الفصل العشرون: الآلام بحسب يوحنا

 

الفصل العشرون
الآلام بحسب يوحنا
19: 28- 30
الخوري يوسف فخري

يرسم لنا الإنجيليّ يوحنا حدث الآلام والجلجلة على قماشة فصحيّة. فيشير عمدًا إلى أنّ الأسبوع الأخير من حياة يسوع يبدأ "قبل الفصح بستة أيام" (12: 1)، وينتهي بالدفن يوم "التهيئة" للفصح (42:19). حين نكشف بُنيةَ هذا الخبر نفهم فهمًا أعمق الطابع النمطي للوقائع التي أوردها الإنجيلي: يسوع على الصليب هو حمل الفصح الجديد.
فالقارئ الذي ينتقل من الأناجيل الإزائية إلى الإنجيل الرابع، يلاحظ تبدلاً في خبر الآلام كما نجده في يوحنا. فمأساة الآلام في الإزائيين تبلغ قمتها مع موت يسوع الذي ترافقه إضطرابات كونيّة خارقة: إنشقاق حجاب الهيكل، زلزلة الأرض، تصدّع الصخور، الظلمة وقت الظهيرة، قيامة الموتى (متى 27: 51- 52). أمّا يوحنا فلا يأتي على ذكر هذه الأحداث-الخوارق، لكنّه يصوّر في لوحة مهيبة جلالة موت يسوع (28:19-30) الذي يطلق، قبل تسليم الروح، عبارتين تختصران كل اللاهوت اليوحناوي: "أنا عطشان" (28:19) و"قد تمّ كلّ شيء" (28:19- 30). لذا سننطلق في بحثنا هذا من حدث الجلجلة (19: 28-30) قاصدين النفاذ إلى كل دراما الآلام في يوحنا، لا بل إلى مجمل الإنجيل الرابع

1- يسوع الذي يَعْلَم
يبدأ يوحنا خبرَ موت يسوع بهذه العبارة: "كان يسوع يعلم أنّ كل شيء قد تمّ" (28:19) وينهيه بهذه العبارة أيضًا: "قد تمّ كل شيء" (19: 30) هذه الكلمات الأخيرة ليسوع تعبّر عن معرفته الكاملة والشاملة للأحداث، فهو يعرف ساعة انتاله من العالم إلى الآب، والساعة التي أحبّ فيها "إلى الغاية ετς τελος" (13: 1) بعد أن أتمّ الرسالة. فيسوع اليوحناوي بعيد كلّ كلّ البعد عن يسوع متى ومرقس الذي يطلق صرخة الاستغاثة والألم: "لماذا تركتني؟" بل على العكس، فهو طيلة الفصول (يو 13-19) السابقة للجلجلة، يوّجه بنفسه الأحداث نحو تلك "الساعة" وهو في إتحاد مطلق مع الآب.
هذه المعرفة الكاملة ليسوع نجدها في أول خبر الاعتقال: "وكان يسوع يعلم جميع ما سيحدث له..." (18: 4). فهو يأخذ المبادرة بنفسه ويخرج لملاقاة الحّراس ويطرح عليهم السوال على دفعتين قائلاً: "من تطلبون؟" (18: 4 و7). هذا السؤال يذكّر بدعوة التلاميذ الأولين (1: 38): "ماذا تريدون؟" أو بمريم في صباح القيامة: "عمّن تبحثين أيتها الامرأة؟" (20: 15). أسئلة يطرحها يسوع بنفسه على الآخرين، فهو صاحب المبادرة الأولى لأنه سيّد نفسه ومصيره وسيّد الأحداث كلّها.
هذه السيادة المطلقة تتجلّى في العبارات الالهية الثلاث التي أطلقها يسوع أمام الحرس: "أنا هو Εγω ειμι" (18: 5، 6- ط 8). ففي خضمّ دراما الآلام، تظهر القوة والسيادة ملك يسوع وحده لا ملك الحرس، والشهادة على ذلك، تراجعهم إلى الوراء وسقوطهم على الأرض.
وأخيرًا، في رواية الاعتقال، يبدو يسوع عنيفًا مع بطرس الذي قطع الأذن اليمنى للخادم ملخس ووبخّه على عمله قائلاً له: "أغمد السيف! أفلا أشرب الكأس التي ناولني أبي إيّاها؟" (18: 11).
فمنذ بداية "كتاب المجد" (13: 1) يظهر يسوع سيّدًا لمصيره وعاثا بالأحداث كلها وموجّهًا لها، لأنه "كان يسوع يعلم أن الآب جعل في يديه كلّ شيء..." (3:13). وهذا ما نراه في بداية الانجيل أيضًا: "إن الآب أحبّ الابن فجعل كلّ شيء في يديه" (35:3).
فالجلجلة اليوحناويّة ليست مكانًا لخيبات الأمل أو لغياب الله: "لماذا تركتني؟"، بل موعد اللقاء العظيم بين الآب والابن، وطريق هذا اللقاء يخطوها الابن بنفسه بحرية مطلقة، هذا ما نستشفه من حدث حمل الصليب: "فخرج حاملاً صليبه إلى المكان الذي يقال له مكان الجلجلة" (17:19). ولقد أهمل يوحنا ما جاء في الإزائيين في شأن تدّخل سمعان القيرواني في مساعدة يسوع على حمل صليبه. وفي عدّة مناسبات نرى يسوع يتحدّث على أنه سيّد مصيره ولا يستطيع أحد أن يختطف حياته منه بل هو الذي يعطيها بنفسه: "ما من أحد ينتزعها منّي ولكن أبذلها برضاي..." فقال له يسوع: "إفعل ما أنت فاعل وعجّل" (13: 27) ويقف أمام حنّان دون خوف أو تردد (18: 20-23) وأمام بيلاطوس (19: 9- 11) أيضًا. فيسوع الذي يعلم، هو يسوع الذي يقود جلجلته بنفسه إلى اللقاء الفصحي مع الآب، بعد أن تمم إرادته القدّوسة.

2- يسوع يتمم إرادة الآب والكتب
رأينا أن يسوع هو الذي يعلم كلّ شيء وهو سيّد مصيره وجلجلته، وبالتالي، فهو الذي يكمّل بذاته على الصليب إرادة الآب والكتب المقدّسة: "قد تمّ كلّ شيء" (28:19 و30).
إن وجود الفعل "قد تمّ" (parfait du verbe= terminer ou accomplir) في آ 28 و30 له بعد لاهوتي عميق، ولقد عبّر يوحنا عن هذا التمام بفعلين قريبي المعنى مع فارق صغير: الأول τελεω- أنهى؛ والثاني Τελειοω: "تمم أو كمّل". فالفعل الأول τελεω (19: 28- 30) يعني أنّ "مهمّة ما" أو "رسالة ما" أو "عملاً ما" قد تحقق على أكمل وجه. وهذا الفعل لا يستعمله يوحنا إلاَّ عندما يتحدث عن تتميم الابن لمشيئة الآب وإرادته عن تتميم عمل الآب بالابن كما في حدث الجلجلة (34:4؛ 5: 30، 37؛ 38:6 ي؛ 28:8؛ 4:9؛ 10: 37؛ 17: 14) فيسوع اليوحناوي الذي حقق إرادة أبيه طيلة حياته الزمنيّة، يتمم الآن نهائيًا، بصدق وأمانه، عمل الآب الخلاصي ومشيئته القدوّسة حتى النفس الأخير.
أمّا الفعل الثاني τελειοω "لكي يتّم الكتاب" (آ 28) "تمم أو كمَّل" فيعني أن شيئًا ما وصل إلى كماله وغايته أو بمعنى آخر وصل إلى ملء معناه (الفعل لدى Τελειοω يشبه بالمعنى الفعل πληροω= تمم: "فتمت (πληρωθη) الكلمة التي قالها النبي أشعيا..." (يو 38:12)؛ "لكن لا بد أن يتم (πληρωθη) ما كتب..." (13: 18؛ 15: 25؛ 17: 12؛ 19: 24 و36). فالكتب المقدسة وصلت إلى غايتها وملء معناها في حدث الجلجلة.
هذا الفعل لديه τελειοω، بحسب السبعينّية (LXX)، هو ترجمة للفعل العبري "م ل ا" أو "م ل ا و. ي د" أو= ملأ أو ملأ اليد". والعبارة: ملأ اليد" تعني كرِّس إنسان لخدمة الرب أو كرّس لخدمة كهنوتية كما في خر 32: 29: "فقال موسى (للاويين): إملأوا أيديكم اليوم للرب" (تكرّسوا للرب= تكرّسوا كهنة وخدّامًا له) (راجع أيضًا 1 أخ 19: 5). فعلى الصليب كرّس يسوع في شخصه الكتب بأقسامها التشريعية والنبوية والحكمية وأوصلها إلى كمال غايتها. ألم يقل يومًا لليهود: "تتصفحون الكتب تظنون أنّ لكم فيها الحياة الأبدية فهي التي تشهد لي... لو كنتم تؤمنون بموسى لآمنتم بي لأنه في شأني كتب" (يو 5: 39 و36). وأيضًا في رؤيا يوحنا: "ورأيت ملاكًا قويا ينادي بأعلى صوته: من هو أهل لفتح الكتاب وفضّ أختامه؟... فقال لي واحدٌ من الشيوخ: لا تبك. ها قد غلب الأسد من سبط يهوذا، ذريّة داود: فسيفتح الكتاب ويفضّ ختومه السبعة" (رؤ 5: 2- 5). لقد تكّرست الكتب المقدسة في يسوع الجلجلة ووجدت ملأها فيه. هناك تحققت إرادة الآب وتدبيره الخلاصيّ ومجّدت مشيئته لأن الابن أحب خاصته إلى الغاية "εις τελος" ولم يفقد منهم إلاّ ابن الهلاك (يو 3: 15؛ 6: 36؛ 10: 28؛ 17: 12).

3- يسوع الظمآن
يقول يوحنا: "لكي يتّم الكتاب ινα τελειωθη η γραφη" صرخ يسوع قائلاً: أنا عطشان ∆ιψω" (28:19)
ما هذه الصرخة؟ كيف يصرخ يسوع قبل موته "أنا عطشان"، وبعد موته يدّفق من جنبه المطعون الدم والماء؟ إنّ الانجيلي يدعونا إلى قراءة أعمق لعبارته "أنا عطشان". ففي حواره مع السامرية عند بئر يعقوب في "كتاب الآيات" (يو 4)، يطلب يسوع من الإمرأة شيئًا قريبًا من "أنا عطشان"، يقول لها: "أعطيني لأشرب" (7:4)، وبعد ذلك، يقول لها: "لو كنت تعرفين عطاء الله ومن هو الذي يقول لك: أسقيني، لسألته أنت فأعطاك ماءً حيًا... الماء الذي أعطيه إيّاه يصير فيه عين ماء يتفجّر حياة أبدية" (4: 10 و14). هذا اللقاء بين يسوع والسامريّة قد تمّ في الساعة السادسة (أي عند الظهر)، أي في تمام الساعة التي حكم فيها على يسوع بالموت: "والساعة تقارب الظهر ωρα ην ως εκτη" (يو 6:4 و19: 14). هذا التقارب في الوقت، يجعلنا نقرأ حدث الجلجلة على ضوء لقاء يسوع مع السامريّة. هناك يطلب منها أن تسقيه، ثمّ يقول لها: "... الماء الذي أعطيه إياه يصير فيه عين ماء يتفجّر حياة أبدّية". وعلى الصليب يصرخ: "أنا عطشان" ثمّ يجري من حنبه المطعون الدم والماء؟ ما هذا التناقض؟ كيف يطلب الماء من السامرية وهو نبع الماء كما قال في يوم عيد المظال: "إن عطش أحد فليقبل إليّ ومن آمن بي فليشرب، كما ورد في الكتاب: ستجري من جوفه أنهار من الماء الحيّ" (يو 38:7-39). كيف يصرخ أنا عطشان وتتدفق المياه من حنبه المطعون؟ على ضوء الحوار مع السامريّة، وعلى ضوء قوله لتلاميذه: "طعامي أن أعمل بمشيئة الذي أرسلني وأن أتمّ عمله τελειωτω" (4: 34) تصبح عبارة "أنا عطشان" صرّخة الشوق المتأجج في قلب يسوع لتتميم مشيئة الآب حتى النهاية، وبالتالي، يصبح عطشه توقًا حارًا للعودة إلى الآب والاتحاد به كما يقول المزمور (41: 2): "... ظمئت نفسي إلى الله إلى الإله الحي متى آتي وأحضر أمام الله". عطش يسوع هو عطش روحي، عطش اللقاء والاتحاد الكامل بالله الآب.

4- "وكان هناك إناءٌ موضوعًا"
يتفرد يوحنا في الإناء الموضوع قرب الصليب فيقول: "كان هناك إناءٌ موضوعًا Sκεuος εκειτο" (19: 29).
هذه العبارة فريدة في كل الكتب اليوحناويّة. وُضعت في أول الآية 29 لتفتح آفاقًا واسعة من المعاني والرموز. فـ "الإناء Sκεuος " في البيبليا هو وعاء مقدّس يستعمل لأغراض طقسيّة كرتبة تطهير النجسين الخاطئين (عد 19: 17- 18؛ حك 15: 7) فوجوده على الجلجلة يعطي الحدث صبغة معيّنة، خاصة وزن الفعل "موضوع εκειτο " (من الفعل κειμαι= وضع) الذي يرافقه، له أبعاد عميقة في إنجيل يوحنا. ففي عرس قانا الجليل (2: 1-12)، في بداية "كتاب الآيات"، يقول الانجيلي: "وكان هناك ستة أجران من حجر موضوعة (κειμεναι) لتطهير اليهود" إن وجود الفعل "κειμεναι" (اسمً الفاعل لـ وضع= κειμαι) في عرس قانا الجليل، يربط أولى آيات يسوع بحدث الجلجلة، وبالتالي، ما عجزت عن تطهيره الأجران الستة في قانا (العدد ستة يرمز إلى النقص في الكتب اليوحناوية 7-1= 6) يطهرّه بالتمام والكمال الجرن السابع، جرن يسوع- الجلجلة.
والفعل "κειμαι= وضع" يستعمله الانجيلّي أيضًا في جوّ فصحي فيدّل على حالة اللفائف الممدودة في القبر صباح القيامة: "وانحنى (التلميذ الآخر) فأبصر اللفائف ممدودة κειμενα (اسم الفاعل لـ وضع= κειμαι)... ثمّ وصل سمعان بطرس... فدخل القبر فأبصر اللفائف ممدودة κειμενα (اسم الفاعل لـ وضع=κειμαι)، والمنديل الذي كان حول رأسه غير ممدود κειμενον مع اللفائف... أمّا مريم... فأنحنت نحو القبر وهي تبكي، فرأت ملاكين في ثياب بيض جالسين حيث وضع εκειτο (Imparfait du v. κειμαι) جثمان يسوع" (يو50:2، 6، 7، 12). وفي ظهور يسوع لتلاميذه على شاطئ بحيرة طبريّة بعد القيامة يقول الانجيليّ: "فلّما نزلوا إلى البّر أبصروا جمرًا موضوعًا κειμενην (اسم الفاعل لـ وضع= κειμαι) وسمكا عليه επικειμενον (من الفعل "وضع على επι-κειμαι) وخبزًا" (يو 21: 9). كما نرى ذات الفعل في حدث إحياء لعازر: "وجاش صدر يسوع ثانية وذهب إلى القبر وكان مغارة وضع على επεκειτο (Imparfait du v. επι-κειμαι) مدخلها حجر" (يو 11: 38).
أليس وجود الفعل κειμαι على الجلجلة، يدعونا أن نقرأ هذا الحدث قراءة فصحيّة؟ أليست الجلجلة اليوحناوية مكانًا لفصح الآب والابن؟

5- "وكان هناك إناءٌ وموضوعًا مملوءٌ خلاً"
كلمة "خلّ οξος" لا ترد إلاّ قليلاً في السبعينيّة (LXX) (4 مرات فقط) وهي ترجمة للكلمة العبرّية "ح م ص". فتأتي مرة واحدة بوجه سلبي كما في المزمور (29: 22): "جعلوا في طعامي سمًا وسقوني في عطشي خلاً". ومرّة بوجه عادي: "كنزع الثياب في أوان البرد، وكالخّل على الجرح، هكذا من يغنّي الاغاني لقلب مصاب" (أم 25: 20)، وتأتي على دفعتين بوجه إيجابي: "فليمتنع (النذير) عن الخمر والمسكر، ولا يشرب خلّ خمر وخلٍّ مسكر، ولا يشرب أي عصير من العنب" (عد 3:6)؛ "ولّما كان وقت الأكل، قال لها (راعوت) بوعز: هلمّي إلى ههنا وكلي من الخبز وأغمسي لقمتك في الخلّ" (را 2: 14).
إنّ الببيليا تنظر إلى الخلّ نظرة إيجابية أكثر منها سلبيّة. فقاموس Bauer-Gingrich يقول: "إن الخلّ يسكّن العطش أكثر من الماء، وهو المشروب المفضّل لدى الطبقة الفقيرة لأنه أدنى ثمنًا من الخمر العادي" (ويستشهد بـ را 2: 14). والعهد القديم يعرف الخل كشراب مرطبّ (عد 6: 3؛ را 2: 14). ففي "مدراش راعوت 2: 14" (133 أ) نقرأ: "إن الحصادين، أيام الحصاد، يغمسون خبزهم في الخل لترطيب عطشهم". على ضوء هذه المعطيات البييليّة نرى في تقدمة الخل ليسوع- الجلجلة عملاً إيجابّيًا.
لكن سفر راعوت يذهب بنا إلى أبعد من ذلك. فالدعوة التي يوجهها بوعز إلى راعوت الموابية "لتغمس لقمتها في الخل" (را 2: 14) هي دعوة إلى "مائدة إقامة عهد" ستتوجّ بزواج بوعز، أحد أجداد السلالة الداودية، من راعوت الموآبيّة. هكذا يسوع اليوحناوي الذي يتناول الاسفنجة المغمّسة بالخل، يقيم العهد الأبدي بينه وبين أحبائه ويختمه على الصليب: "قد تمّ كل شيء" ألم يقل: "متى ارتفعت جذبت إليّ كل أحد" (يو 12: 32)؟
من جهة أخرى، إن مسيرة شعب الله في الصحراء (سفر الخروج) تتوجت بإنزال الشريعة في جبل السيناء، هناك بتّ الله معه عهدًا أبديًا، وكان بنو اسرائيل، حتى يومنا، يجدّدون كل سنة هذا العهد في عيد العنصرة أو عيد الحصاد، وفي المناسبة، يقرأون سفر راعوت.
يقرأ سفر راعوت في العنصرة لسببين: الأول: لأن السفر يتحدث عن الحصاد والحصّادين، فيعّبر عن البيئة الزراعية للعيد. الثاني: لأن الشريعة أعطيت في الفقر والجوع والألم ومشقة الصحراء كما يقول الآب De Vaux، وبما أن سفر راعوت يبدأ بهذه الكلمات: "وكان في أيام حكم القضاة مجاعة في الأرض" (را 1: 1)، إعتبر التقليد اليهودي نزول الشريعة يوم العنصرة أو الحصاد جوابًا ايجابيًا على "المجاعة في الأرض". فالعهد القديم يؤمن أنّه حيث تطبّق بنود الشريعة، تتوافر النعم والغلاّت كما جاء في سفر راعوت: "فجلست (راعوت) بجانب الحصادين، وجعل (بوعز) لها كومة من الفريك، فأكلت وشبعت، واستبقت ما فضل عنها" (را 2: 14).
إن وجه هذا السفر المطّل على الجلجلة اليوحناوية، يجعل من الصليب والقيامة والعنصرة حدثًا واحدًا. ألم يهب يسوع روحه على الصليب (آ 30)؟ ألم يعط روحه القدوس لتلاميذه يوم أحد القيامة (يو20: 22-23)؟ أليست هذه هي النظرة اللاهوتيه اليوحناويّة للصليب والقيامة والعنصرة؟

6- الزوفى والجلجلة
بعد أن أطلق يسوع صرخته: "أنا عطشان" وضع الجنود "إسفنجة مبتلّة بالخلّ على ساق وزوفى وأدنوها من فمه".
(آ 29). فالزوفى نبات له ورق دقيق وشائق ينبت في الأرض الصخرية والحائط (1 مل 5: 13) ويستعمل لأغراض طقسيّة تطهيريّة، كرشّ دم الحملان والعجول أو الماء الطاهر (لا 3:14؛ عد 18:19؛ مز 51: 9؛ إش 1: 18؛ حز 36: 25؛ عب 9: 13- 14). ويقول الأب De Vaux: "إنّ الزوفى هي نبتة عطرة، تجمع أغصانها في باقة يوم الاحتفال الفصحيّ، فتغمس الباقة في دم الحمل ويرش كل يهودي عارضة باب بيته وقائمتيه" (خر 12: 22).
إنطلاقًا من هذه المعطيات الكتابيّة، تضعنا كلمة "زوفى" في جوّ طقسي عند الصليب، في حفلة تكريس العهد الأبدي بين الله وشعبه الجديد يوم الحمل الفصحي: يسوع (خر 22:12). ألم يشهد يوحنا المعمدان ليسوع في أول الانجيل اليوحناوي قائلاً: "هوذا حمل الله"؟ (يو 1: 36).

7- موت يسوع
لقد تمّ عمل الآب لخلاص العالم، على ما أنبأت به الكتب، تمّ كل ما تجسّد يسوع من أجله حبًا بنا، وذروته الموت على الصليب. لا يذكر يوحنا صرخة الاستغاثة: "لماذا تركتني؟" (متى 46:27؛ مز 15: 34)، بل يكتفي بهذا القول: "فلمّا تناول يسوع الخلّ قال: "قد تمّ كل شيء Тετελεσται، ثم حنى κλινας رأسه، وأسلم παρεδωκεν الروح" (19:30). يسوع اليوحناوي يشرب كأس المرارة حتى النفس الأخير، بعكس يسوع متّى (متى 27: 34) الذي رفض أن يشرب الخمر الممزوج بالمرّ. وبهذا العمل يصل يسوع إلى ذروة الحبّ "قد تمّ كل شيء" (آ30).
ونتساءل عن كيفية موت يسوع!؟ إنّ الذين يرافقون المنازعين في الدقائق الأخيرة من حياتهم، يعرفون حق المعرفة أنّ تسليم الروح يأتي قبل انحناء الرأس، لكن يوحنا، على عكس ذلك، يذكر أن يسوع "حنى رأسه وأسلم الروح" (آ 30) إن الفعل "حنى κλινας" (اسم الفاعل لـ حنى κλινω) هو في صيغة المعلوم ويشير إلى سيطرة على النفس يتميّز بها يسوع حتى النهاية في القيام لرسالته. فاستعمال هذا الفعل κλινω قبل "تسليم الروح" يؤكد لنا أنه في هذا الوقت بالذات لا أحد يستطيع أن يأخذ حياة يسوع، بل هو يعطيها بملء حريته كما قال: "ما من أحد ينزعها مني ولكني أبذلها برضاي" (يو10-18). ثم إن وجود الفعل "أسلم أو أعطى، παραδιδμι" في لحظة الموت (19: 30)، يؤكد بأن يسوع هو سيّد موته كما كان سيّد حياته. فالفعل παραδιδωμι أو διδωμι يأتي في إطار خيانة يهوذا واليهود وعظماء الكهنة ليسوع، بهذا الصدد يقول يوحنا: "وكان يهوذا الذي أسلمه παραδιδους (اسم الفاعل لـ أسلم παραδιδωμι) يعرف ذاك المكان..." (18: 2)، وعلى هذه الخيانة الاسخريوطيّة يرّد يسوع بعمل مفعم بالمحبة، فليلة الوداع: "غمس (يسوع) اللقمة ورفعها وناولها διδωδεν يهوذا بن سمعان الاسخريوطي" (13: 26) وشارك في هذه الخيانة اليهود وعظماء الكهنة إذ أسلموا يسوع إلى بيلاطس ليحكم عليه بالموت: "أجاب بيلاطس أتراني يهوديًا؟ إن أمتّك وعظماء الكهنة أسلموك إليّ παρεδωκαν σε εμοι. ماذا فعلت؟" (35:18). فخطيئة يهوذا وعظماء الكهنة لا تغتفر: "لذلك فالذي أسلمني إليك παραδus με σοι (اسم الفاعل لـ παραδιδωμι) عليه خطيئة كبيرة" (19: 11). وهذه الخطيئة تنال بيلاطس الذي أسلم يسوع للموت: "فأسلمه παρεδωκεν αuτον إليهم ليصلب" (19: 16).
هذه السلسلة من الخيانات لم تستطع سلب حياة يسوع (يو 18:10) لأنه هو وحده سيّد حياته. فعلى هذه الخيانات يردّ يسوع بتسليم روحه بذاته وفي الوقت الذي شاءه: "أسلم الروح παρεδωκεν το πνεuμα" (إنّ فاعل الفعل παραδιδωμι هو يسوع وحده) (19: 30). وبتسليم روحه وهب الروح القدس للعالم: "أراد بقوله الروح الذي سيناله المؤمنون به، فلم يكن هناك بعد من روح، لأن يسوع لم يكن قد مجّد" (39:7؛ رج 16: 5-7؛ 20: 22)

8- الجنب المطعون عند يوحنا
يتحدّث الإزائيون عن سلسلة أحداث رافقت موت يسوع: إنشقاق حجاب الهيكل، تصدّع الصخور، قيامة الموتى واعتراف قائد المئة... (متى 27: 45- 54؛ مر 15: 33-39؛ لو 23: 24-38)، لم يأت يوحنا على ذكرها، إنمّا تحدث عن طعن يسوع بالحربة (19: 31-37). لو عدنا إلى بداية حياة يسوع العلنيّة، نراه يتكلّم في حدث تطهير الهيكل (2: 13-22) عن هدم وإعادة بناء هذا المقام في ثلاثة أيام، وهذا المقام هو جسده كما يقول يوحنا. "أما هو فكان يعني هيكل جسده" (2: 21). فيسوع اليوحناوي هو هيكل الله، من جنبه المطعون على الصليب يتدفق ماء الحياة. ألم يقل يوم عيد المظال: "إن عطش أحدٌ فليقبل إليّ ومن آمن بي فليشرب كما في الكتاب: ستجري من جوفه أنهار من الماء الحي" (37:7-38) طبعًا، لم يذكر يوحنا انشقاق حجاب الهيكل، إنما تحدّث عن الطعن بالحربة، لأن يسوع اليوحناوي هو الهيكل الحقيقي الذي تجري منه الحياة وهو مسكن الله.

9- إعتراف الشاهد
لم يذكر يوحنا إعتراف قائد المئة كما ورد في الإزائيين (مت 27: 54؛ مر 39:15؛ لو 47:23)، لكنه يخبر، بعد حادثة طعن جنب يسوع (يو 19: 31، 37)، أنّ "الذي رأى εωρακως (اسم الفاعل لـ رأى= οραω) شهد μεμαρτuρηκεν (من الفعل شهد μαρτuρεω) وشهادته حقٌّ" (19: 35). في بداية الإنجيل، يخبر يوحنا الرسول عن شهادة المعمدان ليسوع فيقول: "وأنا (المعمدان) رأيت εωρακα (الفعل رأى= οραω في صيغة الماضي) وشهدتُ μεμαρτuρηκα (الفعل شهد= μαρτuρεω في صيغة الماضي) أنّه هو ابن الله" (يو 1: 43). فالمعمدان، على مثال قائد المئة، يشهد ليسوع بأنه ابن والله. فالفعلان "رأى وشهد οραω, μαρτυεω" اللذان يستعملهما الانجيلي سويّة، في شهادة المعمدان، يردان سوية أيضًا في حدث الجلجلة، وهذا ما يجعلنا نفكّر بمضمون إعتراف ذاك الذي "رأى وشهد" عند الصليب: "يسوع هو ابن الله". هذا هو اعتراف الشاهد.
لكنا نطرح السؤال: ماذا رأى الشاهد وعلى ما شهد؟؟
على الأقل، رأى حدثين: الأول: "أما يسوع... فلم يكسروا ساقيه" (19: 33). والثاني: "لكنّ واحدًا من الجنود طعنه بحربة في جنبه فخرج لوقته دم وماء" (19: 34). الحدث الأولى (9: 33) يذكرّنا بالحمل الفصحيّ الذي لم يُكسر له عظم. فيسوع هو حمل الفصح الجديد. ألم يشهد يوحنا المعمدان في بداية الانجيل بأن يسوع هو حمل الله الحامل خطيئة العالم (1: 29)؟ والحدث الثاني يذكرنا بالنبي الاسكاتولوجي المطعون الذي يتحدّث عنه سفر زكريا (12: 10). فالشاهد الذي "رأى وشهد" والذي اعترف مثل المعمدان وقائد المئة بأن يسوع هو ابن الله، شهد أيضًا بما رأى على الجلجلة: يسوع هو الحمل الفصحي، هو هيكل الرب الجديد وهو النبي الاسكاتولوجي المطعون.

خاتمة
إنّ الصليب اليوحناويّ يوجهّنا نحو الآب (19: 28- 30)، فهو "إرتفاع"، كما يقول إلانجيلّي (3: 14؛ 28:8؛ 23:12-34)، وبالتالي فهو "تمجيد" (12: 27-33). فدراما الآلام اليوحناويّة ليست مسرحًا لأحداث مأساوّية تخبر عن غياب الله الآب، بل كما يقول يسوع: "... ما أتيت إلاّ لتلك الساعة. يا أبت مجدّ إسمك" (27:12-28). لقد أصبحت الجلجلة مكانًا لتمجيد الآب، لا بل مكانًا لعودة الابن إلى حضن الآب والاتحاد المطلق به: "الابن الوحيد الذي في حضن الآب هو الذي أخبر عنه" (18:1). هذا الاتحاد المطلق بين الآب والابن، نراه متجلّيًا وظاهرًا للعيان طيلة حياة يسوع العلنية: "إن الذي أرسلني هو معي لم يتركني وحدي لأني أعمل أبدًا ما يرضيه" (29:8)، والآن، وصل إلى كماله على الصليب، وصل إلى ساعة المجد، ساعة العودة إلى حضن الآب بعد أن تمم مشيئته حتى النهاية، فأحبَّ خاصته وأعادهم معه إلى الآب: "وأنا إذا رُفعت من الأرض جذبت إليّ الناس أجمعين" (12: 32). فالجلجلة هي مكان عودة الابن وخاصته إلى حضن الآب. هذه الصورة تتجلى بالابن المرتفع بالمجد على الصليب كملك على الشعوب كافة: "وكتب بيلاطس رقعة وجعلها على الصليب، وكان مكتوبًا فيها: يسوع الناصري ملك اليهود... وكانت الكتابة بالعبريّة واللاتينيّة واليونانية" (19: 19- 20)، وبالأشخاص الأربعة: "هناك عند صليب يسوع، وقفت أمّه، وأخت أمّه، ومريم امرأة قلوبا، ومريم المجدليّة، فرأى يسوع أمّه وإلى جانبها التلميذ الحبيب إليه..." (يو 19: 25-26) الذين يمثّلون البشرية (العدد أربعة في التقليد اليوحناوي يرمز إلى العالم). فالجلجلة اليوحناوية هي نقطة اللقاء والاتحاد بين الابن والبشرية مع الله الآب. إنها عودة إلى حضن الآب.

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM