الفصل الثاني والثلاثون: بداية رسول

الفصل الثاني والثلاثون
بداية رسول
9: 26- 31
أ- مقدمة: رسول يلقى المعارضة
إن نص 9: 26- 31 يقدم لنا فائدة سيروية (بالنسبة إلى سيرة بولس الرسول) ولاهوتية. ويروي فيه لوقا زيارة (قد تكون الأولى) يقوم بها بولس لكنيسة أورشليم بعد ارتداده (حاول بولس أن ينضمّ إلى الخلية الرسولية الأولى التي هي جماعة أورشليم). يتذكر مسيحيو تلك المدينة الماضي القريب لهذا الرجل الناري الذي كان "يسعى إلى خراب الكنيسة، فيذهب من بيت إلى بيت ويُخرج منه الرجال والنساء ويلقيهم في السجن" (8: 3). أما الآن فيحاول بولس أن ينضم إلى "تلاميذ" المسيح وكأنه واحد منهم. كلّهم خافوا منه، و "لم يصدقوا أنه صار حقا تلميذاً" ليسوع (آ 26). أما ردّة الفعل لدى مسيحيّي أورشليم تجاه محاولة بولس، فكانت مثل ردة فعل حنانيا حين أرسله الرب ليلتقي "في بيت يهوذا رجلاً من طرسوس اسمه شاول". قال: "يا رب، سمعت كثيراً من الناس يتكلّمون عن هذا الرجل ويقولون كم أساء إلى قديسيك في أورشليم" (9: 11- 13). ولكن بفضل تدخل برنابا، استطاع بولس أن يربح ثقة الرسل (هذا يدلّ على أهمية الاثني عشر في أورشليم وسلطتهم، كما يدل على دور برنابا في حياة بولس)، وأخذ حالاً يعظ في مختلف أوساط المدينة. وحدث له هنا كما في دمشق (9: 23- 25): فاليهود الذين يسمّون هلينيون (يتكلّمون اليونانية) تآمروا عليه. أحس بولس بخطر الموت فهرب (9: 29- 30). وستتجدّد الدراما طوال مسيرته الرسولية (9: 25؛ 16: 9- 24؛ 17: 5، 10؛ 17: 13- 15). كان بولس متّحداً كل الاتحاد مع الاثني عشر (غل 2: 6- 9)، غير أنه وجد لدى المسيحيين المتهوّدين (من أصل يهودي عبراني) الريبة والحذر (21: 20- 24؛ غل 2: 4- 5؛ 4: 17- 19؛ 5: 10؛ 6: 12- 13). نجد هنا ولا شك وجهة من الألم الذي سيقاسيه الرسول من أجل اسم الرب (9: 16).
ب- رسول نشيط
1- الارتداد يتضمن الرسالة
هناك سمة من شخصية بولس تلفت انتباهنا حين نقرأ آ 26- 31: الاندفاع الرسولي لدى هذا الرجل. فما إن قَبل به الاثنا عشر حتى أخذ يعظ في أورشليم (آ 28- 29) كما كان يفعل في دمشق: ما إن ارتدّ إلى المسيح وأقام بضعة أيام مع التلاميذ حتى "سارع إلى التبشير في المجامع بأن يسوع هو ابن الله" (9: 19- 20). من أين جاءته هذه الحميّة؟ من طبعه الجامح، بل من ارتداده الذي تضمّن مهمة رسولية، وحوّله من مضطهد للمسيحيين إلى مبشّر بالمسيح. هذا ما تعلّمه بولس من حنانيا: إن الرب الذي أدركه (وضع يده عليه) يريد أن يجعل منه "أداة مختارة ليحمل اسمه أمام الأمم الوثنية، أمام الملوك وأمام بني إسرائيل" (9: 15). إذا كان الرب ظهر له، فلكي يكون "شاهداً أمام البشر كلهم لما رآه ولما سمعه" (22: 15).
هذا ما يقوله بوضوح أكثر الخبر الثالث لارتداد الرسول: "ظهرتُ لك لأجعل منك خادماً لي وشاهداً على هذه الرؤيا التي رأيتني فيها" (26: 16). وإن الأمم ستنال بواسطة القديس بولس "الإيمان وغفران الخطايا والميراث مع المقدّسين" (أو القديسين) (26: 18). وإن شهادة بولس تثبت شهادة سفر الأعمال: "إذا كان الله أعلن ابنه فيّ، فلكي أبشّر به بين الأمم" (أي الوثنيين) (غل 1: 16). إن ارتداد بولس كان رسالة في حدّ ذاتها.
2- مبادرة الله وحياة رسولية
ولهذا، كان بولس سيحسّ وكأنه خان نداء الله لو لم يستعمل كل قواه لينشر الإنجيل. قال: "إذا بشرت لا فخر لي، لأن التبشير ضرورة فُرضت عليّ، والويل لي إن كنت لا أبشر" (1 كور 9: 16). حين تكلّم بولس على هذا الشكل، كشف عن الأساس الأول لديناميته بنفسه: هو لم يتخذ المبادرة وينطلق في مسيرة رسولية. إنه يقوم "بوصية عُهدت إليه" (1 كور 9: 17). فكيف يمكنه أن يشك الآن بقيمة تعليمه أو بفاعلية كلمته حين يرى نفسه أداة بين يدي الله الأمين (1 تس 5: 24)؟
3- مات المسيح وقام عن الجميع
إن تفكيراً عميقاً عن السر الفصحي أسند حمية بولس الرسولية منذ البداية. فموت المسيح وقيامته نالا في مخطط الله اتجاهاً خلاصياً. "أُسلم المسيح من أجل خطايانا وأُقيم من أجل تبريرنا" (روم 4: 25). وهو، على مثال عبد يهوه (أش 53: 5- 11)، "سيبرّر الكثيرين ويحمل خطاياهم". سُحق بالألم فقدّم حياته تكفيراً عن خطايا كل البشر. وهذا ما أفهمنا إياه في العشاء الأخير. إن قيامة المسيح الشخصية هي موجّهة نحو قيامة البشر، بحيث إن القديس بولس لا يخشى أن يؤكد أنه إن كان المسيح لم يقم فالبشر لا يستطيعون أن يتبعوه في هذه الطريق (1 كور 15: 13). لقد أقام الله المسيح كـ "باكورة الراقدين. فكما أن الموت جاء بإنسان، فبإنسان أيضاً جاءت قيامة الموتى" (1 كور 15: 20- 21). ولقد أفهمنا الآب "أن قوة عظمته الفائقة، تعمل لأجلنا نحن المؤمنين" (أف 1: 19): والقدرة عينها أقامت المسيح ثم أخصّاءه أو بالأحرى أقامتهم معه (أف 2: 5- 6).
إن الاعتقاد العميق بأن "الذي أقام ربنا يسوع سيقيمنا نحن أيضاً معه" (2 كور 4: 14)، هذا الاعتقاد بخلاص شامل، هو الذي يسند الرسول، ويدفعه لمتابعة مهمته التي هي أن يهيئ البشر لهذه القيامة.
4- الإيمان من الكرازة
أراد الرب يسوع أن يلجأ إلى خدمات بعض الناس ليحمل السرُّ الفحصيُ ثمارَ الخلاص: "الإيمان هو من الكرازة" (أو السماع) (روم 10: 17). إن المسيح يُعرف ويُقبل بفضل "شهود اختارهم من قبل"، فكمَّلوا عمل الأنبياء في العهد القديم، وأخبروا عن ابن الله (غل 1: 15- 16: أعلنوا). لقد عرف بولس أنه يضع حداً لعمل المسيح الخلاصي إن لم يسعَ ليجعل جميع البشر يَصِلون إلى معرفة إنجيل الخلاص. وهو يدلّ على أنه لا يحب إخوته البشر الذين يشكل خلاصهم بالإيمان (روم 10: 9) السعادة الحقّة، إن لم يستعمل كل قواه ليعلن الإنجيل الذي هو "قوة الله لخلاص كل مؤمن، من اليهود أولاً ثم من اليونانيين" (روم 1: 16) ويبدو بولس كأنه لا يشارك المسيح في عواطفه (فل 2: 5) إن لم يجعل إرادة المسيح الخلاصية إرادته الخاصة (لو 12: 49). وفي الواقع، يتبنّى بولس رغبات المسيح: "إن حب المسيح يضطّرنا (الحب الذي يحس به المسيح، والحب الذي نحس به تجاه المسيح): إن واحداً مات من أجل جميع الناس، حتى لا يحيا الأحياء بعد لأنفسهم، بل للذي مات وقام من أجلهم" (2 كور 5: 14- 15). وسينشر هذا المثال الحياتي الجديد فيكرز به ويحياه. بل، إنه سيحيا للمسيح معلناً السرّ الفصحي.
ج- واعظ جريء
كانت غيرة بولس الرسولية أولاً غيرة واعظ: "لم يرسلني المسيح لأعمّد بل لأعلن الإنجيل" (أو البشارة، 1 كور1: 17). فمنذ ارتداده أخذ “يبشر بثقة”، بشجاعة (يستعمل الفعل مرتين في آ 27- 28). فما معنى هذه الثقة أو هذه الشجاعة (بريسيا أو الجرأة)؟
يعبّر عنها الرسول في إعلان الإنجيل ببلاغة وقوّة. فحين كان بولس يبشر في دمشق، "تقوّى وأخزى اليهود المقيمين في دمشق فبيّن لهم أن يسوع هو المسيح" (9: 22). إن مثل هذا الكلام عن المسيح في وسطٍ معادٍ (أرادوا أن يرجموه في دمشق كما في أورشليم، 9: 23- 29)، يدلّ على الشجاعة التي تحلّى بها الرسول. لا شيء يمنعه من إعلان الإنجيل الذي سلّمه إليه يسوع. وليس من فائدة شخصية تحدّ من حرية الكلام عنده: "الحياة هي المسيح والموت ربح لي" (فل 1: 21). لا يخاف بولس أن يخاطر بحياته لكي يعلن الإنجيل. ولكن من أين تأتيه هذه الشجاعة، هذه الثقة بالنفس؟
1- ينبوع الجرأة الرسولية
نلاحظ أولاً أن الجرأة ليست وجهاً من وجوه الاعتداد بالنفس. إنها عطية الروح، وهي تستند إلى يقين لاهوتي. كم من مرة يقرّب بولس الثقة (بريسيا، الشجاعة، الجرأة) من ذكر الروح. فهو يتكلّم مثلاً عن "معونة روح يسوع المسيح الذي يُعطى له" (فل 1: 19). وفي الآية التالية يتحدث عن الجرأة التي تدوم (فل 1: 20). وكتب أيضاً: "نحن نتصرّف بجرأة عظيمة" (2 كور 3: 12) في ممارسة "خدمة الروح" (2 كور 3: 8). من الواضح أن هذه الجرأة هي موهبة (كرسمة) تظهر خاصة في إعلان البشارة (على مستوى الكلام): "صلوا لي أنا أيضاً، حتى يضع الله كلامه على شفتيّ ويعطيني الجرأة لكي أعلن البشارة (الإنجيل)... واسألوا لي الجرأة لأنادي بالإنجيل (البشارة) كما يجب عليّ " (أف 6: 19- 20).
وهناك مقطع آخر في سفر الأعمال يقرّب عطية الروح من الجرأة التي أظهرها الرسولان بطرس ويوحنا. أوقفا بعد شفاء الكسيح على مدخل الهيكل، فشرحا معنى فعلتهما: "فأجابهم بطرس وهو ممتلئ من الروح القدس: إن هذا الرجل وقف هنا أمامكم معافى باسم يسوع المسيح الناصري الذي صلبتموه أنتم وأقامه الله ا من بين الأموات. لا اسم آخر أعطي للبشر نقدر به أن نخلص" (أع 4: 8 ي).
بعد مثل هذا الإعلان، كان الخطر كبيراً في أن يعودا إلى السجن. ولكن شجاعة بطرس ويوحنا (وشجاعة بولس أيضا) أقوى من الخوف.
أطلق السنهدرين (المحكمة الدينية) الرسولين فذهبا إلى رفاقهما. وصلوا جميعاً: "أنظر يا رب إلى تهديداتهم، وامنحنا نحن عبيدك أن نعلن كلمتك بكل جرأة. مدّ يدك لتتم الأشفية والآيات والعجائب باسم فتاك (عبدك) القدوس يسوع" (4: 29- 30). وفي هذا الوقت، "اهتز المكان الذي كانوا مجتمعين فيه، وامتلأوا كلهم من الروح القدس، فأخذوا يعلنون كلمة الله بجرأة" (4: 31). يقدّم هذا النص جرأة الرسل وكأنها جواب الله على صلاة التلاميذ. وهو يربط رباطاً وثيقاً بين فيض الروح وجرأة الواعظين (المبشّرين). جاءت عنصرة جديدة، فمنحت بطرس ويوحنا الجرأة من أجل إعلان الإنجيل (البشارة). أجل، لا يستند الرسولان إلى صفات طبيعية عابرة من معرفة أو خطابة. "كانا أمييّن ومن عامة الناس" (4: 13)، فلم يكن لهما الصفات البشرية التي تساعدهما على مواجهة مجتمع معادٍ. ولكن الروح أعطاهما الجرأة ليتغلّبا على المحنة.
2- ثمرة تفكير لاهوتي
يفعل الروح عند بولس، فيثير اعتبارات تسند جرأته الرسولية. وإن لبولس فكرة سامية عن خدمته (أو رسالته) بحيث لا تنقصه الجرأة في كرازته. هذا ما يقرّ به حين يبيّن للكورنثيين لماذا يتصرّف "بجرأة عظيمة" (2 كور 3: 12). هذا النص مليء بالمعاني، لهذا نتوقف عنده.
وعى بولس أنه "رسول الله" (2 كور 2: 17). فالله هو الذي جعله “خادم عهد جديد” (2 كور 3: 6). بعد هذا، يستطيع الرسولي أن يرتكز على عون الله الأمين الذي دعاه.. ويعرف بولس خاصة أنه خادم الروح. في الحقيقة، إن دور الروح متعدّد في العهد الجديد. فعلى الروح أولاً أن يحوّل القلوب إلى المسيح، ثم أن يحركها. قال بولس لأهل كورنتوس (2 كور 3: 2- 3): "أنتم رسالة المسيح، تثبت بروح الله الحي في قلوبكم". فإذا كانت كلمة الرسول ولجت قلب الإنسان، وإذا كانت حياة المؤمن الروحية لا تكتفي بأن تعكس مجد الرب ("يتحوّل من مجد إلى مجد") فلأن الروح يعمل في الوقت عينه كصانع الحياة الجديدة، وكالموهبة التي تكوّن هذه الحياة. لهذا، لن نعجب إن كانت "خدمة الروح" محيية، إن حملت التبرير والمجد أو امتلكت القيمة المستمرة لحقيقة الله (2 كور 3: 6- 11). أي فرق بين هذا التدبير الروحي وبين تدبير زمن موسى الذي كان يستند إلى واقع عقيم، إلى الحرف (2 كور 3: 6- 9)؟ فالذي حفر الكلمة على الحجر تحلّى بجرأة علوية (هو موسى). فكم تكون عظيمة جرأة الذي يكتب الكلمة في القلوب. الروح هو الذي يتمّ هذا العمل العميق الذي يشير إلى الخلق الأول: "الله الذي قال: ليشرق من الظلمة نور، هو الذي أضاء بنوره في قلوبنا لتشرق معرفة مجد الله" (2 كور 4: 6). لقد تحوّل المسيحي تدريجياً بفعل الروح، "فسار نحو المعرفة الحقيقية، متجدّداً على صورة خالقه". وحين يكرز بولس "بيسوع المسيح رباً" (2 كور 4: 5)، فهو يعي أن "روح الله الحي" يلد خلائق جديدة لحياة الله (غل 6: 15؛ 2 كور5: 17). فالرسول الذي يلهمه الروح مثل هذه اليقينات حول عظمة "خدمته"، كيف لا يتصرّف "بجرأة عظيمة" (2 كور 3: 12)!
د- الخاتمة: كنيسة تنمو
بعد أن ذكر لوقا أخطار الموت التي تهدّد بولس، يقدّم لنا في آ 31 لوحة متفائلة عن حياة الكنيسة. لن ندهش من هذا، لأننا أمام قطعة جديدة، أمام إجمالة (رج 2: 42- 47؛ 4: 33- 35؛ 5: 12- 14) أقحمت بين مجموعتين. تحدّثت المجموعة الأولى عن بولس (9: 1- 30)، والمجموعة الثانية عن بطرس (9: 32- 11: 18). إن صورة الحياة الكنسيّة تتعلّق في بضعة سطور: من السلام الذي ينعم به المؤمنون، بعد أن توقف أعداء المسيح عن ملاحقتهم، إلى نمو الكنيسة الواضح، إلى القيم الروحية (مخافة الرب، تعزية الروح) التي تحيا منها الجماعات المسيحية.
تدلّ مخافة الرب على عنصر أساسي في التصرّف المسيحي. إن بولس يعارض "التقديس في مخافة الله" بنجاسات البدن (الجسد، اللحم)، والروح التي تطبع بطابعها الحياة الخاطئة (2 كور 7: 1). لسنا هنا أمام ينبوع من الممنوعات، بل أمام دينامية تشبه دينامية الحبّ (2 كور5: 11، 14؛ أف 5: 21، 25- 33) الذي يقود المسيحي ليجعل حياته شبيهة بحياة الرب.
وتدلّ "تعزية الروح" على عطية الله العظمى (2 تس 2: 16) التي تكون في الشدة والضيق (2 كور1: 3- 7) كما في السلام (2 كور 7: 4، 11). إن الأسفار المقدسة والكرازة المسيحية لا تعطي مثل هذه التعزية (13: 15؛ 15: 31؛ روم 15: 4- 5)، لأنها تكشف مخطط الخلاص الذي يحقّقه الله رغم الحواجز (2 كور1: 5- 7). وهذه "التعزية" التي هي ثمرة الروح والإشارة إلى حياة إيمان عميقة، تغذي الرجاء (2 تس 2: 16؛ روم 15: 4). قد لا ترى نظرة بشرية محضة في حياة الكنيسة إلاّ معارضات شبيهة بتلك التي واجهها بولس. ولكن الروح "يعزي" المسيحي فيكشف له عملٍ البناء الذي يتابعه الله. قال بولس: "قلبي ممتلئ بالعزاء وفائض فرحا في كل مصاعبنا" (2 كور 7: 4).

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM