الفصل العشرون: انتظار السيد الآتي

الفصل العشرون
انتظار السيد الآتي
12: 32- 48

يجمع هذا المقطع الإنجيليّ عدّة كلمات وجَّهها يسوع إلى تلاميذه (رج 12: 22) خلال صعوده وإلى أورشليم، وهو يتضمّن إجمالاً ثلاثة أمثال تدعو المؤمنين ليكونوا مستعدّين لمجيء سيّدِهم (آ 35- 38، آ 39- 40، آ 42- 48).
ويسبق هذه الأمثال آياتٌ ثلاثٌ أُخذت من الجزء السابق (12: 13- 34)، وفيها يدلّ يسوع أخصّاءه على الموقف الواجب اتخاذه أمام خيرات هذا العالم. وإذ أراد أن يجرّدهم منها، وجّه أنظارهم نحو الملكوت الموعود به. إن هذه الآيات التي وُضعت قبل أمثال الإنتظار، تدلّ على أساس الرجاء المسيحيّ.
وقبل أن نبحث عن معنى هذه النصوص في فم يسوع، ندرس المعنى الذي اهتمّ به لوقا بصورة خاصّة.

أ- إنتظار لوقا
1- التاكّد من مجيء الملكوت (آ 32- 34)
أورد لوقا كلمة يدعو فيها يسوع تلاميذه ليبحثوا عن الخير الجوهريّ، ملكوتِ الله (12: 31). وإذ أراد أن يشجّعهم في بحثهم هذا، وضع أمامهم تأكيد السيد الأساسيّ: لقد أعطاهم الآب ملكوته (آ 32). وإذ سمّى يسوعُ تلاميذه "القطيعَ الصغير"، فقد جعلهم الشعبَ الذي يختاره الله ويحميه ويقوده ويوجّهه. هي صورة تقليديّة في العهد القديم (تك 48: 15؛ هو 4: 16؛ 13: 4- 6؛ مي 2: 12- 13؛ 4: 6- 7؛ 7: 14؛ صف 3: 19؛ ار 31: 10؛ 50: 19؛ حز 34: 11؛ أش 40: 11؛ 49: 9- 10) تتردّد مراراً في الإنجيل (مر 6: 34؛ 14: 27- 28 وز؛ مت 9: 9: 36؛ 10: 6، 16، 24؛ 18: 12- 14 وز؛ 25: 32؛ لو 19: 10). لم يبلغ هذا الشعب بعدُ إلى كماله النهائىّ لأنه ما زالت محتاجاً إلى تشجيع ("لا تخف")، ولأنه ما زال "صغيراً" (رج مت 7: 14؛ 13: 31- 33 وز؛ 22: 14). إذا كان يسوع قد أكّد له أن الآب قرّر في مبادرة نعمته السامية أن يمنحه الملكوت (رج 22: 30)، فنحن إذن أمام وعد. وهذا الوعد لا يترك أيَّ مجال للشكّ، لأن الخلاص حاضر منذ الآن في يسوع (وهذا ما شدّد عليه لوقا مراراً: 2: 11؛ 4: 21؛ 19: 9؛ 23: 43). وأخيراً، حين وجّه يسوع هذا الوعد إلى القطيع الصغير كلّه، جعلنا نستشفّ أن الملكوت هو خلاص جماعيٌّ وكمالُ شعب الله. وهكذا تكمّل هذه الآيةُ الآيةَ السابقة: "أُطلبوا الملكوت" لا تعني امتلاكَه بقوانا الخاصّة، بل تقبُّلَه كنعمة لا تفوقها نعمة.
في بناء لوقا، تكمّل آ 33- 34 تعليمَ يسوع حوله خيرات هذا العالم بطبيعة ملموسة، بتحريض على الصدقة. وهذا التحريض يحمل إلى كل التلاميذ ما قاله يسوع للغنيّ الوجيه (18: 22: "بِعْ كلّ ما تملك ووزعّ ثمنه على الفقراء"). إنّ لوقا يستعيد مراراً موضوع الصدقة فمقول مثلاً في 11: 41: "أعطوا صدقةً ممّا لكم (أو ممّا في الداخل) يكُنْ كلّ شيء لكم طاهراً". وفي 16: 9: "إِجعلوا لكم أصدقاءَ بالمال الباطل، حتى إذا نفدَ قبِلوكم في المنازل الأبديّة" (رج 19: 8 وما فعه زكّا العشّار؛ أع 9: 36 وما فعلته طابيثة؛ 10: 2، 4، 31؛ 11: 29؛ 24: 17). إن صورة الوعد بكنوز سماويّة قد تقودنا إلى نظرة إلى الخلاص وكأنه حدَثٌ فرديّ، فنظنّ أن عطايا الملكوت هي أجر نستحقّه وحقّ مكتسَبٌ على الله. لا ننسى توبيخات يسوع للفرّيسيّين في هذا المجال. وإن لوقا قد رذل مسبقاً هذه النظرة القانونيّة في آ 32 حين تكلّم عن مشيئة الله وعن نعمته. وسيرذلها في آ 34، لأنه إذا كان على التلميذ أن يوجّه قلبه إلى السماء، فلأن كنزه الحقيقيّ يقيم في نعمة الله: لا تكنُزوا كنوزاً لنفوسكم، بل اجعلوها قُرب الله (12: 21).
2- الخُدّام الذين ينتظرون سيّدهم (آ 35- 38)
إن الأمثال الثلاثة التي تبدأ هنا تتطرّق كلّها إلى الموضوع الواحد: انتظار ذلك الآتي (آ 35- 38).
تتوجّه آ 35 إلى التلاميذ. وتطبِّق عليهم المثلَ الأوّل الذي سيشبّههم بخدّام (رجال، عبيد، عباد) ينتظرون رجوع سيّدهم خلال الليل. عليهم أن يكونوا في زيّ العمل: يرفعون أطراف ثوبهم ويشدّون أوساطهم ويشعلون مصابيحهم، رج أم 31: 17؛ لو 12: 37؛ 17: 8؛ يو 13: 4. في العهد القديم، هذا الزِِّي هو زِيّ الحرب أيضاً (2 صم 20: 8؛ 1 مل 20: 11؛ نح 4: 12؛ مز 45: 4؛ أش 5: 27) وزِيّ السفر (2 مل 4: 29؛ 9: 1؛ طو 5: 5) وبالتالي زِيّ الفصح (خر 12: 11). وبما أن اليهود ينتظرون المسيح في ليلة الفصح، رأى عددٌ من الشُرّاح في 12: 35 تلميحاً إلى الليلة الفصحيّة.
إن هذه الصور تدعو التلاميذ ليكونوا مستعدّين لمجيء سيّدهم. وقد دلّ عليهم لوقا على أنهم أبناء النور (16: 8). وبعد التطبيق، بدأ المثل في آ 36: إشترك سيّد الخدام في حفلة عرس وهو يعود في الليل (رج مت 25: 1- 13)، في ساعة لا ينتظرونها. ليكن خدّامه في تلك الساعة مستعدّين لاستقباله. فإن "وُجدوا متيقّظين" نالوا جزاءهم (آ 37).
ويعلن يسوع هذا الجزاء أوّلاً بصورة عامّة، عَبْرَ تطويبة: هنيئاً، طوبى لهم. ويصوّر هذه السعادة التي ينالونها بمشهد مُدهش: السيد نفسه سيصبح خادماً. هذا ما لا يفعله أسياد هذا العالم. يعرف لوقا هذا الواقع (17: 7- 10)، ولكنه يعرف أيضاً أنّ يسوع صار خادماً لأخصّائه (22: 27)، وأنه سيسبقهم إلى مائدته في ملكوته (22: 20)، وتوازي آ 38 آ 37 أ فتدلّ على جهلنا لساعة مجيء السيّد.
ما هو معنى هذا المثل في نظر لوقا؟ حين دوّن إنجيله، كان يسوع قد غاب في مجد الفصح، وكان التلاميذ ينتظرون عودته (أع 1: 11؛ 3: 21). هم يجهلون يوم هذه العودة وساعتها. إذن، عليهم أن يظلّوا دائماً مستعدّين لاستقبال ابن الإنسان (21: 36) ونعمته.
3- السارق (آ 39- 40)
ويتوجّه المثل الثاني أيضاً إلى التلاميذ (آ 39)، وفيه، كما في المثل السابق وفي المثل اللاحق، خِبرةٌ دارجة ومعروفة. لو عرف ربُّ البيت أو لو كان عارفاً، وهذا ما يجعل من المثل تلميحاً إلى حدَثٍ حصل فعلاً فانطلق منه يسوع ليعطينا درساً وعبرة (رج 13: 1- 5).
ومهما يكن من أمر، فالمعنى واضح: حين يأتي السارق ليَنقُب جدران البيت الضعيفة (رج أي 24: 16)، فهو لا يعلن عن ساعة مجيئه. فمن أراد أن يواجه هذا الواقع، وجب عليه أن يكون محترساً متيقّظاً. وتطبيق المثل لا غموض فيه (آ 40): على التلاميذ أن يكونوا دوماً مستعدّين لمجيء ابن الإنسان وهو مجيء لا نتوقّعه.
إن هذه العبارة الإسكاتولوجيّة تدلّ هنا أيضاً على أن لوقا يفكّر بمجيء (باروسيا) الربّ في نهاية الأزمنة. وقد يدلّ النصّ على الساعة التي فيها يمثل كلّ إنسان أمام ربّه عند ساعة الموت.
4- الوكيل في غياب سيّده (آ 41- 48)
إن آ 41 التي تفتتح هذا المثل مَنوطة بلوقا، وقد دوّنها بيده واستعمل ألفاظاً تفرَّد بها دون سائر الإنجيليّين. هذا يدلّ على اهتمامه بالذين توجّه إليهم هذا المثل. سوف نرى في ما يلي من النصّ مع الميزات المتعلّقة بلوقا، أنه يتوجّه إلى المسؤولين في الكنيسة.
وأجاب يسوع على جواب بطرس (آ 42). أعطاه لوقا هنا لقب الربّ (كيريوس)، فدلّ على أنه سيد الكنيسة مع خدَمها، وذلك الذي سوف يأتي في المجد في نهاية الأزمنة.
يُرينا المثل وكيلاً سلّمه السيدُ مهمّةَ إعطاء خدمه وَجْبتهم من الطعام في حينها، وذلك خلالَ غيابه. ونجد سمَتين خاصّتين بلوقا تدلاّن على أنه يشير إلى المسؤولين في الكنيسة. يسَمّي الوكيل "اويكونوموس" (أقنوم كما يُقال في الأديار)، وهو لقب يطبّقه بولس على نفسه وعلى أبلّوس (1 كور 4: 1- 2: خدَمٌ للمسيح ووكلاء أسرار الله). ثمّ إنه يحدّد تنظيم عمل الوكيل في المستقبل.
في اللوحة الأولى من المثل (آ 42- 44) يقوم الوكيل خيرَ قيام بمهمّته. ويحدّثنا لوقا عن جزائه كما في آ 37: ينبئ به أولاً في تطويبةٌ تتمّ يوم يجيء السيّد (آ 43). ثم يعلنه كتولية في وظيفة جديدة: يسلمه السيد إدارة كل أمواله (آ 44؛ رج مت 25: 21، 23). وهذا الجزاء يتجاوز (كما في آ 37) حدودَ المعقول. قد يفكّر لوقا بالوعد الذي وجّهه يسوع إلى الإثني عشر بعد العشاء السرّي حين قال: "أنتم ثبتُّم معي في محنتي، وأنا أعطيكم ملكوتاً كما أعطاني أبي، فتأكلون وتشربون على مائدتي في ملكوتي (يصوَّر الملكوت بشكل وليمة مسيحانية)، وتجلسون على العروش لتدينوا أسباط بني إسرائيل الإثني عشر" (22: 28- 30).
في اللوحة الثانية (آ 45- 48) التي تعارض الأولى، يستفيد الوكيل من تأخّر سيّده (آ 45). يضرب الخدّام والخادمات. يختلف لوقا عن مت 24: 49 فلا يتحدّث عن "رفاق العبودية" (أو رفاق العمل) ليدلّ على اختلاف المسؤولين عن سائر الخدّام.
إنّ حياة هذا الوكيل عيدٌ دائم. ولهذا، لم يقم بمهمّته. حينئذٍ يصلُ السيّد في وقت غير منتظر (آ 46): "يكسر" الوكيل ويعامله معاملة الجاحدين الكافرين. حرفيّاً: يقطعه قطعتين ويجعل حظّه مع اللامؤمنين (يقول مت 24: 51: المرائين، والمرائي قد يصبح منافقاً أو أعمى، مت 7: 5)، نجد هنا تلميحاً إلى عذاب تحدّث عنه دا 13: 55، 59، وبالأحرى إلى جُرم يُجعَل الخاطئُ بموجبه خارج الجماعة. تقول قاعدة قمران: يطرحه خارجَ جماعة الخلاص ويجعل مكانه بين المنافقين. وقد قالت الترجمات: يطرده، يفصِله، يمزّقه تمزيقاً.
ويزيد لوقا اعتبارين على هذا العقاب. الأوّل (آ 47- 48 أ) يفسّر عقاب الوكيل الذي خاف معلّمه ولم يكن على قدر المهمّة الملقاة على عاتقه: عرف إرادة سيّده ولم يعمل بها، لهذا سيكون عقابه قاسمياً. والاعتبار الثاني (آ 48 ب) يعلن متطلّبات النعمة: حين يعطي الله الكثير فهو يطلب الكثير.
هذا المثل يتوجّه في نظر لوقا إلى المسؤولين في الكنيسة، وقد فهم بطرس التلميح فقال: "ألنا تقول هذا المثل أم للجميع"؟ لقد جاء سؤاله انتقالاً من تحريض للتلاميذ كلّهم (آ 35- 40) إلى تحريض للوكلاء الذين يُسأَلون عن إخوتهم (آ 42- 48).
لقد عرف الرسل (وبالتالي المسؤولون في الكنيسة) إرادةَ الربّ وائتُمنوا على الكثير (آ 47- 48). لقد وعدهم يسوع بأن يُشركهم في سلطانه وفرحه (22: 29- 30). فعليهم أن يقوموا بمهمّتهم (أع 20: 28- 32) بانتظار عودة السيّد.

ب- عودة إلى أقوال يسوع
إنّ معظم العناصر التي جمعها لوقا في هذا المقطع نجدها عند متّى، ولكن في قرائن أخرى وبتعابير مختلفة. لقد أعاد لوقا كتابة المراجع التي وصلت إليه، كما فعل متّى أيضاً.
ثم إن الخبرة الفصحيّة والحياة في الكنيسة قادتَا التلاميذ إلى تفسير أقوال معلّمهم وإلى تمثّل المستقبل بطريقةٍ محدّدة.
إذن نحاول أن نكتشف ما قاله يسوع عبر لوقا ومتّى، أن نكتشف ما فهمه التلاميذ. وها نحن نتفحّص عناصر نصّ لوقا عنصراً عنصراً.
1- لا تخف أيّها القطيع الصغير (آ 32)
لا نجد هذا القول عند متّى، وقد جعله لوقا هنا ليكمّل الدعوة إلى "طلب ملكوت الله" والبحث عنه (آ 31). عاد لوقا إلى المرجع الذي أخذ منه، فأورد إحدى كلمات يسوع بتعبيرها الآراميّ مع صورة القطيع التي أشار إليها المعلّم مراراً، مع الحديث عن ملكوت الله، عن عدد الذين يتقبّلونه، عن عطيّة الله المجّانية.
وإذا أردنا أن نفهم بدقّة معنى هذه الكلمات، نرجع إلى سِياقها: نرى فيها تشجيعاً في الصعوبات رغم قلّة عدد القطيع. فإذا أخذنا بعين الإعتبار وضع التلاميذ الملموس والتعليم الذي يوجّهه يسوع إليهم بصورة عاديّة، نستطيع أن نعلن أنّ هذا القول يدعو التلاميذ إلى أن يجعلوا ثقتهم في الآب السماويّ أمام الضِيق الإسكاتولوجيّ الذي أخذ يواجههم.
2- كنز في السماء (آ 33- 34)
إن نصّ لوقا يجد ما يوازيه عند متّى في عظة الجبل (مت 6: 19- 21). يختلف النصّ عن الآخر، ولكنّ كليهما يعودان إلى مرجع مشترك أعاد لوقا صياغتَه فشدّد بصورة خاصّة على موضوع الصدقة. قال يسوع فأعطى الأولويّة لقِيَم السماء واهتمّ بالقلب الذي هو مركِزُ الفكر والفهم والإرادة.
ويمكننا أن نتساءل: هل الآية الأخيرة (12: 34) ارتبطت بالأقوال السابقة أم كانت مستقلّة عنها؟ يبدو أنها كانت مستقلّة. غير أنها شكّلت وَلْياً منطقيّاً لنقيضة الكنوز: إنها تتكلّم عن الكنز، وتشير إلى ما يحدّد القيم الحقيقية. ثم إنها تستخلص العبرة من القولين السابقين حسب فنّ أدبيّ خاصّ بيسوع. وهي بصورة خاصّة تعطي نقيضة الكنوز معنىً يتوافق وفكرَ يسوع: إذا تعلّقنا بكنز السماء، فليس السبب في أن كنوز الأرض عابرة، كما تقول الحكمة البشريّة، بل لأن القلب فد صُنع لله.
هذه العبرة قد وجّهها يسوع إلى كل سامعيه، لا إلى التلاميذ وحدَهم.
3- الخُدّام الذين ينتظرون (آ 35- 38)
إنّ هذا المثل الذي لا يجد ما يوازيه عند متّى يتّصل في آ 36- 38 بمثل البوَّاب عند مر 13: 34- 36: فموضوع الخدّام الذين ينتظرون سيّدهم حين يعود في الليل، وتعداد مختلف الساعات التي يمكن أن يأتي فيها السيد (12: 38؛ مر 13: 35)، والعبرة العامّة التي هي واجب السهر (12: 37؛ مر 13: 35)، كلّ هذا يقرّب بين النصّين على مستوى المعنى لا على المستوى الأدبيّ: إن مر 13: 34 يذكّرنا بمثل الوزنات، ولو 12: 37 بمثل الوكيل الأمين. وهذه الإتصالات الأخيرة تشير إلى تفاصيل تدوينيّة. كل هذا يَعني الن نصَّيْ لوقا ومرقس يعودان إلى مثَل واحد من أمثال يسوع، وإن بانت الاختلافاتُ بينهما.
نحن لا نستطيع أن نعيد بناء كلّ تفاصيل الخبر الأصليّ. إلاّ أنّ فحص نصَّيْ لوقا ومرقس، والتعرّف إلى سمات أمثال يسوع، يتيحان لنا أن نقول بصورة معقولة: قدّم المثلُ الأوّلاني بوّاباً أوصاه سيده أن يظلّ ساهراً ليستقبله حين مجيئه في الليل. وهو قد يأتي في أيّة ساعة من ساعات الليل. وينتهي الخبر بتحذير، كذلك الذي نقرأه في مر 13: 36: "وما قُلته لكم أقوله لجميع الناس: كونوا ساهرين".
ما الذي يعني في نظر يسوع مجيءُ السيد؟ إنه يعني كما قال لوقا ومرقس، مجيئَه في نهاية التاريخ. فهو قد تكلّم مراراً عن مجيء ابن الإنسان في مجده وانتصاره. قال في مر 13: 26: "وفي ذلك الحين يُرى ابنُ الإنسان آتياً على السحاب في كلّ عِزّة وجلال" (رج مر 14: 62 وز؛ مت 10: 23؛ 24: 44؛ لو 18: 8).
ولكن المجيء الذي ينتظره سامعوه، سَواءٌ كانوا الشعبَ أم التلاميذ، فهو مجيء ملكوت الله، مجيءُ الله نفسه في يومه، يومِ الدينونة كما يتصوّره العالم اليهوديّ. وإن تلاميذه أنفسَهم لم يتعرّفوا، على ما يبدو، إلى مجيء سيّدهم الثاني قبل الخِبرة الفصحيّة (19: 11؛ أع 1: 6).
فعلى يسوع أن يأخذ بعين الاعتبار مفهوميّة سامعيه، وإن لم تكن تزعجه. فهمُّه لا أن يصوّر المستقبل بدقّة، بل أن يجعل شعبه يستقبل مجيء الله ويواجه دينونته. وهذا المجيء يتمّ في نظره في حضوره الشخصيّ وفي عمله: إن ملكوت الله حاضرٌ هنا، وقد بدأت الأزمنة الإسكاتولوجيّة. فمنذ الآن نحن نستعدّ لمجيء الله.
إلى من وجّه يسوع نداءه هذا؟ قال يرامياس: إلى الكتبة. فيسوع يوبّخهم لأنهم "أغلقوا ملكوت السماوات في وجوه الناس" (كما 13: 23)، أو "استولَوا على مفتاح المعرفة" (11: 52). ولكن هذا التفسير يهمل سمَةً جوهريّة في المثل، وهي مجيء السيّد. إن هذا المثل يعني كل إنسانَ في نظر يسوع. لهذا وجّهه إلى كل سامعيه.
4- السارق (آ 39- 40)
المثل اللوقاويّ قريب ممّا يوازيه في مت 24: 43- 44. فتوافُقُ الإنجيليَّين يدلّ على أنهما تبعا مرجعاً مشتركاً. هذا المَرجِع هو شاهد قديم عن كلمة يسوع، ولكنه ليس الَشاهدَ الوحيد لأنّ أقدم رسالة لبولس (وهي سابقة لتدوين متّى ولوقا النهائيّ بثلاثين سنة) تشير إلى القول عن السارق. "تعرفون جيّداً أن يوم الربّ يجيء كاللصّ في الليل... أنتم أيها الإخوة، لا تعيشون في الظلام حتى يفاجئكم ذلك اليوم مفاجأةَ اللصّ" (1 تس 5: 2، 4). ونجد تلميحاتٍ مشابهة في 2 بط 3: 10: "ولكن يوم الربّ سيجيء مثلَما يجيء السارق". وحذَّر يسوع ملاك كنيسة سرديس: "فإن كنت لا تسهر جئتك كاللصّ، لا تعرف في أيّة ساعة أباغتك" (رؤ 3: 3). وقال أيضاً: "ها أنا آتٍ كالسارق، هنيئاً لمن يسهر" (رؤ 16: 15)!
يدلّ هذا المثل على وضع عامّ، ولا يتوقّف عند الأشخاص الذين يرسمهم أمامنا. وهو لا يتخوّف من أن يتمثّل مجيء الله كمجيء لصّ. نكتشف هنا سمَةً خاصّة من سِمات أمثال يسوع (16: 1- 8: الوكيل الخائن؛ 18: 1- 8: الأرملة والقاضي) تميّزها عمّا نجد لدى الرابّانيين. فصورة اللصّ لا نجدها إطلاقاً في التصوير الإسكاتولوجيّ لدى العالم اليهوديّ.
ما معنى هذا المثل في فم يسوع؟ طبَّقه متّى ولوقا على مجيء ابن الإنسان (وهكذا أيضاً رؤ 3: 3؛ 16: 15)، ولكن هل كانت آ 40 مجموعة مع آ 39 في النصّ الأصلي؟ نحن نعلم من جهة أنّ يسوع يصوّر في أمثاله أوضاعاً لا أشخاصاً. فاللصّ يدلّ في نظره على الخطر الذي يجب أن نواجهه، ولا يمثّل ابن الإنسان. ومن جهة ثانية، إنّ أقدم تفسير نعرفه للمثل (تفسير بولس في 1 تس 5: 2، 4) لايطبّقه على مجيء ابن الإنسان بل على مجيء يوم الربّ (وهكذا أيضاً في 2 بط 3: 10).
يوم الربّ هو موضوع يعرفه سامعو يسوع، وقد استعمله المعلّم مراراً ليدلّ به على الدينونة. "وأمّا ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعرفهما أحد" (مر 12: 32؛ كما 24: 36). "الحقّ أقول لكم: سيكون مصير سدوم وعمورة يومَ الدينونة أكثر احتمالاً من مصير تلك المدينة" (مت 10: 15 وز؛ 11: 22، 24؛ 12: 36). "سيقول لي كثير من الناس في يوم الحساب (الدينونة): يا ربّ، يا ربّ" (مت 7: 22).
وهكذا يمكننا القول إن يسوع أراد أن ينبئ في مثَل اللصّ الوضعَ الخطير الذي يحدثه مجيءُ ملكوت الله. وكما قلنا بالنسبة إلى المثل السابق، رأى يسوع هذا الحدَث أوّلاً في رسالته دون أن يستبعد تمامه النهائيّ الذي ستركز عليه الكنيسة انتباهها بعد الفصح.
إلى من توجّه هذا المثل؟ إن الوجهة الخطِرة لمجيء اللصّ تدلّ على أنّ يسوع فكّر بأناس أخذ منهم النُعاس، فأراد أن يوقظهم ويقيمهم من غفلتهم. هذا هو وضع الشعب السامع له.
5- الوكيل الأمين والوكيل الخائن (آ 41- 48)
إستقى لوقا آ 42- 46 من المَعين الذي استقى منه متّى (24: 45- 51). دوّن بنفسه آ 41، أدخل بعض التفاصيل في خبره، وزاد آ 47- 48.
إذا وضعنا جانباً هذه الزيادات، بدا المثل قريباً من أقوال يسوع الأصليّة: نجد خادماً جُعل على رأس خُدّام آخرين في البيت، جُعل مسؤولاً عنهم. وحين يعود السيّد الذي كان غائباً، سيتفحّص كيف قام هذا العبد بمهمّته، فيكافئه أو يعاقبه.
يوم تلفّظ يسوعُ بهذا المثل، لم تكن الكنيسة موجودةً بعد. فالجموع والتلاميذ الذين سمعوا هذا الخبر طبّقوه على المسؤولين في العالم اليهوديّ. لم يكن تطبيقهم بعيداً عن فكر يسوع الذي أعلن بقوّة دينونة الله ضدّ الكتبة في أيّامه (مت 23: 1- 36؛ لو 11: 39- 52).
علّمتنا أمثال الانتظار أوّلاً النداءَ الذي وجّهه يسوع إلى معاصريه ليتقبّلوا فيه مجيءَ الله، الدينونةَ والخلاص والملك.
منذ الفصح، تنتظر الكنيسة مجيء الله في يسوع المسيح. ونداء أمثال الإنتظار يتوجّه إلينا الآن. فعلينا أن نبقى ساهرين، أن نكون مستعدّين لاستقبال السيد ولتأدية الحساب عن المهمّة التي أوكلَها إلينا.
وهذه المجيئات في الزمن تسير بنا نحو المجيء الأخير والنهائيّ. وإن تفسير لوقا ومتّى قد ساعدنا لنعطي أمثال يسوع كاملَ معناها، ولنفهم أيضاً رجاء الكنيسة المُفْعَم بالفرح والمُنشد: "تعالَ، أيّها الربّ يسوع".

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM