الفصل الحادي والأربعون: خطبة أثينة

 

الفصل الحادي والأربعون
خطبة أثينة  17: 22- 31
مع أع 17 دخل التعليم المسيحي في عالم جديد هو عالم الفلسفة اليونانية. ومع خطبة بولس في فلاسفة أثينة، سندخل في خط افتتحه المدافعون اليهود، وسيتبعه المدافعون المسيحيون خلال القرن الثاني. في خطبة بولس في أثينة ستلتقي الفلسفة اليونانية والوحي المسيحي من أجل الحديث عن الله وعن المسيح الذي قام من بين الأموات. سندرس هذه الخطبة بعد أن نضعها في مجمل أع، ثم نستنتج المواضيع اللاهوتية التي فيها.
أ- موضوع الخطبة في أع
1- طريقة لوقا في الكتابة
يتركز الخبر الذي رواه أع على مسيرة بولس في عمل الرسالة، على مجمع أورشليم الذي يقسم نشاط بولس إلى حقبتين. تتوزع مسيرة بولس ثلاث خطب كبيرة. في البداية، في مجمع أنطاكية بسيدية. نجد مثال كرازة مسيحية تتوجّه إلى سامعين يهود (13: 16- 41). في الوسط، خطبة أثينة أمام سامعين وثنيين (17: 22- 31). وفي الختام، وصية رعاوية وجّهَها بولس إلى شيوخ كنيسة أفسس فكانت النموذج الوحيد لعظة تعني المسيحيين (20: 18- 35). وإذ أراد لوقا أن يشدّد على أهمية هذه الخطب الثلاث، هيّأ كل واحدة منها برسمة موجزة: نجد موضوع كرازة بولس لليهود في 9: 20، 22 (إن يسوع هو ابن الله، إن يسوع هو المسيح) الذي يتحدّث عن نشاط بولس في مجامع دمشق. وخطبة لسترة القصيرة (14: 15- 17) تبدو كمسوّدة لخطبة أثينة. ومواضيع خطبة الوداع لشيوخ أفسس نجدها في توصيات بولس للجماعات التي أسسّها خلاله الرحلة الرسولية الأولى: كان بولس وبرنابا يشدّدان عزائم التلاميذ ويشجّعانهم على الثبات في إيمانهم، ويقولان لهم: "لا بد من أن نجتاز كثيراً من المصاعب لندخل ملكوت الله" (14: 22- 23).
طريقة لوقا هي الطريقة المثلّثة. ففي سَجن بولس مثلاً نجد ثلاث خطب كبرى: دفاعه أمام شعب أورشليم (22: 1- 21)، دفاعه أمام الحاكم فيلكس (24: 10- 21)، ودفاعه أمام الملك أغريبا (26: 2- 23). وكذا نقول عن مجمع أورشليم: خطبة بطرس (15: 17- 11)، خطبة يعقوب (15: 13- 21)، الرسالة التي تتضمّن القرارات المجمعية (15: 23- 29).
2- مضمون الخطبة
اختار لوقا أنطاكية بسيدية لأن اسمها قريب من أنطاكية سورية وجعل خطبة بولس في مجمعها. واختار كنيسة أفسس لأنها آخر وأهم ما أسّس من كنائس. أما أثينة فلا تمثل في مسيرة بولس الرسولية محطة أهم مما تمثله كورنتوس، تسالونيكي أو فيليبي. نحن نجد السبب في أن هذه المدينة ترمز إلى العالم الهلنيستي. لم يكن يُحسَب لها حساب من الوجهة السياسية، ولكنّها كانت أعظم المدن الجامعية والعاصمة الحضارية للمسكونة. ففيها سيلتقي بولس المكلّف بإعلان الإنجيل على الوثنيين، بالفلاسفة الأبيقوريين والرواقيين، بممثلي الحكمة اليونانية. هذا ما تعنيه خطبة بولس في الأريوباج: لقاء التعليم الإنجيلي مع حكمة اليونانيين.
خطبة نموذجية قدّمها لوقا للمرسلين الذين يسيرون على خطى بولس. لا شك في أن لوقا لم ينسب نتائج ظاهرة لهذه الخطبة. بل قال: "إستهزأ به بعضهم". وقال له آخرون: "سنسمعك مرة أخرى" (17: 32). هذا لا يعني أن الخطيب لم يكن على مستوى المهمة. أولاً: لم يهزأ به الناس بسبب التوسّع الرئيسي الذي يتعلّق بالإله الحق. لقد اصطدم السامعون بإعلان القيامة (هذا هو الموضوع الذي يصدم حتى اليهود، رج 23: 6- 7؛ 24: 15؛ 26: 6- 28). ثم لا نستطيع أن نهمل آ 34: فقد كان للخطبة نتائج إيجابية. فإذا كان لوقا تذكر ارتداد ديونيسيوس الأريوباغي (أي أحد أعضاء المجلس)، فهذا يعني أنه لا يريد أن يبقينا في جوّ من الفشل.
ثم إن نهاية الخطبة لم تكن شراً من خطبة بولس التدشينية التي جعلت اليهود يشنّون عليه اضطهاداً عنيفاً (13: 44- 52)، ولا شراً من خطبة يسوع في الناصرة (لو 4: 16- 30). نقرأ في 17: 33: "وهكذا خرج بولس من بينهم"، فنتذكر حدث الناصرة: "أما هو (يسوع) فمرّ من بينهم ومضى" (لو 4: 30).
ب- البنية الأدبية للخطبة
1- تنوع التقارب
أولاً: التقارب الموضوعي
يسير عليه الشرّاح حين يدرسون خطب أع. هو يهتم بالمواد التي سيستعملها الكاتب، وبالطريقة التي تتوالى هذه المواد في الخطبة. فالخطبات الموجهة إلى اليهود تعالج النقاط عينها وتتبع رسمة واحدة. وإذا طبّقنا هذا التقارب على خطبة الأريوباج نجد: المقدمة (آ 22 ب- 23) والخاتمة (آ 20- 31)، ثم جسم الخطبة الذي يتألف من ثلاث مجموعات. الأولى، تؤكد أن الله خالق الكون وسيده لا يحتاج إلى هياكل ولا إلى شعائر عبادة (آ 24- 25). الثانية، تقول إن الله خلق البشر ليطلبوه (آ 26- 27). الثالثة، تبيّن أن قرابة الإنسان مع الله تنفي عبادة الأصنام (آ 28- 29). وكانت محاولات أخرى تجد في الخطبة قسمين كبيرين: قسم إعدادي (آ 22- 28)، قسم كرازي (آ 29- 31). هذا التقارب يهتم بالمضمون، ويعود إلى الأفكار التي تتوسّع فيها الخطبة، دون أن يهتم بالعمل التدويني.
ثانياً: التقارب البلاغي
هناك جذب انتباه القارئ (آ 22 ب- 23). إن آ 30- 31 تتوجّهان إلى عواطف السامع لتدعوه إلى القرار الذي يجب اتخاذه. هكذا تنتهي كل الخطب في أع: الوعد بالخلاص أو لوم السامعين. نجد في آ 24- 26 عرضاً للأحداث. بعد هذا، ينتقل الخطيب إلى البرهنة: يحاول أن يقنع سامعيه بما يعتبرونه معقولاً.
ثالثاً: النهج الدائري
هو شكل من الفن الخطابي. طبّق هذا النهج على الرسالة إلى العبرانيين. والأمر واضح بالنسبة إلى خطبة الأريوباج: أ (23)، ب (24- 25 أ)، ج (25 ب- 26 أ)، د (26 ب)، هـ (27 أ)، دد (27 ب)، ج (28- 29 أ)، ب ب (29 ب)، أ أ (30). فبعد أن نصل إلى القمة مع هـ (حتى يطلبوه لعلهم يلتمسونه فيمجدوه) نعود مع دد بصورة انحدارية حتى نصل من جديد إلى أأ.
2- بداية الخطبة ونهايتها
أولاً: الجملة الأولى (22 ب- 23)
"يا أهل أثينة أراكم أكثر الناس تديّنا في كل وجه، لأني وأنا أطوف في مدينتكم...". يتحدّث بولس عن تدين الأثينيين وكأنه يمتدحهم. ولكن القارئ عرف اشمئزاز بولس حين رأى المدينة مملوءة بالأصنام (17: 16). إذاً، تحمل اللفظة معنيين. ويبرّر بولس تدين الأثينيين: "لأني". لقد وجد عندهم مذبحاً مكرساً للإله المجهول (آ 33 أ). وتأتي الخاتمة حالاً فتحدّد موضوع الخطبة: "فهذا الذي تعبدونه ولا تعرفونه هو الذي أبشركم به" (آ 23 ب). لن يستطيع الأثينيون أن يماثلوا بين الإله الذي بنوا له مذبحاً، وبين الإله الذي سيحدّثهم عنه. هم لا يعرفون هذا الإله الذي جاء يبشرهم به.
ثانياً: الجملة الأخيرة (30- 31)
نجد تضميناً بين آ 30 وآ 23 ب. أولاً على مستوى الجهل: "تعبدونه وتجهلونه"، "غضّ الله نظره عن زمن الجهل". ثانياً: على مستوى الإعلان: بولس يبشر (آ 23)0 الله يبشر (يدعو، آ 30). ثالثاً: موازاة بين السامعين. في آ 23، يتوجّه بولس إلى الأثينيين (أبشركم أنتم). أما الإعلان الإلهي فيتوجه إلى كل البشر في كل مكان.
موضوع إعلان بولس هو الله (آ 23). موضوع إعلان الله هو التوبة. وتأتي آ 31 فتشدّد على ضرورة التوبة التي يُدعى إليها كل الناس، فلا يجب أن يتأخروا. الله يدعو الآن. وهذا الآن يرتبط بماض ومستقبل. في الماضي: حدّد الله يوماً، عيّن رجلاً وكفله حين أقامه. وفي المستقبل: سيدين العالم. الدينونة الهائلة آتية وهي تفرض التوبة. الساعة خطيرة، فعلى الناس أن يقرّروا ما يفعلون.
3- جسم الخطبة
تحدّث الشرّاح عن قسم كوسمولوجي (أي: خلق الكون): الله الذي صنع الكون (آ 24). وعن قسم انطروبولوجي (أي خلق الإنسان): خلق البشر (آ 26).
أولاً: الجملة في آ 24- 25
تتألف من اسمَيْ فاعلِ، من عبارتين سلبيتين، ثم من اسمَيْ فاعل. يتقابل أول اسم فاعل مع آخر اسم فاعل: الله الذي صنع (صانع) الكون مرة واحدة هو الإله الذي أعطى (معطي) كل الكائنات بصورة حالية ومتواصلة كل ما يحتاجون إليه (رج أش 42: 5: هكذا قال الله الرب خالق السماوات وناشرها، باسط الأرض مع ما ينبت فيها، الذي يعطي النسمة للشعب الذي يسكنها والروح للكائنات الذين يتحركون عليها). ونجد هذا التعارض بين اسمَيْ الفعل الباقيين. الثاني: رب السماء والأرض. الثالث: لا يحتاج إلى شيء. وتأتي العبارتان الرئيسيتان: الأولى تنكر أن يسكن الله في هياكل صنعتها أيدِ بشرية. الثانية تنكر أن الله تخدمه أيدِ بشرية. قولان متوازيان ومتكاملان. إذن، كل ثقل الجملة موجود في العبارتين السلبيتين: لا يحتاج الله إلى هياكل ولا إلى ذبائح.
ثانياً: الجملة في آ 26- 29
تبدأ مع فعل "صنع" في آ 26 الذي يكرّر فعل آ 24 أ. بعد أن تكلم عن خلق الكون (آ 24- 25)، ها هو يتكلّم عن خلق الإنسان. لماذا خلق الله البشر؟ ليسكنوا (آ 26)، ليطلبوا الله (آ 27). حدّد لهم الأوقات والأماكن (آ 26)، وهم يطلبون اللُّه لعلّهم يجدونه. وتأتي جملة اعتراضية في آ 27 ج - 29 أ (وهو غير بعيد... وما دمنا أبناء الله). والنتيجة: يجب علينا أن لا نحسب الألوهة (آ 29).
ما يريد الكاتب أن يبيّنه هو أن الله لا يسكن في هياكل صنعتها أيدي البشر، إنه لا يرضى بأن تخدمه أيدٍ بشرية، إنه لا يشبه تماثيل الذهب والفضة والحجر. ولكن خطبة أثينة لا تتضمّن فقط أموراً سلبية. فهناك تعليم مسيحي يفهمه سامعون غريبون عن تقليد اليهود الديني.
ج- إله الوحي
تتضمّن خطبة أثينة عناصر بيبلية وعناصر هلنستية. سنتوقّف في هذا القسم على العلاقة التي تجعلها بين هذا الإله الذي تتكلّم عنه وما يشكّل الموضوع المسيحي بحصر المعنى. بعد هذا نبحث: إلى أي مدى هذا الإله هو إله العهد القديم؟
1- الله الذي أقام يسوع من الأموات
أولاً: الخطبة في حد ذاتها (آ 22- 31)
نشير أولاً إلى أن اسم يسوع لم يُذكر مرة واحدة، كما لم يذكر في خطبة أسطفانس (يتكلّم أسطفانس عن يسوع دون أن يسمّيه. يتحدث في 7: 52 عن البار الذي أسلمتموه وقتلتموه). في خطبة أثينة، يشير بولس إلى "رجل اختاره الله وبرهن عن اختياره بأن أقامه من بين الأموات" (17: 31).
يشير الإعلان بطريقة مباشرة إلى الدينونة. وذُكرت القيامة ككافلة لدور يسوع كديّانٍ سام. هنا تبدو المقابلة ضرورية مع خطبة بطرس في قيصرية. اختار الله الرسل الاثني عشر ليكونوا شهوداً لقيامة يسوع (10: 40- 41)، فوجب عليهم أن يبشّروا الشعب ليشهدوا أن الله جعله ديّاناً للأحياء والأموات (10: 42). وبالنظر إلى الدينونة، زاد بطرس مستنداً إلى شهادة الأنبياء: "كل من آمن به ينال باسمه غفران الخطايا". (10: 43). نرى في ف 10 أن العلاقةْ بين قيامة يسوع ووظيفته الإسكاتولوجية تأمنت بشهود الحدث الفصحي، الذين كفلوا في الوقت عينه بُعده الإسكاتولوجي. أما ف 17 فيتكلّم فقط عن القيامة. إذن، يجعل القيامة كافلة للدور الذي سيلعبه يسوع عندما يدين المسكونة.
تشكل دينونة الله مع ذكر قيامة يسوع خاتمة الخطب في أع (2: 38- 40؛ 3: 23، 26؛ 13: 38- 41؛ رج 1 تس 1: 10). هو الوقت الذي فيه يؤثر الخطيب على السامعين، فيدعوهم إلى تأمين غفران خطاياهم بواسطة الإيمان (10: 43؛ 13: 38- 39) أو التوبة (2: 38؛ 3: 26؛ 17: 30).
نجد صعوبة في آ 31. كيف تكون قيامة يسوع برهاناً على دوره الإسكاتولوجي؟ القيامة هي موضوع إيمان، فكيف تصبح برهاناً بالنسبة إلى شيء آخر؟ إن القيامة هي عمل قام به الله، والإيمان وحده يساعدنا على التعرّف إلى عمل الله. وقيامة يسوع تكون برهاناً، لأنهّا تشكّل شهادة إلهية تدلّ على أن يسوع هو الذي يدين الأحياء والأموات.
ثانياً: الإطار الإخباري
إن الإطار الإخباري الذي فيه أقحم لوقا الخطبة يدلّ على أن العمل الذي به أقام الله يسوع، يشكل النقطة الأساسية في التعليم المسيحي (وإن ذُكر في نهاية الخطبة). فالآية 18 تقول إن بولس كان "يبشرّ بيسوع والقيامة". هذا هو الإنجيل الذي فهمه السامعون بطريقة خاطئة انطلاقاً من أفكار "شركية" (تعدد الآلهة)، والذي دُعي بولس إلى أن يشرحه للناس. وفي إطار المشهد الذي يفتتح الخطبة، كل ما قيل عن الإله الحقيقي ليس إلا مدخلاً للحديث عن قيامة يسوع. انتهت الخطبة بذكر القيامة، فتوقّف عندها السامعون وكأنهم لم يسمعوا إلاّها. أن قضية القيامة تقسم الناس، سواء أمام السنهدرين أو الأريوباج. وإن سؤال بولس أمام الملك أغريبا يلّخص الوضع كما يراه لوقا: "لماذا تظنون أنه لا يصدّق أن الله يقيم الأموات" (26: 8)؟
ويبقى أن شرك السامعين أثار في أثينة صعوبة لم يواجهها التعليم عن القيامة في المحيط اليهودي: إن الإيمان بقيامة يسوع يفترض الإيمان بالله الذي أقام يسوع. والإشارة التي تفتتح خطبة أثينة، تفهمنا لماذا أطالت الخطبة الحديث عن الله. ولكن هذا الموضوع المركزي في الخطبة لن ينسينا نقطة الانطلاق والوصول: إعلان قيامة يسوع. ما يهمّ لوقا هو التعليم المسيحي.
2- الإله الذي خلق العالم وكل ما فيه
هل الإله الذي أعلنه بولس في أريوباج أثينة هو إله التوراة؟ الجواب: نعم ولا. نعم في ما يقوله. لا في ما لا يقوله. لا بد من أخذ الوجهتين بعين الاعتبار.
أولاً: التأكيد
تتحدّث الخطبة عن الإله الحقيقي فتعني علاقته بالعالم والإنسان: كل شيء خلق به. تقول بداية التوسيع الأول: الله الذي خلق الكون وكل ما فيه هو رب السماء والأرض. ترد هنا كلمة "كوسموس" (العالم) التي تعني كل موجود في العالم اليوناني، أما هنا فهي تدل على "وعاء" يحوي الموجودات. إذن، تحل "كوسموس" محل العبارة البيبلية: السماء والأرض. الكلمة يونانية، ولكن الفكرة التي تعبّر عنها تجد كل جذورها في التقليد البيبلي.
قيل الكثير عن توقيت الأزمنة، وتحديد الأماكن (آ 26). ولكن ما لا شك فيه هو أن البداية تذكرنا بخبر الخلق (تك 1: 28) حين تعلن أن الله "جعل من واحد كل أمة البشر ليسكنوا على كل وجه الأرض". فإن كنا لا نفرض وراء هذه التأكيدات عن قرابتنا مع الله (آ 27 ج- 28)، التعليم البيبلي عن خلق الإنسان على صوِرة الله (تك 1: 26- 27)، لن نصل إلى ما قيل ضد عبادة الأوثان في آ 29: لا نحسب الألوهة... إن الإله الحقيقي الذي تتحدث عنه الخطبة هو الخالق الذي تتحدّث عنه التوراة في صفحاتها الأولى.
ثانياً: الصمت
لا تقول الخطبة شيئاً عمّا يتعلق بالوحي الذي أوصله الله إلى شعب مختار. من هذا القبيل، تتميز خطبتا لسترة وأثينة عن خطب أع الموجهة إلى اليهود: فخطبة أسطفانس تنطلق من وحي اللُّه إلى إبراهيم (7: 2- 8). وخطبة بولس في مجمع أنطاكية بسيدية تبدأ مع اختيار الآباء والخروج من مصر (13: 17). الإله الحقيقي هو "إله آبائنا" (3: 13؛ 5: 30؛ 22: 14) "إله شعب إسرائيل هذا" (13: 17).
لم تتكلم الخطبة عن علاقة الإله الخالق مع شعب خاص، ولم تخبر السامعين أن المتكلم معهم هو يهودي. هنا يختلف الوضع عما نجده في فيلبي (16: 20: هما يهوديان). وحين يتكلّم بولس عن "بعض شعرائكم"، فهو يدلّ على أن المتحدّث غريب.
أجل، لم تشر الخطبة إلى شعب خاص فتحدثت عن تعليم شامل. إن بولس يشدّد على العلاقة الموجودة بين الله وكل شيء وكل إنسان في كل مكان (آ 24، 26، 27، 30). الله الذي يذكره يتميّز بشموليته: هو إله كل شيء وإله كل البشر. هنا نذكر أن سلسلة النسب في لوقا تنطلق لا من إبراهيم كما فعل متى (1: 1- 17)، بل تعود إلى آدم (ابن) الله (لو 3: 23- 38).
د- إله الوثنين
لا نتعرف إلى الإله الذي تتكلم عنه خطبة أثينة بالعلاقة التي تربطه بشعب إسرائيل، بل بعلاقته بالعالم والجنس البشري كله. ولكن يجب أن تصبح هذه العلاقة مفهومة لدى سامعين يجهلون الوحي البيبلي، يجهلون وحيا يرتبط بتاريخ شعب خاص. هل نستطيع أن نصل إلى الإله الحقيقي بطريق تختلف عن طريق التاريخ، وما هي هذه الطريق؟ سنتحدث عن ثلاث: طريق العقل، وخطبة بولس هي جواب على سؤال الفلاسفة (آ 18). طريق الديانة الوثنية، والوثنيون يعبدون الإله الذي يبشرْهم به بولس وهم لا يعرفونه (آ 23). والطريق الثالثة هي الحس الديني الذي لا يمتزج مع المسيرة العقلية ولا مع الممارسات الدينية التي يرفضها بولس.
1- طريق العقل
أولاً: إن الخطيب يدعو سامعيه إلى معرفة الله. ولكن بم تقوم هذه المعرفة؟ يستعمل فعل عرف مرتين في المقدمة الإخبارية: يريد فلاسفة أثينة أن يعرفوا التعليم الجديد الذي يتحدث عنه بولس (آ 19). يريدون أن "يعرفوا" ما تعني هذه الأقوال الغريبة التي يطلقها بولس
(آ 20). نحن هنا أمام استعلام، أمام بحث عن علم يطلبه الفلاسفة. وهكذا انطلقت الخطبة من مدوّنة على مذبح مكرس "للإله المجهول" (آ 23، غير المعروف، وما يفكّر فيه بولس هو غير ما يفكر به سامعوه).
ويتابع بولس حالاً: "الذي تعبدونه وأنتم لا تعرفونه أنا أخبركم به" (آ 23 ج). لن نحدد معنى كلمة عرف، بل نشير إلى الالتباس الباقي. إذا انطلقنا من وجهة نظر سامعي بولس، فكرنا أنه سيعطيهم معلومات عن إله يقف مع سائر الآلهة. أما القارئ المسيحي فيعرف أن بولس يعني شيئاً آخر. الخطيب الحقيقي هو الذي يستفيد من معاني مختلفة تحملها كلمة واحدة ليصل إلى سامعيه.
وتنتهي الخطبة فتعلن: "وإذا كان الله غضّ نظره عن زمن الجهل (لا معرفة) فهو الآن يدعو الناس كلّهم في كل مكان إلى التوبة" (آ 30). الزمن الماضي هو زمن الجهل. الزمن الحاضر هو زمن التوبة. إذا كان للتوبة معنى ديني، فالجهل لا يكون فقط جهلاً على مستوى العقل. وهكذا بدأت الخطبة باستعلام يزيل الجهل، فوصلت بنا إلى جهل خاطئ يجب أن نتوب عنه.
ثانياً: فعل تكلّم. قبل الخطبة نرى بولس يتجادل (يناقش) مع يهود المجمع أو من يصادفهم في ساحة (أغورا) المدينة (آ 17) في آ 18 نرى الفلاسفة يجادلونه فيرون فيه واعظاً يعلن خبراً طيباً. بهذه الصورة قدّم بولس نفسه في مقدّمة الخطبة: "من تعبدونه أنا أبشّركم به" (آ 23). هذا الكلام يقابل خطبة لسترة حيث يقول المرسلان إنهما يحملان بشارة (14: 15). ونبقى في الخط عينه مع نهاية خطبة أثينة حين يعلن بولس أن الله دعا (بشّر) كل البشر بأن عليهم أن يتوبوا (آ 30). وهكذا لا نكون مع تعليم فلسفي، كما قال بعض الشّرّاح، بل أمام تعليم ديني.
ثالثاً: ليست برهنة الخطبة برهنة عقلية. لا شكّ في أن هناك عناصر رواقية، ولكن العبارات الرواقية في آ 27- 28 لم تعد ملوّنة بالحلولية المعروفة عند الرواقيين. فنحن هنا أمام برهان. ولكن إلامَ يقود هذا البرهان؟ إلى رفض الهياكل والذبائح والتماثيل، إلى نداء إلى التوبة. المهم لا أن نعرف أن الله موجود، أن نعرف هويته، بل أن نعرف كيف نتصرف حياله.
رابعاً: هنا نعود إلى خطبة لسترة (14: 15- 17)، ولغتها قريبة من لغة خطبة أثينة. حمل بولس وبرنابا بشارة تدعو الوثنيين ليهتدوا (رج 17: 30) "إلى الإله الحي الذي خلق السماء والأرض والبحر وكل ما فيها" (رج 17: 24). إن الزمن الحاضر يجعل الناس أمام وضع يختلف عن وضع الأجيال السابقة حيث "ترك جميع الأمم تتبع طريقها الخاص" (14: 16؛ رج 17: 30). وتلفت انتباهنا آ 17: "ولكنه كان يشهد (ولا يزال) لنفسه بما يعمل من الخير: أنزل المطر من السماء وأعطى المواسم في حينها، ورزقنا القوت، وملأ قلوبنا بالسرور". أجل، شهد الله دوماً لنفسه حين أمّن لهم ما يحتاجون إليه. فعلى السامعين أن يبدّلوا موقفهم بعد اليوم: يميلون عن الأصنام، ويهتدون إلى الإله الحي الذي هو في الوقت نفسه إله خيّر. قَبِل الله حتى الآن بتصرفات تدلّ على جهل. أما الآن فجاء وقت التوبة والتخلي عن الممارسات التي تغيظه.
2- طريق الديانة الوثنية
إن الحكم المسيحي على الديانة التي يمارسها الوثنيون يختلف حسب الوجهة التي نتخذها. وهذا ما نراه في شروح بولس للكورنثيين حول اللحوم المقدمة للأصنام. من جهة، لا يرى بولس فيها شراً: ليست الأصنام شيئاً (1كور 8: 4)، وبالتالي لم تتبدّل اللحوم المقدمة لها. ولكن هناك وجهة أخرى: ما يُذبح في ذبائح الوثنيين يُذبح للشياطين، لا لله. فمن أكل منها دخل في شركة مع الشياطين وأثار غضب الله (1كور 10: 20، 22). كان موقف الرسول حيادياً، فصار سلبياً ساعة تبدّلت الوجهة.
والسؤال الذي نطرحه الآن: أما تتخذ خطبة الأريوباج موقفاً إيجابياً؟ لو كان الناس يقدّمون ما يقدّمون إكراماً للإله الحقيقي وهم يجهلونه، لكان الأمر هكذا، فلن ينقص هذه العبادة إلا التصحيح. ولكن هل هذا هو رأي بولس في خطبة أثينة؟
أولاً: تتميز ممارسة الديانة الوثنية منذ كلمات الخطبة الأولى بكلمة "التدين". ويتحدث بولس عن المعابد التي بناها الأثينيون. ويزيد بولس: "من تعبدونه ولا تعرفونه أنا أبشركم به". فالفعل اليوناني (أوسابيو) يدلّ على كل عبادة يهودية (3: 12؛ 10: 2، 7) أو وثنية. وأخيراً هناك "الخدمة: أي الطقوس. "الإله الذي خلق السماء... لا تخدمه أيدٍ بشرية وكأنه يحتاج إليها..." لم نجد في كل هذه الكلمات حكماً إيجابياً على العبادة الوثنية!
ثانياً: موضوع العبادة الوثنية. وهنا تبقى الخطبة على الحياد. هي لا تقول إن الإله الحقيقي قد يكون موضوعاً ضمنياً لعبادة وثنية، بل يتجنّب الخطيب أن تُنسب إليه مثل هذه الفكرة. فبين الإله المجهول الذي هو إله من الآلهة، والإله الواحد الذي خلق الكون، تبقى منطقة تمنعنا من أن نماثل بين هذا وذاك.
3- الإنسان الباحث عن الله
تعلن خطبة أثينة هدفين لخلق الإنسان: أن يسكن الأرض (آ 26)، أن يطلب (يبحث عن) الله (آ 7 أ). حين نقول إن الإنسان صُنع ليبحث عن الله، فهذا يعني أن البحث يؤدّي إلى اكتشاف، وأن الإنسان يستطيع بجذوره أن يجد الله. هذا ما تقوله آ 27 (قد يستطيعون أن يدركوه بالتلمّس ويجدوه) مع شكّ بقدرة الإنسان. فأهل أثينة لم يصلوا إلى الإله الحقيقي، ولكن بولس لا يريد أن يوبّخهم بطريقة مباشرة.
تتحدث الخطبة عن إمكانية الوصول إلى الله وتدلّ على الأساس. إذا كان البشر يستطيعون أن يجدوا الله، فلأن الله ليس بعيداً عنهم: فيه يحيون ويتحرّكون ويُوجدون (آ 27). ولأنه يرتبط بقرابة معهم: "نحن من نسله" (آ 28). نحن هنا في جو رواقي.
وهكذا تلتقي الحضارة اليونانية مع الوحي الكتابي في البحث عن الله. هذا ما تدلّ عليه خطبة أثينة التي وجَدَت في قلب كل البشر انتظاراً واستعداداً نفسياً لتقبّل التعليم. جاء بولس وحدثهم عن الإله الحقيقي الذي لا يعرفونه، حدّثهم عن يسوع الذي يأتي كدّيان، ودعاهم إلى التوبة، فأنضم إليه بعض الناس وآمنوا. تلك كانت الخطوة الأولى في طريق البشارة إلى اليونانيين، وستتبعها خطوة ثانية تصل بهم إلى الصليب الذي هو حماقة في نظرهم (1كور 1: 23).

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM