الفصل الثالث والثلاثون: مسحه الله بالروح القدس

الفصل الثالث والثلاثون
مسحه الله بالروح القدس
10: 34- 38
تشبه خطبة بطرس عند كورنيليوس، ضابط قيصرية (10: 34) خطبتيه أمام شعب أورشليم (2: 14- 40؛ 3: 12- 26)، وخطبتيه أمام المحكمة العليا (سنهدرين) (4: 8- 12؛ 5: 29- 32)، وخطبة بولس في مجمع أنطاكية بسيدية (13: 26- 41). إنها تتكوّن جوهرياً من إعلان لقيامة يسوع: لا إعلان الحدث فحسب، بل إعلان مضمون القيامة لخلاص البشر.
بُنيت هذه الخطب الست حسب رسمة واحدة نجد خطوطها الأولى في لو 24. هناك مقدّمة تربط الخطبة بالوضع الذي تُلقى فيه (15: 34- 35). يأتي ذكر حياة يسوع على الأرض (آ 36- 38) فيمهّد الطريق لإعلان الحدث الفصحي (آ 39- 42) الذي يستنير بالأسفار المقدسة (آ 43 أ). وتنتهي الخطبة بوعد بمغفرة الخطايا للذين قبلوا البشارة (آ 43 ب).
أما القطعة التي نفسرها فتنحصر في مقدمات خطبة مركّزة على التعليم الفصحي. إنها تحتفظ بظرف الخطبة وبما يقوله بطرس عن حياة يسوع العلنية. قلب هذه القطعة هو آ 38 التي تتحدّث عن عماد يسوع: "مسحه الله بالروح القدس والقدرة".
أ- الله لا يحابي (آ 34- 35)
إن أولى كلمات بطرس تنقل العبرة التي نستخلصها من الخبر السابق. فحالة كورنيليوس تقدّم تعليماً برز أولاً بشكل سلبي: الله لا يحابي أحداً، لا يفضّل أحداً على أحد (آ 34). ثم بشكل ايجابي: "فمن خافه من أية أمة كانت وعمل الخير كان مقبولاً عنده" (آ 35).
1- الله لا يفضّل أحداً على أحد (آ 34)
نلاحظ أولاً أن العبارة تنقل تعليماً تقليدياً. يذكرها بولس حين يتحدّث عن الذين يمسكون سلطة في الكنيسة (غل 2: 6)، عن الفرق بين وضع الأسياد ووضع العبيد (كو 3: 25؛ أف 6: 9)، عن التمييز بين اليهود والوثنيين: "المجد والكرامة والسلام لكل من يعمل الخير من اليهود أولاً ثم من اليونانيين، لأن الله لا يحابي أحداً" (روم 2: 15- 11). ويذكر بطرس المسيحيين أن اللّه الآب يدين من غير محاباة كل واحد حسب أعماله (1 بط 1: 17).
تميّز العبارة أولاً الحياد المنتظر من القاضي (ليس هو مع هذا الفريق ولا مع ذاك). يذكّر 2 أخ 19: 7 القضاة أن عليهم أن يخافوا الرب: "لا ظلم عند الرب إلهنا ولا محاباة وجوه (أو اعتبار أشخاص)، ولا أخذ رشوة". تبدو العبارة بشكل صورة في العبرية: تصور فعلة الذي "يرفع وجه" فلان، الذي يهتم بالوجه والمظهر الخارجي.
وجد صموئيل نفسه أمام الياب، بكر يسّى (والد داود)، فظن أن هذا هو الذي اختاره الرب ملكاً على شعبه. فقال له الرب: "لا تلتفت إلى منظره وطوله قامته. نظرة الله غير نظرة الإنسان. ينظر الإنسان إلى الوجه (والعينين). أما الله فينظر إلى القلب" (1 صم 16: 7). لا يتوقف الله عند الظواهر، بل يرى أعماق القلب.
والعدالة التي لا تحابي ليست حياداً يتساوى فيه الجميع. على العدالة أن تعطي كل صاحب حق حقه. لهذا عليها بصورة خاصة أن تحمي الضعفاء الذين يُهضم حقهم دائماً. هذا ما يذكره تث 10: 17- 18 الذي يعود إليه بطرس: "الرب إلهكم هو الإله العظيم الجبار الرهيب الذي لا يحابي الوجوه ولا يقبل رشوة، الذي يقضي بالحق لليتيم والأرملة، ويحبّ الغريب ويرزقه طعاماً وكسوة". نلاحظ الوضع المميّز للغريب. أقام في أرض إسرائيل دون أن يكون من الشعب العبراني، فليس له محام طبيعي. إذن، سيهتم إله إسرائيل بحمايته. أما هذا الرجل فينضم من جهته إلى عبادة الله الذي استضافه.
في نهاية الحقبة اليهودية، تبدّل معنى الكلمات. صار "الغريب" (جير في العبرية) الدخيل أي الذي اهتدى إلى اليهودية وقبل الختانة وممارسات الشريعة. في هذا المعنى الجديد، لم يعد كورنيليوس غريباً ينعم بالحماية الإلهية التي يكفلها له تث. إن نظرة بطرس في خطبة قيصرية ترتبط بموقف المشترع العائش قبل المنفى، بموقف الأنبياء.
2- المقبول عند الله (آ 35)
تستعمل آ 35 كلمة "مقبول". نحن في إطار عبادي وطقسي. كيف نصبح مقبولين (نرضي) عند الله؟ يجيب سفر اللاويين: حين نقدّم حيواناً لا عيب فيه (لا 1: 3؛ 19: 5؛ 22: 18-29). وحدها الضحية التي لا عيب فيها تسرّ الله وتجعله يرضى عن مقدّمها. وسيفهم الأنبياء في إسرائيل أن الإنسان يصبح مقبولاً عند الله لا بالذبائح، بل بالطاعة لمشيئته، بل بسلوك يوافق إرادته (رج أم 11: 20: يرضى عن أصحاب السيرة السليمة؛ 15: 8 يرضى الرب عن صلاة المستقيم؛ 16: 7: يرضى الرب عن سلوك إنسان). غير أن هذه الروحنة لا تمنع الاهتمام بالنبرة العادية لكلمة "مقبول". مثلاً يقول بولس عن نفسه أنه موكل بخدمة إنجيل الله المقدس، "لكي يكون قربان الوثنيين مقبولاً عند الله مقدساً بالروح القدس (روم 15: 16). وهو يعتبر عطايا أهل فيلبي “تقدمة لله طيبة الرائحة وذبيحة يقبلها ويرضى عنها" (فل 4: 18). ويقول بطرس عن المسيحيين إنهم "كهنوت مقدس يقدّمون ذبائح روحية يقبلها الله بيسوع المسيح" (1 بط 2: 5).
نحن في جو الذبائح في أع 10: 35، وهذا ظاهر من الموازاة مع 10: 4: "قال الملاك: صعدت صلواتك وصدقاتك إلى الله فذكرك". ونقرأ في 10: 31: "سمع الله صلواتك وذكر صدقاتك". إن 10: 4 تشير إلى ذبيحة "تذكار" (رج لا 2: 2، 9، 16؛ 5: 12؛ 6: 15؛ سي 35: 36؛ 38: 11؛ 45: 16) ترتبط بها الصلاة (طو12: 12). ونقرّب هذه الآية أيضاً من لو 1: 75: "لنتمم عبادته في قداسة وتقوى أمامه طوال أيام حياتنا". إن تقوى كورنيليوس وأعماله الصالحة (10: 2، 4، 22، 31، 35) التي تجعله يشبه والدي يوحنا المعمدان وسمعان الشيخ (لو1: 6؛ 2: 25) تجعله مقبولاً لدى الله مثل ذبيحة لا عيب فيها.
وهكذا يبرز معنى الآية. ما يُفترض في العبادة المقبولة لدى الله، هو أن يقدّمها أناس ينتمون إلى شعب كهنوتي (1 بط 2: 5، 9). أما حيرة بطرس، فترجع إلى أن هذا الافتراض لم يتحقّق. فهو يشدّد في إعلانه على الكلمتين: "أية، امة". ليس من الضروري أن يكون الإنسان من شعب إسرائيل ليقدّم عبادة يرضى الله عنها. وهذه الفكرة ستعود في الآية التالية: "إنه رب الجميع". ليس ربَّ اليهود وحدهم، بل رب الوثنيين أيضاً. وتعود الفكرة أيضاً في نهاية الخطبة: "كل من (إنسان) آمن به ينال غفران الخطايا" (10: 43). إذن ليس من الضروري أن يكون الإنسان يهودياً أو يصير يهودياً، ليكون مقبولاً عند الله. ولا يكفي أن يكون الإنسان يهودياً ليكودن مرضياً عند الله إن كان لا يخاف الله ولا يتمّ إرادته.
ونزيد تفصيلاَ بسيطاً. ليست المسألة المطروحة هنا مسألة الشروط المطلوبة لنخلص. لا يقول بطرس إن التقوى والبر يكفيان ليؤمّنا الخلاص بمعزل عن أي اعتبار آخر. فالمشكلة هي بالأحرى مشكلة فرضيات الإيمان: هناك استعدادات دينية تجعل الإنسان مرضياً عند الله فتجذبه نعمة الإيمان من أجل الخلاص (رج 10: 43).
ب- رسالة يسوع على الأرض (آ 36- 38)
1- بشرى السلام (آ 36)
"الكلمة التي أرسلها إلى بني إسرائيل معلناً بشرى السلام بيسوع المسيح الذي هو رب الجميع".
هل الكلمة (حسب عبارة ترد في مز 107: 20؛ 147: 18) التي يعنيها لوقا هي تلك التي أرسلها الله في الماضي إلى إسرائيل حين أعلن بشرى السلام بواسطة أشعيا (52: 7)، أم تلك التي أعلنها يسوع؟ ماذا نختار؟ إنه يعني كلمة أشعيا النبوية وبشارة الخلاص التي حملها يسوع. الكلمة هي بشرى الخلاص التي أعلنها يسوع لبني إسرائيل، هي رسالة يسوع. هكذا نفهم النص بصورة طبيعية لاسيما إذا قابلناه مع 13: 26: "يا إخوتي، إن كنتم أبناء نسل إبراهيم أو (و) من الذين يخافون الله: إليكم (إلينا) أرسلت كلمة الخلاص هذه (أو كلمة هذا الخلاص)". نحن أمام إعلان تتميم المواعيد التي أعطيت للآباء (13: 32- 33). وفي أع 28: 28 سيكتب لوقا بكل بساطة: "أُرسل خلاص الله هذا إلى الوثنيين". هذا يعني الخلاص الذي أعلنه الرسل على خطى يسوع.
وعبارة "معلنا بشرى" قد تصوّر فقط العمل الذي به أرسل الله كلمته: أعلن البشارة. ولكن هذين التفسيرين لا يؤثّران على معنى الآية.
ونفهم كلمة "سلام" كمرادف للخلاص (13: 26) الذي وعد به الله في نهاية الأزمنة (رج لو 1: 79؛ 2: 12؛ 19: 38، 42)، لا كسلام ينسّق علاقات البشر مع الله أو بعضهم مع بعض (عملياً: السلام بين اليهود والوثنيين).
"بيسوع المسيح". هناك من يربط هذه العبارة بكلمة "سلام": "يرى بطرس في يسوع لا المبشّر بالسلام، بل ذلك الذي يتحقّق به السلام". لا يبدو هذا التفسير طبيعياً. وعلى المفعول أن يرتبط بالفعل. وإن آ 38 تتابع في الخط عينه: المسحة التي نالها يسوع (أش: 6: 1) تجعل منه رسول البشرى، بشرى السلام التي ترتبط بإقامة ملك الله: إنها بشرى خاصة بالمساكين (أش 61: 1).
توجّه بطرس إلى وثنيين، فلم يخف بأن يذكّرهم أولاً بامتيازات إسرائيل. لقد أتمّ الله مواعيده من أجل شعبه (2: 39؛ 3: 35؛ 13: 26، 33). غير أن هذا التحقيق سيعود بالخير على كل الأمم. هو لا ينسى رسالة يسوع على الأرض: بدأ يتحدّث عنها وقد جرت في حدود الشعب المختار. ثم زاد حالاً توضيحاً يسبّق على الأحداث. فبعد أن سمى "يسوع المسيح" أوضح: "هو سيد الجميع". لا تردّد في معنى كلمة جميع: الوثنيين واليهود معاً. نحن هنا أمام تسبيق، لأن يسوع لن يظهر في سيادته الشاملة (سيّد على الكون كله وعلى جميع البشر) إلا وقت قيامته: حينئذ ينال من الله الاسم الذي يؤمّن الخلاص لكل إنسان يؤمن به (10: 43).
2- دخول في التاريخ (آ 37)
إن المهمّة التي سلّمها الله إلى يسوع، هي حدث له مكانه في تاريخ البشر. وتقع هذه المهمة في الزمان والمكان وتتكيّف مع حدودهما.
تبدأ آ 37 بإشارة طوبوغرافية: "تعرفون ما جرى في اليهودية كلّها، ابتداء من الجليل". يكرّر لوقا هنا ما كتبه في إنجيله: "علّم في اليهودية كلها، من الجليل إلى هنا" (لو 23: 5). بدأت رسالة يسوع في الجليل، فامتدت إلى مقاطعة اليهودية (كان الجليل جزءاً منها، كذلك قيصرية)، ولكنه لم يذهب أبعد من اليهودية.
ثم نجد إشارة كرونولوجية: "بعد المعمودية التي دعا إليها يوحنا". نكتشف هنا نظرة خاصة بلوقا تقيم تسلسلاً دقيقاّ بين رسالة يوحنا ورسالة يسوع. جاء يوحنا "أمام" يسوع (لو 1: 17)، سار "أمام" يسوع (لو 1: 76). بدأ فأعلن معمودية توبة قبل أن يدخل يسوع على المسرح (أع 13: 24). وسيشهد يوحنا ليسوع حين "يُنهي سعيه" (13: 25؛ رج 19: 4). وذكر لوقا في بداية إنجيله "حَبْس يوحنا في السجن" (لو 3: 19- 20) قبل أن يتحدّث عن عماد يسوع (لو 3: 21- 22). حين بدأ يسوع رسالته، كانت رسالة يوحنا قد انتهت، إن لم يكن في الواقع (رج يو 3: 22- 30) أقلّه في مضمونها العميق. لهذا يحوّر لوقا قول مت 11: 12. قال: "من أيام يوحنا المعمدان إلى اليوم، والناس يبذلون جهودهم لدخول ملكوت السماوات والمجاهدون يدخلونه". فإلى "أن جاء يوحنا، كانت هناك نبوءات الأنبياء وشريعة موسى" (مت 11: 12- 13). أما لو 16: 16 فقالت: "بقيت الشريعة وتعاليم الأنبياء إلى أن جاء يوحنا، ثم بدأت البشارة بملكوت الله، فأخذ كل إنسان يجاهد ليدخله قسراً". إن يوحنا ينتمي إلى حقبة الشريعة والأنبياء. وبعد هذا تبدأ حقبة الملكوت.
إذا كان صحيحاً أن دور يوحنا انتهى ساعة دخل يسوع على المسرح، يجب أن نفكر أن رسالة يسوع لم تبدأ قبل أن ينهي يوحنا رسالته، أي عملياً بعد العماد الذي قبله من يوحنا. وهكذا تقدّم لنا إشارة آ 37 عنصراً تفسيرياً أول لآية 37: يرى لوقا أن المنعطف بين الشريعة والأنبياء وبين إعلان ملكوت الله (لو 16: 16) يتحدّد ساعة عماد يسوع وتدشين رسالته.
3- "مسح بالروح القدس والقدرة"
يرى الشرّاح في آ 38 تلميحاً بل إيراداً ضمنياً لأشعيا 61: 1: "روح الرب عليّ لأنه مسحني. أرسلني لأبشّر المساكين وأشفي منسحقي القلوب". هناك ثلاث كلمات مشتركة بين النصين: مسح، ذكر الروح، فعل شفى. ونزيد: إن فعل "بشر" (أعلن البشارة) ورد في آ 36. تكفي هذه الإشارة لنظن أن لوقا أراد أن يذكرنا بقول شهير دشَّنت قراءته رسالة يسوع العلنية (لو 4: 18- 19؛ رج 7: 22).
وزاد لوقا على "الروح" كلمة "قدرة"، لا كواقع مميز، بل ليوضح النتيجة التي حصلت بحضور الروح (رج لو 1: 17، 35؛ 4: 14؛ 24: 49؛ أع 1: 8؛ 6: 3، 5، 8). نال يسوع مسحة الروح فنعم بقدرة تظهرها عجائبه. وتميّزت رسالة يسوع العامة بعجائب صنعت لخير الناس ولاسيما لضحايا الشيطان، فخضعت كلها لقدرة الروح القدس.
إن ملخّص نشاط يسوع على الأرض هذا، يقابَل مع ملخّص خطبة العنصرة: "يسوع الناصري، هذا الرجل الذي أيده الله بينكم بالعجائب والمعجزات والآيات التي أجراها بينكم" (2: 22). ويقابَل مع ملخّص خطبة تلميذَي عماوس: "يسوع الناصري الذي ظهر نبياً قديراً بالقول والعمل عند الله وعند الشعب كله" (24: 19). يصوّر عمل يسوع كعمل نبي، بل كنبي على مثال موسى: فموسى كان هو أيضاً قديراً "مقتدراً في القول والعمل" (7: 22). ولقد جاءت هذه القدرة النبوية إلى يسوع من عون الله له. نقرأ في آ 38: "كان الله معه" (رج 7: 9 عن يوسف أبي الآباء). بل جاءته من الروح الذي مسحه الله به.
إن المسحة النبوية التي جعلت من يسوع رسول البشارة، وأتاحت له أن يجري عجائب تدل على إحسانه، لا تجد تفسيرها في الدور الذي لعبه الروح حين الحبل البتولي (لو 1: 35). إنها ترتبط، وهذا واضح، برسالة يسوع، بل ببداية هذه الرسالة: بعد أن تعمّد يسوع، "انفتحت السماوات وحلّ الروح القدس عليه في صورة جسم كأنه حمامة" (لو 3: 21- 22). إن مجيء الروح بصورة منظورة يشكّل "الرسامة" النبوية لذلك الذي كان منذ لحظة وجوده الأولى ابن الله بفعل الروح عينه.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM