الفصل الثاني والأربعون: صعود بولس إلى أورشليم

 

الفصل الثاني والأربعون
صعود بولس إلى أورشليم  20: 36- 21: 16
أ- المقدمة
يتوجّه التفسير الحديث لهذا النص في ثلاثة خطوط رئيسية.
1- الخط الأول
يعتبر معظم الشرّاح أن هذا النص يروي خبراً عاشه الكاتب: دوّنه في صيغة المتكلم الجمع بشكل يوميات مسافر، وابتعد عنه كل عنصر عجائبي. لهذا يكون التفسير على مستوى فقه اللغة وعلى مستوى التاريخ. وكان يوحنا فم الذهب قد رأى الصعوبة التأويلية الكبرى في 21: 4: "وكانوا يقولون لبولس بوحي من الروح، أن لا يصعد إلى أورشليم". ميّز بين النبوءة عن الآلام التي أوحى بها الروح، والاستعطاف البشري (الذي لا يلهمه الله) بأن لا يصعد إلى أورشليم. قال يوحنا فم الذهب أولاً: اعتاد بولس أن يقتنع حين لا يعارض الروح القدس. ولكنه لم يتراجع هنا رغم توسّلات وبكاء المؤمنين الذين أعلنوا له الشقاء، ولو أعلن هذا الشقاء بوحي من الروح القدس. إذن، عرف أن الروح يريده أن يصعد إلى أورشليم، رغم المخاطر التي تهدده. وقال ثانياً: لماذا يعارض المؤمنون، حاملو النبوءة، الروح القدس؟ لأنهم يجهلون إلى أين سيقودهم. أنبأوا بالشقاء فجاء إنباؤهم بوحي من الروح القدس، أما استعطافهم بأن لا يذهب إلى أورشليم (من أجل نجاة الرسول) فليس موحى.
2- الخط الثاني.
الخط الثاني هو خط النظرة التدوينية: عاد لوقا إلى تقاليد ضعيفة وناقصة. أما الفصل الذي ندرس فهو تأليف حرّ ينقل فيه الكاتب بولس من آسية (ميليتس) إلى فلسطين عبر بضعة وقائع تعطي نكهة خاصة لتحرّك عادي ويمكن أن يكون مبتذلاً.
3- الخط الثالث
عاد الشرّاِح الحديثون إلى فرضية قديمة، وقابلوا بين الإنجيل والأعمال، بين آلام بولس وآلام يسوع، بين مصير يسوع ومصير بولس.
أما نحن فنظن أن لوقا استند إلى معيوش تاريخي لا نستطيع دوماً أن نتحقق من صحته تحققاً كاملاً. انطلق من تقاليد معروفة، ورتبها بأسلوب كتابي قريب مما نجده في الأدب اليوناني.
ماذا نجد في قلب هذا المقطع؟ عرف "البطل" بوحي (جاءته علامة أو حلم) إلهي أنه ذاهب إلى الموت. وعى مسؤوليته، ولكنه خضع لقدره فقبل هذا المخرج. حاول أخصّاؤه من أصدقاء وجماعة ينتمي إليها، أن يدعوه لينجو بحياته بسبب محبتهم له وبسبب ضرورة وجوده بينهم كقائد ورئيس. ويبرز التوتّر بين البطل وأخصائه. يشدد هؤلاء على المحبة المتبادلة وعلى خير الجماعة. أما البطل، فيشدد على إرادة الله. ونتيجة هذه الأزمة هي عودة الجميع إلى قاعدة سامية، هي انتصار شريعة الشرائع، انتصار إرادة الله. نقرأ في 21: 14: "سكتنا وقلنا: لتكن مشيئة الرب".
بعد أن نقدم تفسيراً لهذا النص، سنكتشف نموذجاً أدبياً اتبعه لوقا: عبّر بطريقة الاتفاقات عن عناصر عديدة مثل الانفصال والعلامات النبوية، مهما كانت درجتها التاريخية، ولكن هذا لا يعني أن الكاتب نقصه الصدق في تقديم الواقع.
ب- تفسير المقطع (20: 36- 21: 16)
1- وداع مؤثر (20: 36- 38)
آ 36- وبعد خطبة بولس لشيوخ أفسس المجتمعين في ميليتس، بدأت صلاة: ركع بولس وركعت الجماعة معه. لقد اعتاد بولس أن يحدّثنا عن الصلاة في الإنجيل وفي الأعمال. إن الصلاة هي طقس من طقوس الوداع (21: 5- 6).
آ 37- وجاء وقت الانفصال، فصوّره لوقا بألوان بيبلية. نقرأ مثلاً في تك 33: 4 كيف استقبل يوسف أخاه بنيامين (رج تك 46: 29). ليست القبلة هنا قبلة السلام المعروفة بين المسيحيين (رج 1 تس 5: 26؛ 1 كور 16: 20؛ 2 كور 13: 12؛ روم 16: 16) بل هي تعبير عن الحزن الممزوج بالمحبة.
آ 38- ومع عبارة تعود بنا إلى آ 25 (وأنا أعرف أنكم لن تروا وجهي بعد اليوم) يعلن لوقا أن هذا الوداع هو نهائي. إن السجن ينتظره، وإنه لن يعود يرى أحبّاءه. إن وجهة بولس هي أورشليم كما كانت وجهة معلمه من قبله. نقرأ في لو 9: 51 : "اتخذ يسوع بحزم (حرفياً صلّب وجهه أو قوى قلبه فلا شيء يثنيه عن عزمه) الطريق إلى أورشليم". أجل، إن لوقا اعتبر بولس وكأنه انتقل إلى عالم الموت.
2- من ميليتس إلى صور (21: 1- 6)
آ 1- انتزع بولس ورفاقه نفوسهم انتزاعاً من أصدقائهم في ميليتس: توجهّوا إلى كوس ثم رودس (أي مرفأ رودس) وباترة. وهناك اختلافة تفول: باترة وميرة. وهذه الزيادة (ميرة) تقود المسافرين مسافة 80 كلم إلى الشرق. يعتبر هانشن أننا أمام خطأ النسّاخ. فكيف يُعقل أن يقطع المسافرون كل هذه المسافة في يوم واحد؟ من تعني صيغة المتكلم الجمع؟ قال جاكييه: لوقا وحده. فإن تروفيموس وأسترخس قد انفصلا عن الجماعة. ولكن لوقا لا يشير إلى هذا الانفصال. ويربط البنية الإخبارية للخطبة السابقة بالمسيرة التي تتوالى. قادنا في أول يوم من السفر إلى كوس، والثاني إلى رودس، والثالث إلى باترة، مرفأ ليقية.
آ 2- هنا انتقل المسافرون من مركب إلى آخر، إلى مركب يتوجّه مباشرة إلى فينيقية. يتحدّث لوقا عن فينيقية أو سورية أو صور بلا تمييز. المهم وجهة السفر: أورشليم. بولس هو معجّل، والوقت يدهمه كما يقول 20: 16: لا يريد أن يتأخّر في آسية، وهو يريد السرعة لعلّه يصل إلى أورشليم في يوم العنصرة. حسب النص البازي، انتقل المسافرون من مركب إلى مركب في ميرة.
آ 3- خسرت صور أهميتها السياسة، ولكنّها ظلت مرفأ نشيطاً على الشاطئ الشرقي للبحر المتوسط. متى بُشّرت صور؟ بعد أن تشتّت المؤمنون على أثر مقتل اسطفانس (11: 19- 20: انتقلوا إلى فينيقية وقبرص وأنطاكية). ترك المركب قبرص إلى الشمال وتوجّه إلى صور. هذا يتطلب يومين من السفر على الأقلّ. كان على المركب أن يفرغ حمولته في صور. لا شك في أنه لم يكن ذاهباً في الحال إلى مكان آخر. إن قرأنا النص اليوناني، نلاحظ هنا كيف يستعمل لوقا كلمات تقنية تختص بالملاحة (انافاننتس: أرسل نظرة).
آ 4- لا يحدّثنا لوقا عن تأسيس هذه الجماعة، ولكنّه يقول إن بولس وجد التلاميذ، اكتشفهم. ألم يكونوا معروفين؟ هل كانوا قلّة قليلة؟ الأمر معقول. على بولس الآن أن ينتظر مركباً يوصله إلى موضع اتجاهه. فتفريغ المركب وتحميله يتطلّبان وقتاً طويلاً (قد يكون بولس ذهب في المركب عينه أو اتخذ مركباً آخر يوصله إلى قيصرية). هنا يتساءل الشرّاح بدهشة: كيف قضى بولس سبعة أيام في صور؟ قد يكون انتظر المركب. ولكن لماذا لا نقول إنه فرح بوجود جماعة مسيحية في صور. قد يكون بحث عنهم وجمعهم. رأى الروح (أي الروح القدس) يعمل في "هؤلاء الأنبياء" ويتكلّم فيهم. قالوا له: لا تصعد إلى أورشليم. ولكن بولس عرف بوحي إلهي أنه من الضروري أن يذهب إلى أورشليم. هل من تعارض بين وحي الروح لجماعة صور وإلهام الله لبولس؟ هناك جواب أول: "الأنبياء" رأوا ما ينتظر بولس من آلام في أورشليم، فطلبوا منه أن لا يذهب، بعد أن تغلّبت فيهم العاطفة على إرادة الله (يقول بولس في 26: 19 إنه لم يقاوم الرؤيا السماوية. هذا يعني أنه بالإمكان مقاومتها). سنرى فيما بعد كيف أن الروح ليس وقفاً على احد، وأنه يطلب منا أن ننطلق إلى الأمام منتظرين أنوارا أخرى تضيء تصرفاتنا.
آ 5- 6 نقرأ في البداية: "وحدث أنه..." نحن هنا أمام أسلوب لوقاوي اكتسبه كاتب أع من التوراة في نسختها اليونانية. وقد نكون أمام رغبة في متابعة السفر أو أمام خطورة الذهاب. ورافقت الجماعة كلها بولس إلى الشاطئ وهناك ودّعته. هذا ما قرأناه أيضاً في 28: 35- 38. إذن، لم يأخذ بولس بتنبيه المسيحيين في صور، رغم محبتهم له: "جاؤوا بنسائهم وأطفالهم ليودعوه"!
3- من صور إلى قيصرية (21: 7- 9)
آ 7- وانطلق المركب، ولم تنته رحلته في بطلمايس. إنها تبعد مسافة 64 كلم عن صور في طريق البحر. إذاً، لماذا انتظر بولس أسبوعاً كاملاً، ولماذا لم يقطع المسافة بطريق البر؟ هذا يعني أن الباخرة نفسها وصلت إلى قيصرية. بطلمايس هي عكا الحديثة. وكان فيها كنيسة منذ تشتت المسيحيين (11: 19). وجد بولس في بطلمايس جماعة مسيحية لم يتحدّث لوقا عن تأسيسها. قضى المسافرون يوماً مع الإخوة قبل التوجّه إلى قيصرية التي لا تبعد عن بطلمايس إلا ما يقارب الستين كلم.
آ 8- أقام بولس ورفاقه مع فيلبس، رفيق اسطفانس (6: 5). إنه "إنجيلي" أي المبشر (المعلن) بالإنجيل (لتمييزه عن فيلبس الرسول). إن نشاطه الرسولي أعطاه هذا الاسم (أف 4: 11؛ 2 تم 4: 5). وهو أحد السبعة. يقول 8 : 40 إنه ذهب إلى قيصرية حيث أسّس جماعة مسيحية. نشير إلى أن التقليد اللاحق سيخلط بين فيلبس أحد السبعة وبين الرسول فيلبس.
آ 9- له أربع بنات غير متزوجات، وكن يتنبأن. هل من علاقة بين البتولية وموهبة النبوءة؟ لا ننسى أنه كان للعذارى والأرامل وضع خاص في الكنيسة (1 تم 5: 3- 16). ما يدهشنا هو أن البنات لم يتنبأن عن مصير بولس. قد يكون لوقا اكتفى بما وجده في مراجعه: تحدّث عن مضيفي بولس، ولكنه لم يعرف شيئاً عن تحذير وصل إلى بولس على ألسنتهن.
4- كلام أغابوس (21: 10- 14)
آ 10- يقدّم لنا لوقا أغابوس وكأنه شخص غير معروف. تمتد اليهودية أمام أورشليم، وتنتمي قيصرية أيضاً إلى مقاطعة اليهودية الإدارية.
آ 11- يتساءل لوازي حول أغابوس: كيف لم يسلّم على الجماعة المسيحية، ولماذا يتوجه مباشرة إلى بولس الذي لا يعرفه؟ أخذ حزام بولس وقيّد به يديه ورجليه. ولكن كيف يقيّد الإنسان يديه؟ هذا أمر غير معقول. ثم إن اليهود أمسكوا بولس، ولكنهم لم يقيّدوه ولا سلّموه إلى الرومان. بل إن الرومان هم الذين أخذوه من أيديهم.
نحن أولاً أمام فعلة نبوية قام بها أغابوس، فذكرنا بما فعل أشعيا (20: 2) حين سار في شوارع أورشليم حافياً وعرياناً ليدلّ على الحالة التي سيصير إليها شعبه بعد مجيء سرجون الآشوري. وبما فعل ارميا (13: 1 ي) حين أخذ حزامه وطمره في الوادي ففسد، فدل هذا الفساد على الحالة التي صار إليها الشعب. وهكذا فعل أغابوس. كان الأنبياء يقولون: هذا ما يقول الرب. فقال أغابوس: هذا ما يقول الروح القدس.
إن اللهجة الاحتفالية تذكرنا بخبر يسوع. فاليهود مخطئون: كما أسلموا يسوع إلى السلطة الرومانية، كذلك أسلموا بولس إلى رومه (رج مر 10: 33؛ 15: 1؛ أع 28: 17).
آ 12- إن ترجّيات رفاق بولس والمسيحيين أعطت قوة للتحذيرات، وشددت على الخطر. لا شك في أن لا معنى لهذه الترجّيات إن كان المسيحيون ظنّوا أن نبوءة أغابوس لن تحدث مطلقاً. الوضع هنا كما هو في آ 4، والشعور طبيعي، وإن لم يكن منطقياً.
آ 13- إن هذه التحذيرات وهذه التوسلات أتاحت لبولس أن يقول استعداده لأن يتألم من أجل اسم الرب. هو مستعد لا للسجن فقط، بل للموت في أورشليم التي كانت مدينة حدّدت مصير يسوع، وستحدّد مصير تلاميذه. ويُذكر البكاء وكسر القلب، وهذا يدل على قوة التوسّل وخطورة الوضع. أجل إن بولس مستعدّ لمشيئة الله. من الصعب أن يقدم ذبيحة تزعجه. وأصعب من ذلك حين يحسّ أن الشعب سيتأثر بهذه الذبيحة ويتوسل إليه ألا يفعل. وينضمّ القلب إلى اللسان والحب إلى الكلام، وكل هذا يؤلم قلب بولس. ولكن اسم الرب يسوع هو فوق كل شيء، والرسول يطيع الله لا الناس ولو كانوا أعزّاء يريدون ما يعتبرونه خيراً له ولهم.
آ 14- وخضع رفاق بولس لما لا بدّ منه. وعرف القارئ أن المصيبة آتية. لم يمنعوا بولس، بل اقتنعوا أن تلك هي مشيئة الرب وسوف تتم. كم نحن قريبون من يسوع المسيح في جتسيماني: "لا مشيئتي، بل مشيئتك" (لو 22: 42).
5- الوصول إلى أورشليم (21: 15- 16)
آ 15- وبعد ذلك بأيام (رج آ 10). نحن في إطار يوميات سفر. تأهّبنا للسفر. وسار بولس إلى أورشليم طاعة لأمر الرب، كما سار إبراهيم قبله إلى الجبل ليقدم ابنه ذبيحة على الجبل (تك 22: 3 ي). إن المسافة من قيصرية إلى أورشليم عبر لدة هي 104 كلم، ولا يستطيع المسافر أن يقطعها في يوم واحد. ولهذا كان هذا التأهب. وقد يكون معنى روحي لهذا التأهب لقبول مشيئة الله في أورشليم. استعداد مادي ولكن استعداد روحي عاشه بولس في هذه الطريق التي بدت طويلة جداً. ماذا سيحدث لبولس في أورشليم؟
آ 16- لم يصعد بولس وحده، بل رافقه بعض التلاميذ من قيصرية. قد يكونون أرادوا أن يعيّدوا العنصرة في أورشليم. وقد يكونون "دليلاً" لبولس. وصلوا إلى بيت مناسون القبرصي وهو مسيحي منذ أول عهد الكنيسة. كان مناسون رجلاً مهماً لأنه استضاف لا بولس وحده بل رفاقه خلال إقامتهم في أورشليم. استقبل أناساً غير مختونين، فكان موقفه مغايراً لموقف" أولئك المتعصّبين لشريعة موسى" (21: 20).
كانت السماء صافية في خطبة ميليتس، ولكن الغيوم بدأت تتجمّع مهدّدة. ومع وصية بولس بدأت التطوّرات. هنا نسمع ونحن منندهشون أن الروح القدس يتنبأ لبولس في كل مدينة "بالقيود والمشقات" (20: 23) ويقول له إنه لن يعود يرى وجه المؤمنين مرة أخرى (20: 25، 38). وبدأ السفر، فأتاح للوقا أن يقدّم لنا لوحة تأخذ بمجامع قلبنا في مشاهد تصل بنا إلى الذروة. بدأنا مع جماعة صور، ولكن لوقا لم يذكر نبياً فيها. ولكن لما وصلنا إلى قيصرية، ارتدى المشهد قوة جديدة. أشار لوقا أولاً إلى بنات فيلبس اللواتي كن يتنبّان، فهيأ القارئ لنبوءة أغابوس نفسه ولظهور الروح القدس الذي أعلن بصريح العبارة ما ينتظر بولس في أورشليم. وكان الصراع بين بولس ورفاقه والجماعات التي تستقبله، وكان صراع أعلن بولس خلاله وبعده أنه مستعد لا للقيود وحدها بل للموت في أورشليم من أجل اسم يسوع. هذا ما بقي في ذاكرة الجماعة المحلية التي اتخذ منها لوقا معلوماته عن نهاية عمل بولس الرسولي الذي انطلق بقوة جديدة بعد مجمع أورشليم (15: 36). انطلق بولس من أورشليم في سنة 48- 49 حرّاً طليقاً من أجل نشر الإنجيل، وهاهو يدخل أورشليم ليحمل قيوداً تصل به إلى رومة. هذا ما عرفه لوقا في زياراته للجماعات المحلية وقد يكون عاش بعضه حين رافق بولس لا في أسفاره فحسب، بل في سجن رومة (كو 4: 14).
لسنا هنا أمام تقرير صحافي، بل أمام تأليف أدبي. أخذ لوقا العناصر المتعدّدة، وسكبها في إطار أدبي عرفه الأدب اليوناني سواء كان وثنياً أم مسيحياً. توسّل لوقا هذا الفن الأدبي، فجعل القارئ يعيش أيام بولس الأخيرة في عمل الرسالة، ويتعرف إلى الجماعات المسيحية التي توزّعت مدن شاطئ البحر المتوسط.
ج- نموذج أدبي
عرف لوقا هذا النموذج الأدبي لدى العالم الوثني والعالم اليهودي والعالم المسيحي. وها نحن نقدم بعض أمثلة، مستخلصين الأسلوب الذي سار عليه لوقا في هذا الفصل من سفر الأعمال.
1- في العالم الوثني
نجد المثل الأول في إلياذة هوميروس. كان البطل هكتور في قصره في مدينة طروادة، وكان يستعد للذهاب في مهمة يدافع بها عن وطنه. توسّلت إليه امرأته أن لا يعود إلى الحرب، وتوسّل إليه والده وصديقه. عرف هكتور أن مصيراً مشؤوماً ينتظره، ولكنه أراد سماع صوت الواجب واعتبر أن الإنسان لا يفلت من قدره.
نلاحظ منذ الآن عناصر سنجدها في خبر صعود بولس إلى أورشليم. لا يكتفي الأهل والأصدقاء بالتوسّل، بل يرافق هذا التوسّل دموع وحركات محبة. يتوجّه النداء إلى العاطفة ويذكر الحاجة إلى البطل في هذه الظروف الصعبة. فعليه أن يبقى مع جماعته، لا أن يذهب. تأثّر هكتور بهذا التوسل وهذه الدموع، ولكنه عارض بين القيم العائلية وإرادة الآلهة، ورفض أن يتراجع بعد أن وصل إليه رسول سماوي أو رأى علامة تُعلن له مصيره.
والمثل الثاني في كريتون (كتاب فلسفي) افلاطون: هل سيهرب سقراط بناء على طلب صديقه وتلميذه، أم سيواجه الموت رغم توّسلات تلاميذه ودموعهم؟ وقد روى سقراط أن امرأة ظهرت له وأنبأته بموته في الغد. والمثل الثالث رواه فيلوستراتس في "حياة ابولونيوس التياني"، وفيه العناصر نفسها.
2- في العالم اليهودي
يشير الأدب اليهودي إلى أخبار يحاول فيها الناس أن يبعدوا الشهيد عن مصيره. ففي دا 6: 15 نرى الملك داريوس يحاول أن يخلّص دانيال من الموت. وفي 2 مك 6: 21- 28، قدّم المسؤولون لألعازار حلاً يتيح له أن ينجو من الاستشهاد: كانوا يعرفونه منذ زمن بعيد ويكنّون له مودة قديمة. طلبوا منه أن يتظاهر لينجو من الموت. قال: لا يليق بنا التظاهر والرياء لئلا يظنّ الشبان أن ألعازار انحاز إلى ديانة الغرباء. وسيطلب انطيوخس الرابع من أم السبعة أن تقنع ابنها الأصغر بأن يطيع الملك فينجو من الموت. أما هي فكلمت ابنها في لغة لا يفهمها الملك، وحرّضته على الاستشهاد (2 مك 7: 25- 29). وننتقل إلى كتاب منحول هو سفر المكابيين الرابع الذي يتوسّع في ما قاله 2 مك. ففي 4 مك 8: 17- 26 يتخيّل الكاتب ما كان على الشبان أن يقولوه لينجوا بحياتهم. وفي 10: 1 نسمع عدداً من الناس يحرضون الأخ الثالث ليأكل من لحم الخنزير فينجو بحياته. ونجد في 12: 6- 7 ما قرأناه في 2 مك 7: 25- 29. ونقرأ في 4 مك 16: 5- 11 ما كان على الأم أن تقوله لو سمعت إلى صوت الطبيعة والأمومة والحنان. ولكننا سنقرأ في 16: 16- 23 ما ستقوله في الواقع باسم التقوى والإيمان.
نلاحظ أن الملك المضطهد يحرّض البطل على النجاة من الموت، لا الأهل والأصدقاء وحدهم. كما نلاحظ تمييزا بين معيارين: المحبة أو الصداقة من جهة، والإرادة الإلهية من جهة أخرى. تذكّر ألعازار "يد القدير" التي لا مفرّ منها، والشريعة الجليلة المقدسة التي لأجلها سيموت.
ونذكر هنا في إطار آخر ما نجده في "وصية أيوب" (كتاب منحول) ونستخرج منه الملاحظتين التاليتين. الأولى: حاول أصدقاء أيوب وامرأته الذين لم يقدروا أن يقبلوا بشقاء أيوب، ولا أن يفهموا تعلّقه بالخيور السماوية. لهذا حاولوا أن يقنعوه. الملاحظة الثانية: أورث أيوب بناته ثلاثة أحزمة سحرية. وهذه الهدية تتيح لهم بان يشاركوا في العالم السماوي ويتكلّموا لغة الملائكة. هذا ما يذكّرنا من جهة ببنات فيلبس اللواتي كن يتنبأن (أع 21: 9)، ومن جهة ثانية بحزام بولس الذي استعمله أغابوس ليقيّد به يديه ورجليه (أع 21: 11). على المستوى التدويني، يعني الحزام السجن القريب. أما على المستوى التقليدي فهو علامة الآلام من جهة، ووعد بالحياة الأبدية من جهة أخرى.
3- في العالم المسيحي
نقابل هنا مر 8: 32- 33 وأع 21: 4، 12- 14. أراد بطرس أن يقنع يسوع بأن لا يذهب إلى الألم والموت، فسمّاه يسوع "شيطاناً" لأنه يعارض بأفكاره البشرية مخطّط الله . أما بولس فيحاول أن يقنع أصدقاءه ويهدئ من روعهم دون أن يشجب محبتهم له. قال: أنتم حين تبكون تكسرون قلبي.
ونتوقّف هنا عند أخبار الشهداء أو ما يسمّى "آلام" وموت الشهداء. ماذا نجد من عناصر؟ هناك الحلم الذي ينبئ مسبقاً أو العلامة التي تدل المؤمن على ما ينتظره: مثلاً، مخدة بوليكربوس المشتعلة، رؤى برباتوة. وتروي "آلام ماريانوس ويعقوب" أن بيونيوس وضع القيود على رقاب الشهداء العتيدين على أثر رؤية رآها، وأن يعقوب رأى في حلم المسيح نفسه يضع حزاماً على خصر كل من الضحيتين ويدعوهما إلى السير وراءه.
وتعبّر هذه النصوص عن محبة العائلة أو الجماعة نحو ذلك الذاهب إلى الموت: حاول والد برباتوة مراراً أن يثني ابنته عن عزمها. وسعى النبلاء باسم صداقتهم أن يقنعوا قبريانس (أسقف قرطاجة) بأن يهرب. وفي "آلام مونتانس ولوقيوس" يدعو الشماس فلافيانس أصدقاؤه لئلا يعاند. ولما رفض لجأوا إلى الحيلة لينجّوه. ولكن الشهيد أفسد طرقهم وانضمّ إلى رفاقه في الموت. أجل، إن البطل يرفض الحلول السهلة. ومع أنه يصعب على الجماعة أن تفهم تصلّب الشهيد وتدرك قصد الله، إلا أنها تساعده وتشجّعه وتحيطه بالمحبة. قد تكون هذه المساعدة مادية: زيارة أو تشييع. هكذا شيّع الشيوخ بولس إلى السفينة بعد حديث ميليتس (20: 38). وهكذا شيّعه أهل صور مع نسائهم وأولادهم إلى خارج المدينة (21: 5).
ويبدأ الشهيد يتوسّل إلى أخصّائه. كان شهداء ليون (في فرنسا) يحرّضون إخوتهم بدموع ويطلبون منهم أن يصلّوا من أجل إتمام حياتهم. ومات المجنّد الشاب مكسيميليان، لأنه رفض الخدمة العسكرية. وإذ كانوا يقتادونه إلى مكان العذاب، قال: أسرعوا، يا إخوتي، لتكون لكم السعادة فيمنحكم الرب، أنتم أيضاً، إكليلاً مثل إكليلي.
وأخيراً، ما كان في النصوص الوثنية خضوعاً أعلى لقدر أعمى لا يُرَدّ، صار في النصوص المسيحية خضوعاً حراً لإرادة الله. قالت الجماعة حوله بولس: لتكن (لتتم) مشيئة الرب. وتردّدت هذه العبارة في أقدم خبر نعرفه هو خبر استشهاد بوليكربوس.
وهناك حدث معروف في أعمال بولس وتقلا. ونقرأ في "انتقال يوحنا" (أو أعمال يوحنا) أن يوحنا استعد للموت، فوجه إلى الله صلاة أخيرة ليسهل له وصوله إلى السماء. ويتابع الراوي: "وإذ كنا نبكي وننتحب، قالت لي: يا بروخور ابني، لماذا تبكي، ولماذا تحثّ إخوتك على النحيب، بينما أنا ذاهب إلى الملكوت؟
وقد عرّفت "أعمال بطرس" بهذه العبارة التي يقول التقليد إن بطرس الهارب من الموت قالها ليسوع: إلى أين أنت ذاهب، يا رب (بو هودي في اليونانية، وفي اللاتينية كوو فاديس). فجاءه الجواب: أنا ذاهب إلى رومة لأصلَب. تحدّثنا هذه الأعمال عن كسانتيبة النبيلة التي انضمّت إلى بطرس وعرفت من زوجها البينوس أن بطرس مُلاحق. نبهّت كسانيتبة الرسول ودعته إلى أن يترك رومة. وشاركتها الجماعة في توّسلها. قاوم بطرس في البداية، ثم قبل. ولما التقى بالرب، عاد إلى رومة وأقنع الجماعة المسيحية في العاصمة (والمتألمة لاستشهاده) أن تلك هي مشيئة الرب. وزاد: إن الله يقدر أن يسندكم حتى وإن لم أكن معكم بالجسد.
ونقرأ في بردية هايدلبرغ وبردية هامبورغ في ألمانيا أن بولس استعد للذهاب من كورنثوس إلى رومة. حزنت الجماعة بسبب هذا الذهاب القريب. ولكن بفضل الروح القدس، أعلن مرسَل اسمه كليوبيوس أن المصير المأساوي الذي سينتظر بولس يوافق قصد الله. حاول المسيحيون أن يبدّلوا "إرادة الله" بالصلاة. إنهم يحتاجون إلى بولس لأنهم بعد ضعفاء. ولكن بولس لم يتراخَ، فذهب في الغد رغم حزن أهل كورنتوس.
ونقرأ "أعمال أندراوس" في المخطوط الفاتيكاني اليوناني رقم 808: يحرّض أندراوس مكسيميلية، زوجة الحاكم، يحياتيس، على العفّة. وأشار إلى أن المسيح ظهر له وأعلن له استشهاده القريب. بكى شقيق الحاكم المرتد حديثا إلى الإيمان. وبّخه أندراوس على بكائه، فأعلن أنه ما زال يحتاج إلى الرسول من أجل بنائه الروحي.
ماذا نستنتج من كل هذا؟ ثلاثة أمور. الأول: نجد في هذه النصوص الإخبارية الدموع وتمزق القلب ومحاولات الإقناع. الثاني: تأثر لوقا بمثل هذه النماذج الأدبية ليروي خبر صعود بولس إلى أورشليم، وأخذ بالطريقة عينها: مشاهد انفصال مع بكاء وقبلات، وذكر مراحل متعاقبة لسفر يوافق مصير الإنسان. حوار بين أصدقاء يبحثون عن الحلّ الأفضل. مواقف معروفة أمام شقاء كبير أو موت قريب. كل هذا استفاد منه لوقا ورتبه بطريقة متناسقة. الأمر الثالث يتعلق باللاهوت. وضع لوقا جنباً إلى جنب إعلانين يكادان يكونان متناقضين: دل الروح القدس بولس على أنه سيتألّم، ودفعه دفعاً إلى أورشليم (20: 23). وإن الروح القدس عينه حث المؤمنين في صور ليمنعوا بولس من متابعة سفره (21: 4). وكان حلّ سهل بدأ به يوحنا فم الذهب، ووصل إلى الشرّاح المعاصرين أمثال كونزلمان: اكتفى الروح القدس بأن يخبر مسيحي صور مسبقاً بآلام بولس في أورشليم. أما تنبيههم لبولس بأن لا يصعد إلى أورشليم، فهذه ردة فعل بشرية لا يسأل عنها الروح القدس. ولكن هل هذا هو معنى 21: 4؟
إذا عدنا إلى المتوازيات الأدبية، نلاحظ أننا لسنا أمام موقفين، واحد صالح وواحد رديء. فاهتمام الجماعة ببولس وبنفسها، ليس في نظر لوقا إغراء مصدره الشيطان. والمحبة الأخوية، وإن وجب عليها أن تخضع لقاعدة أسمى، ليست شراً في حد ذاتها، ولو كانت عبارتها في غير محلّها.
غير أن لوقا يذهب أبعد مما فعله سابقوه الوثنيون، أو لاحِقوه المسيحيون. هو لا يكتفي بأن يفهم موقف المَسيحيين الذين يحاولون أن يحموا بولس من الخطر، بل هو يتجرأ فيقول بأن طلبهم يرتبط بالروح القدس. فالروح القدس لا يتجلّى، في نظره، بطريقة واحدة. ونحن لا نستطيع أن نتأكد من صوته من دون حوار، من دون تحليلٍ للوضع، من دون مواجهة الأوامر الحاضرة مع كلمة الله التي قيلت سابقا. سنرى فيما بعد، في تاريخ الكنيسة، جماعات ومؤمنين ومسؤولين يقفون بعضهم تجاه بعض، ويعتبر كل واحد أنه يمتلك الروح. وما يدهشنا في خبر لوقا هو أن الإدراك بامتلاك الروح، لا يدفعنا إلى التكبر والتعالي "الروحي" الذي يقطع الاتصال بالآخرين ويمنع المشاركة والتشاور. يتأكد المسيحيون من موقفهم، ولكنهم يقبلون أن يغيّروا. هم لا يخضعون لشريعة قديمة أو لشخص لأنه أقوى. هم يخضعون لإرادة الله كما تبدو لهم اليوم وفي الوضع الحاضر الذي يعيشون. كان بولس أضعف الحاضرين وهو الذاهب إلى الموت، ومع ذلك اقتنع الجميع بموقفه وأعلنوا: "لتكن مشيئة الرب". هذا ما نتأمّل فيه في قسم الأخير.
د- القرارات البشرية والهام الروح
نود هنا أن نشرح ردّات الفعل وتصرّفات الأشخاص والجماعات الذين جعلهم لوقا على مسرحه. فبفضل هذه النظرة الجديدة نرى كيف تنكشف إرادة إله لا يرضى بأن يوجّه البشر عبر شريعة تقف حاجزاً بينه وبينهم. وهكذا نكتشف السمة الخاصة التي تميّز العلاقات بين الأشخاص داخل الكنيسة.
يتوقّف الدارسون للمجتمع في علاقته البشرية عند موقفين: توازن رتيب ومعرّض للرضى، ودينامية منفتحة وحية. هذا ما سوف نطبّقه على خبر لوقا في أع 20 : 36- 21: 16. إذاً سنطبّق أسلوباً سيكولوجياً، ونضمّ إليه هدفا آخر هو تحديد دور الله في تحديد العلاقة بين الأشخاص. أو بكلام آخر، إلى أي حدّ يبدّل إيمان المؤمنين تصرّفهم، ويتيح لهم بأن ينغلقوا على نهج تسيطر عليه علاقات مقولبة سلفاً.
وننطلق من خطبة ميليتس: نلتقي ببولس (كما صوّره لوقا في أع) وهو شخص واثق بنفسه، واثق برسالته، واثق بمصيره. إنه يبرّر ذاته، يعطي الأوامر، يعلن المستقبل. وتأتي خطبته الوداعية لتضع حداً لعلاقة بولس مع المؤمنين. ولكن بولس أخطأ حين ظن أنه نظّم كل شيء. لا شك في أنه أنهى مهمّته الرسولية، ولكن تبقى العلاقات التي لا تُقطع بسهولة. وها هم شيوخ أفسس يستعملون برهاناً وسلاحا: الدموع والقبلات. هذه الأفعال هي وسيلة ضغط ونداء موجّه إلى بولس لكي لا يذهب، لكي يعدل عن الصعود إلى أورشليم.
وهكذا نجد نفوسنا أمام مرحلة علاقية بسيطة مؤلّفة من ثلاث نقاط: الواقع أو مبادرة بولس الذي يريد الذهاب، ردة فعل الجماعة، التقوية أو موقف الذي اتخذ المبادرة ومواجهته لردة فعل "الخصم". هنا، يبقى بولس على رأيه ويذهب إلى أورشليم.
بين نهاية ف 20 والوصول إلى أورشليم (21: 15- 16)، نشهد بعضاً من هذه المراحل البسيطة ولاسيما في صور وقيصرية. هنا نحسّ بالتكرار، ولولا وجود النساء والأولاد (21: 5) لكانت الرتابة تامة. وهكذا وصلنا إلى نهج من التفاعل مغلق، نهج لا يتبدل فيه شيء، بل يبقى على حاله. ونتساءل: كيف نخرج من هذا الوضع؟ ما العمل ليتبدّل شيء ما، لنتبدّل نحن؟
لا شكّ في أننا هنا أمام خطر تفاعل عقيم: أراد بولس أن يذهب. عارضته الجماعة. عاند بولس. هذا ما يسمّى التوازن في نهج مغلق. غير أن تحليل مشهد قيصرية، سيدلّنا كيف خرج المؤمنون من هذا النظام المغلق، وكيف تبدّلوا. ولكن لا بد من شرطين. الأول: تدخّل عنصر آت من خارج النظام. الثاني: أن يبتعد الأشخاص عن ذواتهم وعن ردّات فعلهم فيكتسبون بُعد نظر.
تتألف الكنيسة في قيصرية من ثلاث فئات. بولس، رفاق السفر، الجماعة المحلية. في زمن أول، جاء بولس ورفاقه إلى قيصرية (المتكلم الجمع، نحن أي الفريق الرسولي، 21: 8). هذا ما سمّيناه "الدافع". نحن هنا وسنبقى معكم. ولكن ما معنى هذا الحضور؟ لا يشير لوقا إلى ردة فعل جماعة قيصرية على هذه "الهجمة الرسولية"، ولكنه يقول إن بولس ورفاقه أقاموا في بيت فيلبس أحد السبعة ووالد أربع بنات يتنبأن (آ 9). فكأني بلوقا يشدّد على أهمية هذه الجماعة التي تعدّ بين أعضاءها واحداً من السبعة، والتي تتمتع بموهبة هامّة هي النبوءة. ولكن هذه الجماعة ليست على مستوى "الرسول" وفريقه. وأقام الزائرون أياماً عديدة (آ 10 أ). وكاد هذا الهدوء أن يحجّر الجماعة دون أن يطلقها من توازن مزيّف.
وجاء دفع من الخارج: فعلة النبي أغابوس وأقواله. قال لوقا (آ 11): جاء إلينا. أي جاء إلى المجموعة الرسولية، لا إلى كل المسيحيين الحاضرين. واختار في المجموعة بولس وأخذ له حزامه (آ 11 أ). حينذاك، انتقلت المجموعة الرسولية إلى جماعة قيصرية، وظل بولس وحده مع أغابوس. وقالت لبولس: لا تصعد إلى أورشليم. قالوا هذا فأظهروا محبتهم لبولس وتعلّقهم به، بل تجرأوا وأعطوه نصائح إن لم تكن أوامر، وعبّروا عن خوفهم مرتين: خوفهم على بولس بأن يموت، خوفهم على نفوسهم بأن يخسروه.
أخيراً خرج بولس من صمته الطويل (آ 13): تكلّم كالمعلّم كما في ميليتس، ولكنه أظهر عاطفته العميقة حين قال لهم: تكسرون قلبي. خرج من عزلته وكشف عن ذاته: إنه مستعد للقيود، بل للموت. ويدعو بولس الجماعة أن لا تسيء إليه بعظم محبتها، أن تفهم أنه يحبّها هو أيضاً، أن تقبل بخضوعه لقاعدة تتعدى علاقات المحبة. ولم يترك للجماعة أن تجيب: أعلن محبته وأعلن عزمه (آ 13 ب).
وتقدم لنا آ 14 معلومتين. الأولى، هدأ رفاق بولس وجماعة قيصرية: غُلبوا على أمرهم، ولم يتراجع بولس عن عزمه. المعلومة الثانية: النصر لله لا لبولس. لتكن (لتتم) إرادة الرب (لا إرادة بولس). توقفنا على العلاقات السيكولوجية، ولكن الحسم جاء من دور الروح القدس وإرادة الله، ورافق كل هذا الصلاة في ميليتس (20: 36) وصور (21: 5). وانتهت هذه الصلاة بعبارة تعلّمها الرسل من المعلّم نفسه: لتكن مشيئتك.
حين ركع المؤمنون للصلاة، وتذكروا مشيئة الله، وأعطوا تدخلات الروح كل وزنها، شهدوا أنهم جعلوا رغباتهم في إطار كنيسة يتدخل الله فيها. لم تعد المحبة امتلاكاً للآخر (يريدون أن يحتفظوا ببولس لأنفسهم)، بل أخوّة داخل مشروع مشترك يتعدّاهم (هو إرادة الله). لم يستطع رفاق بولس ومسيحيو قيصرية أن يقنعوا بولس، ولكنهم لم يحسّوا بالمرارة. فالأقوى الذي انتصر، ليس إنساناً من الناس بل الله وحده. غير أن الله لا يعامل الناس كدُمى متحركة. وما يدلّنا على ذلك هو أن إرادة الله لم تكن معروفة، وأن الروح القدس ألهم بولس بأن يذهب إلى أورشليم والجماعة بمحاولة الاحتفاظ بالرسول ومَنعِه من الذهاب.
إن الله لا يكشف عن مخطّطه إلا في إطار من الحرية. إن الله لا يفرض إرادته بطريق لا رجوع عنها. هو لا يدخل في نهج مغلق من العلاقات المتبادلة والمطبوعة بالتضييق وانتصار القوي على الضعيف وتحطيمه. هناك مفاجآت في أع تدلّ على أن إرادة الله تدفعنا إلى الأهم، وليست فقط رجوعاً إلى الوراء وشريعة حرفية نعرفها. فبولس نفسه يجهل أن أورشليم حيث يستعد أن يموت، لن تكون موضع استشهاده. فالتاريخ سينطلق انطلاقة جديدة إلى رومة. إذاً هناك هامش من الحرية ومن الأمور المجهولة تتحرك في داخله إرادات ورغبات الرسول والتلاميذ. وكلهم أعلنوا نيتهم الصالحة وقالوا أنهم يفكرون بوحي من الروح من أجل مشاريع شرعية وان كانت متناقضة.
وينتهي الجدال، فيُتاح لكل واحد أن ينمو في الإيمان: تُركت الجماعات وحدها، ولكنها ستصل إلى مرحلة البلوغ والنضج وكأنها لم تخسر بولس. والرسول الأمين لربه، لم يكن خاضعاً لإله يريد موت أحبائه. استعد ليموت في أورشليم من أجل اسم الرب، ولكنه لم يحصل على ما رغب فيه. سيموت في رومة. ولكن لوقا لن يقول شيئاً عن الطريقة التي استشهد بها بولس. لهذا يكفيه منذ الآن أن يكون جعل خطى بولس فيِ خطىِ يسوع، فسارا كلاهما في طريق عطاء الذات حتى الموت. فهِما وفهِمتْ الجماعة على إثرهما، أن على بولس أن يضَحّي بنفسه، وأن عليها أن تضخي بعلاقتها برسول أحبته وانتظرت منه كل خير. أجل، سيفهم الجميع أن الفرح الذي نجده في العطاء لا نجده في الأخذ (20: 35). قدّمت الجماعة رسولها (تخلّت عنه)، وقدّم الرسول نفسه. فسار الجميع على خطى الذي أحب خاصته فبذل من أجلها حياته.

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM