الفصل الحادي والعشرون: مجيء المسيح سبب خلاف بين البشر

الفصل الحادي والعشرون
مجيء المسيح سبب خلاف بين البشر
12: 49- 53

إن أقوال يسوع الثلاثة التي تؤلّف هذه المقطوعة (آ 49، 50، 51- 53) ترتبط بسِمة مشتركة قلّ ما نشهدها في الأناجيل الإزائية: إن يسوع يقدّم هنا في كل مرة وجهة من رسالته متحدّثاً في صيغة المتكلّم المفرد: جئت أنا، كم أتمنى أنا!
هل تلفّظ بهذه الآيات الخمس مرة واحدة؟ هذا ما ليس بثابت. فقد جمع التقليد الإنجيلي مراراً أقوالاً تعود إلى أصول مختلفة. سنتفحّص فيما بعد من أين جاءت هذه الأقوال. ولكن لوقا يقدّمها معاً في سياق وشكل يلقيان بعض الضوء على طريقة تفسيره لها.
هذا ما يدلّنا على الأسلوب الذي نتبعه في درسنا. نبحث اولاً عن المعنى الذي أعطاه لوقا لأقوال يسوع. ونحاول ثانياً بأن نعود إلى النصوص لنكتشف فكر يسوع نفسه.

أ- تفسير لوقا
1- السياق
إن المفتاح الأول الذي يقدّمه لنا لوقا لكي ندخل إلى المعنى الذي أعطاه لأقوال يسوع هو السياق الذي يقدّمها فيه. فهو وإن اكتفى باتباع الترتيب الذي وجده في مرجعه (وهو واقع يصعب علينا التثبّت منه) فهو يأخذ على عاتقه هذا الترتيب ويقدّم تفسيره الخاص بالنصّ.
يقدّم الإنجيل الثالث المقطوعة التي ندرس في الجزء الأول من صعود يسوع إلى أورشليم (9: 51- 13: 21). هذا الجزء الموجّه منذ البدء إلى آلام يسوع وتمجيده (9: 51) أورد على التوالي رسالة التلاميذ السبعين (9: 52- 10: 24)، وعدّة تعاليم عن المحبّة وسماع الكلمة والصلاة (10: 25- 11: 13)، وجدالات مع خصوم يسوع (11: 14- 53)، وتعليمات إلى التلاميذ (توجّه يسوع إلى الجمع في 12: 13- 21 ثم عاد إلى التلاميذ في 12: 22) عن دورهم كشهود، عن استعمال خيرات هذا العالم، عن انتظار عودة الرب (12: 1-12، 13- 34، 35- 48). في هذا المكان تقع المقطوعة التي ندرس (12: 49- 53). بعد هذا يتوجّه يسوع إلى الجموع ليقول لهم إن عليهم أن يتّخذوا موقفاً سريعاً أمام علامات هذا الزمان (12: 54- 13: 9).
وهناك إشارتان تدلاّن على أن لوقا يربط هذا المقطع بالسياق السابق لا اللاحق. من جهة يوجّه الكلام إلى تلاميذه لا إلى الجموع الذين سيلتفت إليهم فيما بعد (آ 54). ومن جهة ثانية يفترض بعض المعرفة لرسالة يسوع ويتطرّق إلى المتطلّبات المفروضة على الذين يريدون أن يتبعوه. أما في 12: 54- 13: 9، فالسامعون لم يتخذوا بعد موقفاً أمامه.
2- تفسير نصّ لوقا
أولاً: إن كلمة يسوع الأولى تحدّد رسالته (آ 49): جاء يلقي على الأرض ناراً وهو يرغب رغبة حارة بأن تشتعل هذه النار. هذا يعني ان النار لم تبدأ بعد. هناك من يترجم: "ماذا أريد إلاّ أن تشتعل"؟ أو: كم أريد أن تكون قد اشتعلت (منذ زمان)!
لقد استعمل العهد الجديد مراراً صورة النار ليدلّ على دينونة الله في التاريخ (تك 19: 24؛ خر 9: 24؛ لا 10: 2؛ 2 مل 1: 10، 12؛ عا 1: 4، 7، 10، 14) كما في نهاية الأزمنة (أش 66: 15- 16؛ حز 38: 22؛ 39: 6؛ ملا 3: 19). ولا تكتفي هذه النار بأن تحرق الهالكين والمحكوم عليهم، بل تطهّر أيضاً البقية المؤمنة (أش 1: 25؛ زك 13: 9؛ ملا 3: 2- 4).
يورد لوقا اقوالاً يدلّ فيها يسوع على العقابات الإلهية في الماضي: النار التي أشعلها إيليا (2 مل 1: 10، 12= لو 9: 54)، تدمير سدوم (تك 19: 24= لو 17: 29). ويُبرز أيضاً تهديدات يوحنا المعمدان الذي يعلن دينونة الأشرار بالنار (3: 9- 17). وهو قريب جداً من الآية التي ندرس في 3: 16 حيث يتحدّث يوحنا المعمدان عن شخصية ذلك الذي يسبقه: "إنه يعمّد في الروح القدس وفي النار".
كيف يفهم لوقا النار التي جاء يسوع يضعها على الأرض؟ لقد قُدّمت تفاسير عديدة لكلمة يسوع هذه. فكر بعضهم بالخلاف بين البشر الذي تثيره كرازة المعلم. يستند هذا الافتراض إلى الآيات اللاحقة (آ 51- 53). ولكن لوقا لم يفكّر يوماً أن يسوع رغب في مثل هذا الخلاف. وفكر آخرون بنار الدينونة الاسكاتولوجية حسب معنى الصورة عند الأنبياء وأصحاب كتب الرؤى. ولكن لوقا يشدّد على تيار يعارض الاسكاتولوجيا القريبة (17: 23؛ 19: 11؛ 21: 8- 9؛ أع 1: 6- 7). أتراه يقبل بأن يرى عدم الصبر إلى هذا الحد عند يسوع وخاصة في خبره عن العنصرة؟ إن لوقا يقدّم موهبة الروح في صورة النار (أع 2: 3، 19)، وقد يكون فكّر فيها في 3: 16. رأى في الروح القدس موهبة ربّ القائم من الموت إلى كنيسته (24: 49؛ أع 2: 33) بانتظار الإكمال الاسكاتولوجي (أع 1: 6- 8). يمكننا أن نظنّ أن يسوع، في نظر لوقا، ينتظر موهبة الروح كنهاية رسالته على الأرض.
بدا يسوع أمام اشتعال العالم الذي يتطلّع اليه كهدف لمهمّته، بدا كله مشدوداً في انتظار حار. هذه معطية مهمة عن وعي المسيح لرسالته.
ثانياً: إن كلمة يسوع الثانية تقابل بين النار التي جاء يشعلها وبين المعمودية التي سيقبلها (آ 50). الكلمات الأولى من هذه الآية تجد ما يوازيها في مر 10: 38 (المعمودية التي سأتعمّد بها). لا نجد شاهداً في اليونانية عن الإسم "بابتسما" (معمودية) إلاّ في العهد الجديد. لا نجده في السبعينية ولا في أي نصّ دنيوي سابق لهذا العصر. قد يكون كتّاب العهد الجديد وجدوه في لغة عصرهم. الأمر ممكن. أما العهد الجديد فلا يستعمل هذه اللفظة إلا عند الغسل الطقسي، ما عدا في هذا المقطع: معمودية يوحنا المعمدان (مر 1: 4 وز؛ 11: 30 وز؛ مت 3: 7؛ لو 7: 29؛ أع 1: 22؛ 10: 37؛ 13: 24؛ 18: 25؛ 19: 3- 4) والمعمودية المسيحية (روم 6: 4؛ أف 4: 5؛ كو 2: 12؛ 1 بط 3: 21). أما هنا، فإن لوقا لا يتطلّع إلى طقس سيخضع له يسوع. إنه يأخذ كلمة "بابتسما" في المعنى الاشتقاقي "تغطيس"، ويفهمه كاستعارة.
ولكن أي معنى أعطى لوقا لهذه الصورة؟ يتّفق مجمل الشرّاح على أن يجدوا فيها إنباء بالآلام، ولكن الأسباب التي تدفعهم إلى هذا القول هي مختلفة. البعض يفسّر لوقا على ضوء مر 10: 38 (ولكن، لماذا لا يكون للوقا تفسير مختلف عن مرقس؟). واستند آخرون إلى مختلف المعاني التي يعطيها التقليد لكلمة "تغطيس": الأول، الموضوع البيبلي عن مياه المحنة (مز 42: 8: أمواجك عبرت عليّ؟ 69: 2- 3، 13- 15؛ 124: 4- 5؛ 144: 7؛ أش 43: 2؛ نش 8: 7). الثاني معنى الحكم (الدينونة والقضاء) بالماء (عد 5: 11- 31) الذي يوازي الدينونة بالنار التي أشارت إليها الآية السابقة (رج 17: 26- 27، 28- 29؛ 2 بط 2: 5، 6؛ 3: 5- 6 و7). ولكننا لا نجد هذا التوازي في العهد القديم حيث الدينونة الاسكاتولوجية تتمّ بالنار لا بالماء. الثالث، غطس دم الآلام، معمودية يسوع، إعلان موته من أجل غفران الخطايا. ولكن لوقا لا يربط ربطاً واضحاً موت يسوع بمعموديته ولا بغفران الخطايا. ويفضّل آخرون التوقف عند نصّ لوقا. يلاحظون أن نهاية الآية تقدّم معمودية يسوع على أنها محنة، وأن المقابلة بين آ 49 و50 تجعل من هذه المعمودية مقدمة للنار التي جاء يسوع يشعلها. هذه الملاحظات الأخيرة تبدو أقرب إلى الواقع لتحدد فكر لوقا: إنه يتطلّع هنا إلى الآلام كمدخل ضروري لعطية الروح التي أنبأ بها 12: 49. وسيقول الشيء عينه وفي شكل مشابه في 17: 24 و25 (مجيء ابن الإنسان، قبل ذلك يتألم؛ رج 24: 26: يعاني الآلام ثم يدخل في مجده).
لا يستطيع لوقا أن يتلفّظ باسم المعمودية دون أن يفكر بتلك التي تستقبل المعمّدين الجدد في أيامه. إنه ينسب إلى هذا الطقس عطية الروح (أع 2: 38؛ 9: 17- 18) وغفران الخطايا (أع 2: 38؛ 22: 16). ولكنه في السياق الحاضر يفكر بعطية الروح. وليس بمستبعد انه، حين جعل من المعمودية صورة عن آلام المسيح، أشار إلى فكر بولس عن العماد المسيحي في موت المسيح (روم 6: 3- 4؛ كو 2: 12؛ رج أف 5: 25- 26). ولكن، بما انه لا يقدم هذه الفكرة في أي مكان من مؤلّفه (لو+ أع) فلا نستطيع أن نكون أكيدين من هذه الفكرة.
ويجعلنا يسوع نستشفّ المكانة التي يمثّلها في حياته هذا العماد الذي سيقبله (آ 50 ب). رأى الشرّاح في هذه الجملة اللوقاوية (خاصة بناء فعل اخاين مع المصدر واستعمال فعل سوناخاين) تعبيراً عن قلق يسوع، بل عن ضيق قلبه. ولكن حين يستعمل لوقا فعل "سوناخاين" فهو يستعمله في صيغة المعلوم كما في السبعينية اليونانية، ليدلّ على الضغط والإكراه الخارجي (8: 45: الناس يزحمونك ويضايقونك، 19: 43؛ 22: 63؛ أع 7: 57). ويستعمله في صيغة المجهول ليشير إلى سيطرة المرض (4: 38: الحمى؛ أع 28: 8) أو الخوف (8: 37) أو الكلمة الإنجيلية (أع 18: 5). إذن، يريد لوقا أن يقول إن يسوع وجد نفسه أمام واجب يُفرض عليه بصورة ملحّة. وهذا الإعلان يساوي ذاك الذي أنبأ فيه يسوع أنه "يجب على ابن الإنسان أن يتألّم". ترد هذه العبارة مراراً عند لوقا. في الانباء الأول بالآلام (يجب على ابن الإنسان أن يتألم، 9: 22)، في الحديث عن مجيء ملكوت الله (17: 25)، قبل الذهاب إلى جبل الزيتون (يجب أن تتم هذه الآية، 22: 37)، وفي ظهورات القيامة (24: 7، 26، 4).
ثالثاً: إن هذه النظرة المأساوية تلقي الضوء على الآيات الثلاث الأخرى في المقطوعة التي ندرس (آ 51- 53= مت 10: 34- 36). بدأ يسوع فهاجم إحدى الالتباسات حول المسيحانية الزمنية عند معاصريه (آ 51). لقد أعلن الأنبياء مراراً زمن المسيح على أنه زمن السلام (أش 9: 5- 6؛ 11: 6- 9؛ 23: 17- 18؛ مي 5: 4؛ حز 24: 23- 30؛ 37: 24- 26؛ زك 9: 9- 10). ولوقا هو الذي دلّ بين الإنجيليين على يسوع حامل السلام (1: 79؛ 2: 14؛ 7: 50؛ 10: 5؛ 19: 38، 42؛ 24: 36، نصوص خاصة بلوقا). ولكن الأنبياء ندّدوا أيضاً بالأنبياء الكذَبَة الذين يعدون الناس بسلام سهل لا متطلّبات دينية فيه (مي 3: 5- 8؛ إر 6: 14؛ 8: 11؛ 14: 13- 16؛ 23: 16- 22؛ 28؛ حز 13: 8- 16). فالله لا يمنح سلامه الحقيقي إلاّ للذين يلبّون بصدق نداءه.
ان يسوع لا يحمل السلام إلاّ للذين يقبلونه في الإيمان. ولهذا يستطيع أن يقول إنه يحمل السلام كما يحمل الخلاف والانقسام. ويقول نصّ مت 10: 34 الموازي لنصّ لوقا: "ما جئت أحمل سلاماً بل سيفاً". وهذه الصورة الملموسة قد تكون تعبيراً أصلياً تفوّه به يسوع. لا يتردّد لوقا أن يتحدّث عن السيف في 2: 36 (هو ارتباط مع 22: 49: أنضرب بالسيف؟)، ويفضل ان يوضح هنا معنى الصورة التي استعملها يسوع. فهو غالباً ما يهتم بأن يبين في مؤلّفه أن يدل على الخلاف الذي يحدثه الإيمان أو اللاإيمان في إسرائيل أمام الإنجيل: منذ قول سمعان الشيخ (2: 34- 35، وفيه حديث عن السيف) إلى خاتمة سفر الأعمال.
والآن يعلن يسوع الخلاف داخل كل بيت (آ 52). يستعيد لوقا أولاً في عبارة عامة الأشخاص الذين يتواجهون في الآية التالية: الأب والأم (= الحماة) من جهة، الإبن والإبنة والكنّة من جهة أخرى. يخفّف لوقا من قساوة مت 10: 53 الذي يقوله إن يسوع هو الذي يضع الخلاف في العائلات.
يفكر لوقا في وضع اضطهاد حيث تقبّل الشاب الإنجيل وحافظ والداه على الديانة التقليدية (رج 21: 16: "سيسلّمكم والدوكم"). بعد هذا، يفصّل التعارضات داخل العائلة الواحدة في شخصين يتقابلان (آ 53). تقابل عبارته عبارة مت 10: 35 القريبة إجمالاً من مي 7: 6. لقد عرف لوقا نتائج الإنجيل المؤلمة وبيّن أن على التلميذ أن يجعل تعلّقه بسيده يمرّ قبل واجباته العائلية (9: 59- 62؛ 14: 26؛ 18: 29). وهو يبرز في السياق الحاضر التمزّق الذي يسبّبه "منذ الآن" الإيمان بيسوع المسيح.
3- المعنى العام لمقطوعة لوقا
تدلّ آ 52- 53 على أنّ لوقا يفكّر في حياة تلاميذ يسوع العائشين في كنيسة عصره. بما أنهم آمنوا بيسوع، فعليهم أن يضحّوا بعلائق عزيزة على قلبهم.
وبيّنت الآيات السابقة في رسالة يسوع أساس هذا التخلّي المؤلم. وإذا كان الرب يقدر أن يفرض على أخصائه مثل هذه المتطلّبة، فلأنه يحمل إليهم عطيّة الروح (آ 49). ولأنه امتلأ هو أيضاً من مهمته حتى الموت (آ 50). وفي النهاية، إن السلام الذي يحمله ليس طمأنينة سهلة يحلم الناس دوماً أن يقيموا فيها: إنه سلام ملكوت الله. ونحن لا ندخل اليه إلاّ بالصليب (آ 51).
إنّ فكرة لوقا هذه تتوافق كل الموافقة مع فكرة يسوع كما نجدها في الإنجيل. ولكنها تطبّق كلمات المعلم على وضع يختلف عن السياق الأصلي. مثلاً، قد خفّف الإنشداد الاسكاتولوجي. لهذا يجب علينا أن نبحث عن شكل ومعنى كلمات يسوع حين توجّه إلى تلاميذه.

ب- نحو تعليم يسوع
هناك إشارات عديدة تدلّ على أنّ مختلف عناصر مقطوعة لوقا كانت في الأصل مستلّقة بعضها عن بعض. من جهة، نجد الواحدة مفصولة عن الأخرى عند متّى ومرقس. إن آ 50 تجد ما يوازيها في مر 10: 38، وآ 51- 53، في مت 10: 14- 36. ومن جهة ثانية، تدل آ 49 وآ 50 على ردّة الفعل الشخصية لدى يسوع تجاه رسالته. لا نجد هذه الوجهة في نصّ مر 10: 38 الموازي للآية 50 التي قد تكون دؤنت بيد لوقا. ثم إن آ 51- 53 تحدّد بالأحرى نتائج هذه الرسالة بالنسبة إلى تلاميذ المعلّم.
إذن، يجب أن نتفحّص الآن كلاً من هذه الأقوال في ذاتها لنتعرّف، إذا أمكن، إلى شكلها الأصلي (أي: مبناها)، ونثبت صحتها إلى يسوع ونطلب المعنى الذي أراد يسوع أن يعطيه لها.
1- جئت لألقي ناراً على الأرض (آ 49)
لا نجد هذا القول لا عند متّى ولا عند مرقس. نجد نصّاً موازياً في إنجيل توما، 10. ولكن هذا النصّ يرتبط بلوقا كما بين ذلك شورمان الألماني. لغة القول سامية بلا شك، وهي لا تدلّ على أي من الخصائص اللوقاوية. ومقابل هذا، هو قريب من مختلف أقوال يسوع، أولاً بالتعبير: "جئت". رج مر 2: 17 وز؛ مت 5: 17؛ 10: 34- 35؛ رج مر 10: 45 وز؛ مت 11: 19 وز؛ لو 19: 10. أعلن بولتمان أننا لا نستطيع أن نعترض اعتراضاً مبدئياً على واقع يعتبر أنّ يسوع لم يتكلّم عن نفسه أو عن رسالته في صيغة المتكلّم المفرد (جئت أنا)، غير أنه يشكّ في صحة نسبة هذه الأقوال إلى يسوع. ولكن فان يرسال يعترض على هذه الطريقة في الحكم على أقوال يسوع. وهناك أيضاً صورة النار القريبة من أقوال يسوع وصورة الإنشداد الاسكاتولوجي. ولهذا، يقول أكبر عدد من الشرّاح بصحة نسبتها إلى يسوع.
واستعمل يسوع أيضاً صورة النار في مر 9: 49: "كل واحد يملَّح بالنار أو يملّح من أجل النار (وكأنه ذبيحة)". وهناك اختلافة تقول: "كل ذبيحة تملّح بملح". هذه الإختلافة هي بمثابة تفسير يرتبط بسفر اللاويين (2: 13: كل قربان تملّحه بالملح)، وقد وضعت مثلاً في بعض الترجمات مع أنها زيادة. فالنار التي تملّح هي العقاب الذي يصيب الخاطئين فيحفظهم ليوم الغضب، أو النار التي تطهر المؤمنين (محنة، دينونة الله) لتجعل منهم ذبائح يرضى عنها الله. نسب حز 16: 4 و2 مل 2: 20 الى النار قيمة مطهّرة. يقول 1 بط 1: 6- 7 في هذا المعنى: "أنواع المحن التي تمتحن إيمانكم كما تمتحن النار الذهب" (رج 4: 12).
ونجد قولاً ليسوع، قد يكون صحيحاً، أورده أوريجانس: "من هو قريب مني قريب من النار. من هو بعيد عني بعيد عن الملكوت". نجد هذا القول أيضاً في إنجيل توما، 82. ونجد أيضاً الصورة عينها في القول عن الملح في مت 5: 13 وز (أنتم ملح الأرض) إذا أخذنا بالإفتراض الذي يرى في الملح مادة تجتذب النار إليها.
وحين ينسب يسوع إلى نفسه مهمة القاء النار على الأرض، فلا يعقل أنه ينبئ بعطيّة الروح: إنه لا يدلّ على الروح ابداً بواسطة هذه الصورة. ولا يستطيع أيضاً ان يحدّد مهمته بتدشين نار جهنّم التي يتكلّم عنها مراراً (مر 9: 38، 48 وز؛ مت 5: 22؛ 7: 19؛ 13: 40، 42، 50). يبقى أنه يفكّر في نار الدينونة الاسكاتولوجية مع نتيجتيها: نار تنقّي ونار تعاقب.
2- لي معمودية أقبلها (آ 50)
إن القسم الأول من هذه الآية اللوقاوية يجد ما يوازيه في مر 10: 38 ب مع البناء نفسه: أتعمّد بمعمودية. وبما أنّ القسم الثاني من الآية اللوقاوية مطبوع بأسلوب الإنجيلي الثالث، نظن انه دوّن ليكون موازياً مع آ 49 وآ 50. غير أن مر 10: 38 يبيّن ان العبارة الأوّلانية ترجع إلى تقليد قديم، إلى المسيح نفسه بسبب طابعها الملموس والابتكار الذي تتحلّى به.
أي معنى أعطى يسوع نفسه لمعموديته؟ من الواضح أنه لم يكن يفكّر بطقس من الطقوس. المعمودية هي في نظره صورة. ظنّ كثيرون انه يتحدّث عن موضوع مياه المحنة. ولكن العهد القديم لا يتكلّم أبداً عن المعمودية في هذا المعنى. ولا يُعقل أنه أراد أن ينبئ بدينونة، كما قالت فئة أخرى، لأن العهد القديم يمثل الدينونة بالنار أكثر منه بالماء.
وبالنسبة إلى يهودي في زمن المسيح، تدلّ المعمودية على الغسل الطقسي (الوضوء) والتطهير. وكلنا يعرف الأهمية التي يعلّقها يسوع على الطهارة الحقة، على غفران الخطايا. وإن المسيحية الأولى ربطت هذا الغفران بموت يسوع (1 كور 15: 3؛ غل 1: 4؛ روم 3: 25؛ 8: 3؛ مت 26: 28) فسبقها يسوع في هذا الخط مصوّراً موته على صورة موت عبد الله في أشعيا. إذن، قد يكون تصوّر هذه المعمودية (وبالتالي هذا الموت) كتطهير تمّ بيده من أجل شعب الله.
3- إنقسام داخل الأسرة (آ 51- 53)
إن آ 51- 53 تجد ما يوازيها في مت 10: 34- 36. ولها ما يقابلها مقابلة بعيدة في مر 13: 12 وز (سيسلم الأخ أخاه إلى الموت؛ رج مت 24: 9؛ لو 21: 16). إن نصّ لوقا ومتّى قريب من نصّ مي 7: 6 اليوناني. ويبيّن الأب دوبون كيف أنّ نصّ مرقس يعود إلى القول عينه مثل مت 10: 35- 36، ولكنه يبتعد عنه ليتكيّف وقرائن النصّ. أما نصّ إنجيل توما (عدد 16) الموازي فهو يرتبط في بدايته بإنجيل متّى وفي نهايته بإنجيل لوقا.
يختلف لوقا (آ 51- 53) عن متّى (15: 34- 36) اختلافاً واسعاً. غير أنهما قريبان بما فيه الكفاية ليتأسّسا على مي 7: 6. لقد لاحظنا أعلاه التصليحات التي قام بها لوقا بالنسبة إلى نصّ متى. ويقول الشرّاح إن نصّ متّى أقرب إلى كلمات يسوع بقساوة تعبيره، بأمانة أكبر لنصّ ميخا، وخاصة لأن هذا النص يقدّم موضوعاً يرد مراراً في عالم الرؤى اليهودية.
إن ثورة الأبناء على والديهم التي يصوّرها ميخا وكأنها آفة عصره، هي في نظر اليهودي الفوضى الكبرى. ويرى فيها النبي ملاخي الشرّ الذي سيأتي إيليا ليزيله "قبل أن يجيء يوم الرب العظيم الرهيب" (ملا 3: 24؛ رج سي 48: 10؛ لو 1: 17). وتجعل منه أسفار الرؤى موضوعاً اسكاتولوجياً، وسمة في الضيق العظيم الذي يسبق حدث الخلاص (أخنوخ 99: 5؛ 100: 1- 2؛ اليوبيلات 23: 16).
إذن، حين استعمل يسوع مي 7: 6 ليتحدّث عن خلاف الناس أمامه، طبع رسالته بطابع اسكاتولوجي: إنه يرى في هذا الخلاف الذي يسبّبه حضوره، الدينونة الأخيرة التي ستتم في وقتها المحدّد. لهذا يفرض على تلاميذه ان يختاروا بينه وبين "هذا الجيل".

خاتمة
قدّم يسوع نفسه على أنه ذلك الذي يأتي ليلقي نار الدينونة الأخيرة، ذلك الذي يواجه الموت لينقّي شعب الله، ذلك الذي يدعو كل واحد لكي يتجنّد على خطاه وينقطع عن كل ما يربطه بالعالم.
جمع لوقا هذه الأقوال وطبّقها على كنيسة عصره. رأى في يسوع الرب الممجّد الذي "بيده" الروح الذي يناله المؤمنون الآن بالمعمودية. ولكنه عرف أيضاً أن يسوع لم يدخل في مجده إلاّ بالآلام، لهذا عرض على المؤمنين هذا الطريق عينه. فعظمة ابن الله لا تخفي بشريّته: لا آلامه ولا الإندفاع الذي سار به نحو غاية رسالته. وهذه البشرية هي اليوم قوة للمؤمن ونموذج له. فمن آمن بيسوع اختاره ربا واتخذ موقعه في هذا العالم الممزّق بين الإيمان واللاإيمان (= الكفر)، حتى ولو كلّفه موقفه الموت مثل معلّمه.
كانت نظرة يسوع اسكاتولوجية. أما نظرة لوقا فشدّدت على الوجهة الكنسيّة. غير أن الروح هو في نظره منذ الآن عطية الأزمنة الأخيرة (أع 2: 17). ومنذ الآن بدأ مع يسوع يوم الخلاص. "ولد لكم اليوم مخلّص هو المسيح الرب" (2: 11). "اليوم تمّت هذه الكلمات التي تلوتها على مسامعكم" (4: 21). "اليوم حلّ الخلاص بهذا البيت" (19: 9: زكا). وأخيراً مع اللصّ على الصليب: "اليوم تكون معي في الفردوس" (23: 43).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM