الفصل الثالث والأربعون: خاتمة الكتاب

الفصل الثالث والأربعون
خاتمة الكتاب  28: 16- 31
انصبّ اهتمام لوقا منذ بداية إنجيله حتى نهاية أع على خلاص الوثنيين. ولكن جاء من قال إن لوقا يركز انتباهه بالأحرى على عدم إيمان إسرائيل. وكان موقف وسط: رَفْض اليهود وارتداد الأمم هما وجهان لرؤية تاريخية واحدة دعت لوقا ليكتب الكتاب الأول (الإنجيل) ثم الكتاب الثاني (أع) كتكملة للأول: وشدّد هؤلاء الشرّاح على خاتمة الكتاب، وهذا ما سندرسه الآن.
ليست خاتمة الكتاب آ 30- 31 اللتين لا تقولان لنا شيئاً عماً حصل بعد هاتين السنتين. وليست الخاتمة ف 21- 28 من أع. الخاتمة هي وصول بولس إلى رومة واللقاءان اللذان كانا لبولس مع الوجهاء اليهود في رومة، وبصورة أخصّ إعلان بولس ساعة ودّعه محاوروه. إذن، سنتكلّم عن وصول بولس إلى رومة وإقامته فيها.
أ- التضمينات
1- آ 16 وآ 31
هناك من يبدأ خاتمة أع في آ 11، أي ساعة بدأت المرحلة الأخيرة في السفرة إلى رومة، ويدلّ على التواصل في الإشارات الكرونولوجية (أي الوقت): (بعد ثلاثة أشهر) (آ 11). "أقمنا فيها ثلاثة أيام" (آ 12).
“في اليوم الثاني“ (أو بعد يوم، آ 13). "أقمنا هناك سبعة أيام" (آ 14). "بعد اليوم الثاني" (آ 17). "في يوم اتفقوا عليه" (آ 23). لا شكّ في أن هناك وحدة تنتج عن هذه الإشارات. ولكن نلاحظ بعض التمهّل بعد السرعة في آ 11- 14. تنتهي آ 14: "وهكذا وصلنا إلى رومة". أشار الراوي إلى مراحل السفرة، ولكن ما يهمّه هو الوصول إلى رومة.
ونظن أننا وصلنا إلى الهدف مع آ 14. ولكن بين الوصول إلى رومة (آ 14) والدخول إليها (آ 16)، تحدّثت آ 15 عن سفر معاكس قام به مسيحيو رومة الذين ذهبوا للقاء بولس حتى ساحة أبيوس والحوانيت الثلاثة. أشار الراوي إلى وجود. جماعة مسيحية في رومة قبل وصول بولس، ولكنه نظم الأمور فأخرج كل المسيحيين من رومة. أيكون بولس أول الداخلين إليها وكأن المسيحيين لم يكونوا موجودين فيها؟ وإن آ 22 تجعلنا نظن أن وجهاء اليهود لم يلتقوا مسيحياً واحداً في حياتهم: وهذا ما أتاح لبولس أن يقدّم أول إعلان للبشارة الإنجيلية.
إذن، لم تنته السفرة إلا مع آ 16 ودخول بولس ورفاقه إلى العاصمة. وهكذا تكون آ 11- 15 انتقالة تقودنا من مالطة إلى رومة. إن الخبر الذي يتعلّق برومة يبدأ مع آ 16، ولكنّه يجد تكملته الطبيعية في آ 30- 31: "ولما دخلنا رومة، أذنت السلطات لبولس أن يسكن وحده مع الجندي الذي يحرسه" (آ 16)... "وأقام بولس سنتين كاملتين في المنزل الذي استأجره يرحّب بكل من يزوره" (آ 30- 31). هناك رباط بين آ 16 وآ 30، بل تكرار: أقام، سكن... وحده، في المنزل.
إذن تشكل آ 16 و31 إطار خاتمة الكتاب الذي يورد لقاءي بولس مع وجهاء اليهود في رومة.
2- آ 17 أ وآ 25 أ
هناك تقابل طبيعي بين ما يقوله الخبر عن وصول محاوري بولس (آ 17 أ، اجتمعوا) وذهابهم (آ 25 أ، انصرفوا). لم يفصل لوقا بين اللقاء الأول واللقاء الثاني، بل ربطهما ربطاً محكماً: "بعد أن تواعدوا معه (اللقاء الأول)، "جاؤوا وهم أكثر عدداً" (آ 23 أ). وإن موضوع اللقاء الثاني هو الإجابة على سؤال طُرح في اللقاء الأول (آ 22).
ويشدّد لوقا بواسطة نقيضة على المقابلة بين مجيء الوجهاء اليهود وذهابهم. نجد في آ 17 الأداة اليونانية (سون) التي تعني "معاً": دعا بولس وجهاء معاً. وهم جاؤوا معاً. أما ساعة الذهاب، فتتميّز بعدم الاتفاق بين الزوّار: انصرفوا من عنده وهم غير متّفقين (آ 25). غير أن الخبر لا ينتهي في آ 25 أ، بل يمتد في إعلان بارز يدل على بولس يتحدّث إلى سامعين عديدين، لا إلى محاوريه الذين يبدون وكأنهم تركوا المسرح.
3- آ 23 وآ 30- 31
نحن أمام ملاحظتين تقدّمان ملخص كرازة بولس في رومة. يقول النص الشيء الواحد على دفعتين ولكن بعبارات مختلفة. أولاً: إشارة إلى الوقت: "حدّدوا له يوماً" (آ 23). "أقام سنتين كاملتين" (آ 30). ثم إشارة إلى المكان والأشخاص: "جاؤوا إلى منزله وهم أكثر عدداً" (آ 23). "في المنزل الذي استأجره يرحب بكل من يزوره" (آ 30). هناك شواهد تقول: من يهود ووثنيين. هل تعني كلمة "كل" الوثنيين كما في آ 28، أم تضم اليهود الذين تركوا التصلّب والعناد (رج 11: 18؛ 15: 11، 14)؟
ونصل إلى كرازة بولس. ترد مع اسم الفاعل: "شاهداً لملكوت الله"، "معلّماً ما يخص الرب يسوع". العبارة هي هي مع اختلافات تنفي التكرار الحرفي: "شاهداً لملكوت الله ومقنعهم بما يخصّ يسوع" (آ 23). "معلناً ملكوت الله ومعلّماً ما يخص الرب يسوع المسيح" (آ 31). نجد بناء مشابهاً فقط في 8: 12: بشرهم فيلبس بملكوت الله وباسم يسوع المسيح. اعتاد لوقا أن يذكر إما الملكوت (1: 3؛ 19: 8؛ 20: 25) وإما يسوع (5: 42؛ 8: 35؛ 9: 20؛ 11: 20؛ 17: 3؛ 18: 5، 25، 28؛ 20: 21؛ 24: 24)، لا الاثنين معاً كما فعل هنا. وتنتهي الملاحظتان بإشارات ظرفيّة: "انطلاقاً من شريعة موسى والأنبياء، انطلاقاً من الصباح إلى المساء" (آ 23). وفي آ 31: "بجرأة كاملة، بدون أي عائق".
ب- المتوازيات
1- بناء المقطع
كان لبولس مع الوجهاء اليهود في رومة لقاءان متميّزان: تحددا في يوِمين مختلفين، وكان لكل لقاء موضوعه الخاص. في اللقاء الأول (آ 17- 22)، شرح بولس وضعه الخاص (ما أسأت إلى شعبنا). في اللقاء الثاني (آ 23- 28)، عرض بولس التعليم المسيحي.
في كل لقاء، كان بولس يبادر الحاضرين بالكلام. وردت خطبته في اللقاء الأول بأسلوب مباشر: "أيها الأخوة". في الحالة الثانية، أشير إلى مضمون الكلام بأسلوب إخباري (آ 23). بعد هذا، نتعرف إلى ردة الفعل عند اليهود. تفوّهوا بخطبة صغيرة في الحالة الأولى (آ 21- 22): "ما تلقّينا كتاباً في شأنك من اليهودية". وفي الحالة الثانية، أشار الراوي إلى الخلاف الذي وقع بينهم (آ 24- 25 أ). ونشير إلى أن اللقاء الثاني يتضمّن عنصراً آخر يتجاوز التوازي: إعلان بولس الأخير (آ 25 ب- 28): "صدق الله في قوله لآبائكم بلسان النبي أشعيا".
2- اللقاء الأول
إذا كان بولس أُسلم، فهو لم يسئ إلى الشعب. وإذا كان أجبر على رفع دعواه إلى قيصر، فلأنه لا يملك اتهاماً ضد أمته: لم أفعل شيئاً ضد أمتي، أسلمت (آ 17). أجبرت، لا كأن لي "اتهاماً ضد أمتي" (آ 19). وجاء جواب اليهود في عبارتين سلبيتين: "ما تلقينا كتاباً، ما تقدم أخ فأخبرنا شيئاً عنك أو تكلّم عليك بسوء" (آ 21). يتحدّث بولس عن أورشليم حيث أعتقله اليهود (آ 17)، واليهود عن اليهودية التي انتظروا منها كتاباً أو أخاً (آ 21). وفي نهاية الجملتين نجد كلمة "شيء": "كأن لي شيئاً أتهم به أمتي" (آ 19). "قال شيئاً سيئاً عنك" (آ 21).
إن القسم الأول من جواب اليهود، يقابل القسم الأول من خطبة بولس. ثم في آ 20 أ، يشرح بولس لزوّاره أنه دعاهم ليكلّمهم. في آ 22 أ، يعلن اليهود استعدادهم ليسمعوه. في آ 20 ب يذكر بولس أنه سجين "من أجل رجاء إسرائيل"، وهذا موضوع يهمّهم. سمع اليهود بولس يحدّثهم عن هذا "الحزب" (أو المذهب أو الشيعة) الذي يلاقي المعارضة في كل مكان. إن "رجاء إسرائيل" في فم بولس يعني "هذا الحزب" في فم اليهود، وهكذا تكون آ 17 ب- 20 و21- 22 درفتين متوازيتين في لوحة واحدة (ديبتيكا).
3- اللقاءان
تتحدث المقدمتان (آ 17 وآ 23 أ) عن اليوم. "بعد ثلاثة أيام"، في اليوم المحدد". من جهة، دعا بولس اليهود فجاءوا معاً. ومن جهة ثانية، حدّدوا هم اليوم الذي فيه يجيئون. في الحالة الأولى: جاء الذين هم أولون بين اليهود (وجهاء). في الحالة الثانية: جاء عدد كبير.
وننتقل إلى الخاتمتين (آ 22 وآ 28). بدأ اليهود يقولون: "نودّ أن نسمع منك رأيك" (آ 22). أما آ 28 فتنتهي بإعلان بولس بشأن الوثنيين: "وهم سيسمعون". تنتهي آ 22 بتأكيد اليهود: "معروف من" (أي: نعرف). وتجد جوابها في بداية آ 28: "ليكن معلوماً عندكم". ما يعرفه اليهود هو أن هذه الشيعة (الهرطقة) تلقى المعارضة في كل مكان. وما يريدهم بولس أن يعرفوا (يعلموا)، هو أن خلاص الله هذا أرسل إلى الوثنيين. ما سمّاه اليهود "هرطقة" وشيعة، سمّاه بولس "خلاص الله". قال اليهود عن الإنجيل إنه يلقى المعارضة في كل مكان. فأجاب بولس: أرسل إلى الأمم الوثنية.
كل عناصر آ 22 نجد ما يقابلها في آ 28 والعكس بالعكس. إن آ 28 هي جواب كامل للسؤال المطروح في آ 22. في هذا الإطار، تكون آ 23- 27 (تتوسّط آ 22 وآ 28) تهيئة تدريجية للجواب الحاسم والنهائي الذي سيقوله بولس لليهود في آ 28.
4- إعلان بولس الأخير
في آ 25 ب، لاحظ بولس تحقيق ما قاله الروِح للآباء: "صدق الكلام الذي قاله الروح القدس لآبائكم". وفي بداية آ 28، أعلن بولس باحتفال لسامعيه شيئاً جديداً: "ليكن معلوماً عندكم". كان الروح قد قال بالنبي: "اذهب إلى هذا الشعب" (آ 26). وهكذا أرسل الله رسولاً إلى هذا الشعب. وفي آ 28 تكلّم بولس عن "خلاص الله المرسَل إلى الوثنيين". يشدّد نص أشعيا بصورة خاصة على أن "هذا الشعب" لا يقدر أن "يسمع": إن سمعوا لن يفهموا (آ 26). يسمعون بصورة سيئة (آ 27 أ). يستحيل عليهم أن يسمعوا (آ 27 ب). وتجاه هذا، تتكلّم آ 28 عن الوثنيين الذين يسمعون. هناك مقابلة بين الصمم الذي يحل بهذا الشعب، وبين إرسال الخلاص إلى الوثنيين.
ج- تدرج الفكرة
نتعرّف الآن إلى الطريق التي قطعها القارئ من بداية النص إلى نهايته. هناك الملاحظات الكرونولوجية. المكان هو هو منذ البداية إلى النهاية: هو البيت الذي يقيم فيه بولس ويستقبل زوّاره. من الوجهة الجغرافية تُذكَر اليهودية وأورشليم.
في بداية القطعة (المقطوعة) يهتم القارئ بوضع بولس ليلةَ مثوله أمام محكمة الإمبراطور. ثم يتركز الخبر على مضمون التعليم الرسولي. أعلن يهود رومة أنهم مستعدون أن يسمعوا شروح بولس في هذا الشأن (آ 22). ولكنّنا سنرى أن الوثنيين هم الذين سيسمعون (آ 28). وفي النهاية، ننتقل من الوجهاء اليهود في رومة، إلى "هذا الشعب" بصورة عامة (آ 26- 27)، إلى الوثنيين (آ 28)، وفي النهاية إلى "كل" (آ 30) من يزوره. هذا ما سنتوقف عنده.
1- بولس وتعليمه
لاحظنا في خطبة بولس الأولى أمام وجهاء اليهود في رومة (آ 17- 25)، أنه يتكلّم عن نفسه. أسلمه يهود أورشليم إلى الرومان، فأجبر على رفع دعواه إلى محكمة الإمبراطورية. أكد أنه لم يسئ إلى الشعب وإلى تقاليد الآباء، وأنه لا يتهم أمته. وضعت الأمور في نصابها ولكن بطريقة سلبية: ليس لليهود شيء يتّهمون به بولس، وليس لهم أن يخافوا بولس. وينتهي كل هذا بإشارة إيجابية: بولس هو سجين "من أجل رجاء إسرائيل".
وجواب المحاورين واضح. أولاً، فيما يخصّ بولس (ترد العبارة "باري سو" أي عنك مرتين في آ 21)، لم يصلهم تقرير يتهمه (رج 21: 21، 24). أما فيما يخصّ "الحزب" المسيحي الذي يمثّله بولس في نظرهم، فهم يعرفون بعض الشيء: يعرفون أن هذا الحزب يلقى المعارضة في كل مكان (آ 22 ب). وهم يطلبون شروحاً من بولس في هذا الشأن. إذن، ما يهمّ ليس موقف بولس الشخصي من اليهودية، بل الحكم على المسيحية من وجهة يهودية. وما يقدّمه بولس على أنه "رجاء إسرائيل" يعتبره سامعوه "حزباً" هو موضوع جدال ومعارضة.
إذن، سيكون موضوع اللقاء الأول التعليم المسيحي في عنصريه الأساسيين: ملكوت الله، يسوع. ويُعرض هذا التعليم انطلاقاً من شريعة موسى والأنبياء، لأن اليهود سينظرون إليه على ضوء الأسفار المقدسة (آ 23): هل يحق لبولس، انطلاقاً من التوراة، أن يتحدّث عن هذه "الشيعة" على أنها "رجاء إسرائيل" (آ 20)؟
وكانت النتيجة مخيّبة للآمال: اقتنع بعضهم. أما الآخرون فظلّوا على موقفهم، ورفضوا أن يؤمنوا (آ 24). لم يدهش بولس، لأن هذا العمى يوافق الكتاب المقدّس (آ 25- 27). ولكنه يخرج نتيجة تفرض نفسها: "أرسل خلاص الله هذا إلى الوثنيين" (آ 28). فالواقع المسيحي الذي سمّاه بولس خلاص إسرائيل وسماه اليهود "الحزب" سمّي الآن "خلاص الله".
وخاب أمل قرّاء أع. اهتمّوا بمعرفة ما ستؤول إليه قضية بولس. كانوا يريدون أن يحضروا المحاكمة العلنية التي أنبأ بها الملاك وسط العاصفة: "لا تخف، يا بولس! فلابدّ لك أن تحضر لدى القيصر" (27: 24). ولكن اللقاء الأول مع يهود رومة حوّل النظرة: ليس المهم بولس ولا موقفه الشخصي من اليهودية، بل ما تعني المسيحية بالنسبة إلى العالم اليهودي. هل هي شيعة وحزب أم هي تحقيق رجاء إسرائيل وخلاص الله الذي وعدت به الشريعة وكتب الأنبياء؟ هذا هو السؤال الذي يطرحه لوقا على قرّائه.
2- السماع
دعا بولس وجهاء اليهود ليراهم ويكلّمهم (آ 20)، فأعلنوا أنهم قد استعدوا "ليسمعوا" رأيه، مع أنهم يعلمون المعارضة التي يلقاها "الحزب" الذي يمثله (آ 22). هم يسمعونه مع روح نقدية. ينتظرون معلومات حتى يكوّنوا رأياً. فهذا السماع يقود إلى تبادل أفكار.
في نص أشعيا، نحن أمام سماع، ولكن الفكر لا يفهم مضمون التعليم الذي تدركه الأذن (آ 26). "سمع" يقابل "فهم". ثم أمام سماع صعب (آ 27 أ)، يصغي الإنسان ولكنه لا يسمع بوضوِح ما يقال. وأخيرا يتحدث القول النبوي عن صمم كامل "لئلا يسمعوا بآذانهم" (آ 27 ب). سمعت الأذن بوضوح، ثم بصعوبة، وفي النهاية لم تعد تسمع شيئاً. هنا نفهم ما تقوله
آ 28 عن الوثنيين: هم سيسمعون ويفهمون ويتخذون موقفاً (أي يطيعون الكلمة ولا يبقون على الحياد). هنا نتذكر كلمات إبراهيم في مثل لعازر والغني: "عندهم موسى والأنبياء فليسمعوا لهم... وإن كانوا لا يسمعون لموسى والأنبياء، فلن يقتنعوا إن قام واحد من الأموات" (لو 16: 29، 31).
3- اليهود والوثنيون
رأينا أن خاتمة أع توجّه انتباهنا إلى تعليم الخلاص الذي نستمع إليه ونقتنع به. ويبقى أن نتساءل: إلى من يتوجّه تعليم الخلاص هذا؟ سنرى كيف أن الخبر يتبع خطاً صاعداً يؤمنّ له ديناميته.
في بداية الخبر، محاورو بولس هم "وجهاء" رومة (آ 17). وسيحدد بولس في الشرح الذي يعطيه، موقفه تجاه الشعب (آ 17 ب: لاوس). تجاه أمته (أتنوس، آ 19). وهو يعيش هذا الوضع بسبب أمانته "لرجاء إسرائيل" (آ 20). إذن، يتحدّث بولس إلى الوجهاء اليهود في رومة على أنهم الممثلون الرسميون لشعب إسرائيل.
في اللقاء الثاني، لم يتبدلّ المتحاورون، ولكن كثُر عددهم. هذا يدل على أن الحلقة اتسعت. وبرهنة بولس التي تنطلق من شريعة موسى والأنبياء قسمت السامعين: البعض اقتنعوا، والبعض لم يقتنعوا (آ 21). رأى بولس في هذا الخلاف تحقيقاً لما قاله أشعيا عن عمى هذا الشعب (آ 26- 27). وبما أن هؤلاء الوجهاء يمثلّون شعب إسرائيل في حدّ ذاته، أعلن بولس أن الخلاص أعطي للوثنيين أي لغير اليهود. لم نعد هنا فقط أمام توسيع حلقة السامعين للتعليم المسيحي، بل أمام عملية استبدال: رفض "هذا الشعب" الخلاص، فأعطي للأمم الوثنية.
لا نستطيع أن نهمل الإشارة الأخيرة. كان بولس في منزله خلال سنتين يستقبل كل من يدخل عنده (يزوره) (آ 30)، ويقدم له التعليم عن ملكوت الله وعن يسوع المسيح (آ 31) الذي كان قد عرضه للوجهاء اليهود على أساس الشريعة والأنبياء (آ 23). إذا أخذنا كلمة “كل” في معنى غير محدود، تصبح آ 30- 31 ذروة الكتاب: جماعة الوجهاء اليهود، مجموعة أكبر، والآن الجميع بدون استثناء. ولكن هناك من قال إن كلمة "كل" تدل فقط على الوثنيين لأن رسالة بولس إلى الشعب اليهودي قد انتهت. وهكذا تكون آ 30- 31 ذيلاً للآية 28. ولكنهم نسوا أن مهمة بولس تحدّدت في 22: 15: سيكون شاهداً أمام كل البشر (في 9: 15 نقرأ: الوثنيون، الملوك، بنو إسرائيل، رج 26: 17، 20). فقد طُلب منه أن يعرّف البشر كلهم وفي كل مكان، أن عليهم أن يتوبوا (17: 30). وهناك تقليد المخطوطات الذي جعل اليهود واليونانيين معاً (14: 2؛ 18: 4؛ 19: 10، 17؛ 20: 21)، فيدل على أن هدف الكتاب الحقيقي هو أن يضم الفئتين معاً من أجل سماع تعليم الخلاص.
خاتمة
جُعلت مواعيد المسيح للشعب اليهودي أولاً. ولكنهم لن يستطيعوا أن ينعموا بها إلا إذا اعترفوا بالذي تمّت فيه. رفضوا المخلّص الذي أقامه الله لهم، لم يعودوا إلا هذا الشعب الذي تكلّم عنه أشعيا. ومن الواضح أن الذين آمنوا بالمسيح ليسوا من هذا "الجيل الفاسد" (2: 40). وهكذا يُحدث التعليم المسيحي انقساماً في إسرائيل. لم يعد ممكناً لليهود أن يبقوا أمناء. لشريعة موسى وللأنبياء، إن لم يقبلوا بشهادة الكتب ليسوع. رفض العدد الكبير هذه الشهادة، ولكن هذا العمى هو ظاهرة في تاريخهم، كما يقوله الأنبياء. وسيقابله إيمان الوثنيين الذين سيجعلهم الله ينعمون بالخلاص الذي وعد به شعبه. وهكذا سيبشّر بولس كل من يزوره، أكانوا من الوثنيين أم من اليهود لأن الكلمة هي لكم ولأولادكم (اليهود) ولجميع البعيدين (2: 39).

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM