الفصل التاسع عشر: الإهتمام بأمور الأرض

الفصل التاسع عشر
الإهتمام بأمور الأرض
12: 22- 32

إن تكديس الخيرات الأرضية هي طريقة سرابية نحاول بها أن نستعدّ للغد. لهذا، وبعد التنبيه إلى الجموع، إستعاد يسوع المسألة في جذورها خلال حوار حميم مع تلاميذه. طلب من التلاميذ إيماناً قوياً في العناية الإلهية، فجاء كلامه امتداداً لموضوع عرفه العهد القديم (السنة السبتية، لا 25: 2- 7): نتكل على الله الذي يعتني بشعبه. قال الشعب: ماذا نأكل في السنة السابعة إذا لم نزرع ولم نحصد؟ فجاء جواب الله بأنه يبارك السنة السادسة فتعطى غلّة ثلاث سنوات. وبعد أن قال يسوع بالضرورة المادية من طعام ولباس، أعطانا سبباً لعدم اهتمامنا: الله أعطى الحياة وهي أسمى عطاياه، أفلا يستطيع أن يعطي ما تحتاج إليه هذه الحياة؟

أ- نعيش من نعمة الله
هناك مجموعة (12: 13- 53) تتلاحم حول تدخّلين: رجل من بين الشعب طلب إلى يسوع أن يتدخّل من أجل ميراث (آ 13)، وواحد من بين التلاميذ، هو بطرس، يقول: ألنا تقوله هذا المثل أم للجميع (آ 41)؟ ويرتسم الخط الرئيسي بأنّ ما يفسد حكم الإنسان على الأمور يرتبط بما يملك. فالغني الجاهل لم يجعل نفسه موزّعاً لفيض عطايا الله، بل أراد أن تلتقي كل خيرات الله في أهرائه. فالحياة التي يعطيها الله هي ثقة به قبل أن تكون طمأنينة شخصية مليئة بالأنانية. هناك الغني الجاهل (آ 20) ويقابله "الوكيل الأمين" (آ 42) الذي يتصرّف في اتجاه الله.
في آ 22، يتقلّص السامعون. قال يسوع لتلاميذه. هذا يعني أننا لم نعد أمام الجموع (كما في آ 13) التي سمعت مثل الغني الجاهل (آ 16- 21). نجد بعد آ 22 ثلاث وحدات أدبية تصل بنا حتى آ 40. والآيات العشر الأول تقدّم حضاً على الثقة بالله كما في مت 6: 25- 33. إنّ موضوع الوحدة الأولى (آ 22- 28) هو الله الذي يفعل. وتعلن آ 22 عنصرَي هذه الوحدة: الطعام واللباس. وتبرز آ 25- 26 الفكرة المحورية التي تقول: أصل الحياة هو الله. منه قوامها، والإنسان لا يستطيع أن يسيطر عليها. وتتجاوب آ 24 وآ 27. نلاحظ شيئين. "تأمّلوا" الغربان، "تأمّلوا" الزنابق. كل هذا يعارض الإنشغال والإهتمام (آ 25- 26). فالذي يأتي ليتأمّل، لا يبحث كيف يكدّس من أجل نفسه، بل كيف يثق بالحياة التي يعطيها الله: إنه يقوت الغربان (آ 24)، إنه يلبس الزنابق لباساً لم يره سليمان في كل مجده (آ 28).
تعود هاتان الملاحظتان إلى التقليد اليهودي. فالأولى التي تشير إلى الغربان نقرأها في مز 147: 9: "الرب يرزق البهائم طعامها، وفراخ الغربان حين تصرخ". والثانية توجّه أنظارنا إلى عظمة سليمان وغناه، فتعود بنا إلى 1 مل: 15: 4- 7 (رج 2 أخ 9: 3- 6). إذا كانت عظمة الإنسان التي يمثّلها سليمان ليست بشيء تجاه ما تعطيه الحياة، وإذا كانت هذه الحياة مجرّد وعد (تطرح في التنور، آ 28)، فلماذا لا ننتظر كلّ شيء من عظمة الله وقدرته؟ ولكننا لا نتجرّأ على الثقة به فيقول لنا يسوع: "يا قليلي الإيمان" (آ 28)!
وتشكّل آ 29- 34 الوحدة الثانية. هناك مقطوعتان. إن آ 29- 31 (لا تطلبوا... فاطلبوا) ترتبط بما سبق كما في مت 6: 31- 35. أما آ 32- 34 (الله يعطي... أعطوا) فهي توازي مت 6: 9- 21، ما عدا آ 32 التي هي خاصة بلوقا.
تتجاوب آ 31 وآ 33 (ملكوته... كنز في السماوات)، وتختتم آ 34 هذه الوحدة (الكنز، القلب). تدلّ آ 35 بوضوح على الوليمة الاسكاتولوجية فترتبط بالوحدة الثالثة (آ 35- 40) المركّزة على الرب، وعلى ابن الإنسان في مجيئه. في هذه الوحدة الثانية يرد "أبوكم" مرتين،
وكذلك الملكوت الذي هو ملكوته. وتجاهه نجد "القطيع الصغير".
المنظار هو منظار مجموعة تلاميذ يسوع. إذا كان الله في عنايته يعطي كل شيء، فلم يعد من مكان لطلب يُمليه القلق (آ 32). بل يجب أن نبقى متنبّهين للعطاء فندخل في تيّاره. بما أن الآب يعطي الملكوت ويغمر بفيضه ما يرجوه البشر، فالموقف المنطقيّ الوحيد، هو أن نعطي بدورنا بسخاء، بأن نبيع كل مالنا لنعطيه. فقلب الإنسان يكون حيث كنزه يكون. هكذا نعبّر بحياتنا كلها عن فيض الملكوت. هذا هو خيار الفطنة الحكمة، هذا هو خيار الحياة.
وهكذا يدعونا الله ألاّ نهتمّ، فيلفت انتباهنا إلى الخبرة اليومية. فالخليقة تدلّ على أن الله يعطي الطعام (آ 24- 26) واللباس (آ 27- 28). هنا نجد تعارضاً بين الغربان التي لا مخازن لها ولا أهراء، والغني الجاهل الذي يبحث عن موضع يخزن فيه غلاله (12: 17). هنا يرد البرهان مع أداة "بالأحبرى". كم أنتم أفضل من الطيور! كم بالأحرى أنتم. وهكذا ننتقل من الطيور والنبات لكي نصل إلى الكائن البشري.
ويتّخذ يسوع روح المداعبة، فيذكّرنا بأن الإنشغال لم يزد لحظة واحدة على حياة البشر (بل هو يقصّرها). ويتأسّف أن يكون تلاميذه "قليلي الإيمان" (أوليغوبستيا) (هذا هو الإستعمال الوحيد للفظة في لوقا. يستعملها متّى 4 مرّات وهي تقابل لغة الرابانيين: قطني أمانه): فمن شك في حماية الله وعنايته، دلّ على إيمان غير كافٍ. واستخلص يسوع ما يتضمّنه هذا الكلام (آ 29- 32) فشدّد على نقطة واحدة: لا تطلبوا ما تأكلون وما تشربون كما يفعل أولئك الذين يجهلوان الإله الأمين ولا يثقون به. حين نؤمن، نتيقّن أن الله يؤمّن حاجاتنا وهو العارف بها. ونتذكّر أنّ الملكوت هو القيمة السميا التي نبحث عنها (11: 2). فكل ما هو ضروري للحياة يبقى أمراً ثانوياً، والله يعطيه في أي حال. ونلاحظ أيضاً: كما أن موضوع الملكوت يرتبط في صلاة الرب (11: 2) ارتباطاً وثيقاً بعلاقة التلاميذ البنوية مع الله، فحين يأتي هذا الملكوت يكشف الله عن نفسه أنه أبوهم.

ب- تفاصيل النصّ
بعد هذه النظرة الإجمالية، نعود إلى تفاصيل النصّ.
1- تأمّلوا في الغربان (آ 22- 26)
"قال لتلاميذه". نجد يد لوقا في التعبير اليوناني. هناك مخطوطات تغفل الضمير فتكتب: "قال للتلاميذ". لهذا جعلته نشرة نستله ألاند بين قوسين. نلاحظ هنا مقدّمتين، واحدة من يد لوقا (آ 22 أ: "ثم قال لتلاميذه"). وأخرى من المعين (آ 22 ب: "من أجل هذا أقول لكم" رج مت 6: 25).
"من أجل هذا". ترتبط هذه الخاتمة في السياق اللوقاوي بالرجل الغني، بسلوكه ومصيره. هو اهتمّ وأفرط في الإهتمام. أما أنتم فلا تهتمّوا لنفوسكم... نجد هنا توازياً بين النفس والجسد على المستوى الأدبي لا على المستوى الفكري. النفس تعني الحياة، ولهذا يتحدّث النصّ عن الطعام. والجسد يرتبط بالظاهر واللباس. فالله الذي يعطي "الحياة" يرى أن البشر ينالون ما يحتاجون إليه من أجل وجودهم الحاضر. فالطعام واللباس هما في خدمة الحياة. إن الفعل "مارمنان" يعني: أعمل فكره بقلق كما يتضمّن الكدّ والجهد. غير أننا لا نستطيع أن نلغي فكرة الإنشغال.
"أنظروا". جعل لوقا فعل "كاتانوياين": تأمّل، فكَّر. استعمل هذا الفعل في 6: 41 (لا تبصر الخشبة)، 20: 23 (أدرك مكرهم) فدلّ على نوع من المعرفة. استعمل مت 6: 26 في النص الموازي أنظروا. وينطلق البرهان في آ 24 من الأقل إلى الأكثر كما في آ 28: أنتم أفضل من الطيور. ربط الطعام بالطيور (هي تأكل دوماً) واللباس بالزنابق (بجمالها).
ذُكرت "الغربان" هنا ولم تُذكر في مكان آخر في كل العهد الجديد. حوّل مت 6: 26 هذه اللفظة (من خاصة إلى عامة) إلى "طيور السماء" (إستعملها لو 8: 5 في مثل الزارع؛ 9: 58؛ 13: 19). ذكرت الغربان لأنها تصرخ طالبة الطعام (مز 147: 9؛ أي 38: 41). الله نفسه يهتمّ بها مع أنها طيور نجسة بحسب الشريعة (لا يحق لليهودي أن يأكل لحمها، لا 11: 15؛ تث 14: 14). ما زلنا حتى اليوم نحتقرها. وقد عرفها العالم القديم بأنها عديمة الاهتمام حتى بالعودة إلى عشّها. هي لا تزرع ولا تحصد. ثم تُذكر المخازن والاهراء... ولكن خيرات الله الفيّاضة هي المخزن الذي لا ينفذ.
"من منكم"؟ ترد بداية الخبر بشكل سؤال مراراً عند لوقا: "من منكم له صديق" (11: 5)؟ "من منكم يريد أين يبني برجاً (14: 28)؟ "أي ملك يخرج" (14: 31)؟ رج 15: 4- 8؛ 17: 7؛ رج أيضاً 11: 11؛ 14: 5. هذا هو أسلوب تربوي عند يسوع يفرض على السامع جواباً يحرّكه في قلبه. سأله العالم بالناموس: "ماذا يجب أن أعمل لأرث الحياة الأبدية"؟ فسأله يسوع: "ماذا كتب في الشريعة، وماذا تقرأ" (10: 25- 26)؟ إذن على السامع أن يتخذ موقفاً يقوده إلى العمل (لا يكتفي بالنظريات): "إعمل هذا فتحيا" (10: 28). إعمل مثل هذا السامري (10: 37).
من يستطيع أن يزيد على قامته ذراعاً واحدة؟ من يستطيع أن يزيد على حياته لحظة من الزمن؟ ترد لفظة "باخيس" في الأدب القديم فتدلّ على الذراع كقياس للطول (46 سنتم) (رج في السبعينية: تك 6: 15، 16؛ 7: 20؛ خر 25: 9؛ 16: 22؛ رج يو 21: 8؛ رؤ 21: 17). ولكنها تدلّ أيضاً على الزمان فترتبط بلفظة "باخويون". لهذا تردّد الشرّاح. العدد الكبير يفضّل المعنى الزمني عند لوقا، لأن فكرة زيادة ذراع تبدو غريبة. ولكن آخرين تحدّثوا عن القامة. مهما يكن من أمر، فالله هو الذي يطيل عمر الإنسان، أو يعطيه القامة الطويلة أو القصيرة. فالطعام الذي نأكله لا يقوم بالعمل وحده. إستعمل لوقا هنا فعلاً خاصاً، وأخذ بطريقة التعبير من أم 6: 27- 28: "أيحضن الإنسان ناراً ولا تحترق بالنار ثيابه؟ أو يدوس كومة من الجمر ولا تكتوي بالجمر قدماه"؟ هكذا من يزور...

2- تأمّلوا في الزنابق (آ 27- 32)
قال لوقا: "الزنابق". أما مت 6: 28 فزاد "في الحقل". هناك تشديد على بياض بهي، على لباس ملوكي. ومع ذلك، فهذه الزهرة لم تفعل شيئاً ليكون لها هذا الجمال.
"كيف تنمو! لا تشتغل ولا تغزل". نحن قريبون جداً من مت 6: 28. قد يكون متّى ولوقا تبعاً المعين بدقة، وقد يكون النسّاخ حاولوا أن ينسّقوا بين متّى ولوقا. ولكننا نجد نصّ لوقا في بردية 45، بردية 75، في الفاتيكاني والسينائي والاسكندراني. هذا يعني أن التشابه بين متّى ولوقا قديم جداً في هذا النصّ.
"فإذا كان العشب". لقد حوّل يسوع الزنبق بجماله إلى "عشب" من أجل برهانه: من القليل إلى الكثير. هنا نتذكّر ما قيل عن العشب الذي يزول سريعاً. في أش 37: 27: "سكانها كعشب الحقل... الذي تلفحه الريح قبل نموّه". وفي 40: 6- 7: "كل بشر عشب وكزهر الحقل بقاؤه. ييبس ويذوي مثلهما". وفي أي 8: 12؛ مز 37: 12 (يذبلون كالعشب الأخضر)؛ 90: 5- 6؛ 102: 12؛ 103: 15. لقد اتخذت الصورة منعطفاً جديداً فشدّدت على عناية الله حتى بعشب الحقل.
"يا شعباً قليل الإيمان". نجد هنا تشديداً على من لا يثق بأن الله يستطيع أن يعطيه ما هو ضروري لحياته المادية.
قال لوقا: لا تطلبوا (آ 29). أما مت 6: 31 فقال: "لا تهتمّوا". ثم زاد: "لا تقلقوا" (لا شيء في مت 6: 31 يقابل هذا الفعل). هل ألغى ما وُجد في المعين؟ أم أن لوقا استعمل هذا الفعل ليشدّد على موقف قد نقفه من خيور الأرض؟
"أمم هذا العالم". أي: الوثنيون، أي: الذين لا يعرفون الله. رج 1 تس 4: 5: "لا ينقاد لتيّار الشهوة كالوثنيين الذين لا يعرفون الله". هذا "الركض وراء" الطعام والشراب، يخلق القلق في حياتهم ويفقدهم السلام الداخلي.
"أبوكم". هو الله بعنايته السماوية. هو أبو يسوع (2: 49) الذي نكون رحماء مثله وهو أبونا (6: 36). يتحدّث 9: 26 عن "مجد الاب" و 11 2 عمن نقول له: "أيها الآب، ليتقدّس اسمك". ويعلن لنا يسوع في 11: 13 عن "أبوكم السماوي الذي يمنح الروح القدس لمن يسأله" (رج 22: 29؛ 24: 49). ولكننا قد ننسى هذا الآب (رج هو 9: 1- 4).
يتحدّث لوقا عن "ملكوته" (ملكوت الاب، آ 31). ويزيد مت 6: 33: "وبرّه". قال: "أطلبوا أولاً ملكوت الله وبرّه"، أي انتظروا خلاصه (رج مت 5: 6)، واعملوا من أجل الخلاص بحسب مشيئة الله. وهكذا حرّض يسوع تلاميذه على أن يجعلوا ملكوت الله يشرف على حياتهم، فيمتد تأثيره في العالم. قبل ذلك، علّمهم الصلاة لكي "يأتي" هذا الملكوت (11: 2). والآن، ها هو يشدّد على تراتبية القيم. كل من طلب هذا الملكوت، نال من الله ما يحتاج إليه من أجل حياته المادية.
"لا تخف" (آ 32). يتكرّر هنا التأكيد الذي عرفناه في العهد القديم. وأبرزه لوقا مع زكريا (1: 13)، ومع الرعاة (2: 10)، ومع بطرس بعد الصيد العجيب (5: 10)، ومع يائيرس (8: 50؛ رج أع 18: 9؛ 27: 24). هذا الإطمئنان يُعطى للقطيع رغم صغر حجمه: هم كخراف بين ذئاب (10: 43؛ رج أع 20: 29). أما عبارة "القطيع الصغير" فنجدها في أش 41: 14 (كما في السبعينية): "يعقوب، يا أصغر إسرائيل، سوف أساعدك" (نجد في العبرية معنى آخر). في هذا القول، تسلّمت جماعة تابعي يسوع الصغيرة وعداً بعطية الله الكبرى.
"أن يعطيكم"، أن يسلّمكم الملكوت. أي: يجعلكم تشاركون فيه. إن عطية الملكوت هي صدى لما في دا 7: 13- 14، حيث يدعو "ابن الإنسان" بالملكوت (القديسون في شعب الله). والآن، صار هذا الملكوت "ميراث" تلاميذ يسوع. هنا نتذكّر 22: 29- 30 حيث يمنح يسوع نفسُه ملكوته لتلاميذه: "أنا أعدّ لكم الملكوت كما أعدّه أبي".

ج- تفسير النصّ
في هذه النقطة من خبر صعود يسوع إلى أورشليم، يميّز يسوع تلاميذه عن الجمع ويوجّه كلامه إليهم. أما موضوع هذه الأقوال فهو القلق والانشغال حوله أمور الأرض. إنها بداية نصائح مختلفة تتوافق مع باقي الفصل. إن هذه المجموعة من الآيات (آ 22- 32) هي تفسير لمثل الغني الجاهل.

1- تأليف النصّ
إن آ 22 أ هي انتقالة ألّفها لوقا. أمّا الأقوال في آ 22 ب- 31 التي ترجع إلى المعين، فقد توجّهت لا بشكل خاص إلى التلاميذ. بل إن التلاميذ سبق وألّفوا وحدة، وإن يكن من الصعب أن نقول إنهم اجتمعوا كلهم معاً في مناسبة واحدة. إن ما يوازي هذه الأقوال نجده في مت 6: 25- 33، في خطبة الجبل. إن لفظة "واصلة" (اهتم، في آ 22 ج، 25، 26) هي المسؤولة عن وحدة القطعة، وتشرف على استعمال لوقا لهذه الأقوال (آ 11- 12). كانت آية (مت 6: 27- لو 12: 25) قد أقحمت في المعين. إنها تمثل قولاً مستقلاً، ولكنها ارتبطت بالوحدة بسبب اسم الفاعل (مهتماً) الذي لا يتعلّق بالطعام ولا باللباس. وقد حوّل لوقا آ 26 التي تختلف اختلافاً كبيراً عن مت 6: 28 أ. وقام لوقا بعد هذا ببعض التحوّلات التدوينية، أهمها: أسقط الضمير مرتين في آ 2. قال مت 6: 25: "لا تهتموا لنفسكم بما تأكلون، ولا لجسدكم بما تلبسون". قال لوقا: لا تهتموا للنفس ولا للجسد. ثانياً: جعل الفعل "تأمّل" (كاتانوراين) في آ 24، 27. إستعمل "لا تقلقوا" في آ 29. وفي النهاية، زاد آ 32 المرتبطة بالمسيح القائم من الموت والواعد بالخلاص.
نجد شكلاً عن آ 22 في "إنجيل توما" القبطي (عدد 36): "قال يسوع: لا تهتمّوا من الصباح إلى المساء ومن المساء إلى الصباح بما أنتم مزمعون أن تلبسوا". هناك شكل لهذا القول نجده في نصّ يوناني قديم لهذا الإنجيل عينه. "قال يسوع: لا تهتموا من الصباح إلى المساء ومن المساء إلى الصباح، بقوتكم، بما تأكلون، بلباسكم، بما تلبسون. أنتم أثمن من الزنابق التي تنمو ولا تغزل، ولا ثياب لها. وأنتم، ماذا ينقصكم؟ من منكم يستطيع أن يزيد على قامته ذراعاً واحدة؟ فهو يعطيكم لباسكم". إن الشكل القبطي أقصر من الشكل اليوناني. وهذا الأخير هو تكثيف لنصّ لوقا (12: 22- 27 أ) أو متى (6: 25- 28). أما الشكل القبطي فهو بالأحرى اختزال لنصّ لو 12: 22 وحده.

2- الوجهة النقدية
إذا نظرنا إلى هذه الأقوال من الوجهة النقدية، نرى أنها نصائح "نبوية" حول الإهتمام بالطعام والشراب واللباس. وبعضها مطبوع بطابع التوازي على مثال الشعر (آ 22 ج، د، 23). والبعض الآخر مطبوع باستعمال الأمر (آ 22، 24، 27، 29، 31، 32) يتبعه تفسير أو شرح.
إِن هذه الأقوال (آ 22 ب- 31. تشكّل مجموعة) ترشد التلاميذ إلى نظرة صحيحة وأساسية حول حياتنا على الأرض، حول الطعام واللباس. جاءت مباشرة بعد التحذير من كل أشكال الطمع (آ 15) ومثل الغني الجاهل (آ 16- 21)، فقدّمت نظرة أخرى إلى أملاك الأرض: أطرد كل قلق حول الطعام واللباس. إعرف أن الحياة هي أعظم من حاجات الإنسان اليومية. أخذ يسوع من محيطه تفاصيل حية لكي يبرز هذه النقطة: كن حرّاً مثل الغراب، مثل الزنبق، مثل عشب الحقل. هي تنمو ولا تنشغل لأن الله نفسه يهتمّ بها. فالغربان لا مخازن لها ولا أهراء. والزنابق لا تغزل ولا تنسج، والعشب ينمو بسخاء. وهناك مقابلة مع ملك إسرائيل والوثنيين: فالزنابق أبهى من سليمان في أبهى حلله. والطعام والشراب يسعى إليهما الوثنيون. من أنتم بالنسبة إلى كل هذا؟ إن تلاميذ المسيح أهمّ من كل هذا.
والذروة في هذا التحريض ترد في آ 30 ب- 31: يعرف أبوكم السماوي أنكم تحتاجون إلى هذه الأشياء. "بل أطلبوا ملكوت الله، وهذه الأشياء تعطى لكم زيادة". هناك أولوية في القيم في 11: 2 تعلّم التلاميذ أن يصلّوا: "ليأتِ ملكوتك". والآن تعلموا أنهم يشاركون فيه بشكل خاصّ.
وتبرز آ 25- 26 هذه النقطة: إن الإنشغال لا يزيد لحظة على حياة الإنسان. إذا كان الإنسان لا يستطيع أن يؤمّن "شيئاً صغيراً"، فلماذا ينشغل بالباقي. ما يوجّه حياتنا هو الإهتمام بالله وبملكوته. والاهتمام بأمور الأرض هو حاجز في طريق البحث عن الملكوت وعن خدمته.
وزادت آ 32 نصيحة أخرى إلى "التلاميذ"، إلى "القطيع الصغير"، إلى الجماعة المسيحية في صراعها. من أجل الوحدة والتماسك. أكّد لنا يسوع أنها تتجاوز كل خوف رغم حجمها الصغير. هنا نتذكّر الإجمالتين في أع 2: 42- 47 و4: 32- 35، وحدث حنانيا وسفيرة (أع 5: 1- 10) وتأثيره في الجماعة. إن كلمة يسوع حسبت حساب تشتّت الجماعة بعد موته، ولكنها وعدت بالمشاركة في الملكوت.

خاتمة
إن التعليم حول موقفنا تجاه خيرات هذا العالم يجد ذروته في نصيحة جذرية وملموسة أعطيت للتلاميذ: بيعوا ما تملكون وأعطوه صدقة. هذا ما عاشته الجماعة المسيحية الأولى. نحن هنا أمام نصيحة، لا أمام قاعدة (أع 5: 4). فمن أعطى أمواله للفقراء (سواء أعطاها كلها أو قسماً منها) إغتنى من أجل الله، إغتنى بالله، كوّن لنفسه كنزاً لا ينفد. بل نال الجزاء الأبدي. ولكن ما يطلبه المؤمن قبل كل شيء هو الملكوت. هذا هو القيمة الوحيدة. والباقي يُزاد لنا

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM