الفصل التاسع والثلاثون: التنظيم الأول في الكنائس

الفصل التاسع والثلاثون
التنظيم الأول في الكنائس 14: 21- 27
نحن هنا في أول رحلة تبشيرية قام بها بولس الرسول. انطلق مع برنابا فوصل أولاً إلى قبرص. من هناك، ذهب الرسولان إلى آسية الصغرى (تركيا الحالية). ثم تابعا طريقهما نحو الشمال فوصلا إلى أنطاكية بسيدية (وهي غير أنطاكية سورية). بعد هذا، اتجها إلى الجنوب الشرقي وكأنهما يريدان العودة إلى أنطاكية سورية. ولكن ما إن وصلا إلى دربة، بين أنطاكية بسيدية وطرسوس، حتى عادا أدراجهما فزارا مرة ثانية المدن التي تركا فيها معمّدين جدداً. وهكذا طالت السفرة، وتعرّض الرسولان لأعظم الأخطار. مثلا: لم يكونا يقدران أن يذهبا إلى لسترة دون المخاطرة بحياتهما. في لسترة رُجم بولس. في ايقونية تدبّرت مؤامرة عليهما، فأجبرا على الهرب. ثم إنهما طردا منِ أنطاكية بسيدية بتحريض من اليهود. إذن، إن سارا في الطريق التي ترسمها آ 21، فلأن أسباباً خطيرة دفعتهما إلى ذلك. نجد سببين في
آ 22- 23: أراد الرسولان أن يشجّعا المرتدين الجدد ويدعواهم إلى الثبات في الإيمان. أرادا أن ينظما الجماعات، ويجعلا على رأس كل منها مسؤولاً. وهكذا، وبعد أن أتمّا عملهما، عادا إلى أنطاكية وألقيا نظرة إجمالية على العمل الذي أتماه.
أ- إكمال الرسالة
1- نداء إلى الثبات (آ 22)
أولاً: تثبيت عزيمة التلاميذ.
فالمرتدّ جديداً هو سريع العطب: إنه يحتاج إلى الوقت لكي يصبح صلباً، لكي يقاوم. وفيما بعد، سيبيّن خبر أع أن الاهتمام بتشديد الجماعات الفتية أعاد بولس إلى سورية وكيليكية (15: 41؛ 16: 5)، إلى غلاطية وفريجية (18: 23). وفي هذا المنظار عينه، فهم يهوذا وسيلا رسالتهما في أنطاكية: "شجّعا الإخوة وشدّدا عزائمهم" (15: 32). وسيحدد لوقا دور بطرس بالشكل عينه خلال أزمة الآلام: "شجّعْ إخوتك" (لو 22: 32). وكذلك فعل بولس حين ترك تسالونيكي على عجل: أرسل تيموتاوس ليشدد المسيحيين الجدد، وليشجعهم في إيمانهم، لئلا يتزعزع أحد منهم في الشدائد التي يواجهونها (1 تس 3: 2- 3).
ثانياً: الإيمان والتعليم
ولكن على التحريض أن يجعل الإيمان صلباً (15: 32؛ 1 تس 3: 2؛ 2 تس: 17). أما موضوع هذا التحريض فثبات المؤمنين. وهذا الثبات يشكّل إحدى الاهتمامات الرئيسية لدى لوقا. وهذا ما نلاحظه بصورة خاصة من خلال اللمسات الأخيرة على شرح مثل الزراع. إنه يندّد بالذين "يؤمنون إلى حين. وإذا جاءت التجربة يرتدّون" (لو 8: 13). ولكنه يمتدح "الذين سمعوا كلام الله وحفظوه بقلب طيب مطيع، وثبتوا فيه إلى أن يثمروا" (لو 8: 15). وهذا "الثبات" الذي يطالب به هنا التحريض على أن نقيم في الإيمان، هو ذاته الذي يطالب به التحريض لكي نبقى متعلقين بالرب (11: 23) وبنعمة المسيح (13: 43). ليس "الإيمان" الذي نقيم (نثبت) فيه لائحة من "الحقائق". إنه التزام شخصي نعبّر عنه بأمانة حياة مسيحية توافق متطلّبات الإنجيل.
ثالثاً: الثبات
كانا يقولان: "لا بد من أن نجتاز كثيراً من المصاعب لندخل ملكوت الله" (آ 22). فالثبات ضروري للمؤمنين بسبب المحن التي يتعرض لها إيمانهم. وهذه المحن التي تفرض الثبات، قد أنبأ بها يسوع (لو21: 12- 19). ويحدّث بولس الرسول أهل تسالونيكي فيقول لهم: "لا يتزعزع أحد منكم بهذه (أو في هذه الشدائد) فأنتم تعرفون أن هذا نصيبنا. ولما كنا عندكم قلنا لكم مسبقاً إننا سنعاني الشدائد" (1 تس 3: 3- 4). والآية التي نهتم بها تقول أكثر من ذلك: هذه المحن هي ضرورية. وكأنها آتية من الله (داي: يجب) فتمنح المسيحيين الدخول إلى الملكوت. إذا أردنا أن نفهم هذا الكلام، نقابله بكلام يسوع الذي فيه أعلن لتلميذَيْ عماوس: "أما كان يجب (داي) على المسيح أن يعاني هذه الآلام، فيدخل في مجده" (لو 24: 26)؟ فما كان ضرورياً للمسيح حسب الكتب، هو ضروري أيضاً لتلاميذه. إذا أردنا أن نبلغ الملكوت، ليس من طريق إلا طريق المحنة. وفي النهاية، نحن أمام الضرورة بأن نشارك المسيح في آلامه ليحقّ لنا أن نقاسمه مجده.
إذن لا يكفي الرسولَين أن يجلبا البشر إلى الإيمان بالمسيح. عليهما أيضاً أن يعملا كل ما في وسعهما ليؤمنا ثباتهم وسط الصعوبات والمحن المرتبطة بالحياة المسيحية. إذاً، ذاك كان السبب الأول الذي لأجله اعتبر بولس وبرنابا أن عليهما أن يرجعا إلى المدن التي بشرّاها: لكي يحرّضا المرتدين الجدد على الأمانة والثبات.
2- تنظيم الشيوخ (آ 23)
أولاً: "عيّنا شيوخاً"
أجل فعل "شيروتونيو" (من هنا الشرطونية أو كتاب رسامة الكهنة) يشير إلى اختيار برفع الأيدي. ولكن النص ينسب إلى مؤسسي الجماعات وحدهم اختيار الشيوخ. هذا هو الواقع في الكنيسة الأولى رغم الاهتمامات الديمقراطية عند بعض الشرّاح. إن تي 1: 5 يتحدث عن تيطس الذي أوكله بولس بأن يقيم شيوخاً في كل مدينة من مدن كريت. واكلمنضوس الروماني لا يرى الأمور بطريقة مختلفة. يقول: "حين بشَّر الرسل في الأرياف والمدن، أقاموا بواكيرهم، بعد أن اختبروهم بالروح، كأساقفة وشمامسة للمؤمنين العتيدين". ويقول أيضاً: “نالوا معرفة كاملة عن المستقبل فأقاموا الذين تكلّموا عنهم، ثم وضعوا قاعدة تقول إنه بعد موت هؤلاء يخلفهم في وظيفتهم أناس مختبرون”. غير أنه من الواضح أن قرار الرسل لا يرفض تدخّل الجماعات: يتحدّث لوقا عن اقتراح الإخوة (1: 23؛ 6: 6) واكلمنضوس عن موافقة الجماعة.
لا يبدو أن الجماعات المسيحية الأولى تنظمّت في كل مكان حسب نموذج واحد، ولكن تنظيمها ظهر حسب رسمة ثابتة: تتنظّم الجماعات المسيحية كالجماعة اليهودية بشكل حلقة. أُعطي لقب الشرف، لقب "الشيوخ" (أو القسوس أو الكهنة) أولاً إلى المسؤولين في جماعة أورشليم. غاب هذا اللقب من رسائل مار بولس، ولكنه صار معروفاً في زمن لوقا. ونال هؤلاء "المحترمون" أيضاً اسم "ابسكوبوس" (أسقف أو ناظر أو مدقّق). وهذا يدل على مهمتهم من الوجهة "الرعائية". فالأساقفة والشيوخ يسهرون على خير القطيع الموكّل إلى عنايتهم (20: 28).
واختيار هذه الألفاظ له معناه. تحاشى لوقا عمداً العودة إلى ألفاظ مكّرسة، فتجنّب أن ينسب إلى المسؤولين في الجماعة "كهنوتاً" يجعل منهم "كهنة" (مقدّسين) يمارسون وظيفة الوساطة التي صارت وقفاً على يسوع وحده. ولقب "أنبياء ومعلمين" الذي أُعطي لموجهّي كنيسة أنطاكية (13: 1) لم يلقَ هو أيضاً النجاح المطلوب. سمّاهم "شيوخاً"، وهو لقب يليق بالمعلّمين، ولكنه يعني أكثر من ذلك: إنه يعني في الاستعمال اليهودي، أعيان العوام الذين يتميّزون عن متسلمي الكهنوت. وظيفتهم هي الأسقفية أي الاهتمام بخير الجميع.
ثانياً: "استودعاهم"
المعنى غامض. فالمعنى يرتبط بالضمير: "استودعاهم". فان عنى الضمير التلاميذ (آ 22) الذين لأجلهم (آ 23 أ) عيّن بولس وبرنابا شيوخاً، حينئذ يريد لوقا أن يتكلّم عن طقس وداعي يستودع فيه الذاهبون إلى الرب أولئك الذين ينفصلون عنهم. وإن عنى "الشيوخ"، فنحن أمام رتبة رسامة. وقد أوضحت بعض الترجمات النص فقالت "هؤلاء الرجال"، مشدّدة على التفسير الثاني الذي يبدو أقرب إلى العقل.
لن نعتبر الصوم الذي يرافق الصلاة بطريقة تقليدية، على أنه ممارسة إماتة من أجل التكفير عن الخطايا (12: 2- 3؛ لو 2: 37). فهدف الصوم أن يهيّئ المؤمن للقاء بالرب، وهو يُفرَض بصورة خاصة في ظروف تحس فيها الكنيسة بالحاجة الماسة إلى العون الإلهي. وبهذه الصلاة التي تقوّت بالصوم، يستودع الرسولان إلى الرب الأشخاص الذين اختارتهم الجماعة: يسلَّمون إلى حراسة الرب كوديعة ثمينة يعتني بها (20: 32). وهذا ما حدث في أنطاكية أيضاً: استُودع المرسلون "إلى نعمة الله" حين كانوا يستعدون للانطلاق في رحلة رسولية جديدة. نقرأ في آ 26: "سلّما إلى نعمة الله من أجل العمل الذي أتمّاه". وفي 15: 40: "استودعهم الإخوة إلى نعمة الرب". والتقريب مع 13: 3 يتيح لنا أن نفترض أن الصلاة رافقتها فعلة، أن المرسلَين وضعا الأيدي على الذين صليّا من أجلهم. هذا ما فعله الرسل في أورشليم حين نظّموا السبعة (6: 6). ونلاحظ أيضاً أن الصلاة تتوجّه إلى الرب الذي به آمن هؤلاء الرجال، أي إلى الرب يسوع (رج 11: 20- 24).
إذاً، كانت إقامة الشيوخ مناسبة لحفلة تنصيب وتسليم وظيفة. لن نطابق روح العهد الجديد إن تكلمنا في هذا المجال عن “تكريس” الذين قدّموا نفوسهم للرب في ممارسة المسؤولية الملقاة على عاتقهم منذ الآن في وسط الجماعة. ولكننا لن نتردّد عن الكلام عن "رسامة" تؤمّن للشيوخ "درجة" ومكانة خاصة في الجماعة التي سيسهرون عليها، كما يسهر الراعي على خرافه (20: 28).
ب- نظرة إلى الوراء
بعد أن أكمل الرسولان عملهما في كنائس لسترة وايقونية وأنطاكية بسيدية، عادا إلى الجنوب. وبعد أن عبرا بسيدية وبمفيلية (آ 24)، وجدا نفسيهما في برجة. قد يكون يوحنا مرقس قد تركهما هنا (13: 13)، فاستاء بولس (15: 38). وقد يكون هذا الخلاف هو السبب الذي منعهما من نشر الإنجيل في هذه المدينة. كل هذا افتراض. فمهما يكن من أمر، فقد أعلن الرسولان البشارة في برجة قبل أن ينطلقا إلى أتالية ثم إلى أنطاكية.
يهتم لوقا بأن يذكرنا أن أنطاكية كانت نقطة الانطلاق: "هناك سُلّما إلى نعمة الله من أجل العمل الذي قاما به" (آ 26). نلاحظ هنا عبارة "سلّما إلى نعمة الله" التي استعملت في آ 23 بمناسبة الحديث عن رسامة الشيوخ. وهكذا يتحدّد معنى وضع اليد المذكور في 3:13 ساعة انطلاق المرسلين. وان آ 26 هي صدى لما قرأناه في 13: 2: خلال الليتورجيا، ألهم الروح جماعة أنطاكية أن بولس وبرنابا يجب أن يفرزا (أن يُوضعا جانباً، أن يكرّسا، أن يخصّصا) "للعمل الذي دعاهما إليه". والآن، ها إن هذا العمل قد تمّ.
فيبقى على المرسَلين أن يقدّما تقريرهما: "فلما وصلا إلى أنطاكية، جمعا الكنيسة وأخبرا بكل ما أجرى الله على أيديهما" (آ 27). وستعود العبارة عينها في 15: 4: حين وصل بولس وبرنابا إلى أورشليم، "أخبرا بكل ما أجرى الله على أيديهما". ولكن ما هو الموضوع بالضبط؟ يعتبر بعض الشّراح أن المرسلين أخبرا كيف شاركا الله في العمل، أو كيف منحهما القوة فعملا. وقال آخرون: أخبرا بما فعله الله من أجلهما ولهما. يبدو أن التفسير الثاني هو الأفضل، لأنه يوافق أسلوب لوقا وأسلوب التوراة اليونانية. ولكن يبقى أن الله، حين تدخّل من أجل المرسلين، عمل بواسطتهما: "استمع المجتمعون إلى بولس وبرنابا وهما يرويان لهم الآيات والعجائب التي أجراها الله على أيديهما بين الوثنيين" (15: 12). "أخذ بولس يروي بالتفصيل كل ما أجرى الله على يده عند الوثنيين" (21: 19). إن 14: 27 هي صدى لما نقرأ في
14: 3: "وكان الرب يشهد لكلامهما على نعمته بما أجرى على أيديهما من الآيات
والعجائب". نلاحظ موقف المرسلين: يروي خبرهما لا ما فعلاه هما، بل ما فعله الله لهما وبهما. الرسالة هي عمل الله. وشرف النجاح يعود إليه وحده.
وتزيد آ 27 ب في الخط عينه: "كيف فتح الرب باب الإيمان للأمم الوثنية". توافق الفكرة ما نقرأها 11: 8: حين سمع مسيحيو أورشليم بطرس يروي ما حصل له في قيصرية، مجّدوا الله قائلين: "أنعم الله، إذن، على الوثنيين أيضاً بالتوبة التي تقود إلى الحياة". فالتوبة والإيمان هما وجهتان لا تنفصلان من وجهات الارتداد. فتح لهم باب الإيمان، أي أعطاهم أن يحصلوا على الإيمان. فالفكرة ليست في أن الإيمان هو باب يوصل إلى شيء آخر، إلى الحياة مثلا. بل يعني لوقا بكلامه أن الله يمنح الوثنيين الإمكانية بأن يصيروا مسيحيين. ونستطيع أن نعبرّ عن هذا العمل الإلهي بصورة أخرى تكمّل الأولى: "ففتح الله قلبها (قلب ليدية) لتتعلّق بكلام بولس" (تصغي، تؤمن) (16: 14). وفي آ 27 الذي يهيّئ الطريق لخبر مجمع أورشليم (ف 15)، يشدّد النص على النعمة التي مُنحت للوثنيين: لم يعد الوصول إلى الإيمان المسيحي محفوظاً لليهود، وهو لا يتطلّب من الوثنيين أن يمرّوا عبر الشريعة اليهودية والعالم اليهودي. فالباب الذي به يدخلون إلى الجماعة المسيحية قد فُتح لهم، لا بواسطة البشر، بل بواسطة الله نفسه. وفي هذا أيضاً نفهم أن الرسالة هي عمل الله.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM