الفصل التاسع والعشرون: اسطفانس والشهادة للرب يسوع

الفصل التاسع والعشرون
اسطفانس والشهادة للرب يسوع
7: 54- 60
أ- مقدمة: الكنيسة الأولى وموت اسطفانس
تألّفت جماعة أورشليم من أعضاء جاؤوا من العالم اليهودي الفلسطيني (هم العبرانيون) أو من العالم اليهودي المطبوع بالثقافة اليونانية (هم الهلينيون). وإن اختلاف التربية والمحيط الحياتي الذي يفصل بين هاتين المجموعتين، ثم تزايد عدد المرتدين، كل هذا أثار النزاع. فحصل الهلينيون على الدياكونيا (خدمة خاصة) ليعالجوا بعض هذه المشاكل. وبدا اسطفاذس الأول بين هؤلاء الرجال الذين تحلّوا بسمعة طيبة، وامتلأوا من الروح القدس والحكمة (7: 3) فوضع الرسل أيديهم عليهم (6: 6).
شهد أع أن شخص اسطفانس وعمله الرسولي تركا أثراً عميقاً في الكنيسة الأولى. "هو رجل ممتلئ من الإيمان والروح القدس" (6: 5). اجترح عجائب مدهشة، وأعلن البشارة بحكمة وقوة، ولهذا عجز معارضوه عن مقاومة الحكمة والروح اللذين يجعلانه يتكلم (6: 10). وإن موت اسطفانس شكّل منعطفاً في أع. فالجماعة ولدت يوم العنصرة، يوم ارتد إلى المسيح 3000 شخص (2: 41). منذ ذلك الوقت، برزت المقاومة لدى السلطات اليهودية الرسمية (4: 1- 2؛ 5: 17- 18). ولكن الجماعة ظّلت تنمو بدون انقطاع، بفضل تأييد الشعب لها (4: 21). وإن عدداً كبيراً من الكهنة اليهود انضمّوا إلى الكنيسة (6: 7). وساعة موت اسطفانس، اتخذت معارضة السلطات اليهودية طابعاَ رسمياً: "صنعت" أول شهيد مسيحي سيروي أع خبر موته، وأشعلت اضطهاداً عنيفاً ضد كنيسة أورشليم. إن رجم اسطفانس كرّس في نظر أع قطيعة بين الكنيسة والعالم اليهودي الرسمي في أورشليم. رفض العالم اليهودي خلاص الله فقتل المسيح، وها هو الآن يرفض النداء إلى التوبة. ولكن لا بدّ من التشديد على وجهة أخرى للحدث: سجّل موتُ اسطفانس بداية انتشار عجيب للكنيسة: راح المشتّتون يتنقّلون من مكان إلى آخر ويبشّرون بالمسيح (8: 4). وأخيرا يهتمّ خبر موت اسطفانس بأن يقدّم لنا مرتين شخص شاول (بولس) (7: 58؛ 8: 3). إن الوضع التاريخي والأدبي لموت اسطفانس مهم جداً، ولهذا توسّع لوقا في الحدث توسعاً طويلاً.
ب- اقتدى اسطفانس بالمسيح
ويبدو هدف لوقا واضحاً: أن يبيّن أن موت اسطفانس هو صورة طبق الأصل عن موت المسيح. إن اسطفانس يمثل التلميذ الكامل للمسيح. انطبعت رسالته بالعجائب والآيات (6: 8؛ 10: 38؛ رج 2: 22) وبكرازة للإنجيل لا تقاوم (6: 10). وإن ساعات حياته الأخيرة جعلته يتشبّه بالمسيح بطريقة مدهشة. نتذكر هنا المشهد الذي مثل فيه يسوع أمام المجلس الأعلى: "لكن ابن الإنسان سيجلس في المستقبل عن يمين الله القدير" (لو 22: 69). ونتذكر اسطفانس الذي يعلن تحقيق هذا القول: "أرى السماوات مفتوحة وابن الإنسان واقفاً عن يمين الله" (أع 7: 56). وقبل أن يموت اسطفانس، صاح بأعلى صوته: "يا رب، لا تحسب عليهم هذه الخطيئة" (7: 60). هذا القول يعيدنا إلى كلمات شبيهة تلفظ بها يسوع من أعلى صليبه: "اغفر لهم يا أبي، لأنهم لا يعرفون ما يعملون" (لو 23: 34). قال اسطفانس: "أيها الرب يسوع تقبّل روحي" (7: 59). فجاء قوله امتداداً لصلاة المساء التي تلاها يسوع قبيل موته: "يا أبي، في يديك أستودع روحي" (لو 23: 46). وأخيراً نستطيع أن نزيد أن التلميذ ليس أفضل من المعلم (لو 6: 40). دعوته الخاصة أن يقتدي بمعلمه حتى الموت. لهذا امتلأ اسطفانس من الإيمان والروح القدس (6: 5)، فاستطاع أن يتبع يسوع حتى النهاية، أن يلبس العواطف (فل 2: 5) التي كانت في المسيح المصلوب.
ونستطيع أيضاً أن نشير إلى مشابهات بين اسطفانس والمسيح. إن الاتهامات التي رُفعت ضد اسطفانس (6: 11- 14) تذكرنا بالتي رُفعت ضد المسيح (مت 26: 16- 65: بالنسبة إلى الهيكل، رج يو 2: 21؛ 8: 52، 59). طُرح الابن خارج الكرمة في مثل الكرّامين القتلة (لو 20: 15)، ومات يسوع خارج أورشليم (عب 13: 12). كذلك دفعوا اسطفانس إلى خارج المدينة ليرجموه (7: 58). بدا وجه اسطفانس كأنه "وجه ملاك" (6: 15)، فذكرنا بوجه يسوع وقت التجلي: (أشرق وجهه كالشمس) (مت 17: 2؛ لو 9: 26).
ج- رجل يحركه الروح
يصوّر لنا لوقا اسطفانس كشاهد للأزمنة الاسكاتولوجية: يحّركه الروح القدس بقوّته. يرافقه ابن الإنسان بحضوره: امتلأ من الروح القدس، رأى يسوع في مجده (7: 55). ونحن نعرف أن الخطبة النموذجية في أع (2: 14- 41) قد شدّدت على أن حلول الروح القدس بوفرة هو علامة "الأيام الأخيرة" (2: 17). هذا ما أعلنه يوئيل (3: 1): "أفيض من روحي على كل بشر: حينئذ يتنبأ بنوكم وبناتكم. يرى شبّانكم رؤى وشيوخكم أحلاماً". لقد تميّز "ملء الزمن" بإقامة عهد جديد ونهائي فيه يمنح الله البشر "نعمة التبني". كتب القديس بولس: "والبرهان أنكم أبناء، هو أن الله أرسل إلى قلوبكم روح ابنه الذي يهتف: أبّا، أيها الآب" (غل 4: 4- 6).
يشير أع مرات عديدة إلى حضور الروح في حياة اسطفانس: "كان ممتلئاً من (الروح القدس والحكمة)" (6: 3)، (ممتلئاً من الإيمان والروح القدس) (6: 5). ويقول عنه لوقا إن الحكمة والروح جعلاه يتكلّم (6: 10، أو: الروح أعطاه الحكمة). ظهر الروح في الإيمان والحكمة اللذين عاش فيهما اسطفانس. ظهر في كرازته وفي "العجائب والآيات" التي تدلّ على صدق كلمته (6: 8). قاد الروح اسطفانس فكان “قوياً” وعاش حياة حكمة أي حياة توافق إرادة الله ولو وصل به الأمر إلى الاستشهاد. وكان اسطفانس حكيماً، فأناره الله ليفسّر كل تاريخ إسرائيل (7: 2- 53) على ضوء الحدث الذي اختبرته الكنيسة الأولى. ثم إن الروح يقود اسطفانس حتى نهاية حياته، وهو يسرّ بهذه القيادة: وثمار الروح التي هي السلام والمحبة (غل 5: 22) تظهر فيه حين يسلّم روحه إلى الرب ويطلب المغفرة لقاتليه (7: 59- 60).
د- شاهد لابن الإنسان
والروح هو الذي يجعل اسطفانس جديراً بفهم رؤية ابن الإنسان الممجّد. لسنا أمام شخص جديد لم يعرفه العهد القديم. فالنبي دانيال صوّر ابن الإنسان آتياً على سحاب السماء نحو "الشيخ" القديم الأيام الذي يدين الملوك والعظماء على الأرض (دا 7: 10، 17). وخلال مقابلة مع "الشيخ"، ينال ابن الإنسان "السلطان والكرامة والملك وتتعبّد له الشعوب والأمم والألسنة" (دا 7: 14). بعد هذا، يجعل ابن الإنسان "قديسي العلاء" (7: 27) يشاركونه في سلطانه. في هذه الرؤية تبدو أحداث الأرض صورة عن أحداث السماء، والتاريخ نسخة طبق الأصل عمّا يحصل على مستوى أعلى.
تحدّث 6 سفر أخنوخ الحبشي (سمي كذلك لأنه وصل إلينا في اللغة الحبشية، دوّن حوالي سنة 63 ق. م.) عن ابن الإنسان الذي هو المختار والممسوح والذي ظهر كديّان العالم والمنتقم للأبرار المضطهدين: "يحطّم أسنان الخطأة... يكون نور الشعوب ورجاء الذين يتألمون في قلبهم... باسمه ينجون وينتقم لحياتهم". وكما يجمع ابن داود أبناء إسرائيل، كذلك يجمع ابن الإنسان جماعة الأبرار والمختارين الآتين من كل الأمم.
وتتحدّث الأناجيل الإزائية مراراً عن ابن الإنسان: صور جليانية يأتي فيها ابن الإنسان على غمام السماء بقدرة ومجد عظيم (كما 24: 30) ليدين كل البشر (مت 16: 27؛ لو 21: 24- 27). وسيماثل يسوع نفسه مع هذا "ابن الانسان" المجيد، بحيث يتّهمه عظيم الكهنة بأنه يجدّف (مت آ 2: 64- 65). إن عبارة ابن الإنسان عند الإزائيين تدلّ على تسامي المسيح وفي الوقت عينه تُخفي هذا التسامي: مثلاّ، بمناسبة الحديث عن السبت: "إبن الإنسان هو سيّد السبت" (مت 12: 8). أو غفران الخطايا: "إن ابن الإنسان له سلطان على الأرض ليغفر الخطايا" (مت 9: 6) وهذا اللقب عينه سيدلّ بعد القيامة على تسامي الرب. شاهد اسطفانس في رؤيته يسوع الذي دخل في مجد الله ووقف (لماذا لم يجلس؟ شروح عديدة، ومنها أن الوقوف هو علامة الانتصار والظفر) عن يمين الله (7: 55- 56). نحن نفهم بسهولة هذه الوجهة من ابن الإنسان. ولكن هذه النقطة لا تشرح كل رؤية اسطفانس.
فخبر موت اسطفانس يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالتقليد الإنجيلي، فكيف يهمل لوقا وجهة الذل والألم عند ابن الإنسان حين يراه اسطفانس "واقفاً عن يمين الله" (7: 56)؟ ما أشار النبي دانيال ولا أشار التقليد الجلياني إلى أن ابن الإنسان سيمرّ عبر الذل والموت ليدخل في المجد. ولكن تلك كانت الطريق التي عيّنها يسوع في الإنباءات الثلاثة عن سره الفصحي: "يجب على ابن الإنسان أن يتألم كثيراً... وأن يقتل، وفي اليوم الثالث يقوم من بين الأموات" (لو 9: 22؛ 9: 44؛ 18: 11- 33؛ رج مر 2: 10، 28؛ 8: 31؛ 10: 45؛ مت 11: 25؛ 20: 28: سيكون ابن الإنسان شخصاً متواضعاً ومتألماً).
يبدو أن يسوع أراد أن يجمع في شخص "ابن الانسان" أقوالاً مختلفة بل متعارضة أوردها العهد القديم: القول عن ابن الإنسان المجيد الذي يتحدّث عنه دانيال، قول أشعيا في عبد يهوه (عبد الله). إن مصير عبد الله مصير غريب: "رضي الرب أن يسحقه بالألم... بعد أن تعاني نفسه المحنة سيرى النور وتطول أيامه" (أش 53: 10- 11). وهكذا سينال يسوع مجد ابن الإنسان بعد أن يعبر في ألم عبد الله. هاتان هما مرحلتا السر الفصحي اللتان بهما يدرك يسوع الحياة المجيدة عبر الألم. وسيكون لاسطفانس في ساعة موته نعمة فريدة: شاهد يسوع وهو يقاسم الله مجده بصفته ابن الله. مثل هذه الرؤية حملت للشهيد تعزية كبيرة وهو الذي سيعرف موتاً أليماً سيُدخله مثل يسوع وعلى خطاه إلى حياة الله المجيدة. وهكذا صار الوحي كلمة تعزية وتشجيع، وإعلاناً نبوياً.
هـ- خاتمة: شاهد لإيمان الكنيسة الأولى
اعترف اسطفانس بالمسيح على انه ابن الإنسان والرب. وإعلان إيمانه هو استعادة للكرازة الرسولية: "فإذا شهدت بلسانك أن يسوع رب، وآمنت بقلبك أن الله أقامه من بين الأموات، نلت الخلاص" (روم 10: 9). وأيضاً: "الله أقامه وحرّره من الموت... فيسوع هذا أقامه الله، ونحن كلنا شهود على ذلك... إن الله جعل يسوع هذا الذي صلبتموه أنتم رباً ومسيحاً" (أع 2: 24، 32، 36). إن اعتراف اسطفانس أدرك دفعة واحدة المجد الذي ناله المسيح عن يمين الآب عبر موته وقيامته. يعترف المسيحيون العاديون بالرب الممجّد بعد أن يؤمنوا بالكرازة الرسولية. أما اسطفانس فشاهد الرب نفسه وشاركه في مجد الله. لقد رأى الرب الذي آمن به سائر المسيحيين.
ونلاحظ بصورة خاصة توافق كلمات اسطفانس (7: 55- 56) مع الكرازة الرسولية. فكيف يستطيع يسوع أن يكون واقفاً عن يمين الله إن لم يكن قد قام؟ أو، كيف يقدر أن يمارس وظيفته كديّان الكون ومخلصه كما يقول دانيال وأخنوخ عن ابن الإنسان دون أن يكون جُعل "الرب". في الواقع، يعتر اسطفانس عن الكرازة الرسولية مستعملاً لقباً نسبه يسوع إلى نفسه وهو لقب ابن الإنسان.
ويبقى اسطفانس لكل الأجيال المسيحية نموذج تلميذ المسيح: آمن بالرب يسوع فاقتدى به في موته لينضم إليه في مجده كابن الإنسان واقف عن يمين الله.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM