الفصل التاسع عشر: غسل الأرجل

الفصل التاسع عشر
غسل الأرجل
13: 1- 20
جهاد الاشقر وسوسن حبيب
بيت الرسالة

"في البدء خلق الله السماوات والأرض وكانت الأرض خاوية خالية وعلى وجه الغمر ظلام وروح الله يرفّ على وجه المياه" (تك 1: 1)، وفي بدء آلامه "صبَّ السيّد ماء في مطهرة وأخذ يغسل أرجل التلاميذ" (يو 13: 5).
فعلُ الخَلق نفسه نقرأهُ في بدايتين: الأولى في الاعتراف بالله الخالق من خلال كلمته وروحه، والثانية في الاعتراف بالابن الحبيب الذي جعل الآب في يديه كلّ شيء وهو يُعيد خَلقَنا بفعل حبٍّ وصل به إلى أقصى حدود، "بغسل الميلاد الثاني" (تي 3: 5-6). نربطُ بين نصّ غسل الأرجل ونصّ الخَلق من خلال رؤية كتابيّة متكاملة نرى فيها الخلفيّة العميقة لبداية ساعة المجد في الانجيل الرابع. رمزيّة الماء واستعمال اليدين والإنحناء تشكّلُ مثلّثًا كتابيّاً يبني عليه كاتب الانجيل الرابع هذا الفصل 13 على صورة لاهوت نصّ الخلق الذي يستعمل هذه الرمزيّة المثلّثة نفسَها: ماء- جبل بيديه- انحنى. هذه الرؤية سوف تكون خلفيّة قراءتنا نحن أيضًا بعد أن درسنا النصّ واكتشفنا كثيرًا من الخطوط والمحاور التي تجد صدىً لها ورمزيّة تُضيئُها في أسفار أخرى، والكتاب يضيء الكتاب ويفسّره ونبدأ بدراسة نص غسل الأرجل (13: 1- 20).
أ- موقع النصّ ومدلولُه
1- مقدمة (1-3)
2- تصوير الفعل (4- 5)
3- السؤال (6- 11)
ب- درس النص في بيانه وهيكليّته وأبعاده الكتابيّة واللاهوتية:
4- التفسير (12-17)
5- الخاتمة (18- 25).
ج- سؤالين: 1- أين نحن من فعل الخَلق في عيشنا الكنسيّ والرسوليّ؟
2- ما هو موقع القدوة التي تركها لنا الربّ في مسيرة
التلمذة الدائمة له؟

1 قبل عيد الفصح، وكان يسوع يعلم بأن قد أتت ساعة انتقاله عن هذا العالم إلى أبيه،
وكان قد أحبّ خاصّته الذين في العالم، فبلغ به الحبّ لهم إلى أقصى حدوده
2 وفي أثناء العشاء، وقد ألقى إبليس في قلب يهوذا بن سمعان الاسخريوطيّ أن يُسلّمه،
3 وكان يسوع يعلم أنّ الآب جعل في يديه كلّ شيء وأنّه خرج من الله وإلى الله يمضي،

3 فقام عن العشاء، فخلع ثيابه، وأخذ منديلاً فائتزر به، 5 ثمّ صبّ ماءً في مطهرة وأخذ يغسل أقدام التلاميذ ويمسحها بالمنديل الذي ائتزر به.

6 فجاء إلى سمعان بطرس فقال له: "أأنتَ، يا ربّ، تغسل قدميَّ؟"
7 أجابه يسوع: "ما أنا فاعل، أنتَ لا تعرفه الآن ولكنكَ ستدركه بعد حين".
8 قال له بطرس: "لن تغسل قدميَّ أبدًا".
أجابه يسوع: "إذا لم أغسلكَ فلا نصيب لكَ معي" (المستقبل).
9 فقال له سمعان بطرس: "يا ربّ، لا قدميَّ فقط، بل يديّ ورأسي أيضًا".
10 فقال له يسوع: "مَن استحمَّ لا يحتاج إلاّ إلى غسل قدميه، فهو كلّه طاهر.
وأنتم أيضًا أطهار، ولكن لا كلكم".
11 فقد كان يعرف مَن سيسلمه، ولذلك قال لستم كلّكم أطهارًا.
12 فلمّا غسل أقدامهم لبسَ ثيابه وعاد إلى المائدة فقال لهم: "إتفهمون ما صنعت لكم؟
13 أنتم تدعونني "المعلّم والربّ"، وأصبتم فيما تقولون، فهكذا أنا
14 فإذا كنت أنا الربّ والمعلّم قد غسلت أقدامكم، فيجب عليكم أنتم أيضًا
أن يغسلَ بعضكم أقدام بعض. 15 فقد جعلت لكم من نفسي قدوةً (الآن)
لتصنعوا أنتم أيضًا ما صنعتُ إليكم. (المستقبل) 16 الحقّ الحقّ أقول لكم:
ما كان الخادم
أعظم من سيّده ولا كان الرسول أعظم من مُرسله.
17 أمّا وقد علمتم (الآن) هذا فطوبى لكم إذا عملتم (المستقبل) به.


18 لا أقول هذا فيكم جميعًا، فأنا أعرف الذين اخترتهم، ولكن لا بدّ أن يتمّ ما كتب:
"أنّ الآكل خبزي رفع عليّ عقبه. (مز 41: 10).
19 منذ الآن أكلّمكم بالأمر قبل حدوثه، حتى إذا حدث تؤمنون بأنّي أنا هو (خر 3: 14، تثنية 39:32)
20 الحقّ الحقّ أقول لكم مَن قبل الذي أرسلُه قبلَني، ومن قبلَني قبلَ الذي أرسلني".
- إشارات الزمان تعابير الشموليّة، إشارات المكان، اللون الأسود: أفعال يسوع، الخطّ الكوفيّ: ذكر الآب.

1- موقع النصّ ومدلولُه
نحن في بداية كتاب المجد وبلوغ ساعة يسوع التي ينشدُّ كلّ الانجيل الرابع صوبها. هذه الساعة التي قبلَ أن يغيّر افتتاحها عند طلب "أمّ يسوع" في عرس قانا والتي تصل الآن- في عرس الصليب- وفي هذا النصّ إلى ملئها: "وكان يسوع يعلم بأن قد أتت ساعة انتقاله من هذا العالم إلى أبيه" (13: 1)، وقد دهنت مريم قدَمَي يسوع بالطيب ومسحتهما بشعرها (يو 12: 3).

ونحن في بداية سرّ آلام السيّد يفتتحُه الانجيليّ بمقدمة احتفاليّة تردّنا إلى مقدمة الانجيل: "في البَدء كان الكلماة والكلمة كان الله.... به كوّن كلّ شيء..." (يو 1: 1) وإلى مقدمة سفر التكوين: في البدء خلق الله السماوات والأرض (تك 1: 1).

ونحن قبل عيد الفصح الذي يُعيدُ ذكرى مراحم الربّ وأعماله العظيمة بالتسابيح والمزامير. وأثناء العشاء الفصحيّ الذي يعيد إلى ذاكرة القلب ذكرى الليالي الأربعة التي يذكرها الترجوم الفلسطينيّ: الليل الأول لمّا تجلّى الله في الكون لكي يخلقه، والليل الثاني لمّا قُدّم اسحق إلى الذبح، والليل الثالث عند ظهور الله للمصريّين في نصف الليل، يده اليسرى قتلت أبكار المصريّين ويمينه حَمَت أبكار اسرائيل ليتمّ ما كُتبَ ابني البكر هو اسرائيل، والليل الرابع هو ليل وصول العالم إلى نهايته لكي يغيب بعدها، إنه ليل الفصح لأجل اسم الله.

ونحن في بداية آخر حديث للربّ مع تلاميذه قبل موته (يو 14-18) وفي نهاية اعتلانه من خلال الكلمات والآيات، والعالم انقسم أمامه أكثريّة ترفضه وتطالب بموته وبقية تقول له: "يا ربّ، إلى مَن نذهب وكلام الحياة الأبديّة عندك" (يو 68:6). ومع هذه البقيّة ومن خلالها سيقدّم الخلاص الحقيقيّ والفصح الجديد نعبُرُ وبواسطته من هذا العالم إلى الآب، على خشبة صليبه.
لم يبقَ كلام ولا آيات. بقيَ شخصُهُ آية الآيات، أعطانا أن نراهُ يُعلّمنا آخر أمثولة لا بفمه بل يقوم عن العشاء ليقولها بجسده، وأعطانا أن نراه معلّقًا على خشبة.

2- درس النص في بيانه وهكليّته وأبعاده الكتابيّة واللاهوتيّة
تكشف لنا الدراسة أنّ بنية النصّ مثلّثة: تصوير الفعل (4-5)، السؤال الذي سبّبه الفعل (6- 11)، وتفسير الفعل (12-17). وهذه البنية المثلّثة أسلوبٌ معمولٌ به لدى الربّانيّين، لكنّ الانجيليّ أضاف إلى هذه البنيّة مقدّمة (1-3) وخاتمة (18- 20) يُعلن فيهما عن خيانة يهوذا ويذكر الآب وفعله.
أ- المقدّمة (1-3)
هذه المقدمة الاحتفاليّة التي تفتح النصّ تخرج عن كونها مقدمة عاديّة تفتتح كتابًا أو جزءًا من كتاب أو حدَثًا. نحن نقرأ من خلال بَيانها اهتمامات الانجيليّ المندرجة في تكديسات أربعة تدورُ كلّها في حركة اتّصال الابن بالآب.
الاهتمام الأوّل- إشارات الزمان (قبل عيد الفصح- كان يسوع يعلم بأن قد أتت ساعة انتقاله- وقد أحبَّ- وفي أثناء العشاء- وقد ألقى إبليس) تصبُّ كلّها في ساعة يسوع، في اللحظة الحاضرة وفعله الحاضر. وهي تتخطّى كونها توقيتًا وتأريخًا لتكونَ مناخًا لاهوتيًا غايته القول إنّ زمنَ الربّ حاضرٌ في كلّ الأزمنة وفاعلٌ من خلال كلّ الأزمنة ما يشاؤه الآب الذي جعل في يَدي الابن كلّ شيء. ويُظهر الانجيليّ من خلال إشارته "أثناء العشاء" إلى فظاعة الخيانة التي تصير في قلب يهوذا في الوقت الذي يُظهر الربّ محبّته في أقصى تعبير لها. ومن خلال هذه الخيانة يدخل إبليس وتصير المُجابهة بينه وبين يسوع، بين النور والظلمة.
الاهتمام الثاني- إشارات المكان (هذا العالم- العشاء- في قلب يهوذا- في يديه) هي أيضًا تتّخذُ صورة الدائرة التي يصغُرُ قَطرها تدريجيًا ابتداءً من كلمة "هذا العالم" إلى "العشاء"، إلى "قلب يهوذا" لتصل إلى يَدي يسوع. ويصير كلّ المكان محشورًا في "يديه" اللَتين جعل الآب فيهما كلَّ شيء وسوف تغسلان أرجل التلاميذ وتُثقبان بالمسامير.
الاهتمام الثالث- تكديس للأفعال الستّة المنسوبة إلى الربّ (يعلم- أحبّ خاصّته- بلغ به الحبّ- يعلم- خرج من الله وإلى الله يمضي)، يقابله فعل واحد منسوب إلى الآب هو أنه جعل كلَّ شيء في يَدي الابن، وفعل واحد منسوب إلى إبليس أنه ألقى في قلب يهوذا أن يسلمه... وهذا التكديس لأفعال الربّ يُضيف إليه استعمالاً ملفتًا لتعابير الكلّ والشموليّة (أقصى حدود الحبّ- كلّ شيء) وهو في حركة ديناميّة تصاعديّة تجمع بين الماضي والمستقبل وتخلو من أيّ فعل في صيغة الحاضر. كمال المعرفة (كان يعلم) وكمال الحبّ (كان قد أحبّ) وكمال السلطة (الآب جعل في يَديه كلّ شيء) الذي يعيشه يسوع في مواجهة ساعة الظلمة.
واهتمامه الرابع نقرأه في إلحاحه على علاقة يسوع بالآب في حركة خروج من حضن الآب ورجوع إليه. ويؤكّد هذه العلاقة بتكرار ذكر الآب بمرّات أربع وبفعل تخلّي الآب للإبن إذ يجعلُ كلّ شيء في يديه. هذا التخلّي من قبل الآب للابن الذي يصل به الحبّ إلى أقصى درجات إخلاء الذات هو بداية الولوج إلى سرّ الله المحتجب في هذا النصّ. وتجدر الاشارة إلى أنّ ذكر الآب يبدأ النصّ ويختمه ويُنسب إليه فعلان: أنّه جعل في يديّ الابن كلّ شيء (3) وأنّه هو الذي أرسل الابن (20). والارسالُ سبقَ الإنحجاب في خبرتنا، بينما الانجيليّ يعكس ترتيب الأفعال. الآب أخلى ذاته منذ البدء وأسلَمَ وجههُ في وجه الابن الذي أرسله إلينا. نحن نفهم هذه الحقيقة بعد أن رأينا وجه الابن وكلّمنا عنه، بتعبير آخر، نحن نختبر الإرسال قبل أن نختبر الإنحجاب. ولأنّنا رأينا وجه الآب من خلال الابن المُرسل وسَمعنا عنه، صرنا قادرين على فهم سرّ انحجابه وإخلاء ذاته في الابن. وحركة الحبّ هذه بين الآب والابن يعبّر عنها بتعابير الشموليّة (كلّ شيء- أقصى حدود الحبّ) وهذا الإنشداد نحو الحدّ الأقصى في التعبير ما هو إلاّ فعل الروح بين الآب والابن.
ب- تصوير الفعل (4- 5)
يتفرّد الانجيليّ الرابع برواية هذا الفعل الذي قام به السيّد ليلة أسلَم ذاته، ويغيّب الكلام عن العشاء الافخارستيّ بحدّ ذاته، ولا بدّ أنّ له غاية. نلاحظ أنه لم يُغيّب فقط الكلام عن العشاء الافخارستيّ المؤسِّس للعهد الجديد، بل غيّب أيضًا كلَّ كلام يضعنا في جوّ عشاء الفصح اليهوديّ وكأنه يُبعد عن ذهن القارئ كلَّ خلفيّة الفصح اليهوديّ. وقصده واضح، فالذي يقوم به السيّد في عشائه الأخير، ولو أنه في امتداد الفصح اليهوديّ، هو في جدّة تمنعنا من مقاربته مع أيّ شيء سبقه: لا ذبيحة لا حَمَل لا خبر ولا خمر ولا عَجَلة، ترك لنا الانجيليّ فقط صورة العبد. وقصده في تغييب الكلام عن الافخارستيّا وتركيزه على فعل غسل الأرجل هو أيضًا واضح: فالذي قام عن العشاء وانحنى على أقدام خليقته هو نفسه الذي قال: خذوا كلوا هذا هو جسدي وخذوا اشربوا هذا هو دمي، والفعلان ما هما إلاّ تعبيرٌ لفعل الحبّ الواحد. هو يضع إذًا فعل غسل الأرجل الذي قام به الربّ في مُقام الاعلان عن جسده ودمه في الخبز والخمر وهو يؤسّس في آن سرَّ حضوره في القربان وسرّ الخدمة، وكلاهما مكان لقائه وتجلّيه. ويعطي منطقًا آخر للخدمة والسلطة: "تعلمون أن رؤساء الأمم يسودونها، وأن أكابرها يتسلّطون عليها. فلا يكن هذا فيكم، بل من أراد أن يكون كبيرًا فيكم، فليكن لكم خادمًا. ومن أراد أن يكون الأول فيكم فليكن لكم عبدًا" (متى 25:20-27). ويُلقي الضوء على فرادة هذا الفعل الذي يخرج عن المألوف إن في توقيته (أثناء العشاء الفصحيّ) أو في نوعيّته (المعلّم يغسل أرجل تلاميذه)، ويُلقي الضوء على معناهُ ومرماه.
فالكتاب المقدّس في كلّ نصوصه لا يذكر غسل الأرجل في هكذا جوّ. وإذا ذكره فمن باب الضيافة كما فعل ابراهيم (تك 4:18)، أو لابان (تك 24: 32)، أو أبيجائيل التي رحّبت برجال داود (1 صم 2: 41) أو ذَكَرَه من باب التكريم (يو 12: 1-4) والتوبة كما فعلت المرأة مع الربّ يسوع وأخذت تبلّ قدميه بدموعها (لو 38:7). إضافة إلى كون فعل غسل الأرجل فعلةٌ تُنسَب فقط إلى العبد ولا تُطلب أبدًا من رجل عبرانيّ كما ورد في اللاويّين: "إذا افتقر أخوكَ معكَ فباعكَ نفسه، فلا تستخدمه خدمة العبيد" (لا 25: 39). وإذا شاء التلميذ أن يعبّر عن احترامه لمعلّمه فهو يغسل رجليه طوعًا كما تغسل المرأة رجلَي زوجها والأم رجلَي ابنها.
لكنّنا في هذا الحدث نرى الربّ يقوم بعمل العبد والمعلّم يغسل أرجل التلاميذ ويقلب كلّ المفاهيم. وهو يُعطيهم بفعلته هذه أن يَروا بداية الانحناء بينما هو معهم ليستطيعوا أن يروا الانحناء كلّه في آلامه وحيدًا وكلُّ واحد منهم يعيش موته. فعل غسل الأرجل هو تعزية للتلاميذ واستباق لهوان الصليب كما أن التخلّي هو استباق لمجد القيامة. وهو، من هذا المنظار، آخر آية صنعها يسوع قبل آية موته وقيامته. وهو يُحقّق في ذاته المَثَل الذي أورده القديس لوقا عن المعلّم الذي يأخذ موقف الخادم "طوبى لأولئك العبيد الذين إذا جاء سيّدهم وجدهم ساهرين. الحقّ أقول لكم: إنّه يشدّ وسطه ويجلسهم للطعام، ويطوف بهم ويخدمهم" (لو 12: 37؛ 22: 27).
تستوقفنا تفاصيل الفعل التي يوردها كاتب الانجيل في سبعة أفعال لم يغيّب أية حركة قام بها السيّد (قام عن العشا- خلع ثيابه- أخذ منديلاً- ائتزر به- صبّ ماء- أخذ يغسلُ أقدام التلاميذ- ويمسحها بالمنديل).
ويفتتح الأفعال السبعة بفعل "قام عن العشاء". في القراءة الأولى لحركة الأفعال نحن نرى الأمر طبيعيًا: يقوم ليستطيع أن يُكمّل أفعاله الباقية. ولكنّنا نكتشف أنّ الأولويّة المعطاة لهذا الفعل لها أبعادٌ أخرى: قام عن العشاء أي ترك العشاء، تخلّى عن الجلوس بينما الجميع جالسون، وأوقف اللقاء التذكاريّ الفصحيّ. وقيامه هذا يضع حدًا واضحًا لكلّ ما كان يُعاش كتذكار لفعل في الماضي يُقرأ الكتاب المقدّس والمزامير من أجل الهذيذ به، ويخلق واقعًا في الحاضر هو في جدّة فعل الخلق والفداء. وحركة القيام هي من أجل الانحناء، فنحن لا يمكننا أن ننحني ما لم نقم. وقيامه عن العشاء وتركُه الخبز والخمر والتذكار هو ليُعطي عشاءً آخر وكلمة أخرى يتركها قدوةً في جسده المنحني وتذكارًا آخر هو افتتاح العهد الجديد.
والأفعال الستّة التالية يحمّلها الانجيليّ لغة الرموز ويفتحها على وساعة أبعاد الكتاب المقدس كلّه، وكأننا نقرأ من جديد فعل الخَلق وكتب الشريعة والنبوءات من خلال فعل التخلّي الذي يختصر سرّ الموت والقيامة.
وخلع ثيابَه، "هو الذي في صورة الله... تجرّد من ذاته متّخذًا صورة العبد" (فل 2: 6-7). خلع ثياب مجده وبهائه، هو الابن الأوحد ليصير واحدًا منّا، وخلع ثياب المعلّم ليكون في موقف العبد والتلميذ. وخلع ثيابه بنفسه أمام تلاميذه ليستطيعوا أن يفهموا، في ليل آلامه، كيف ترك صالبيه يعرّوه من ثيابه. أعطاهم أن يذوقوا، في حميميّة عشائه الأخير معهم، استباقَ ما سيُذيقُه العالم من ذلٍّ وهوان. هو المعلّم في آخر جلسة تلمذة، يختصرُ كلّ كلماته ليس بكلمة بل بتعبير يعيشه في جسده ويعزّي تلاميذَه قبل أن يدخلوا معهُ في ليل الآلام. وكلّ هذا لنفهم الكلمة التي أنبأ فيها عن موته وتخلّيه عن ذاته: "إنّ الآب يحبّني لأني أبذل نفسي لأنالها ثانيةً. ما من أحد ينتزعها منّي ولكنّي أبذلها برضايَ، فلي أن أبذلها ولي أن أنالها ثانيةً" (يو 10: 17-18).
وأخذ منديلاً فأتزر به. المنديل الذي يشدُّ الحقوين استعدادًا للمشي (لتكن أوساطكم مشدودة، لو 12: 35) واستعدادًا لأكل حمل الفصح (خر 12)، يصير هنا وزرة الخدمة وأداتها وهو الذي كان حول رأسه في القبر (يو 20: 7). ترتبط صورة المنديل ارتباطًا وثيقًا بالتلمذة للمعلّم، فهو رباط التلمذة نحتاجه في شدّ الحقوين والتدريب على السهر والاستعداد وشجاعة المشي، كما نحتاجه في خدمة الغسل وزرةً هي أداة الخدمة وشرفيّة الانتماء لمعلّم جعل من نفسه خادمًا.
وأخذ يغسل أرجل التلاميذ ويمسحها بالمنديل سبق وذكرنا أن رمزيّة الماء واليَدين وفعل الانحناء تشكّل مُثلّثًا كتابيًا يبني عليه كاتب الانجيل الرابع هذا الفصل. الماء هو رمز الحياة والمادّة الأولى في فعل الخلق، وهو الذي يُخصب الأرض (تك 1: 2) والنهر الذي يخرج من عدن ليسقي الجنّة (تك 2: 10)، وهو ماء الطوفان الذي يُعيد فعل الخلق من جديد فاصلاً بين الأتقياء وغير الأتقياء (تك 6: 17)، وهو الماء الذي ابتلع فرعون ومركباته (خر 14: 26-28) والماء المتفجّر من الصخر لكي لا يموت الشعب عطشًا (خر 6:17)، وهو الماء الذي يغسل أورشليم المتخبّطة بدمائها (حز 16: 4) والماء الذي يسكبه الربّ علينا لنطهر (حز 36: 25)، وماء النقاوة الذي يطلب كاتب المزامير من الربّ أن ينقّيه به: "نقّني بالزوفى فأطهر، إغسلني فأفوق الثلج بياضًا" (مز 51) "وفي الطهارة أغسل يديّ" (مز 26: 6)، ودعوة أشعيا النبيّ للاغتسال والتطهّر: "اغتسلوا وتطهّروا وأزيلوا شرّ أعمالكم من أمام عينيّ وكفّوا عن الإساءة" (أش 1: 16). وهو ماء الأردن حيث نزل المخلّص يعتمد على يد يوحنا (يو 1: 28) وهو الماء المتحوّل خمرًا في عرس قانا في أجران التطهير (يو 2: 6) والماء الخارج من جنبه على الصليب (يو 19: 34). هو في آن عنصر الحياة ورمزها وعنصر الموت ورمزه، وهو بالتالي المعْبَر والجسد بين الموت والحياة، نمرّ فيه "لنتطهّر بماء الاستحمام" (أف 5: 25) ونتعمّد في سرّ موت الربّ لنصير في حال القيامة والنعمة. ولأجل ذلك لن يكون في أورشليم الجديدة التي يصفها سفر الرؤيا بحرٌ (رؤ 21: 1)، لأننا نكون قد عبرنا من هذه الغربة التي تحتاج إلى غسل وصرنا في حال الوجه إلى وجه.
وتفاصيل فعل الغسل التي أعطانا كاتب الانجيل تفترض استعمال اليدَين. لماذا استعمل اليدَين وهو القادر أن يخلق بكلمة؟ صورة استعمال اليدَين هي أيضًا صورة لفعل الخلق، يوم جبل الربّ الاله ترابًا من الأرض ونفخ في أنفه نسمة حياة، فصار الانسان نفسًا حيّة (تك 2: 7). ويعيد الصورة مرارًا كاتب المزامير ويقول: "هو الذي بيده أعماق الأرض وله قمم الجبال، له البحر وهو صنعه ويداه جبلتا اليبس" (مز 4:95- 5) وهو وحده جابل القلوب (مز 15:33). والربّ يسوع "تفل في الأرض، فجبل طينًا، وطلى به عينيّ الأعمى، ثم قال له إذهب واغتسل في بركة سلوان" (يو 6:9)، ومدّ يده للأبرص (مر 2: 41). الاله الذي نؤمن به هو إله يضع يده في الجبلة، في العجين وفي القذارة ليغسلها، وعنده منطق آخر في الكرامات. الكرامة عنده هي أن ينزل، لا أن يعطي أمرًا في النزول، وأن يضع يدَيه علينا وعلى كلّ حالنا، ولا يخاف أو يقرف من القذارة، يضع يدَيه علينا ليعطينا النقاء والحياة. أليس أن "الآب جعل كلّ شيء في يديه"؟ (يو 13: 3) وأنه أعاد روحه بين يدَي الآب (لو 46:23)؟ وفعله هذا يجعلنا نُراجع منطق تعاطينا إنْ على الصعيد الشخصيّ أو على الصعيد الكنسيّ، هل نقبل أن تتّسخ أيدينا لأننا وضعناها في التراب ليصير جبلة الشفاء أو في القذارة لنغسلها؟
وذروة أفعاله هي في فعلَي: الإنحناء وغسل الأرجل. إنحناء السيّد بدأ منذ الأزل، منذ أن حنا على آدم، وتمشّى معه في الفردوس، وبدل أن يلعنه كما لعن الأرض والحيّة، تلطّف به ووعده أن يغسل خطيئته وينصره بآت يجيء من نسله يسحق رأس الحيّة (تك 3: 15). وبقي يحنو عليه كما قالها بفم الأنبياء: أنا درّجت أفرائيم وحملتهم على ذراعي لكنهم لم يعلموا أنّي اهتممتُ بهم وكنت لهم كمن يرفع الرضيع إلى وجنتيه وانحنيت عليه وأطعمته (هو 3:11-4). "وإذا غسَلَ السيّد قَذَر بنات صهيون، ونظّف دماء أورشليم من وسطها بروح القضاء وروح الاحراق، خلق الربّ على كلّ مكان في جبل صهيون وعلى محافلها غمامًا في النهار ودخانًا، وضياء نار ملتهبة في الليل" (أش 4: 4- 5). وفي ملء الزمن، أعطانا أن نراه طفلاً في مذود (لو 7:2) وحنى رأسه أمام يوحنا المعمدان ليتعمّد (يو 1: 28) ومشى على طرقاتنا يحنو على مرضانا ويمدّ يده للأبرص (مر 2: 41).
وفي هذا العشاء، يصل به الحبّ إلى أقصى الحدود فينحني على أرجل التلاميذ وتتحقّق فيه صورة العبد المتألّم التي أنبأ عنها أشعيا (ف 53). لقد أخذ الربّ آخر مكان كما يقول شارل دو فوكو، المكان الأخير وأقام فيه، وصرنا لا نجد المكان الأخير لأنه شَغَله، لكنّنا لا نلقاه إلاّ هناك. ولكي نتذكّر أنّ المنحني هو نفسه الربّ ابن الله كرّر النصّ علاقته بالآب وخروجه من حضنه وعودَته إليه. التفاصيل التي يوردها الانجيليّ غايتها أن تصف فعل الحبّ الذي يصل إلى النهاية ولا يختصر أيَ تفصيل في تعبير الحبّ أو يُهمله. منطق الحبّ الذي يعلّمه الربّ منطق يرى التفاصيل والحركات الوضيعة بنفس النظرة مع الأعمال العظيمة والكريمة. ومنطق يبدأ الفعل ويُكملُه بنوعية حضور وانتباه لكلّ شيء وفي كلّ لحظة. منطقٌ يعلّمنا أنّ قيمة الزمن تختصرها اثنتان: اللحظة الحاضرة ونوعيّة الحضور.
وإنحناؤه هذا يرى فيه مار افرام تواضع الخالق ليُلاقي الساقطين في أدنى درجات سقطتهم ويقول:
واضعَ السيّد الكلّي الرحمة يديه
وغسل أرجل الخائن الذي سيردّ له الجميل بتسميره على الصليب
هو الذي به كوّن كلّ شيء، تواضع حتى غسل الأرجل...
ولأن كلّ شيء كان في السقطة ورازحًا تحت نير اللعنة،
تواضع ونزل إلى أبعد منها ليغسلها ويرفعها.
وكما أذلّها في البدء، هو يأتي نحوها الآن، بحكمته، طبيبًا ومطهّرًا. (XVIII, 22).
لماذا غسل أرجل تلاميذه وليس أيديهم أو رأسهم؟ ذلك أن غسل الأرجل يضطر الفاعل إلى الانحناء ولأنّ الأرجل تفوق اليدَين والرأس في الاتساخ! هو يغسل الأرجل وليس الرأس أو اليدين لأنّ الأرجل هي نقطة اتّصالنا بالأرض والعضو الأقل كرامة في الجسد وهمزة الوصل بين الفكر والقلب وبين الإرادة التي تجعلنا نضع موضع التنفيذ ما فهمناه وغيّر قلبنا. حركته هذه تتخطّى كونها فعل تطهير لتصير فعل تهيئة "لأقدام المبشّرين بالسلام والمسمعين بالخير" (أش 52: 7-9). وبشارتهم تمرّ بمطهرة الغسل والماء على صورة المرور بسرّ المعمودّية والتوبة، كما يمرّ الخبز والخمر في الكأس ليصير سرّ حضوره. ونقرأ هذا من خلال إشارتي المكان الموجودتين في هذا الفعل: العشاء والمطهرة. والربّ أوضح التشابه والترابط بين النقاوة التي يُعطيها فعل الغسل: "أنتم أنقياء بفضل الكلمة التي كلّمتكم بها" (يو 3:15). ورغم كونهم أنقياء غَسَل لهم أرجلهم لنفهم أنّ غسل الروح والقلب بسماع الكلمة مرتبطٌ جوهريًا بغسل الأرجل. وانحناء التواضع هو تعبير عن سرّ sacrement اتّضاعه وهوانه في آلام الفداء. وهو "نبع الخيرات ومبدأ الفضيلة وغايتها" كما يقول الذهبيّ الفم في شرحه للنصّ (Homelie LXX). هذا هو علم اللاهوت الراكع الذي يتمنّاه كارل راهنر.
ج- السؤال الذي سبّبه الفعل (6- 11)
الربّ يفعل دائمًا قبل أن يفسّر، وهو يخاطب بهذه الطريقة قلبنا وإيماننا قبل أن يخاطب فكرنا. والفعل الذي قام به السيّد والمعلّم سبّب، دون شكّ، سؤالاً وصل بسمعان بطرس، الذي يمثّل كلّ التلاميذ، إلى حدّ الاعتراض والرفض، وقد سبق له أن اعترض على موته: حاشى لك ذلك (مر 8: 31-33). ويعود اعتراضه ورفضه إلى نوعيّة علاقته بالمعلّم وإيمانه به، وإلى الخلفيّة التي يعيشها في تراتبيّة المعلّم والتلميذ وما تقوله الشريعة في تصنيف العبد والابن والأعمال المرتبطة بكلٍّ منهما. فهو يرى في يسوع "المسيح ابن الله الحيّ" ويسمّيه "الربّ" ويرى فيه المعلّم والعظيم والمرسَل اثنتظر لتحقيق الخلاص، ولا يستطيع بالتالي أن يراه في صورة العبد منحنيًا يغسل الأقدام. وحواره مع المعلّم يصوّر مراحل تلمذته ونموّه في هذا المنطق الجديد الذي يخلقه الربّ بفعله هذا. سمعان بطرس طرح سؤالاً لا ينتظر جوابًا: "أأنت يا ربّ تغسل قدميّ" بمعنى آخر: لا يمكن لذلك أن يصير. والسؤال لا يحمل فقط استهجانًا ودهشةً بل ينبئ ببداية مسيرة في ليل الايمان، مسيرة تتطلّب التخلّي عن الصوَر والأطر المعيوشة والمسلّم بها، من أجل ولادة ثانية في منطق جديد وصور جديدة لوجه الله بطريقة غير مألوفة ولا مُنتظرَة.
ردّ فعل سمعان بطرس يخرج عن كونه فقط استحالة رؤية المعلّم في الانحناء بسبب إكباره له، وهو في الحقيقة حَدْسٌ للذي يطلبه يسوع في العمق كما شرح ذلك لنيقوديموس من قبله (يو 3). ويلي السؤال رفضٌ يبدأ من الحاضر ويطاول المستقبل: "لن تغسل قدميّ أبدًا"، والسؤال والرفض كلاهما مرتبط جوهريًا برؤية بطرس للمعلّم. وجواب الربّ يفتح عينيه على رؤية أخرى وفكر آخر وعلى الفرق بين "المعرفة" و"الادراك": "أنتَ لا تعرفه ولكنك ستدركه"، والفرق بين "الآن" و"بعد حين"، أي بعد اختباره ذلك بنفسه. وأمام إصرار سمعان بطرس على الرفض، نرى حزم المعلّم إلى حدّ التهديد، وهذا الحزم هو تعبير عن نقطة الصفر أو هو حدّ اللاّرجوع الذي يتطلّب موقفًا جذريًا: أو معي أو عليّ "إذا لم أغسلك فلا نصيب لك معي". يسوع يطلب من تلميذه إخلاء ذاته والتخلّي عن تصوّراته والقبول بالتعرّي والمرور بالموت الذي يصوّره فعل الغسل ليكون له نصيب معه. وهذا النصيب يُرجع إلى الذاكرة الايمانيّة نصيب سبط لاوي الذي لا نصيب له من الأرض شيئًا لأنّ الربّ نصيبه (تث 10: 9؛ عد 18: 20)، وصلاة المزامير: "الربّ حظّي وقسمتي" (مز 16: 5) "وفي أرض الأحياء أنت نصيبي" (مز 142: 6). النصيب مع الله هو العلاقة الوثيقة معه وهو بالتالي الله نفسه وليس أشياء أخرى أو تصوّرًا له مهما سما. وهو أن نقبل أن يُحبّنا الله، ويعرفنا على حقيقتنا ويغسل أوساخنا. ونصير من موكب تلاميذه ويصير لنا "نصيب في هذه الخدمة" (أع 1: 17).
والنصيب مع المسيح له أبعاد اسكاتولوجيّة عند يوحنا: عند الآب، في المجد، يكون التلميذ مع معلّمه: "وحيث أكون أنا يكون خادمي، ومَن خَدَمني أكرمه أبي" (يو 12: 26؛ 14: 1-3؛ 17: 24). وتصبح معرفة الآب ("الحياة الأبديّة هي أن يعرفوك" يو 3:17) هي أن نكون مع المسيح ويكون لنا نصيب معه. وهذا هو النصيب الأوفر الذي اختارته مريم (لو 10: 43)، وهذه هي صورة الكنيسة العروس التي تجد في الربّ نصيبها. فالربّ يطلب من بطرس جوابًا ليس بالكلام ولا على مستوى الاقناع والفكر، هو يطلب منه جوابًا يترجمه في الحركة والتعبير: أن يقبل الغسل. ويستوقفنا ارتباط النصيب بفعل الغسل والاستحمام. ويسوع يركّز على غسل الانسان كلّه وليس فقط على غسل قدميه، قال له: إن لم أغسلك ولم يقل إن لم أغسل قدميكَ. ذلك أنّ غسل الأرجل هو صورة عن الغسل العميق الذي يتطلّبه اللقاء مع الله إذ إنّ القُربى منه تفترض أن نكون أطهارًا: "من ذا الذي يقيم في مقرّ قدسه؟ النقيّ الكفّين والطاهر القلب" (مز 24: 3- 4)، ولأن النصيبَ يتطلّب جواب الانسان بكليّته المعبّر عنه بالاستحمام. وليس المطلوب تطهيرًا خارجيًا أو لبعض الأعضاء، فالمطلوب هو الاستحمام بكلمته ومَثَله، ومَن استحمّ كان كلّه في الماء، وهو بالتالي لا يقاومها ولا يجعل أعضاءً خارجًا عنها. لذلك من استحمّ لا يحتاج إلاّ إلى غسل قدميه، أي إلى تعبير رمزيّ خارجيّ عن الغسل العميق الذي صار في مستوى كلّ الكيان. ومن أصل 8 مرّات يرد فيها فعل غسل (13: 5، 6، 8، 8، 10، 12، 14، 14) نجد منها أربع في هذا الحوار مع بطرس. ويلفتنا أيضًا تكرار مثلّث لكلمة طاهر (13: 15، 10، 11) وتعابير الشموليّة التي ترافق هذا التكرار (كلّه، كلّكم، لا كلّكم).
واستعماله للطهارة والغسل والاستحمام في هذا النصّ يرى فيه معظم آباء الكنيسة صورةً لسريّ المعموديّة والتوبة: فنحن نتعمّد بموته أي "بدمه الذي يطهّرنا من كلّ خطيئة" (1 يو 1: 7) و"نغسل حللنا ونبيّضها بدم الحمل" (رؤ 14:7؛ 14:22).
د- التفسير (12-17)
يأخذ هذا الجزء من النصّ طابع المجد والانكشاف والتعليم. طابع المجد نقرأه في فعل استرجاعه لثيابه ونقرأ من خلال الحركة استرجاعه لحياته بالقيامة من الموت. وطابع الانكشاف نقرأه في الألقاب التي يعطيها لنفسه: أنا الربّ والمعلّم والقدوة والسيّد والمُرسل. وطابع التعليم نقرأه في التفسير نفسه الذي يعطيه ويأخذ تصاعديّة السؤال والتوضيح وينتهي بإعطاء الطوبى. والسؤال الذي يبدأ به، على عكس السؤال الذي طرحه سمعان بطرس، هو في الحقيقة سؤال يتطلّب من أجل الاجابة عليه، قراءة الفعل من جديد للفهم والاستنتاج. والاستنتاج يكون مادّة الايمان وبالتالي مادّة العمل بهذا الايمان. "أتفهمون ما صنعتُ لكم"؟ بمعنى آخر: مطلوب منكم أن تفهموا ما صنعت لكم. والفهم ليس فقط على مستوى الفكر والتحليل، هو فهمٌ يضع يديه في المطهرة ويقوم عن العشاء ويغسل الأقدام. ويُلقي الضوء، من خلال سؤاله، على العلاقة الجوهريّة بين تسميته معلّمًا وبين فهمه والتشبّه به. أنتم تدعوني المعلّم والربّ؟ اصنعوا ما صنعت لكم تصبح عندها التسمية فعلاً واقعًا. ومن خلال الكشف عن شخصه ومعنى فعله هو يضع نفسه مثالاً وقدوةً وهذا هو جديد تعليمه: هو يفعل ليعلّم ولا يعلّم فقط كيفيّة العمل. وهو يطلب من تلاميذه أن يصنعوا ما صنعه لهم: خدمة غسل الأقدام وأسبقية الخدمة على الكلام. وقوله أعطيتكم قدوة لتصنعوا أنتم أيضًا ما صنعته لكم تعيدنا إلى قوله في العشاء نفسه: "اصنعوا هذا لذكري" (1 كور 11: 25). وذكر الربّ يُصنع على المائدة كما يُصنع في الانحناء على الأرجل. وذكر فعل الغسل الذي ورد سبع مرّات وكلّها منسوبة للمعلّم، يرد هنا مطلوبًا من التلاميذ، فعلاً ثامنًا يُكمل ما بدأه المعلّم في كمال الرمزيّة ويبدأ فعل الكنيسة الشاهدة والرسولة. وذكر كلمة رسول هنا هو الذكر الوحيد في الانجيل الرابع وربما العلاقة الأساسيّة التي يراها الانجيليّ بين الرسول وبين الخدمة مهما كانت متواضعة.
وتوضيح الربّ يُطاول الزمان في الحاضر والمستقبل كما يُطاول معنى العظمة الحقيقيّة، فعظمة التلميذ هي أن يكون مثل معلّمه والعبد مثل سيّده. وهذا التشبه الذي يطلبه يجعل الكلّ إخوة ولا يعود هناك عظيمٌ إلاّ الله وحده. ونهاية التصاعديّة هي في الطوبى المعطاة لمن يعمل بالذي علمه. وهي الطوبى الأولى التي يوردها يوحنا في انجيله تليها طوبى ثانية للذين آمنوا ولم يروا (يو 20: 29). يقول القديس كيرلّس الاسكندريّ: "عند منبر الديّان، سوف نكون سبب سخرية وازدراء إن لم نحقّق طلب الربّ في غسل أرجل إخوتنا. إذ كيف يتقاعس الخَدَم عن عمل قام به السيّد؟" (P.G. 74, 127).
هـ- الخاتمة (18- 20)
بعد تصوير الفعل والسؤال الذي سبّبه الفعل والتفسير الذي أعطاه المعلّم، يعود الانجيليّ إلى ذكر يهوذا الذي سيخون المعلّم وإلى ذكر الآب وكأنه يُغلق المشهد على ما بدأه. الخيانة التي قال في المقدمة إنّها من فعل إبليس ذكرها في الآية 11 أنها فعل يهوذا وهو الآن يذكر أنّها تتميم لما جاء في الكتب: "إنّ الآكل خبزي رفَعَ عليّ عقبه" (مز 41: 10)، ويجوز أيضًا القول إنّ الذي غسلت له قدميه رفع عليّ عقبه. وفي كلّ الأحوال فمواجهة يسوع هي مع إبليس وإن كان الباب هو يهوذا وإن ذُكرت في الكتب. ففي نصّ التجربة لا يفوّت إبليس تجربهّ إلاّ ويشهّد عليها الكتاب. ولكنّ الخاتمة تخلو من جوّ المجابهة ويعطينا الانجيليّ أن نرى الربّ يسوع المعلّم الذي يفسّر الكتب والذي يُنبئ بما سيحدث "حتى إذا حدث تؤمنون"، ويصير كلام المعلّم مرجعًا وتفسيرًا للأحداث كما الكتب المقدّسة هي المرجع. وهو المعلّم الذي يكلّم ويوضح ويختار ويُرسل ويعطي كلمة رجاء وشجاعة. ويُعطينا أن نرى تجلّيًا واضحًا لألوهيّته واتّحاده العميق بالآب: فهو ينسب إلى ذاته ما قاله الله عن ذاته "أنا هو" (خر 3: 14؛ تث 32: 39) وهو الذي أرسله الآب. نرى الآب الذي احتجب في الابن في بداية النصّ ووضع في يديه كلّ شيء، نراه المُرسل والمعطي والخالق. ذكر الآب يعود ويضعنا في حركة الحبّ بينه وبين الابن وفي حركة فعل الخلق الذي لا ينتهي.

3- سؤالين:
1- أين نحن من فعل الخَلق في عيشنا الكنسيّ والرسوليّ؟
2- ما هو موقع القدوة التي تركها لنا الربّ في مسيرة التلمذة الدائمة له؟
قراءتنا لهذا النصّ تدعونا إلى مراجعة هويّتنا المسيحيّة وتجلّي هذه الهويّة على ما يوضح بولس الرسول: "كلّ واحد ينال موهبة يتجلّى فيها الروح للخير العام" (1 كور 12: 7)، وتطرح علينا سؤالين:
السؤال الأوّل هو في مستوى الخَلق. هل يكون فعل غسل الأرجل في خبرتنا وخدمتنا حظًا لعيش فعل حبٍّ يخلقُنا ويخلق الآخر، وينفي تاليًا موقف الدينونة أو القرف من الآخر أو التمنين؟
والسؤال الثاني هو في مستوى القدوة التي تركها لنا المعلّم. هل نجرؤ أن نقوم عن العشاء وننحني نغسل الأقدام؟ وهل نجرؤ أن يغسل الآخر أقدامنا؟ قيامنا عن العشاء على صورته يفترض أن نرى لنا مكانًا شاغرًا للخدمة، لذا نسأل السيّد أن يعطينا استنارة عيون الأنبياء لنرى مكاننا الخاص في خدمته ويُعطينا شجاعة مَن سبقونا في محبته والاقتداء به.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM