام بها هذا العشّار. إنه حقّاً يرغب في رؤية يسوع رغبةً ملحّة تجعده يركض إلى حيث سيمرّ الرب. وصعد حقّاً الشجرة ليرى يسوع مارّاً. كل ما في موقف هذا الخاطىء يجعلنا نستشفّ إرادة طيّبة تتيح له أن يتبرّر، أن ينال الغفران من يسوع.
"فلما وصل يسوع إلى هناك، رفع نظره إليه وقال له: إنزل سريعاً، لأني سأقيم اليوم في بيتك" (آ 5).
إتخذ يسوع المبادرة في هذه الحِقبة المنظورة من الإرتداد. قد جرى ليسوع في ما سبق أن يَطلب أو يقبل خدمة ليجعل منها مناسبةَ عطاء ملوكيّ تقدّمه نعمتُه: طلب من السامريّة قليلا ًمن الماء ليكشف لها أنه يمتلك مي ذاته ماءً حيّاً يُطفىء كل عطش ويُحوّل كلّ كائن إلى ينبوع ماء يجري للحياة الأبديّة. قبلَ دَهْنَ الخاطئة له ليُبرز الغفران الذيَ يمنحها إيّاه، ويمتدح على عيون الجميع صفات قلبها. هكذا أراد الله ألذي صار بشراً أن يدلّ على حبّه الذي لا يظهر أوّلاً كأنه تنازل وشفقة. فالحب الخلاّق والمخلّص يقبل أوّلاَ الطريق البسيطة والعادية ، طريق الصداقة التي تأخذ قبل أن تعطي. لا شكّ في أننا هنا أمام أسمى تجليات الرحمة الإلهيّة التي تجعل نفسها على مستوى الكائنات الذين تريد أن تغمرهم بخيراتها.
صار الأمير شحّاذاً ليعطي دون أن يجرح كرامة الآخذ، وذهب يسوع إلى العشّار المعلّق على شجرته كواعظ متجوّل يطلب بيتاً يتناول فيه طعاماً. قال له: "إنزل سريعاً يا زكّا". يمتزج طلب يسوع من زكّا بالإسراع بعاطفة حنان ومحبّه. فكأني بالربّ يقوله له: "أسرع يا زكّا، فأنا أكاد أموت جوعاً. في الواقع، أنا معجّل لأن أجد نفسي في بيتك ليتمّ فيك سرُّ الخلاص الذي أحمله إلى العالم".
"فنزل مسرعاً واستقبله بفرح" (آ 6).
لا شكّ في أنّ زكّا رجل سريع هو لا يتردّد. هو لا يقول كالضابط الرومانيّ: "ربي، لست مستحقاً". عجَّل بالنزول واستقبل يسوع بفرح. إن مثل هذه البهجة هي علامة خلاص.
"فلمّا رأى الناس ما جرى، قالوا كلُّهم متذمّرين: دخل بيتَ رجل خاطئ ليقيم عنده" (آ 7).
ووصل الشكّ إلى الذُروة. لم يقرّر يسوع فقط أن يأكل في بيت العشّار، بل أراد أن يُقيم عنده بعض الوقت. كان الإتّهام بأن يشارك الأتقياء الخطأة المعلنين في طعام بسيط. فكم تستحقّ الإنتقاد إقامة طويلة في بيت عشّار؟ ولم يتذمّر فقط بعض الفريسيين المتزّمتين، بل تشكّك الجمعُ كلّه من موقف يسوع.
4- اهتداءٌ غيرُ متوقَّع
"فوقف زكّا وقال للربّ يسوعَ: يا ربّ، سأعطي الفقراء نصفَ أموالي" (آ 8 أ).
واستقبل زكّا يسوع عند عتبة بيته. وأطلق أمام الجميع إعلاناً كان له بُعدان إثنان. من جهة، عبَّر عن ارتداد قلبه ارتداداً صادقاً. ومن جهة ثانية أكّد أمام الجميع أن يسوع لم يخطىء حين اختار بيت رجل لم يكن قلبه شرّيراً كما يظنّ الناس. وإذ أتمّ زكّا توبة علنيّة عبّرت عما في قلبه من بساطة وسخاء، فقد دلّ على مرأى كلّ الحاضرين ومَسْمعهم، على ما فعلت به نظرة خارقة من هذا النبيّ الذي عبَر ذات يوم في أريحا. إن نظرة يسوع تنفذ إلى أعماق القلوب وتفجّر النور الإلهيّ الذي يقيم فيها.
إن كلام هذا العشّار يذكّرنا بصورة غريبة بكلام الفريسيّ المتكبّر الذي رفع رأسه في الهيكل وأخذ يصلّي: "أوفي عُشر دَخلي كلِّه" (18: 12). ولكنّ الفرق شاسع بين هذا المتعجرف المفتخر بأنه يقدّم العشور، وبين هذا الخاطىء المُعلن الذي لمست النعمةُ قلبَه فقبل أن يتخلّى عن نصف أمواله. هذا ما يميّز أحد الأتقياء السطحيّين عن فرنسيس الأسيزيّ أو يوحنّا الإلهي اللذين هاجمهما حبُّ الله فحرّك قلبيهما. مثلُ هذه التضحية لم تبدُ ثقيلةً على قلب من عرَف أنه نال غفران الله.
"وإذا كنتُ ظلمتُ أحداً في شيء، أردُّه عليه أربعة أضعاف" (آ 8 ب).
ولكن زكّا رجل دقيق. هناك واجبات المحبّة وواجبات العدالة. هو يعرف أنه حين مارس مهنته، قد ظلم الناس: إنه يتأسف على ما فعل. ويرغب في التكفير. ويطبّق على نفسه شريعة خر 21: 37 (إذا سرق أحدٌ ثوراً أو شاةً... فليعوّض بدل الثور خمسة وبدل الشاة أربعاً) التي ذكرها داود أمام ناتان (2 صم 12: 6): "يردّ عوض الرخلة أربعاً لأنه فعل هذا الشرّ ومنع قلبه عن الشفقة".
وهكذا أعلن زكّا أن المحبّة وحدَها تمحو آثار هذا الإهتمام العظيم بالمال، وأن العدالة وحدَها تمحو آثار الظلم. ومهما يكن من أمر، فهو يبدو سخيّاً في مجال التكفير والعطاء.
"فقال له يسوع: اليوم حلّ الخلاص بهذا البيت لأن الرجل هو أيضاً من أبناء إبراهيم. فابن الإنسان جاء ليبحث عن الهالكين ويُخلّصهم" (آ 9- 15).
حينئذ إلتفت يسوعُ نحو زكّا، ولكنه وجَّه كلامه إلى الحاضرين كلّهم. وهكذا صالح زكا مع جماعة إسرائيل الروحيّة، فردَّ له كلَّ أمتيازاته وكرامته، وجعله من جديد وارث الموعد. ثمّ ردّ بطريقة علنيّة على رأي الرابانيّين المتمسّكين بالتزاماتهم، وكانوا يقولون إنه لا حظَّ بالخلاص للخطأة المعلنين. وأخيراً ذكرتنا هذه الكلمات مرّةً أخرى برسالة ابن الإنسان الذي "جاء ليبحث عن الهالكين ويخلّصهم" (رج 15: 6- 9، 24، 32؛ 5: 32).
لا بدّ من الملاحظة أن مَثَل الدنانير يتبع عند لوقا حدَث زكّا. وخاتمة هذا المثل ما زالت تشغَل المفسّرين: "من له يعطى، ومن ليس له يؤخذ منه حتى الذي له" (19: 26). نتشكّك من هذا الدفاع الظاهر عن الغنى. ولكن إن تأمّلنا في هذا الكلام مليّاً نجد أننا أمام عبارة تبدو بشكل مشاركة حول شريعة الخِصب الإنجيليّة. فإن تحدّثنا عن خيرات الأرض أو عن الموهب الروحيّة، مواهب العقل والقلب وكل "الوزنات" (بالمعنى الإنجيليّ)، فلا شيء يبرّر استعمالها إن لم نستثمرها. حين تثمر خيراتُ الأرض أعمالاً صالحة، وتتفتّح الوزنات على الآخرين، لن يحكم الله على مالك الخيرات الذي يظنّه الناسُ سعيداً. فالله لا يوبّخ البشر إلاّ على عُقمهم ونقص محبتهم. إن الإنجيل كلّه يؤكد هذه الشريعة، وحدَثُ زكّا مثل صارخ عنها. فبنعمة الله صار غنى العشّار محبّة وعدالة، وتحوّلُ خيرات الأرض كشَفَ للبشر حضور الخلاص.
وهنا نعود أيضاً إلى القديس أمبروسيوس: "لا نريد أن نجرح شعور الأغنياء. نريد إذا أمكن أن نشفي الجميع. فإذا حصرناهم في مثَل الجمَل والإبرة، وتركناهم جانباً أسرع ممّا فعل الفريسيّون بزكّا، نجعلهم يتأثّرون ويُحسّون بالإساءة. ليتعلّموا أن لا خطأ في أن يكون الإنسان غنيّاً. الخطأ في أن لا يعرف كيف يستعمل غناه. فالغنى الذي هو عائق وفخّ للأشرار، يصبح لدى الأخيار وسيلة للفضيلة. نعم، إن المسيح اختار زكا الغني. ولكن اختاره حين اعطى الفقراء نصف أمواله، وردّ أربعة أضعاف ما سلبه بالحيلة. فالواحد لا يكفي من دون الآخر، ولا قيمة للسخاء إذا لبث الظلمُ حاضراً، ولاسيما وإننا لا نطلب أسلاباً بل عطايا. حين فعل زكّا هذا، نال جزاءً أوفر من أعماله السخيّة".
وهكذا مارس زكا حالاً المشورة العزيزة على قلب لوقا: حوّل خيرات الأرض إلىْ قِيم عُلويّة (فائقة الطبيعة) حسب ناموس التبادل السريّ الذي أعلنه المسيح: "بيعوا ما تملكون وتصدّقوا بثمنه على الفقراء، واقتنوا أموالاً لا تبلى، وكنزاً في السماوات لا ينفد، حيث لا لصَّ يدنو ولا سوس يفسد. فحيث يكون كنزْكم هناك يكون قلبكم أيضاً" (12: 33- 34). كان لا بدّ من نعمة حضور يسوع ليقتنع هذا المتموّل بأن يبدّل بسرعة نظامه الأقتصاديّ.
5- دخل الله بيتاً صغيراً
بعد أن رأى يعقوب في الحُلم سلّماً سريّة تربط الأرض بالسماء، هتف: "ما أهول هذا الموضع، ما هذا إلا بيت الله وبابُ السماء" (تك 28: 17). ما أهول هذا الموضع، هذا صراخ يخرج من شفاهنا حين ندخل فجأة موضعاً سرّيّاً. ولكنّ مقولة "الهول " تتضمّن أموراً مختلفة. فهي تشير في فم يعقوب إلى عظمة الله التي لا نراها دون أن نموت. أمّا في فم الوثنيّ فهي تدلّ على عاطفة الإنسحاق والدُوار. أمّا عالم العصور الوسطى فرأى في مثل هذه المشاهد إطاراَ مؤاتياً للصلاة والمشاهدة ولزيارة الله العظيم لأبنائه.
لقد تغيّر شيءٌ هامّ في نظرتنا إلى المعابد. والمسيحيّون لا يرون معابدهم على مثال المعابد القديمة. فلقد كشف يسوع للسامرية نهايةَ معابد تعتبر نفسها مِحورَ العالم: الله يُعبد "في الروح والحقّ" (يو 4: 24). وقال يسوع أيضاً عن جسده إنه الهيكل الجديد (يو 2: 19- 21). وحين دخل يسوع بيتَ زكّا، كان الهيكل الحقيقي، المعبدَ الواحد الوحيد الذي منه يجري بنبوع الماء الحيّ للحياة الأبديّة (يو 7: 37-38)، الذي جاء يقدّس منزل الخاطئ.
وهكذا صار منزل إنسان غيرِ مستحقّ، صار بحضور الله كنيسةً نحتفل فيها بليتورجيّة الرحمة وطقوس المشاركة والوحدة. إعترف زكا بخطاياه على عتبة بيته. فمن يمنعه أن يجلس قرب يسوع خلال مأدبة وُضعت في الحال؟ وهكذا تحقّق خلال بضع ساعات وفي بيت من بيوت أريحا، سرّ تكريس جعل من بيت هذا الرجل موضعاً للهيكل الواحد الحقيقيّ، موضعاً لبشريّة يسوع.
في الماضي هتف سليمان أمام الربّ: "إن السماوات وسماوات السماوات لا تسعُك، فكيف هذا البيت الذي ابتنيته" (1 مل 8: 27)؟ نظر الملك إلى تسامي الله من زاوية عظمته. أمّا في بيت زكا فكان الله مرتاحاً لأنه، وهو الإله الرَحوم، جعل ناسوته يحيط بلاهوته.
6- الكنسة وبيت الخطأة
دخل يسوع بيت الخطأة، ومنذ ذلك اليوم، رضيت الكنائس المسيحيّة بحضور الخطأة بين جدرانها. نحن بعيدون عن هيكل يضع حواجز ويحدّد مساحاتٍ قريبة أو بعيدة من الله حسب درجة الطهارة (الوثنيّون ثم النساء ثم الرجال ثم الكهنة). فالخطأة والقديسون يتحدون اتحاداً أخويّاً في الجماعة الواحدة. كل المعمّدين يقفون أما الله على قدَم المساواة، أي يشاركون في جسد المسيح ودمه. ولكنهم كلّهم يقيمون في بيت زكّا. هم خطأة. والخاطىء يقف عند باب الكنيسة قبل أن تحقّ له المشاركة في بيت الربّ. يتوب فتغفر خطيئته فيدخل إلى "البيت "، أي إلى الكنيسة. ونقول شيئاً مماثلاً عن الإبن الضالّ. لبس الحلّة، أي لبس حلّة العماد فشارك في الوليمة (وأية وليمة) ،شارك في مائدة الربّ.
تساءل اللاهوتيّون: أين هي الكنيسة الحقيقيّة؟ كيف نقبل في حضن الكنيسة الطاهرة جماعة الخطأة الذين تنجّسوا بذنوبهم؟ أمَا تمرّ حدود الكنيسة عَبْرَ القلوب؟ هل نمتز بين نفسه الكنيسة التي هي نقيّة، وبين جسدها الخاضع لنواميس المادّة وشقائها؟ وكانت أجوبة متعدّدة. ومهما يكن من أمر، فللخاطىء مكانته في الكنيسة، لأنه شخص خُلق على صورة خالقه، وهو موضوع اهتمام من قبل مخلّصه الذي افتداه بدمه.
لهذا ستتعلّم الكنسة على مثال يسوع أن تستقبل الجميع بمن فيهم الخطأة، بل أن تذهب إلى لقائهم كما فعل الأب في مثل الابن الضالّ (15: 20). لقد ذهب يسوع يطلب زكّا على شجرته. هو لم ينتظر أن يأتي الخاطىء إليه فيركع أمامه ويطلب بركته. ولكنه ذهب إليه، ذهب يطلبه كما يطلب الراعي الخراف المهدّدة بالخطر.
نحن كلُّنا بوَّابون في منزل زكّا، أو كما يقول مثَلُ المدعوّين الذين تخلّفوا عن الدعوة (14: 15 ي): نحن خدّام الملك، وقد أرسلنا ندعو إلى أعراسه أولئك الذين لا يعرفون أنهم مدعوّون إلى العيد. فكلّ مسيحيّ يعيش في قلب الكنيسة، عليه أن يقف أيضاً على حدودها ليدعو المارّين حتى يقاسموه نور إيمانه ودِفئه. ولكن إنْ أردنا أن نقوم بمهمّة البوّاب هذه، وجب علينا أن لا نحتقر فضائلهم الطبيعيّة، وان نُعجب بسخائهم. هذه هي لغة المحبة التي تتفوق على لغة الملائكة والبشر. كما يقول بولس الرسول.
أجل، ليست الكنيسةُ على الأرض فردوسَ قديسين مطوَّبين، بل بيتُ العشّارين الذين عاشوا طويلاً بعيداً عن الله. ولكن الربّ جاء إليهم في بيوتهم التي جعلها معبداً له. رفض الفريسيّون زكّا وأمثاله من بركة الملكوت، وأغلق عددٌ من المسيحيّين المتزمّتين باب الكنيسة بوجه الخطأة، متناسين رحمة الله التي كشف لنا يسوع عنها. ولكنهم نالوا التهديد الذي وجّهه يسوع إلى الذين اعتبروا نفوسهم "رُعاة" إسرائيل. قال: "الويل لكم أيّها الكتبة والفريسيّون الذين يغلقون ملكوت السماوات. فانتم لا تدخلون ولا تتركون الداخلين يدخلون" (مت 23: 13).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM