بين الانهماك والاستماع

الأحد الرابع عشر بعد العنصرة (1 تس 2: 1-13؛ لو 10: 38-42)

 

38وحدث بينما هم سائرونَ في الطريقِ أنَّه دخلَ إلى قريةٍ ما، وامرأةٌ اسمُها مرتا قبِلتْه في بيتِها. 39وكانت لها أختٌ اسمُها مريم. فأتَتْ وجلسَتْ لدَى رِجلَيْ ربِّنا، وسامعةً كانت أقوالَه. 40أمّا مرتا فناشطةً كانَت في خِدمةٍ كثيرة. فأتَتْ وقالَتْ له: “يا ربّ، أما يُهمُّكَ أنَّ أختي تَركتْني وحدِي أخدم؟ قلْ لها أن تساعدَني.” 41فأجابَ يسوعُ وقالَ لها: “مرتا، مرتا، أنتِ مُهتمَّة، أنتِ مُضطربةٌ في أمورٍ كثيرات. 42لكنْ واحدةٌ هي المطلوبة، ومريمُ اختارَتِ النصيبَ الصالحَ الذي لا يُؤخَذُ منها.”

*  *  *

أختان اثنتان. أمر غريب. يشبه ما قرأنا في بداية التوراة. "حبلت حوَّاء فولدت قايين... ثمَّ عادت فولدت أخاه هابيل" (تك 4: 1-2). مع قايين قالت: "اقتنيت رجلاً من عند الربّ" أو: "ولدتُ رجلاً مع الربّ". وما قالت شيئًا بالنسبة إلى هابيل الذي يعني اسمه "الدخان" الذي يمضي ولا يعود. إذًا، هو لا يساوي شيئًا بالنسبة إلى الناس. ولكن بالنسبة إلى الله، يقول الرسول: "ما يبدو أنَّه ضعف من الله هو أقوى من قوَّة الناس" (1 كو 1: 25). وواصل كلامه: "اختار الله ما يحتقره العالم ويزدريه ويظنُّه لا شيء ليزيل ما يظنُّه العالم شيئًا" (آ28).

ماذا تشكِّل مريم بالنسبة إلى مرتا؟ تقريبًا لا شيء. مرتا هي "امرأة" والبيت "بيتها". وهي التي استقبلت يسوع. مريم هي فقط "أخت" مرتا. لا أكثر ولا أقلّ. مرتا تعمل، تتكلَّم، تطالب. أمّا مريم فساكتة. كأنِّي بها لا يحقُّ لها أن تتصرَّف إلاَّ بحسب أوامر أختها.

مرتا "ربَّة البيت" مسؤولة عن "أمور الضيافة". ومريم؟ هي لا تعمل شيئًا. هي جالسة وكأنَّ الأمور لا تهمُّها. هذا في الخارج. أمّا في العمق، فانظروا أين تجلس: عند قدمَي المعلِّم. هناك يكون التلميذ. هناك تكون التلميذة. المعلِّم يجلس على مكان عالٍ. نقول اليوم: "كرسيّ"، والتلاميذ يجلسون على الأرض بقربه. هكذا افتخر شاول (بولس) بأنَّه تعلَّم عند قدمي غملائيل (أع 22: 3). أما يحقُّ لمريم أن تفرح بأنَّها لدى الربِّ يسوع. هي تلميذة مع التلاميذ. كنزها حيث هو قلبها. قلبها لدى يسوع وكنزها هو يسوع. ولا تهتمُّ لأمور أخرى. فهي تستطيع أن تحسب كلَّ شيء آخر "نفاية لتربح المسيح وتُوجَد فيه" (فل 3: 8). ما يهمُّها هو أن "تعرف المسيح وتعرف القوَّة التي تجلَّت في قيامته" (آ10). لهذا قال عنها يسوع: "اختارت النصيب الأفضل" (لو 10: 42).

مريم هي "المستمعة" ولا عمل لها سوى أن تستمع إلى كلام الربّ. هي المثال لكلِّ إنسان الذي يبدأ نهاره بالاستماع إلى الله، كالجنديّ الذي ينتظر أمر اليوم من قائده. ومرتا؟ ألا تستحقُّ مديحًا من الربّ وهي المهتمَّة بحسن استقباله؟ كلاّ. ثلاث صفات تُذكر هنا: الانهماك، الاهتمام، التعلُّق مع لفظ "كثير". ليست مأخوذة بيسوع الذي أرادت أن تستضيفه في بيتها. بل هي مهتمَّة بكلِّ شيء إلاَّ بذاك الذي يستحقُّ كلَّ اهتمامها.

"أمور كثيرة". هذا ما لا يريده يسوع. فقال: "الحاجة إلى واحد". مرتا هي صورة عدد من الكهنة، من الرهبان والراهبات، الذين يكثرون الأعمال والمشاريع. يروحون، يجيئون، يتعبون، يلهثون. لا راحة لهم. لا وقت للتفكير، لا وقت للصلاة الشخصيَّة الصامتة. والنتيجة؟ مرارة في الفم. يا ليتني! فهذا يدلُّ مرارًا على فراغ داخليّ نريد أن نملأه ولا نعرف كيف العمل.

"لا تهتمُّوا لحياتكم بما تأكلون وبما تشربون، ولا لأجسادكم بما تلبسون؟ انظروا إلى طيور السماء... تأمَّلوا زنابق الحقل..." (مت 6: 25ي). ما يشجبه يسوع هو الانهماك والقلق بحيث يضيع ما هو أساسيّ، جوهريّ. ما الذي يجب أن تطلبه مرتا أوَّلاً؟ "ملكوت الله وبرَّه" (آ32). أتى يسوع إلى بيتها لكي يملك فيه، فكأنِّي بها أرادت أن تكون هي "المالكة" ويبقى يسوع الضيف، ذاك الغريب. وهذا ما يطرح السؤال على كلِّ واحد منَّا: ما هي مكانة الربِّ في حياتنا؟ أنا أعمل الأسبوع كلَّه. ويوم الأحد أيشبه سائر الأيَّام؟ نهاري من الليل إلى الليل... والله؟ هل نسمع له، نكلِّمه، نلتفت إليه دقيقة واحدة؟ أمَا نحن نشتكي من الوضع، من الناس، من الكسالى؟

نبدأ نهارنا وننهيه مع مريم، فيتبارك عملنا برفقة مرتا.


 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM