القِسم الثالث: الفصل الثلاثون: رسالة الكنيسة الشاملة

الفصل الثلاثون
رسالة الكنيسة الشاملة
8: 5- 8، 14- 17
10: 25- 26، 34- 35، 44- 48
15: 1- 2، 22- 29
هناك رباط وثيق ومنطقي يربط هذه المقاطع من حيث الموضوع في أع. فهي تشير إلى ثلاثة أوقات هامة في تاريخ الكنيسة الناشئة. فرسالة فيلبس دلّت على بداية التبشير في عالم فلسطين بانتظار التبشير بين الوثنيين. وارتداد كورنيليوس وعائلته، فتح أبواب الكنيسة للعالم الوثني. وسجّل مجمع أورشليم بطريقة رسمية ونهائية مسألة قبول الوثنيين الذين يعلنون إيمانهم بالمسيح في حضن الكنيسة.
إذن، سنعالج هذه المراحل التاريخية الثلاث حسب منطق توسّعها. من الواضح أنها تعبّر عن اهتمام واحد: أن تبيّن كيف حاولت الكنيسة الأولى أن تمارس وصية الرب المتعلقة بكرازة الإنجيل في العالم كله (1: 8؛ لو 24: 47).
ولكن مواضيع هذه المقاطع الثلاثة هي متقاربة جداً. إنها تبرز انتشار الإنجيل في العالم الوثني. إنها تعلن المسائل التي طرحتها هذه التنشئة على الكنيسة المتهودة (الآتية من العالم اليهودي). إنها تصوّر الوحدة التي قامت بين أورشليم، الكنيسة الأم، وبين الكنائس التي أسّسها فيلبس بفضل الشهادة للكلمة وقبول هذه الكلمة.
أ- فيلبس يعلن الإنجيل في السامرة (ف 8)
1- الطريق التي تقود إلى الخلاص
أولاً: نجد أولاً (آ 5- 8) دخول رجل فتح الطريق أمام الكنيسة: انه فيلبس (رج 21: 8) الذي التزم بعمل التبشير. إن عمل هذا "الخادم" الشجاع فتح الطريق أمام مسيرة الخلاص التي سيتحدّث عنها بولس في روم 15: 9- 17 والتي يفصّلها لوقا هنا في أع. لاقت الجموع فيلبس الذي بشّرها بيسوع المسيح. سمعت كلامه. وشاهدت عجائبه. آمن الناس وقبلوا العماد، كما يقول لوقا: "فلمّا بشّرهم فيلبس بملكوت الله واسم يسوع المسيح، آمنوا وتعمّد رجالهم ونساؤهم" (آ 12).
وفي نهاية كل هذا "عمّ المدينة فرح عظيم" (آ 8). نجد هنا سمة تميّز لوقا الذي يشدّد على الرباط بين إعلان الكلمة وفرح جماعة المؤمنين (2: 46، 8: 39؛ 13: 48، 52؛ 16: 34؛ رج روم 15: 13).
ثانياً: ثم نلاحظ أيضاً حضور أشخاص آخرين (آ 14- 17): الرسل (بطرس ويوحنا) الذين يعون مهمتهم ودورهم كوسطاء يطلبون مجيء الروح. ونرى أيضاً بما يقوم تدخلهم: تثبيت وتقوية كنيسة وُلدت حديثاً (كنيسة السامرة) لإقامة الوحدة بين الكنائس المتنوّعة وداخل كل كنيسة بمفردها.
يتيح لنا هذا الحضور وهذا العمل أن نتميّز مختلف التوترات في تاريخ الجماعات المسيحية الأولى: توتر سيكولوجي بين واجب إعلان الكلمة وحرية الذين يسمعونها. توتر على المستوى السوسيولوجي والجماعي بين نعمة التحرير التي يعطيها الروح والدخول في جماعة مسيحية بالمعمودية. توتر في نظام العمل بين خلاص سجيء من الله وهذا الخلاص عينه الذي يفرض التزاماً شخصيا وحرّاً.
وتصور آ 14- 17 هذه مرة أخرى المراحل الأساسية للمسيرة التي تقود إلى الخلاص: بدأ بعض أهل السامرة يتقبّلون كلمة الله، فتعلّقوا بكرازة فيلبس. حينئذ جاء الرسل فقالوا من جديد أقوال فيلبس وثبّتوها. ثم وضعوا الأيدي فضمّوا الصلاة إلى الفعلة (رج 19: 6). أخيراً، نال هؤلاء الناس الروح القدس الذي هو عطية العنصرة المسيحيّة (2: 36، 41).
نلاحظ في هذه المناسبة أن الرسل لا يعيدون سر العماد، بل يكتفون بوضع الأيدي على المعمّدين الجدد ليمنحوهم عطية الروح الخاصة. أما بولس فسيتصرّف بطريقة مختلفة في أفسس: وجد تلاميذ نالوا فقط معمودية يوحنا؟ فعمّدهم من جديد باسم الرب يسوع، ووضع يده عليهم لكي ينالوا الروح القدس مع مواهب الألسن والنبوءة (19: 1- 7).
نستشف عمل الرسول في هاتين الحالتين عبر الكلمة التي تُعلن فتُقبل، عبر عطية الله التي ينالها المؤمن في المعمودية، عبر وضع الأيدي. واجبه حضور خدمي يترجمه بخدمة الكلمة، بصلاة التشفّع، بالفعلة الاسرارية.
2- توترات حياتية وسط الجماعة
بعد هذا التحليل السريع الذي أبرز العناصر الهامة، نود أن نشير إلى ملاحظتين.
أولاً: إن اليقظة الروحية في كل كنيسة، تجد جذورها في الكلمة. فالكلمة هي زرع (لو 8: 11) يدخل في حنايا القلب البشري فيؤثر على العلاقات العميقة داخل الجماعة. وهذه الكلمة تحدث أزمة عند كل الذين يتقبّلونها: تثير ردّة فعل حرّة وقوية فتحرّك الأشخاص والمؤسسات. هذا هو التوتّر الذي لاحظناه بين الكرازة بالكلمة وتقبّل الكلمة، بين تعلق بالحرية الشخصية والدخول في جماعة إيمان ومحبة، بين عطية الروح وحضور الرسل.
ثانياً: ويبرز توتر جديد في العلاقات بين الكنيسة الأم والكنائس الشقيقة، بين الحدث والمؤسسة. نحن نجد أولى علامات رفض زرع الإنجيل وسط محيط وثني. سنعود إلى هذه الوجهة من المسألة التي ستزداد خطورة فيما بعد.
ب- بطرس يعلن الإنجيل في بيت كورنيليوس (ف 10)
1- القرينة المباشرة
حين نتقدم في قراءة أع، نلاحظ نمواً متواصلاً في رسالة الكنيسة يريد لوقا المؤرخ والإنجيلي أن يشهد له. فالكرونيكات (أخبار) في ف 8- 10 تتحلّى بقيمة تاريخية، ولكن لها بعداً لاهوتياً واضحاً. ثم إنها تعلمنا بتحولين تمّا خلاله هذه الحقبة.
من جهة، انتقل مركز نشر الإنجيل من أورشليم إلى أنطاكية (8: 1- 5؛ 11: 19- 26). في هذا المنظار، بدت السامرة التي تكلم عنها ف 8 محطة اتصال بين أورشليم وأنطاكية.
من جهة أخرى، ترك فيلبس السامرة وبشر بيسوع انطلاقاً من أش 53 (8: 26- 40) وعمد رجلاً حبشياً. ثم جاء فحل محله بولس رسول الأمم. فبولس هذا كان مضطهداً لكنيسة الله (غل 1: 13- 14) فصار سجين المسيح (أف 4: 1). كان عدواً (9: 1؛ 26: 9- 10) فصار الرسول الذي لا يتعب. كان كافراً وشتاماً عنيفاً (1 تم 1 : 3) فصار خادماً أميناً للرب القائم من الموت ولكنيسته. هذا التحوّل هو نتيجة لقائه بالقائم من الموت على طريق دمشق (رج 9: 1- 30؛ 22: 1- 21؛ 26: 1- 23).
2- تحليل 10: 25- 48
إن القطع الثلاث المذكورة في آ 25- 26 و34- 35 و44- 48 تورد ثلاث وقائع متميزة. لقاء بين بطرس وكورنيليوس كما أعده الله (آ 25- 26). بداية خطبة وجّهها بطرس في بيت كورنيليوس (آ 34- 35). اعتماد المرتدين الجدد (آ 44- 48). وها نحن نقدم بعض الملاحظات التي تساعدنا على إدراك المعنى العميق لحدث كان مركزياً في مسيرة أع وفي تاريخ الكنيسة الأولى.
أولاً: استقبل بطرس في بيت سمعان الدباغ مرسلي كورنيليولس (آ 17- 32 أ)، واستقبل كورنيليوس بدوره بطرس في بيته (آ 27 ب- 33). يجب أن نرى هنا أكثر من عملية ضيافة متبادلة: إظهار طواعية كاملة لدى بطرس وكورنيليوس تجاه الروح (آ 1- 16) ولدى كورنيليوس أمام البشارة بالمسيح (آ 44 ي). إن لقاء بطرس وكورنيليوس هو علامة حدث خلاصي يهز أعماق القلوب عبر خدمة إنسان قام بسرعة بعمل الشهادة، وعبر استعدادات إنسان آخر انفتح على الإيمان.
ثانياً: تقدم آ 34- 35 بداية خطبة بطرس في بيت كورنيليولس ولها بعد شامل. فشمولية الخلاص هو الموضوع الرئيسي في الخطبة. وإن لوقا يبرز حدث كورنيليوس ليؤكد بوضوح أن عطية الخلاص تقدّم إلى جميع البشر، إلى ذوي الإرادة الصالحة.
ثالثاً: ونتساءل: كان بطرس يتكلّم إلى وثنيين، فلماذا عاد بطريقة واضحة إلى الأسفار المقدسة، وبأي معيار اختار إيراداته الكتابية؟ السؤالان هما في الواقع سؤال واحد. وإن تحليلاً دقيقاً للخطبة يدل على أن معيار اختيار الإيرادات يطابق السبب الذي لأجله عاد بطرس إلى العهد القديم مع أن السامعين كانوا من الوثنيين.
قلنا إن ارتداد كورنيليوس هو في نظر لوقا من أهم الأحداث التي وردت في أع. فهذا الحدث يفتح آفاقاً جديدة على رسالة الكنيسة الخلاصية. فهل يمكن لحدث أساسي في تاريخ الكنيسة سيترك آثاراً لا تُمحى في تاريخ هذه الجماعة الخلاصية، هل يمكن أن لا تعلنه نبوءات العهد القديم؟ إن العبور الحاسم من اليهود إلى الوثنيين، يرتبط بمخطط العناية الإلهية، ويقابل مرحلة محدّدة في تاريخ الخلاص. وها هي الكنيسة الفتية تتجاوز كل تردّد، فتعطي لرسالتها نفحة الشمول وتفتحها على آفاق الكون.
هذا هو السبب الذي لأجله عاد الرسول (بطرس) إلى الكتب المقدسة، واختار منها النبوءات التي تلغي كل امتياز في العرق والدم، في الحضارة والثقافة. اختار النبوءات التي تبرز الله كسيّد كل البشر، كالإله السامي الذي لا يحابي الوجوه ولا يفضّل أحداً على أحد. اختار النبوءات التي تعلن على الجميع السلام الذي يتضمّن الخيرات المسيحانية والخلاص الاسكاتولوجي.
وستشدّد نهاية الخطبة أيضاً على شمولية الخلاص. فبعد أن عرض بطرس الكرازة الكرستولوجية (عن يسوع المسيح)، وبعد أن قدّم شهادته الخاصة وشهادة سائر الرسل، قال: "له يشهد جميع الأنبياء بأن كل من آمن به ينال باسمه غفراناً لخطاياه" (آ 43).
رابعاً: أمام طواعية عائلة كورنيليوس وكرازة الرسول، جاءت علامة من العلاء، جاء تدخّل إلهي هو عطية الروح القدس. وكما أن مبادرة التاريخ كله تعود إلى الله، كذلك يعود قرار بطرس إلى تدخّله: "من يمكنه أن يمنع مياه المعمودية عن الذين نالوا الروح القدس كما نلناه نحن" (آ 47). ويشرح بطرس أن ما حصل هنا حصل يوم العنصرة، ويعلن عزمه على تعميد الوثنيين.
يريد لوقا أن يفهمنا أن الروح القدس يعمل قبل المعمودية وخلالها وبعدها، قبل ولادة الكنيسة وخلال هذه الولادة وبعدها، قبل كل نشاط رسولي في الكنيسة وخلاله وبعده. هذا يظهر من بنبفماتولوجية القديس لوقا. فكل أخباره (في أع أو في لو) تبرز هذا اليقين. كما أن الروح هيّأ ولادة المسيح، كذلك هيأ ولادة الكنيسة (لو 1: 35؛ أع 1: 8). وكما قاد المسيح ورافقه في طريق حياته الأرضية وخلال رسالته، كذلك يوجّه ويقوي الحياة والمشاريع في الكنيسة الناشئة (لو 4: 1، 14؛ أع 4: 8). وكما نزل الروح القدس بشكل منظور على المسيح، كذلك ينزل على أعضاء الكنيسة الأولى (لو 3: 22؛ أع 2: 1- 4).
3- البعد الشامل للحدث
إذا أردنا أن نبرز ميزة حدث ارتداد كورنيليوس، ونحدّد مضمونه اللاهوتي، يمكننا أن نقول ما يلي: من جهة، هو يكرّس انفصالاً حاسماً مع الديانة اليهودية ومع تقليدها. ومن جهة ثانية، هو يؤسس ديانة جديدة في الروح والحق، الديانة المسيحية التي تشكل الحرية شريعتها الأولى. فضْلُ بطرس هو أنه وعى حقيقة لاهوتية بهذه الأهمية، وأعلنها ودافع عنها رغم الاتهامات التي جاءته من مؤمنين مثله. لقد واجه بطرس ضيق أفق العقلية اليهودية وعنادها: هي لم تستطع أن تتصوّر كيف يبلغ إلى الإيمان والمعمودية من لا يُطبع بعلامة الختان.
جاء بطرس نورٌ خاص من العلاء، فاختار الحل الأفضل، وأعلن القرار الذي ستستلهمه القرارات اللاحقة وترتبط به ممارسة الكنيسة كلها. لا شك في أن الرواية السماوية أفهمت رئيس الرسل أن ما أظهره الله لا يُعتبر نجسا (رج مر 7: 14- 23)، أن ما قدسه الله لا يُعتبر عادياً، وان ما خلّصه الله لا يُعتبر هالكاً (آ 14- 15).
وأقنعته تنبيهات الروح القدس إقناعاً عميقاً أن الله لا يفضّل أحداً على أحد. "فمن خافه من أية امة كانت وعمل الخير، كان مقبولاً عنده" (آ 34- 35). وأخيراً منعه اتصاله بالضابط أن يؤخر قراره. نزل الروح القدس فجأة على كورنيليوس وذويه، فسبّق على المعمودية وفرضها.
وهكذا فالكلمات التي تلفّظ بها بطرس بتأكيد كبير وسلطان، حدّدت مبدأ أساسياً لا جدال فيه: "روح الله يهبّ حيث يشاء" (رج يو 3: 8). إنه السيد المطلق لعطايا يمنحها بسخاء حتى للوثنيين. هو لا ينتظر المعمودية، ولا يفرض على الوثنيين أن يقبلوا الختان.
ج- تبشير الوثنيين في مجمع أورشليم (ف 15)
مع الجدال بين الرسل في مجمع أورشليم والقرار الشهير الذي نتج عنه، وجد الانفتاحُ على تبشير الوثنيين حلّه النهائي. بعد أن نتوقف عند القرينة التاريخية (آ 1- 2) ومضمون القرار الرسولي (آ 22- 29)، نجمع آخر عناصر بحثنا ونضمّها مع العناصر السابقة في الخاتمة.
1- وضع دقيق
نحن في أنطاكية، في الفترة الزمنية الواقعة بين الرحلة الرسولية الأولى والرحلة الثانية اللتين قام بهما بولس. ففي قلب الجماعة المسيحية في هذه المدينة، وُجد أناس سمّاهم بولس “دخلاء” (متطفلين)، "إخوة كذابين"، "دسّوا أنفسهم بيننا ليتجسّسوا الحرية التي لنا في المسيح يسوع ليستعبدونا" (غل 2: 4).
إنه يعني فريسيين قدماء أو أقله أناساً يسندهم حزب الفرّيسيين (15: 5). ارتدوا منذ مدة قصيرة من الديانة اليهودية، فظلّوا متعلّقين بتقاليدهم أو ما استطاعوا أن يفهموا ويتقبّلوا متطلّبات الإيمان الجديد. عقل ضيق ونظر لا يذهب إلى بعيد. أناس قصيرو النظر إن لم يكونوا عمياناً. كانوا يودون للوثنيين قبل أن يصيروا مسيحيين، أن يمروا تحت نير العالم اليهودي فيختتنوا وبالتالي يمارسوا فرائض الشريعة الموسوية.
وتكوّن تيار آخر يعاكس كل المعاكسات التيار الأول. مثّله بولس وبرنابا اللذان أعلنا انفتاح الكنيسة انفتاحاً كلياً على العالم المحيط بها وقبول الجميع للعماد قبولا غير مشروط. وتكوّن حزبان بمواقف لا تتفق، وارتبط كل حزب بشخصيات مسيحية معروفة.
من جهة المسيحيون المتهوّدون. هم تقليديون من الدرجة الأولى. لهم حساسية خاصة ضد كل جديد، ويتعلّقون تعلقاً أعمى بالوضع الحاضر. تطلّعوا إلى يعقوب والى إخوتهم في أورشليم الأمناء للممارسات اليهودية القديمة. ومن جهة ثانية المسيحيون الهلينيون الذين استندوا إلى بطرس.
كان الجدال سهلاً في أنطاكية، لا في أورشليم. ثم إن المسافة بين أنطاكية وأورشليم جعلت التشاور المباشر صعباً وملتبسا مع المسؤولين الأولين في الجماعة المسيحية. غير أنهم توصّلوا إلى اتفاق مؤقت، وحُملت الدعوى إلى محكمة أورشليم العليا. هناك أعيد النظر في موضوع الجدال، وتنظمت الأمور بطريقة جماعية (على مستوى حلقة الرسل).
2- مداخلات الرسل
إذا أردنا أن نفهم ما حدث بين إرسال بولس وبرنابا إلى أورشليم (آ 1- 2) وعبارة القرار الرسولي (آ 22- 29)، يجب أن نعود إلى المداخلات التي بها ألقى بطرس وبولس الضوء على المسألة في المجمع.
عاد بطرس إلى تدخّل الله المباشر والى استنارة خاصة نالها من العلاء، فأعلن أن من أراد اليوم أن يفرض نير الشريعة الموسوية على المرتدين من الوثنية، كان موقفه متهوراً وجائراً أو غير مفيد. هو متهوّر لأننا نكون وكأننا "نجرّب الله" (آ 15 أ). هو جائر لأننا "عجزنا نحن وآباؤنا عن حمل هذا النير" (آ 15 ب). وهو غير مفيد، لأن نعمة الرب يسوع فتحت منذ الآن باب الخلاص لجميع البشر (آ 11).
وحصل بولس على الحق بالكلام من الجماعة. "واستمع المجتمعون إلى برنابا وبولس يرِويان لهم الآيات والعجائب التي أجراها الله على أيديهما بين الوثنيين" (آ 12). كان هذا فاصلاً في جدال عاصف ارتفعت فيه الأصوات.
تحدّث بولس وبرنابا عن الآيات التي أجراها الله على أيديهما، وعن ارتداد الوثنيين بفضل كرازتهما، فأدّيا الشكر إلى الرب صاحب هذه الارتدادات وهذه العجائب. وهكذا نشرا بين إخوتهما في الإيمان هذا الفرح الذي أراد المتهوّدون أن يخنقوه. وثبّت تقريرهما بصورة خاصة المبادئ الأساسية التي أكّدها بطرس: الإيمان هو ضروري وكاف للخلاص. نعمة الله فاعلة ولا شيء يحلّ محلّها. إن التدبير الموسوي القديم قد تجاوزه بصورة نهائية التدبير الذي حمله الإيمان المسيحي.
3- القرار الرسولي
استعاد القرار الرسولي (آ 22- 29) جوهر الحل الذي اقترحه يعقوب (آ 13- 19) الذي كانت خطبته شميلة مداخلات بطرس وبولس وبرنابا. وافقت الجماعة كلها على القرار النهائي الذي أصدره الرسل والشيوخ. من جهة يعلن هذا القرار مبدأ يكفل وضعاً لا عودة عنه ويعلن تعليماً عقائدياً. ومن جهة ثانية، يؤكد قيمة الإجراءات التي اتخذت.
في هذا المنظار، لا تعتبر نهاية خطبة يعقوب (آ 25) وخاتمة القرار الرسولي (آ 29) مساومة سهلة أو تراجعاً أمام متطلبات المتهودين. وإذا عدنا إلى الطريقة التي سار بها مجمع أورشليم والى لهجة قراراته، نقول أيضاً، انه ليس انتصاراً لموقف بولس وبرنابا. في النهاية، انتصرت الحقيقة والمحبة.
د- خاتمة
مع قرار مجمع أورشليم ونتائجه في أنطاكية (15: 30- 35) نستطيع القول إن المسألة التي طرحتها كرازة فيلبس في السامرة واتصالات بطرس بعائلة كورنيليوس، قد وجدت حلاً لها.
أولاً: إن انتشار الكنيسة في الأوساط الوثنية لن يشكّل بعد اليوم مسألة تطلب حلاً. فكرازة فيلبس ثم خبرة بولس الرسولية الأولى (ف 13- 14) أخرجتا هذه المسألة من المأزق الذي يمكن أن تنحصر فيه. وتدخل بطرس وجدال الرسل وصلا بنا إلى تأكيد واضح: "اهتم الله أن يتخذ من بين الأمم شعباً لاسمه" (15: 14).
واستاء المسؤولون عن الجماعة من نشاط بعض الأعضاء: خرجوا من العالم اليهودي، وذهبوا من غير توكيل ولا سلطة، فزرعوا البلبلة والقلق في جماعات أنطاكية وسورية وكيليكية المؤلفة من مسيحيين من أصل وثني. هؤلاء لا يجب أن نقلقهم (15: 19). وسيقول بولس: هم المستفيدون من رحمة الله. إن سقوط إسرائيل منح الخلاص للوثنيين (روم 11: 12). رفضوا الخلاص، فصالح الله العالم (روم 11: 15). "إن قسماً من بني إسرائيل قسّى قلبه إلى أن يدخل الوثنيون كلهم" (روم 11: 25)
وبفضل الوثنيين وبفضل دخولهم في الكنيسة، خطت الجماعة خطوة هامة في تاريخ الخلاص. لهذا، فالذي يعارض مخطط الخلاص هذا يكون وكأنه يعارض الله. أما من يقبله بالشكر والفرح، فهو يدافع عن حق الإنجيل، وعن الحرية اللذين منحهما الله لنا (غل 2: 4- 5).
ثانياً: وتوصّلوا أيضاً إلى حل المسائل التي طرحها التبشير وارتدادات الوثنيين الأولى. وتكوّنت رباطات الأخوّة داخل هذه الجماعات المختلطة. أرسل الرسل موفدين من أورشليم الكنيسة الأم. فرافقوا بولس وبرنابا اللذين "كرّسا حياتهما لخدمة ربنا يسوع المسيح" (15: 26)، إلى أنطاكية. ووجّهوا رسالة وثيقة تتضمّن خلاصة القرارات المجمعية. ونقلوا إليهم سلاماً وتحية يشهدان على الإيمان المشترك بالمسيح والمحبة التي توحّد القلوب.
هذا لا يعني أنه، غداة هذه القرارات وهذا التبادل الأخوي، لم تعد تطرح العلاقات مع العالم الوثني ومع الجماعات الهلينية المسيحية، مشكلة ولا صعوبة. فرسائل بولس تعلمنا بأوضاع متأزمة أجبر فيها الرسول على التدخل ليزيل كل التباس ويقطع الطريق على كل محاولة للعودة إلى التدبير الموسوي. ويبقى أنه رغم المقاومة التي جاءت من البشر، فالقرار الذي اتخذه الرسل المجتمعون في مجمع، قد فرض نفسه بطريقة نهائية.
ثالثاً: تدشن الاتحاد بين أورشليم والكنائس الهلينية الفتية. لم يكن مجمع أورشليم فقط مناسبة للسلطة بان تفرض نفسها بصورة رسمية واحتفالية، بحيث أن البعيدين تعلقوا بتعليم الخلاص الذي أعلنه الرسل وأول الشهود للقيامة. ولكنّه شدّ أيضاً رباطات الأخوّة بين ممثّلين عن مختلف الكنائس قابلوا المواقف المختلفة فوصلوا إلى قرار نهائي. قوّوا الوحدة الكنسية التي عمل في خدمتها كل من فيلبس وبولس وبطرس. وإذا أردنا أن نقتنع بهذا الأمر نقرأ الآيات الأخيرة من أع 15: "فانصرفوا ونزلوا إلى أنطاكية، فدعوا جماعة المؤمنين وسلّموا إليهم الرسالة. فلمّا قرأوها، فرحوا كثيراً بما جاء فيها من تشجيع. وألقى يهوذا وسيلا، وكانا هما أيضاً نبيين، عظة طويلة شجّعا بها الإخوة وشدّدا عزائمهم. وبعدما أقاما بعض الوقت في أنطاكية، صرفهما الإخوة بسلام إلى الذين أرسلوهما. وأقام بولس وبرنابا في أنطاكية، يعلّمان ويبشران بكلام الرب، ومعهما آخرون كثيرون" (15: 30- 35).

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM