الفصل الحادي والثلاثون: سمعان الساحر

الفصل الحادي والثلاثون
سمعان الساحر
8: 4- 25
كل عرض للروح القدس، وإن ارتبط بالحديث عن الكنيسة، يوقعنا في خطر العموميات. فقد قال أحد الشرّاح إن لوقا لم يتحدّث عن أعماله الرسل، بل عن أعمال الروح القدس. لا نحتاج إلى التوسّع في الطريقة التي بها اتخذ العمل الرسولي في أع دفعه الأول من حلول الروح القدس يوم العنصرة. ولقد اتّجهت الكنيسة في هذا الخط أو ذاك بحسب ما أمرها الروح أو منعها. ومن الروح حصل المسيحيون على موهبة التكلّم بألسنة، على النبوءة، وتعلّموا الردّ على اتهامات خصومهم. كل هذا يُدرَس في فصل خاص بالروح القدس. أما الآن فنركّز انتباهنا على حدث واحد هو التبشير في السامرة وما كان من سمعان الساحر. سنضع هذا الحدث في إطار واسع. وسنفهم أن خبر سمعان الساحر يصيب أكثر من موضوع في أع.
أ- نظرة إجمالية
إن هذا المقطع يعرض ويمزج عدداً من الخصائص المهمّة. إنه يرتبط بمرحلة إخبارية تدلّنا على وجود مجموعتين مميزتين في الكنيسة الأولى: العبرانيون الذين يمثلهم الاثنا عشر، والهلينيون الذين يمثلهم السبعة. لم يعمل لوقا على إبراز الفروقات بين هاتين المجموعتين، بل
خفف من حدّتها. ولكن خبره يشير إلى أن التمايز برز خاصة من خلال الإهمال والتشكي
(6: 1). قال السبعة بعمل رسولي، فنتج عن ذلك اضطهاد لم يكن منتظراً. وكانت نتيجة هذا الاضطهاد أن خرج الهلينيون من أورشليم، وظل الرسل فيها (8: 1).
وهكذا ينتمي النص الذي ندرسه إلى حقبة من التاريخ الكنسي يصوّر أع مدى تنوّعها. يروي هذا النص تحرّك الكنيسة بحسب البرنامج الذي نقرأه في 1: 8: انطلقت من مركزها الأصلي في أورشليم، انطلقت من اليهودية، وها هي تتوجّه إلى السامرة. وهكذا برزت مسألة جديدة، بعد أن ارتدّ إلى الإيمان المسيحي أناس ليسوا بيهود أقحاح وليسوا بمرتدين حقيقيين. ليس من السهل أن نتصوّر موقف اليهود من السامريين في حقبة معيّنة. لا شكّ في أن هذا الموقف اختلف بين وقت وآخر، بل بين يهودي ويهودي. ولكن في كل حال، ظل اليهود ينظرون إلى السامريين على أنهم خارج إطار الحياة اليهودية. وجاءت مسألة اتساع الرسالة (حسب أع) تُزاد على مسألة الاختلاف بين العبرانيين والهلينيين (رج يو 4: 38). لن نتوسّع في هذه المسألة، ولكننا نلاحظ أن لوقا حاول أن يقحم في خبر واحد نشاط السبعة ونشاط الاثني عشر.
إن هذا النص يقدّم طقسين مسيحيين في بداية تاريخ الكنيسة، أو وجهتين لطقس واحد: المعمودية ووضع الأيدي. إنهما أمران مهمّان في حدّ ذاتهما. وهذا يعني أننا لن ننسى العلاقة (على مستوى الألفاظ والواقع) بين المعمودية في الماء والمعمودية في الروح القدس.
أخيراً، نحن أمام حدث يلتقي فيه الكارزون المسيحيون بالإنجيل، بشخص يعارضهم أو يخاصمهم. صار في البداية مسيحياً، ثم ضل عن المسيحية واقترف خطيئة خطيرة وقاتلة تجاه الروح القدس. والافتراضات التي تكمن وراء هذه الخطيئة، تمثل تأثير الإنجيل على تفكير غريب عنه. وسيكون لهذا التصادم نتيجة لها معناها.
ب- تحليل النص
يتضمّن هذا النص عدداً من الخصائص يساعدنا على أن نتعدى النظرة العامة إلى الروح القدس في أع. وسنتوقّف عند المسائل الأدبية والتاريخية. ونتساءل: ما هي المراجع التي استعملها لوقا، وكيف دمجها بعضها ببعض؟ ما هي القيمة التاريخية لهذه المراجع، وهل حافظ لوقا على هذه التاريخية في عمله التدويني؟ نشير هنا إلى أن الحلول لن تكون أكيدة، وأننا نبقى على مستوى الافتراضات والنظرات المعقولة. يبدأ المقطع (8: 2) بعبارة تربطه بنص 8: 1 و11: 9: تشتت المؤمنون كلّهم، ووصل الهلينيون إلى أنطاكية. وتأتي أداة استئنافية: "مين أون": إذن. وهكذا ينطلق الخبر في توسّع جديد دون أن ينسى ارتباطه بما سبق. إن 8: 4 هي على ما يبدو آية من وضع لوقا تربط خبر السامريين بفيلبس الذي عرف على أنه أحد السبعة (6: 5). هؤلاء كانوا نواة المجموعة التي خرجت من أورشليم وبشرت أنطاكية (حسب تقليد ذكره لوقا في أع 11). فمن الطبيعي جمع الرسالة السامرية مع تحرك وعمل فيلبس كَمَثل لما عمله الهلينيون المشتتون في الطريق (تنقل، انتقل، 8: 4؛ 11: 19) التي تصل أنطاكية بأورشليم. فإذا كانت أع من عمل لوقا (على مثال 11: 19)، فهذا يعني أن هذا المقطع لا يرتبط بمرجع أنطاكي لا يقر بوجود محطة بين أورشليم وأنطاكية. فهذا يوافق فيلبس مع قيصرية لا مع أنطاكية (8: 4: 21: 8).
تروي آ 5- 8 بطريقة مباشرة خبر النشاط الرسولي فيِ السامرة، من كرازة وشفاء. وفي آ 9- 11 يدخل سمعان الساحر. أما آ 12 فتُجمل ما قيل عن رسالة فيلبس، وتذكر إيمان وعماد عدد كبير من سكان المحفة. وجاءت آ 13 فربطت عنصرين ذُكرا سابقاً: رسالة فيلبس وعمل سمعان: اقتدت بالآية 12 وردّدت بعض الكلمات المستعملة في المقطع. إنها الآية الوحيدة التي تجعل فيلبس وسمعان معاً. وهكذا نستنتج أن التقليد السابق للوقا لم يجمع هاتين الوجهتين في صورة واحدة.
بعد آ 13 لن نعود نسمع شيئاً عن فيلبس. فقد برز موضوع جديد هو زيارة بطرس ويوحنا (آ 14- 17) وما تبع ذلك من مواجهة بين سمعان الساحر وسمعان بطرس (آ 18- 24). وإن آ 25 (مع مين نون، إذن) هي خاتمة "الناشر" الذي يصوّر دورة رسولية في قرى السامرة. من الممكن أن نتساءل: هل كانت القطعتان أي آ 14- 17 وآ 18- 24 مرتبطتين في الأصل أم لا؟ إذا نظرنا إلى نص أع كما يبدو الآن، تبدو آ 18- 24 أوسع ممّا نجد في القطعة الأولى (آ 14- 17). فحين رأى سمعان (آ 18) ما حدث (آ 17)، عرض أن يشتري قوة منح الروح بوضع الأيدي: وفُصل وضع الأيدي عن المعمودية ورُبط إعطاء الروح بوضع الأيدي لا بالمعمودية. وهذا الفصل يشكّل المشكلة الرئيسية في ف 8. وقد حاول الشرّاح أن يجدوا حلاً لهذه المشكلة فقالوا إن لوقا عالج معطيات متفرقة وصلت إليه. احتاج أن يجمع بطرس مع الساحر، وفصل عطية الروح عن المعمودية، فاخترع هذا الظرف. قد يكون هذا الأمر صحيحاً. ولكن من المهم أن نتذكر أننا لسنا فقط أمام مجرّد افتراض. إن كان الأمر هكذا، فهذا يعني أن سمعان هو الذي حدّد مكان الحدث في السامرة. وحسب يوستينوس (الدفاع 1/ 26 وقد ردده اسابيوس، تاريخ الكنيسة 12/13: 3)، جاء سمعان من قرية سامرية اسمها جيتا. إذاً كان لوقا واعياً لهذا الأمر، إلاّ أنه اكتفى بإشارة غامضة لا ترضي الحشرية، نقرأها في آ 5.
سنعود إلى الإشارات الجغرافية فيما بعد. لاحظ الشرّاح مراراً أن السفر إلى السامرة لا يتوافق بطريقة ناجحة مع تحرّكات فيلبس في ما تبقّى من ف 8. فمن أورشليم إلى السامرة (ولا فرق إن فكرنا بشكيم، أو سابستيس أو جيتا)، يتوجّه فيلبس مباشرة إلى الشمال، ثم يدور إلى الجنوب الغربي نحو الطريق إلى غزة. وهناك جدال: هل اقترب مع الوزير الحبشي من غزة في الطريق المباشرة إلى أورشليم أم في الطريق الساحلية؟ إذا كان الافتراض الأول هو الصحيح، فقد يكون عاد إلى أورشليم (بعد أن نسي الاضطهاد)، ثم جعل نفسه في وجهة معاكسة للتي اتخذها في آ 5. وإذا كان الافتراض الثاني، فيكون قد سافر أولاً نحو الشمال الغربي إلى قيصرية قبل أن يدور إلى الجنوب، وبعد هذا عاد من جديد إلى قيصرية باتجاه الشمالي (آ 45). إن لم يكن قد ذهب إلى الجنوب أبعد من أشدود (أزوت) فقد ذهب إلى جنوب أورشليم (وإن يكون باتجاه الغرب).
إن كان قد جاء إلى غزة نفسها فقد يكون بعُد عن الجنوب وبالتالي عن قيصرية.
ج- سمعان الساحر
لقد توسّعنا في هذه الاعتبارات الجغرافية، لا لأننا نظن أنه بالإمكان (أو أنه من الأهمية بمكان) أن نرسم على خريطة تحرّكات فيلبس، بل لأننا نريد أن نكتشف اهتمام لوقا الرئيسي في هذا المقطع. لا شك في أن له اهتمامات جغرافية، لأنه بدأ يرينا تنفيذ الرسمة التي نقرأها في 1: 8. ولكن هذا الاهتمام لا يمتد إلى التفاصيل. وحين يتحدّث عن الأعمال المنسوبة إلى فيلبس، فهو يكتفي بالأمور العامة بحيث يبدو من الواضح أن لوقا لا يعرف أكثر من هذا، وهو أن فيلبس كان أحد السبعة الهلينين، وأن المجموعة الهلينية الرئيسية أسّست كنيسة أنطاكية، وأن فيلبس ارتبط بقيصرية. وأن سمعان والتقاليد حول سمعان حدّدت موضع الأحداث التي نقرأها في 8: 4- 25. هذا يفترض أن العلاقة بين الهلينيين (أي فيلبس) وبين الاثني عشر (أي بطرس ويوحنا) هي من نتاج لوقا لا من نتاج التقليد. وبكلام آخر، ليس خبر سمعان قطعة جُعلت هنا لتجمع بين فيلبس وبطرس، إنه جزء من المواد التي وجدت تقليدياً في حدّ ذاتها، وساعدت لوقا على الوصول إلى أهداف ثلاثة: أشار لوقا إلى محطة جديدة في انتشار المسيحية. أبرز وحدة الكنيسة في عصرها الذهبي. وإذ تكلّم عن سمعان الساحر، ألقى ضوءاً غير مباشر على الروح القدس والكنيسة.
بعد القرن الثاني، نظر التقليد المسيحي إلى سمعان كأب لهرطقة، وكمؤسّس لجماعة "السمعانيين". سمعان هو أول الغنوصيين كما يقول ايريناوس في كتابه ضد الهراطقة. ولكن ليس ما يشير في أع 8 إلى أن سمعان كان غنوصياً. ما يقوله لنا لوقا هو أن سمعان كان في مدينة سامرية قبل أن يصل فيلبس إليها. وكان سمعان "ماغوس" فهل من علاقة بين "ماغيا" والغنوصية؟ يشير متى 3: 2 إلى "ماغوس" أو المجوس الذين هم رجال حكماء وبالتالي يرتبطون بالغنوصية أي بالمعرفة. ثم إن لوقا يحدّثنا عن نبي يهودي كذّاب اسمه بريشوع أو عليما، وكان "ماغوس" (أع 13: 6- 8). فما معنى هذه الكلمة؟
جاءت من الفارسية، ودلّت على أحد كهنة النار: يحضرون في كل ذبيحة، فينشدون ويخبرون الناس عن ولادة الآلهة. وفي القرن الخامس المسيحي صار معنى الكلمة: الساحر أو المدجّل. لا غنى عن القول إن لوقا لم يفكر بكهنة الفرس وفلاسفتهم حين تحدّث عن سمعان أو عليما: إنهما ساحران مدخلان يحاولان أن يؤثّرا على الناس من أجل المال أو العظمة والجاه.
د- نظرة لوقا إلى المال
عرض سمعان المال على بطرس ويوحنا لينال سلطة إعطاء الروح. نحن نعرف اهتمام لوقا بالمال، بالفقراء والأغنياء، وبالعلاقة بين هاتين الفئتين. وقد تحدّث بصورة خاصة في أع عن الاستعمال الصحيح والاستعمال الخاطئ للمال تجاه القدسيات. فيقول عن يهوذا الاسخريوطي إنه اشترى حقلاً بثمن الجريمة (1: 19) فتم الكتاب (مز 69: 26؛ 109: 8؛ أع 1: 20) وفُصل عن الاثني عشر. وفي الأيام الأولى للكنيسة، لم يكن للأعضاء مُلك خاص، بل كان الواحد يهتم بالآخر، وكان للجميع "صندوق واحد".
هذا ما نستنتجه من أع 2: 44- 45 (يجعلون كل ما عندهم مشتركاً بينهم. يبيعون أملاكهم ويتقاسمون ثمنها على قدر حاجة كل واحد منهم) و 4: 32- 35 (لا يدّعي أحد منهم ملك ما يخصّه. كانوا يتشاركون في كل شيء لهم). وقدّم لنا النص صورة تعليمية عن يوسف برنابا (4: 36- 37) وعن حنانيا وسفيرة (5: 1- 11). لم يكن برنابا مجبراً على فعل ما فعل، ولهذا اعتُبر عمله جديراً بالمديح. أما خطيئة حنانيا وسفيرة فلم تكن بأنهما احتفظا بالمال لنفسيهما، بل لأنهما غشّا الروح القدس وكذبا على الله (5: 3- 4، 9). لم تكن القضية اقتصادية، بل أخلاقية ودينية. وإذا عدنا إلى الوراء، نلاحظ أن بطرس ويوحنا قالا للكسيح الشحاذ أن ليس لهما مال (3: 6). لا مال لهما فلا يعطيان مالاً ولا يأخذان مالاً. وقال بطرس: "أعطيك ما عندي". لا حاجة إلى الدفع من أجل الخير الذي يُمنح للناس. وإن استعمالاً خاطئاً للموارد المالية قاد الكنيسة إلى أول انقسام فيها (6: 1). ولما صحّحت طريقة الاستعمال، عرفت الكنيسة انتشاراً ملحوظاً (8: 1- 4، 11- 19. والمقطع الذي ندرس، 8: 5- 25، وخبر الوزير الحبشي، 8: 26- 40). ولقد مضى لوقا يقول بلسان اسطفانس إن الله نفسه لا يرغب في امتلاك شيء ولا يريد لشعبه أن يتعلّق بشيء. وإن الرغبة في الامتلاك، جعلت موسى يهرب من أرض مصر (7: 26 ي). ولقد أعطت طابيتة (9: 16- 43) مثالاً صالحاً في استعمال المالي بالطريقة الصحيحة. وكذا فعل كورنيليوس: صلواته وأعماله الخيرية (صدقاته) جعلت الله يتذكّره (15: 2، 4) ويقوده إلى الارتداد. بينما بطرس يتكلّم، نزل الروح القدس على كورنيليوس وجماعته (15: 44). ما حصل، لم يحصل بعد أن دفع كورنيليوس المال إلى المرسلين. ما حصل هو عمل حر من لدن الله، والروح يُعطى كهبة للمؤمنين (11: 17: وهب الله هؤلاء ما وهبنا نحن عندما آمنا بالرب يسوع).
إن 11: 27- 35 يقدّم خبر امتزاج اليهود والوثنيين في كنيسة أنطاكية، وقد أورده لوقا ليدل على الوجه الصحيح للمسيحية في كنيسة مستقلة عن أورشليم. فهذه الكنيسة أرسلت معونة إلى الأخوة المقيمين في اليهودية.
ونجد في ف 13 ساحراً (ماغوس) آخر هو عليما (بريشوع) الذي هو يهودي يدّعي النبوءة (13: 6- 8). إنه مع حاكم جزيرة قبرص، وهذا يعني أنه يرتبط بالبلاط كمنجّم يعمل لقاء أجر محدّد. وقد قال فيه بولس: الممتلئ بكل خبث وغش (13: 15). هل نجد إشارة إلى الغش في المعاملات المالية؟ الأمر ممكن. ولكن المهم هو أنه استعمل "السلطة التنبؤية لكسب المال".
ولن نجد في أع علاقة بين القوة الروحية (أكانت حقيقية أم مفترضة)، وكسب المال أوضح مما في ف 16. فالجارية الممسوسة (يسكنها الشيطان) كانت تتنبأ فتكسب لسادتها مالأ كثيراً. وطرد بولس الشيطان من تلك الجارية. فحرم سادتها من المال. حينئذ قاموا على بولس وسيلا وجرّوهما أمام القضاة. كانت بيدهم سلطة "روحية" يستعملونها من أجل الربح. غير أن سلطان بولس الروحي أقوى من تلك السلطة، وشجْبٌ في الوقت عينه لتجارة سادة الجارية. وفي 18: 3، نعرف أن بولس لم يؤمّن حياته لقاء عمل روحي. بل إنه كان يعمل بيديه ليعيل نفسه، بمشاركة أكيلا وبرسكلة (في كورنتوس).
ونعود إلى العالم "الروحي" (أو الشيطاني) في ف 19. لا يقول لنا لوقا هنا إن أبناء سكاوا الذين حاولوا أن يطردوا الشيطان باسم يسوع، فعلوا ذلك طلباً للربح. ولكن يكفي أنهم فعلوا وأنهم كانوا "معوزين" محترفين. والدهم كان "رئيس الكهنة" (19: 14). كان يهودياً يتمتع بسلطة عالية. بعد هذا روى لوقا كيف أحرق المشعوذون كتب السحر وكان ثمن ما أحرقوه 50000 قطعة من الفضة (18: 19). طريقة غريبة لتصوير اتساع الخراب، واهتمام لوقا بشجب كل مال نربحه بواسطة السحر والشعوذة. أما الحدث اللاحق فهو ما فعله الشعب في أفسس (19: 23- 40): لقد خسر الصنّاع (الصاغة) سبيل ربحهم الذي كان يقوم على بيع أدوات العبادة الوثنية (19: 25: إن رخاءنا يقوم على هذه الصناعة).
من المفيد أن نشير إلى تحركات بولس في 20: 2- 4. فلوقا لا يتحدّث عن اللمّة الكبرى (أي التبرّع) ما عدا في 24: 17 (أحمل بعض التبرعات). لماذا لم يتحدّث لوقا عن هذه اللمّة التي كانت مهمة جدا في نظر بولس؟ هل هناك من هاجم هذا المشروع (رج 2 كور 12: 16)؟ رجع بولس إلى عادة في أن يعمل بيديه لئلا يثقل على الجماعة، وأمر خلفاءه بأن يقوموا بخدمتهم بالطريقة عينها (20: 35: يجب علينا أن نكدّ ونعمل). ما هو هدف هذه النظرة؟ أولاً: إن الامتلاك الصحيح لروح الله الحقيقي يرافقه استعداد لإبعاد المال. ثانياً: شجب الرغبة في حب المال بالاتفاق مع الأرواح الشريرة أو بواسطة أساليب غاشة. كل هذا يشكّل للوقا موضوعاً هاما جداً، وهو سيدفع الرسل ممثّلي ألكنيسة لكي يربطوا عمل الكنيسة بعمل الروح.
هـ- عودة إلى سمعان الساحر
ونعود الآن إلى سمعان الساحر. تأثّر بعجائب فيلبس وكرازته فتعمّد. وحين جاء بطرس ويوحنا، وضعا أيديهما عليه كما على سائر المرتدّين. نال سمعان الروح القدس كما ناله غيره. وجاءت الخطوة التالية: طلب من الرسل سلطة منح الروح بوَضْع يديه. لم ير سمعان بطرس أي خطر في هذا الطلب. إن الخطر يبدو حين نقرأ أع قراءة إجمالية.
أولاً: بالنسبة إلى الأشخاص: بين الرسول والساحر هناك هوّة عظيمة. فالساحر يربح المال حين يتاجر بالأمور العلوية (الفائقة الطبيعة). أما الرسول فلا مال له. هو لا يتقبّل مالاً من الكنيسة. يعمل بيديه ليكفي حاجاته، ويقدّم الزيادة لمساعدة الفقراء. لم يكتب لوقا هذا الأمر ليدل على واقع قديم، بل أراده كجزء من المشاركة في نموّ الكنيسة في عصره. لا شك في أن الرسل لم يكونوا من "السحرة"، ولكن لوقا أراد أن يرفض فهماً متعالياً (يؤلّه الأشخاص) للرسالة والخدمة. وفي الوقت نفسه، قدّم لوقا الرسل بطريقة تشبه أخبار "الآلهة": أعمال بارزة تتجاوز أعمال خصومهم. فقد اهتم لوقا اهتماماً خاصاً ليبين أن بطرس ينتصر على سمعان، وبولس على عليما، أن روح العرافة ترك جارية فيلبي، وأن أبناء سكاوا خُذلوا وهُزموا. هذه الصورة هي قسم من الحقيقة، وتجد كمالها بالطريقة التي بها كُسب المال. كسب هؤلاء المال بالشعوذة. أما الرؤساء الذين كانوا فقراء فقد أغنوا كثيرين. وهذا ما نراه في صلاة الرسل الذين لا يعملون بقوة مستقلة يمتلكونها ويوجّهونها 31: 12، بقوتنا أو تقوانا؟ رج 14: 14- 15)، بل يرتبطون بقدرة اللّه التي تتحقّق (لا يحدّد لوقا الطريقة) عبر الصلاة.
إن خبر السحرة يساعدنا على تفهم الطابع الحقيقي للمسيحية الذي يحقق البركة السامية التي تقوله إن العطاء أعظم من الأخذ.
ثانياً: هناك ملاحظات إضافية حول الموهبة التي يمنحها بعض الناس (أو يحسبون أنهم يمنحونها). اهتم لوقا اهتماما تاماً بظهورات الروح، وقدّر تلك الظهورات أكثر ممّا فعل بولس. إن التكلم بألسنة والظواهر الخارقة، هي في نظره العلامة الأكيدة أن الروح أعطي. لهذا لن يحتاج كثيراً إلى التكلّم عن ثمار الروح التي هي المحبة والفرح والسلام. إن التعارض بين لوقا وبولس يتبدّل بما قلنا هنا. لا شك في أن هناك قوة تحرّك مثل هذه النشاطات كالتكلّم بالألسنة التي تمنى سمعان أن يمتلكها. وإن رَفْضَ الطلب يدل على أن هذه الظواهر، وإن كانت منظورة على مستوى سطحي، إلا أنها لا تُباع ولا تُشترى. هذا يعني أن لوقا يقدّر التكلم بالألسنة، ولكنه يشدّد على أن قيمته تبقى سليمة إن استُعمل في الطريق الصحيحة لا الخاطئة. إنه يشهد لحضور الله وعمله.
ثالثاً: نتذكر أننا قلنا إن موضوع هذا المقطع هو علاقة الروح القدس بالكنيسة. اقتربنا منه عن طريق سمعان الساحر الذي أراد أن يطبّق مبادئ من سحره الخاص على منح الروح، وهي مبادئ مالية وتجارية. رغب في أن يدفع المال من أجل القدرة على العمل (وهكذا يكسب المال) كجزء من أعمال السحر. هذه الرغبة عند سمعان شجبها بطرس. من جهة، إن طريق الخدمة المسيحية غريبة عن عمله. ومن جهة ثانية، هذا يعني سوء فهم لموهبة روحية مثل التكلّم بالألسنة، ومن جهة ثالثة، هذا يعني وضع الروح القدس بتصرف إنسان أهدافه الرئيسية هي أهداف كسب وربح. حتى ولو كانت أهداف سمعان رفيعة، فكيف يُوضع الروح القدس تحت سيطرة الإنسان؟ هذا لا يُعقل وهو منافٍ للحقيقة. وهذا ما يخالف أمراً نستشفه عبر أع، وهو أن الروح هو الذي يوجّه حياة الكنيسة ونشاطها، ويوجّه المسؤولين فيها. هذا هو الدور الحقيقي للروح الذي هو الرب (ليست الكلمة من لوقا، بل من بولس) الذي يعطي الحياة، الذي يفحص كل شيء ولا يُفحَص. هذه هي الملاحظة التي تعطي هذا المقطع الإخباري معناه. فالسؤال الذي يُطرح: كيف يتحدّث لوقا عن الإيمان والارتداد والمعمودية ووضع الأيدي وموهبة الروح؟ نحن نجد علاقة بين هذا العامل أو ذاك في أع، ولكننا لا نجدها حسب نموذج واحد. فقد تساءل الشرّاح بالنسبة إلى ف 8: لماذا لم تتبع عطية الروح حالاً العماد الذي منحه فيلبس؟ هل لأن فيلبس لم يكون رسولاً (أحد الاثني عشر)؟ هل لأن فيلبس أهمل وضع الأيدي فنقص طقس من طقوس التنشئة؟ لن نكون قريبين من الحقيقة إن قلنا إن لوقا ضمّ عدّة تقاليد من أجل التنسيق بين السبعة (اسطفانس، فيلبس...) والاثني عشر (أي الرسل)، فأعطى المعمودية للواحد والتثبيت للآخر. هذا القول لا يأخذ بعين الاعتبار سمعان الذي دقّ مسماره في اعتقاد لوقا الأساسي، وهو أن الروح يُعطى فقط حين يرى الله ذلك، لا جواباً على أعماله سحرية. هو الله الذي يعطي روحه، لا السحرة، بل ليس الرسل. فإن أراد أن يمنح الرسل هذه الموهبة، فهو يفعل كما يشاء وساعة يشاء. نحن نقرأ النصوص بعض المرات وكأنها كُتبت من أجل أهدافنا. نحن نقول: هكذا قسمت الوظائف في الكنيسة: للكهنة العماد والأساقفة التثبيت. ولكنّنا نحن الكهنة الشرقيين نمنح سر التثبيت مع العماد. إن اهتمام لوقا هو غير اهتمامنا وإن استطعنا أن نقرأ في ما كتب نوراً على حياتنا وممارساتنا.
ونتوقف عند تبادل الكلام بين سمعان وبطرس. قال أحد الشرّاح: إن الكنيسة تقدّم لتبّاع سمعان، للسمعانيين، المغفرة وإمكانية العودة. حُكم عليهم، ولكن طلب منهم أن يتوبوا. فإن فعلوا قُبلوا من جديد في الكنيسة. نحن هنا أمام قراءة للتاريخ (وقد لا تكون صحيحة) على ضوء سفر الأعمال. لا شكَّ في أن باب الكنيسة مفتوح لسمعان وغيره، لتبّاع سمعان وغيرهم من أصحاب الضلال. ولكن لوقا يعتبر أن تبّاع سمعان هم حنانيا وسفيرة: خطأه اللاهوتي وفساده الأخلاقي سيظهران على مدى سفر الأعمال كما رأينا، وعلى القارئ أن يتجنّبها. لم يقل لنا لوقا إن كانت توبة سمعان صادقة أم لا، وهل دامت طويلاً أم كانت كسحابة صيف فمسألة المثابرة مسألة لاهوتية صعبة. ونلاحظ أن عليما الساحر (13: 11) نال معاملة مماثلة: كان عماه مؤقتاً، وبالتالي فُتحت له الطريق من أجل توبة لاحقة.
إن هدف كلام بطرس هو التشديد على فظاعة خطيئة سمعان وتحديدها على أنها سيطرة على عمل الروح القدس بواسطة المال، وهذا ما يتعارض وطبيعة الروح كموهبة. باعث عمل سمعان باعثٌ مالي، وهدفه الكسب. أما كلمات بطرس فلا تقابل أسلوب سمعان السحري نفسه. إنه يقرّ أن تهديد سمعان بالهلاك قد لا يأخذ مكاناً في الحدث. لهذا يحرّج عليه بأن يتخذ موقفاً (توبة، صلاة) ليلغي هذا التهديد. انطلق كلامه من العهد القديم، فأعلن أن لا شركة لسمعان في هذا الأمر (تو لوغو). لا شركة لسمعان في هذا العمل المسيحي. أجل قد تُفهم كلمة لوغوس بمعنى أمر، شيء. ولكن إذا وضعنا جانباً هذا المقطع (8: 4، 14، 25) و15: 4 نرى أن كلمة لوِغوس ترتبط بالتكلّم والفكر. وقد نستطيع أن نفهمها بالمعنى عينه في آ 21 (لا شركة). طلب سمعان قوة منح الروح بوضع الأيدي، ولكن طلبه دلّ على أن لا نصيب له في الكرازة بالكلمة. هذا يفترض في إطار الكرازة (لا في إطار نقل قوة شخصية، ديناميس) أن وضع اليد هو المناسبة لعطية الروح.
وإذا عدنا إلى آ 22، ظهر لنا أن بطرس يعتبر التوبة من جهة سمعان غير أكيدة وكذلك مسامحة نيته الشريرة. فهل يعتبر جواب سمعان في آ 24 توبة صادقة؟ يلاحظ شتالين الألماني أن سمعان ما زال يفكر بأسلوب سحري، إذ افترض أن صلاة سمعان لا توبته هي التي تنجيه لا من الشر نفسه، بل من نتائج شره. إن النص الغربي يعتبر أن توبة سمعان كانت أكيدة، وهذا على ما يبدو هو التفسير الصحيح إذا عدنا إلى لاهوت لوقا. فلا نتأثّر بالتقاليد اللاحقة التي قد تكون مزجت بين سمعان وسمعان.
إذا كان الأمر هكذا، فانتصار الكنيسة على الساحر بدأ بقدرة فيلبس وبطرس على فعل أكثر من أعمال سحر، على القيام بأعمال تمنّى سمعان أن يقوم بها فلم يقدر. وصار هذا الانتصار المسيحي واقعاً وحقيقية حين استفاد الساحر المغلوب على أمره من الظروف فنجا من العقاب. ليس هذا انتصار سحر قوي على سحر ضعيف، إنه نظرة لا سحرية، نظرة الإنجيل إلى عالم السحر. وهذه طريقة توسّلها لوقا ليدل على انتصار كلمة الله.
و- الخاتمة
إذا قرأنا هذا النص على ضوء أع كله، نستطيع أن نقول باختصار: لم يكن هدف لوقا الأول أن يوازي بين امتيازات وأعمال السبعة من جهة والاثني عشر من جهة ثانية، بين امتيازات بطرس وفيلبس، مع أنه من المعقول أنه استفاد من الظرف، ليدلّ على أن فيلبس وبطرس لم يكونا خصمين يزاحم الواحد الآخر، بل شخصين يشارك الواحد الآخر في العمل، وليدل على أن لقاء بطرس بسعمان يساوي لقاء بولس بعليما. أما هدف لوقا فهو الكنيسة كمنظّمة: وقد ظن أن السنوات الأولى انطبعت بطابع الوحدة وقوة صنع العجائب. ماذا تصير إليه العلاقات بين العبرانيين والهلينيين في كنيسة أورشليم، وما هي نتيجة انتشار الإنجيل في العالم الوثني؟ هو لم يستعمل خبر سمعان كغطاء لهذه المسائل. فكل همّه أن يقدّم بعض الحقائق لقرائه.
والحقيقة الأولى قد أشرنا إليها: الكنيسة هي بيت الروح القدس المنظّم. آمن لوقا بالكنيسة كمؤسسة وإن لم يصوّرها لنا، وإن لم يشدّد على أن هذا الشكل أو ذاك هو جوهري من أجل وجودها. يقودها الرسل أولاً، ثم ينضمّ إليهم الآخرون الذين يعملون في الوحدة. لا توجد هذه المؤسسة وكأنها مجرد نقابة أو مجموعة من الناس يدافعون عن حقوقهم. إنها تنعم منذ البداية بموهبة الروح. والمرتدّون الذين ينضمّون إليها لا ينضمّون إليها فقط بواسطة وسائل مؤسّسية، بل بقبول الروح القدس كما قبله الرسل في البداية وبالنتائج عينها التي ظهرت يوم العنصرة. الكنيسة هي جماعة مملوءة من الروح القدس، وهيِ تمتلك سلطان منح الروح للآخرين (ليس هذا سلطان مال أو أي مورد آخر نستطيع أن نقتنيه).
والحقيقة الثانية التي نستنتجها: إن الروح هو الذي يعلو على الكنيسة وهو الذي يوجّهها. هذا ما يقوله لنا ف 8 انطلاقاً من مسألة المالي: لا يستطيع سمعان أن يقتني قوّة منح الروح، مع أنه استعد لدفع المال من أجل الحصول على هذا الامتياز. وحتى المعمودية المسيحية التي منحها فيلبس، لا تكفل هذه النتيجة بطريقة آلية. فالروح يُعطى كجواب على صلاة، ولا يُعطى إلاّ كذلك. وسيعبّر الكاتب عن هذه الحقيقة فيما بعد: حل الروح على كورنيليوس وأصدقائه في قيصرية على عكس ما انتظر الحاضرون. ولكن الحقيقة تبقى هي هي. فالكنيسة تملك امتيازا فريداً بأن يكون الروح قائدها والمدافع عنها، ولكنها تمتلك هذا الامتياز كموهبة، لا كحقّ خاص. هذه هي العلاقة بين الروح والكنيسة كما تظهر في أع. وهذا يدلّنا على أن لوقا كان أولاً ذاك اللاهوتي الذي استند إلى التقليد، لا ليقدّم تاريخاً دقيقاً وتقريراً مفصّلاً عن حياة الكنيسة الأولى، بل ليعطينا نظرته إلى عمل الروح في جماعة مدعوة إلى أن تتجاوز السامرة فتصل إلى أقاصي الأرض.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM