الفصل التاسع والأربعون: أعمى أريحا

الفصل التاسع والأربعون
أعمى أريحا
18: 35- 43

وبدت أريحا في الأفق البعيد: هي باب الأرض المقدّسة والمدينة التي عرفت القبائل أنها لا تؤخذ. ولكنهم احتلّوها دون أن يضربوا ضربة واحدة. دلّوا على ضعفهم وعجزهم ففعل الله الباقي (يش 6). هذا رمز إلى عجز آخر (لو 18: 27) نجد فيه نفوسنا لكي ندخل الملكوت. ممرّ مستحيل، باب لا وصول لنا إليه. ولكن الباب فُتح والطريق صار سالكاً. ففي يسوع الذي يقترب من المدينة ويتجاوزها، إلتقى أعمى وعشّار بالخلاص. خلاص تمسّكا به في الحال فلم يفلت من أيديهما: تبع الأعمى يسوع، وفتح زكا بيته ووزعّ أمواله ففعل ما لم يفعله الوجيه الغني.
أما نحن فنتوقّف في هذا الفصل عند الأعمى الذي شُفي عند خروج يسوع من أريحا وفي طريقه إلى أورشليم. نبدأ بمتّى فنصل إلى مرقس مع لوقا في الوسط.
أ- خبران في متّى
يمتلك الإنجيلي الأول خبرين عن شفاء أعميين (مت 9: 27- 21؛ 20: 29- 34). هما يتشابهان ولكنهما يختلفان أيضاً.
1- مت 9: 27- 31
أولاً: عبارات خاصة بمتّى
ما هي العبارات المشتركة بين 9: 27- 31 و20: 29- 34؟ هناك أوّلاً العدد 2: هما أعميان لا أعمى واحد. وفعل تبع (9: 27؛ 20: 29). وفعل مرّ، عبر (9: 27؛ 20: 30). انفتح (9: 30؛ 20: 33). صار (9: 27؛ 20: 30). لمس (9: 29؛ 20: 34). وأخيراً نداء الأعميين: يا ابن داود ارحمنا.
نستطيع أن نقابل 9: 27 مع 8: 23 و 9: 28 فنجد أننا أمام بناء متّاوي. والعبارة: ليكن لكما حسب إيمانكما (9: 29) بُنيت حسب النموذج الذي نجده في مت 8: 13 (قال لقائد المئة: إذهب. وليكن لك حسب إيمانك)؛ 15: 28 (قال للكنعانية: عظيم إيمانك. ليكن لك ما تشائين). واستعمل متّى فعل اقترب 52 مرة (6 مرّات في مرقس و11مرّة في لوقا). والأداة "حينئذ" (91 مرّة عند متّى، 6 عند مرقس، 51 عند لوقا)، وعبارة "من هناك" (12 عند متّى، 5 عند مرقس، 3 عند لوقا).
هكذا نحسّ بطابع الإنجيلي في هذا الحدث. وهناك أكثر من ذلك. إن وضعنا 9: 18- 26 (النازفة وابنة يائيرس) تجاه 9: 27- 31، يلفت انتباهنا تقاربُهما على مستوى التدوين. فالخبران ينتهيان بشكل مماثل (آ 22، 29: ذاع الخبر في تلك الديار). هذا ما سوف يحدث مع الرسل الإثني عشر بعد القيامة. موضوع الإيمان هو مركزي (آ 22، 29). وموضوع البيت: ولما بلغ يسوع البيت (أي الكنيسة التي تجتمع فيها الجماعة، آ23، 28). إن وضع الرئيس الذي سجد (آ18. يرد فعل سجد عند متّى 13 مرّة تجاه مرتين عند مرقس ولوقا) يدلّ على إيمان بالملك المسيح (هذا في العالم اليهودي). والأعميان هتفا: يا ابن داود، فرأيا في يسوع مسيح إسرائيل.
ثانياً: إشارات مرقسية
حين دوّن متى هذه المقطوعة، إستعمل مر 10: 46- 52 (أعمى أريحا) ومر 1: 43- 45 (شفاء الأبرص). نجد في مر 1: 31: انتهر، وكذلك في مت 9: 30 أ. نقرأ في مر ا: 44: انظر لا تقل لأحد. وفي مت 9: 30 ب: أنظر، لا يعرف أحد. نجد في مر 9: 45: أما هو فما إن خرج حتى أذاع. وفي مت 9: 31: أما هما فما إن خرجا حتّى أذاعا الخبر.
لا نجد فعل انتهر إلاّ نادراً في العهد الجديد. سنجده مرّة أخرى فيٍ مر 14: 5 وفي يو 11: 33، 38. وكذلك فعل أذاع، نشر. سنجده أيضاً مرّة أخرى عند مت 28: 15 (هذان الأعميان هما شاهدان يحملان الرسالة التي سيحملها الرسل بعد قيامة الرب). وهكذا أخذ متّى ما في خبر مرقس عن الأبرص وجعله في شفاء الأعميين.
ونكتشف في مت 9: 27- 31 عنصراً خاصاً بمرقس هو "البيت". البيت عند مرقس هو موضع "أبيفانيا سرية": في 7: 17؛ 9: 28؛ 10: 10، نجد البيت كموضع مميّز فيه ينفصل التلاميذ عن الجموع ويتلقّون وحياً خاصاً.
نلاحظ بشكل عابر أن مت 9: 27- 31 لم يعرف لفظة "يا رب" (كيريوس) في نداء الأعميين مثل 20: 29- 34. ثمّ إن الفعل "لمس" ترافقه لفظتان مختلفتان تدلّ على العيون (9: 29؛ 20: 34).
ثالثاً: تفسير الوضع
نجد في مت 9: 27- 31 تدويناً متّاوياً استقى موضوعه من مرقس. عاد إلى مر 10: 46- 52 فدوّنه مرتين. مرّة ظل قريباً من المثال الذي أمامه، ومرّة ثانية استقلّ عن هذا المثال. وهكذا نكون في مرحلتين: حركة من مر 10 إلى مت 20. حركة من مت 20 إلى مت 9. وهكذا كان الطابع المتّاوي بارزاً في مت 9 الذي هو كثر من "خبر معجزة"، الذي هو "مشهد مثالي". لقد صاغ هذه الإختلافة كما في مت 20: 29- 34، فدلّ على أنه معلم يعطي درساً في الإيمان كثر منه راوياً. وقد يكون متّى وجد خبر الأعميين في 9: 27- 31 في تقليد مستقلّ عن تقليد أريحا، فطبعه بطابعه.
2- مت 20: 29- 34
أوّلاً: إشارات تدوينية
طبع متّى الخبر بطابعه منذ الكلمات الأولى في خبره. مثلاً نقابل مت 5: 1 ب (ولما جلس جاء إليه تلاميذ) و 8: 1 (ولما نزل من الجبل تبعه جمع كبير) و20: 29 (ولفا خرجوا من أريحا تبعه جمع كبير). عبارة ذات بنية مماثلة.
وهناك العدد: 2 (رج 9: 27). هناك الحاجة إلى إثنين لكي تقوم الشهادة. والأعميان سوف ينشران الخبر. وقد نكون في إطار ليتورجي حيث يتقدّم المحتفلون اثنين إثنين.
وما نلاحظه أيضاً هو مضمون عبارة المتوسّل: إرحمنا يا رب، يا ابن داود. وردت مرتين من دون تبديل (إن مرقس ولوقا بدلاها). وتبدأ كل مرّة بالعبارة نفسها: فصرخا يقولان (آ30، 31). هذه المحافظة على العبارة نفسها تدلّ على الإستعمال الليتورجي الذي أخذ به متّى في نداء صار صلاة مسيحية.
والنداء "ارحمني" نجده مراراً في الكتاب المقدّس (مز 6: 3؛ 9: 14؛ 30: 10...). وأدخل متى عليه لفظة الرب. فصار: كيريي إليسن. وهكذا نعود الى مت 8: 25 (تسكين العاصفة) حيث "المعلّم" في مر 4: 38 صار "الرب" في مت 17: 15 (ق أيضاً مر19 ؛ 9: 38).
هكذا أشار الأعميان إلى يسوع على أنه المسيح. أما متى فدلّنا على إله إسرائيل الذي ما زال يفيض رحمته تجاه شعبه المضايق في شخص يسوع.
إرتبط لقب "ابن داود" (من تقليد مرقس) بالعبارة الليتورجية، فدلّ على مسيح إسرائيل الذي تقوم مهمّته بأن يحمل التدخل الأخير والحاسم، تدخّل الربّ في التاريخ. فالذي نطلب منه أن يرحمنا هو إمّا "رب" إسرائيل الذي يمثّله يسوع، وإما "ابن داود"، "الملك" الذي يعمل باسم إله اسرائيل. لقبان متقابلان. واحد إلهي والثاني مسيحانى. وهذا ما يدلي على نضوج فكري حول شخص يسوع المسيح.
ونتوقّف عند فعل لمس في آ 34. إختلف متّى عن مرقس ولوقا، فلم يتلفظ يسوع بأية كلمة. بل أتمّ العمل المتعارف عليه لدى مجترحي المعجزات: لمس أعينهما. هذه الفعلة ترتدي شكلاً طقسياً. ونلاحظ أخيراً أن متّى أغفل عبارة "إذهب، إيمانك خلّصك" التي نجدها في مر 10: 52.
ثانياً: ارتباط النص بالسياق
إن مت 20: 29- 34 يدخل في مجموعة تدوينية واضحة. فذكرُ "الجمع" (20: 31) يوجّه أنظارنا نحو الدخول المسيحاني إلى أورشليم. نجد في هذه المتتالية "الجمع الكثير" (21: 8). ثم "الجموع السائرة أمام يسوع ووراءه" (21: 9: يسيرون مع يسوع). كانوا يصرخون، يهتفون (21: 9) مثل الأعميين: يا ابن داود. إختلف متّى عن مرقس (11: 9- 10) وعن لوفا (19: 38) فجعل الجموع تهتف لابن داود. إذن، هناك رباطات وثيقة وعميقة بين مت 20: 29- 34 ومت 21: 1: 9 أمام لحظتين احتفاليتين تدلاّن على مرحلتين في مسيرة واحدة متصاعدة: واحدة تسير من أريحا إلى أورشليم، وأخرى تجعلنا على مدخل أورشليم.
وهناك مرحلة ثالثة هي نهاية هذه المسيرة: الهيكل. ألغى متّى في إنجيله كل نصّ يتوسّط الدخول إلى أورشليم والدخول إلى الهيكل لكي تتواصل المقطوعتان (بل المقطوعات الثلاث إذا حسبنا أيضاً أعمى أريحا). ففي مقطوعة الهيكل، تفرّد متى فأقحم في النصّ عنصرين خاصّين به: "شفاء عميان وعرج" (امتداد لما في 2 صم ه: 6- 10 بشكل مدراشي). حدث الأطفال الذين يهتفون هم أيضاً لابن داود. وهكذا تتلاحم هذه المقطوعة تلاحماَ بنيوياً مع المقطوعتين اللتين سبقتهما. ما يهمّ هنا ليس فقط حضور الأولاد (حسب الأسلوب المدراشي) الذين وجدوا هنا لكي يهيّئوا ويبرّروا ما نقرأ في 21: 16 (من فم الأطفال والرّضع)، بل مضمون الهتاف (يا ابن داود)، والموضع الذي حصل فيه (الهيكل، قلب "مدينة الملك العظيم"، رج مت 5: 35)، ومضمون مز 8 (آ 2 حسب السبعينية: أيها الرب ربنا، ما أعظم اسمك في كل الأرض). ونجد هنا أيضاً التلاحم بين "ابن داود" و"الرب" كما في حدث الاعميين. نحن هنا أمام نشيد ليتورجي (ابن داود الرب) نتلوه في مسيرة في ثلاث مراحل، وهذه المسيرة (الحج) تنتهي بتتويج المسيح في بيت الربّ.
وخبر الآلام الذي يتبع، يُعطي هذا التتويج معناه الحقيقي. ف "ابن داود" الذي نهتف له هو قبل كل شيء "الملك المتواضع" وهو ابن الانسان الذي يصعد إلى أورشليم ليسلّم هناك (20: 18: الانباء الثالث بالآلام). هناك سيسمّى المسيح "الرب".
ثالثاً: خاتمة
تضقن إنجيل متّى خبرين عن شفاء أعميين. جاء الأول (9: 27- 31)نهاية مجموعة من عشر معجزات (مت 8- 9) هي آيات ملكوت السماوات الذي أعلنه يسوع في خطبة الجبل. ودخل الثاني (20: 29- 34) في جزء يبدأ بالإنباء الثالث بالآلام (20: 17 ي) وينتهي بإيراد مز 8 الذي هو ذروة كل هذه المجموعة. فالوجهة الليتورجية في هذا المقطع واضحة. نحن نشهد احتفالاً حقيقياً في ثلاث مراحل يقود المسيح إلى هيكل أورشليم.
شدّد متّى من جهة على موضوع الإيمان في 9: 27- 31، لأن الدينامية اللاهوتية والكرازية فرضت عليه ذلك. ومن جهة ثانية، ألغى عبارة "إيمانك خلّصك " في مت 20: 29- 34 ليتجاوب مع دينامية أخرى: لقد جاءت الوجهة الليتورجية تبرز الوجهتين اللاهوتية والكرازية. ونقول الشيء عينه عن وجود "الرب" في الشفاء الثاني.
يتضمّن الخبران إشارات نجدها في إنجيل مرقس. في الخبر الأول (مت 9) نجد عناصر مأخوذة من مر1: 45- 3وضوع البيت. في الثاني (مت 20) نجد عناصر من شفاء أعمى بيت صيدا (مر 8: 22- 26). وهكذا نرى أن متّى صاغ هذين الخبرين إنطلاقاً من إنجيل مرقس.
ب- خبر لوقا
إن مشهد أعمى أريحا كما أورده لوقا (18: 35- 43) يختلف عن خبرَيْ متى ومرقس. فهو لا يحصل في الطريق إلى أورشليم، بل حين إقتراب يسوع من أريحا. ثم إن هذا المشهد يتبعه حالاً حدثٌ خاصّ بلوقا يتكلم عن زكّا (لو 19: 1- 10) ويحصل في أريحا نفسها. سنعود إلى الرباط بين المقطوعتين. ولكن نبدأ بالإشارات التدوينية.
1- الإشارات التدوينية
نستطيع القول إن لوقا أعطى خبر مرقس وجهة سيكولوجية وسردية متناسقة. خفّف من كلماته، وطبعه بطابعه الخاص.
فهناك بنية العبارة الأولى: "وحصل أنه حين اقترب من أريحا". نجد هذه العبارة مراراً عند لوقا (1: 8؛ 3: 21...). وقد وجد نموذجه في 2 صم 15: 5 حسب السبعينية. وفعل "اقترب، دنا" يتضمّن القرب كما يتضمّن أيضاً نيّة بالدخول إلى المدينة.
لم يحتفظ لوقا باسم الأعمى: إبن طيما. بل تحدّث عن أعمى من العميان. إن يسوع سيدعوه وهو سيتبع يسوع في الطريق، لذا أعطاه مرقس اسماً. وبدّل لوقا كلمة "شحاذ" باسم الفاعل ليدلّ عن أن هذا الرجل خسر هويته، وصار عمله الدائم الاستعطاء.
في آ 36- 37 نقرأ: إستعلم. أعلموه. هكذا يشدّد لوقا على دور الوسيط الذي لعبته الجموع. أعلموه أن المسيح "آتِ". هذا يجعلنا في أسلوب الظهورات. وفي آ 38- 39، هناك صيغتان فعليتان تعبّران عن نفسية الأعمى الذي يتوسّل. أولاَ: خرج، صاح (مرّة واحدة). إن فعل "بوآن" يشير الى صرخة يعمل فيها الإنسان العقل فيطلب النجدة. ثانياً: أخذ يصيح (دون أن يتوقف). إن فعل "كرازاين" يدلّ على صراخ غريزي يعبّر عن تأثير كبير. وهكذا تبرز الوجهة الدراماتيكية في الخبر.
كتب مرقس: يا ابن داود، يسوع، إرحمني حسب الموازاة: إبن طيما برطيما. أما لوقا فجعل الترتيب كما يلي: يا يسوع ابن داود ارحمني.
في آ 39 نقرأ: وكان السائرون في الطليعة. هذه عبارة معقولة أكثر من "انتهره كثيرون" (مر 10: 48). أو كما قال مت 20: 31: فانتهره الجمع.
في آ 40، خفّف لوقا نص مرقس. ولم ينسَ عمى الرجل: إقتادوه إلى يسوع. هو لم يقفز كما قال مرقس. في آ 41، قال الأعمى: يا رب (كيري، كيريوس). هذا ما نجده عند متّى، ولكن للوقا هدفاً سوف نراه. أما مرقس فقال: رابوني (أي: معلّم). قال مر 10: 52: قال له يسوع: إذهب إيمانك خلّصك. ولكن الأعمى كان قد قال: أريد أن أبصر. فجاء الجواب في لو 18: 42: أبصر. وهكذا ردّ يسوع على سؤال الأعمى. لا ننسى هنا ما قلناه عن روحانية مرقس. إن يسوع يدعو هذا الأعمى أن يتبعه. فحين يتبعه يُبصر.
والشق الثاني في آ 43 يبدو أصيلاً في الخبر. فالعبارة اللوقاويّة "مجّد الله" تعني أن الله بنفسه اجترح المعجزة. وهناك عبارة أخرى عزيزة على قلب لوقا: أعطى مجداً للّه. سبّح الله (رج 17: 18؛ أع 3: 9). هذا ما فعله الجمع. وهناك عنصر لوقاوي هو الربط بين فعل "مجّد" (سبّح) و"رأى" (2: 20؛ أع 3: 9). هذا ما نجده في آ 43: رأى الشعب فمجّد. بدأ الأعمى ف "رأى" (آ 43 أ) وعلى خطاه رأت الجموع. هو مجّد الله، والشعوب مجّدت الله.
هذه هي التحوّلات التي بها طبع لوقا نصّ مرقس. لسنا أمام أمور خارجية وبسيطة، بل أمام تعبير جديد يجب أن نكتشف كل ديناميته.
2 - نظرة شاملة
إنطلق لوقا من نصّ مرقس فكوّن خبر شفاء، فجاءت مجمل تصحيحاته في هذا الاتجاه. وهكذا بدا لعمله معنى محّدّد لا بدّ من اكتشافه.
في بداية الخبر، قدّم لنا لوقا "أعمى" (في صيغة النكرة، أعمى من العميان. وكانوا كثيرين). وقدّم لنا "جمعاً" (صيغة النكرة) من الجموع (آ 35، 36). هذا "الجمع " أعلم الأعمى بحضور يسوع الناصري. وفي نهاية الخبر، حدثت معجزة مع رجل ف "رأى" ومجّد الله. وبقربه "كل الجمع" (كل الشعب) رأى "فمجّد" (سبّح) بدوره الله. لقد انقلبت الأدوار. بدأ "الجمع" فأعلم الأعمى. وها هو الأعمى يحمل إلى الجمع وحياً عن يسوع الناصري الذي أعلنه "الرب" (آ 41). لم نعد أمام حشد من الناس، بل أمام شعب الله كله كما تكوّن بشكل نهائي. هذا هو الشعب كله الذي تعمّد مع يسوع في 3: 21 وها هو الآن يرى مع الأعمى الذي صار مبشّراً.
اَمن الأعمى أن يسوع هو الرب وجاهر بإيمانه، فصار مبصراً. وكان الجمع معادياً حتى الآن، فصار "الشعب كله". ففي تكوين "الشعب كله" (في كنيسة) الذي بدا الشفاء علامة له، تكمن المعجزة الحقيقية.
ولكن من هو "هذا" الأعمى، هل هو جزء من هذا الشعب؟ إن حدث زكا الذي يلي حالاً شفاء أعمى أريحا يردّ على هذين السؤالين.
من المفيد أن نواجه لو 18: 35- 43 ولوقا 19: 1- 9 في لوحة إزائية. فنلاحظ حالاً أن النصين بُنيا حسب النموذج الأدبي الواحد. وإذا أردنا أن نكتشف التعليم اللوقاوي، نجعل النص فوق الآخر كما في الورق الشفّاف. بفضل هذه العملية نكتشف أن اسم "هذا" الأعمى هو زكا (19: 2: رجل اسمه زكا). هذا الرجل الغني وقصير القامة الذي "كان يسعى ليرى"، ف "ما كان يستطيع" (19: 3= زكا في لوقا هو إبن طيما في مرقس). وكما في 18: 39، نرى الجمع يقف بين يسوع وزكا (1: 7: أخذوا يتذمّرون) بسبب مهنته المشهورة، وبسبب إيمانه الذي أعلنه في عمل الانصاف والمشاركة (آ8). هو أيضاً (مثل الأعمى) سمّى يسوع "الرب" (آ8؛ رج 18: 41). أما كلام يسوع في 19: 9، فهو امتداد لعبارة "إيمانك خلصك".
من الواضح أن لوقا أراد أن يبيّن لقرّائه أن تكوين "كل الشعب" يشمل زكّا أيضاً. ووجود هذا الشعب وتكوينه يرتبط ارتباطاً ضرورياً بهذا الرجل الذي هو آخر الخاطئين في أريحا. وهكذا كانت معجزة المسيح كاملة. فالخروف الذي كان ضالاً قد وُجد، فشارك الراعي الحاضرين في فرحته في "البيت"، بيت زكا حيث ستجتمع الكنيسة (19: 5؛ رج 15: 6).
وتستخرج آ10 بوضوح العبرة من 18: 18- 19: 9. في هذه المجموعة، يبدو حدث زكا جواباً على مشهد الوجيه الغني. فهذا دعا يسوع "المعلّم الصالح". أما زكا فسمّاه "الرب" على مثال الأعمى. إحتفظ الوجيه بكل ماله فظل "حزينا" (آ 23). أما زكا فوزعّ نصف أمواله على الفقراء فعرف الفرح (19: 6).
إختلف لوقا عن مرقس ومتّى، فابعد الدخول المسيحاني من الأفق التدويني لأعمى أريحا. فالطريقة التي بها صاغ خبر الشفاء، تدلّ على هدف كرازي آخر. وهكذا يكون السياق اللوقاوي لأعمى أريحا 18: 18- 19: 10.
ج- خبر مرقس
في مر 10: 46- 52، لا يتّخذ الشفاء حيّزاً كبيراً. لا كلمات. لا فعلة عجائبية (تدل على صانع المعجزات). فما يشدّد عليه مرقس هو أمر آخر. هناك معجزة أخرى سوف يحدّدها لنا.
يبدو شفاء أعمى أريحا موازياً لشفاء أعمى بيت صيدا (8: 22- 26). وهذا الشفاء الأخير يتبعه اعتراف بطرس (8: 22- 26) والانباء الأول بالآلام (8: 31- 33). وشفاء أعمى أريحا يتبعه الهتاف المسيحاني ساعة الدخول إلى أورشليم، وخبر الآلام. من هذا القبيل يبدو هذان الشفاءان وكأنهما خبرا انتقال. إنهما نصّان استراتجيان في مجمل الكتاب.
1- قراءة إجمالية
للطريق (هودوس) وكل ما يتعلّق بها (السير، الوقوف) أهمية كبرى في مر 10: 46- 52. فتبدو سائر عناصر النص خاضعة لهذا الموضوع: كل فعلة وكل كلمة.
"وجاؤوا" إلى أريحا. من جاء؟ سنجد التلاميذ وجمع كبير ويسوع خارجين من أريحا. هذا ما اعتاد مرقس أن يفعله، كأننا في تطواف. ذكر الذين خرجوا، ذكر الذين أدخلهم إلى أريحا ولم يسمّهم بأسمائهم. جاؤوا وخرجوا. ونقرأ الجملة الأخيرة (آ 52): "وتبعه في الطريق". الفعل هو في الماضي ويدلّ على الإستمرارية (تبعه وما زال يتبعه). استمرارية في التحرّك: يجب أن نمشي في الطريق. إستمرارية في القرب: نمشي وراءه، نتبعه.
سار برطيما. هذا ما يعارض وضعه في بداية الخبر. "كان جالسا" قرب الطريق". حالة جمود تعتبر نهائية. صيغة الماضي أيضاً: كان جالساً وظلّ جالساً إلى ما لا نهاية... لولا مرور يسوع. ويُبرز هذه المعطية الاستعطاءُ والعمى. لهذا فهو "ثابت" ملتصق مكانه. ومع ذلك فهو بعيد عن الناس. بدأ الخبر ساعة كان ابن طيما "خارج الطريق". ولما انتهى صار "في الطريق".
في آ 49 نقرأ: توقّف يسوع. بدّل وضعه. كان يمشي مع الناس، إنفصل عن كل الذين كانوا معه في الطريق عينه. حطّم حركة هو ديناميتها، فأعطى هذا "التحطيم" نتيجة غير متوقّعة. نعجب من موقف يسوع، ونعجب من موقف الأعمى الذي تخلّى عن ردائه، وقفز، وجاء إلى يسوع. فكأن ابن طيما لم يعد أعمى. لما كان أعمى كان جالساً، وها هو الآن يقفز. ونلاحظ أنه سيُدعى أيضاً لأعمى (تفلوس) حتى بعد تدخل المسيح. منذ ذلك الوقت، إستعاد اعتباره لدى يسوع والجمع (أدعوه... تشجّع، قم). وبدأ يتصرّف (قفز) كأنه ليس بأعمى. دُعي الأعمى فيم يعد "شحاذاً". تخلّى عن ردائه (فيه يضع الشحاذ ما يُعطى له)، فتخلى عن الجمود وذهب إلى يسوع.
2- صرخة الإيمان
يتكوّن قسم من الخبر من حوار بين ابن طيما ويسوع. وأول شيء في هذا الحوار تسمية المتحاورين ابن طيما، برطيما. إبن داود، يسوع. وهناك الجمع الذي يتدخّل. مرة أولى يدلّ على حضور "يسوع الناصري" (آ 47). سمع ابن طيما. هو لا يرى، إذن هو بعيد. يسوع الناصري، أي يسوع من دون وحي أصيل حول شخصه ورسالته. هو إنسان مثل سائر الناس، وهو قريب من الناس. ولكن هل يكفي مثل هذا القرب؟
الأعمى بعيد، وهو يعبّر عن بُعده بالصراخ والصياح. وسمّى يسوع: ابن داود. وهكذا أعطاه لقب مسيح إسرائيل. أدرك المسافة بينه وبين يسوع، فأعلنها، وإذ أعلنها لم يعد بعيداً. إن هذا الاعلان يفترض مسيرة تضمّ في صرخة واحدة ألماً لمسافة لا نستطيع أن نتخطّاها (كان جالساً. لا قبل له بالحركة. أعمى لا يرى. وفي ردائه أشياء وأشياء، مثل الرجل الغني) وإدراكاً لشخص نراه فنودّ أن نذهب إليه.
وتدخّل "الكثيرون" ليسكتوه. ولكنه ازداد صياحاً. نحن أمام إستمرار في القوة. ثم سقطت لفظة "يسوع " في المرة الثانية. قال فقط: "يا ابن داود، إرحمني". توقّفت الجموع عند يسوع الناصري. أمّا الأعمى فانطلق من يسوع ليصل إلى المسيح. هنا توقّف يسوع. ليس فقط لأن قلبه لان أمام صياح هذا الأعمى. توقّف لأنه اكتشف شيئاً جديداً في هذا النداء. إن الجموع بعيدة جداً عمن هو "إبن داود". ووحده الأعمى صار قريباً "مثل النازفة التي لمست يسوع". وسيتكرّس هذا القرب عندما يدعو يسوع "رابوني" التي تعني معلّمي، كما تعني ربي (رج يو 25: 16).
يقع هذا النداء الأخير (رابوني) بين كلمتين من يسوع: كلمة يدعوه بها (ادعوه)، كلمة يرسله بها (إذهب). هكذا أرسل يسوع الأبرص (1: 44: اذهب وأرِ الكاهن نفسك) ومجنون الجراسيين (5: 19: إذهب وبشر). قال يسوع للرجل الغني: إذهب وبع (10: 21). وأرسل التلميذين الى المدينة ليهيّئا الدخول إلى أورشليم (11: 2)، ويهيّئا الفصح (14: 13). حين يقول يسوع: إذهب، فهو يرسل في مهمة، هو يرسل ابن طيما كتلميذ إلى أورشليم. هو يدعوه لكي يتبعه.
خاتمة
أريحا هي المحطة الأخيرة قبل أورشليم. وصل إليها يسوع، دخل، خرج. وترك لنا لوقا خبرين عن هذا المرور: الأعمى الذي أبصر النور، وزكا الذي نال نوراً آخر. كان الجمع في كلا الخبرين الحاجز الذي يوصل إلى يسوع. تجاوزه الاثنان فكان لهما الخلاص. قال يسوع للأعمى: إيمانك خلّصك (آ 42). وقال عن زكا: "لقد وصل الخلاص إلى هذا البيت، لأنه هو أيضاً ابن لإبراهيم" (19: 9). شفاء على مستوى الجسد، شفاء على مستوى النفس. فالمسيح يعيد خلق الإنسان كله، نفساً وجسداً، قبل أن يصل به إلى أورشليم، موضع الآلام والصلب والقيامة

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM