الفصل العشرون اختيار الاثني عشر

الفصل العشرون
اختيار الاثني عشر
13:3-19

يسوع هو حدث كلمة الله في تاريخ البشر: إنها كلمة قوية وفاعلة لأنها تحرّر الانسان من الشرّ. وهي تعمل في قلب الوجود، من خلال اللقاءات، فتحرّك عند الجموع تيار أمل يعبّر عنه سمعان حين يقول ليسوع: "الجميع يطلبونك" (37:1). ولكن يسوع لا يتوقّف عند الجموع وحسب، بل يتوجّه إلى الأفراد الذين لهم "آذان سامعة"، والذين قبلوا حقاً أن يكونوا معه (3: 14).
من الجموع إلى التلاميذ، من البحر إلى الجليل. هناك سيتمّ إختيار الرسل الذين يسمّيهم مرقس للمرة الأولى والأخيرة: الاثنا عشر. هؤلاء سيكونون أكثر فأكثر بالقرب من يسوع، سيصبحون "أهل الداخل"، أهل البيت الذين سينعمون شيئاً فشيئاً برفقةٍ تدخلهم في سرّ يسوع الحميم، سر آلامه وموته وقيامته.

1- إطار النصّ
يبدأ هذا القسم من إنجيل مرقس بإجمالة تشتمل على تكثيف للحقبة السابقة: إن كلمة يسوع القديرة تهزم قوى الشر. برزت هذه الكلمة في أعمال يسوع، لا في أقواله، ومرقس هو الذي أورد أقل من كل الأناجيل خطب يسوع. يكفي أن يكون يسوع حاضراً لكي يعلّم. يكفي أن يطرد الشياطين ليتعجّب الناس من هذا التعليم الذي يُلقى بسلطان.
هذه الكلمة تدلّ على قدرة الله، ولكنها تكشف في الوقت عينه ما في قلب الإنسان. فالله يدرك الإنسان في أعماق كيانه. غير أن الإنسان يخاف أن يكون قريباً من الله. هذا ما أراد يوسف، خطيب مريم، أن يفعل حين وجد نفسه أمام طفل ليس مثل أطفال البشر: وجد نفسه غير مستحق أن يكون قرب هذا الطفل الألهي، فعزم على الابتعاد أو الإبعاد (مت 1: 19). فالدنوّ من الله نار محرقة. هذا ما شعر به بطرس أيضاً بعد ذاك الصيد العجيب: "إبتعد عني يا رب، لإني رجل خاطىء" (لو 9:5: يسوع هو "الرب" بقدرته الإلهية). على القدوس أن يهرب من الخاطىء لئلا يتجنّس. ولكن القدوس يريد أن يأتي إلى الخاطىء، "فنعيمه أن يسكن وسط البشر" (أم 8: 31).
إذن، هناك تعارض بين قداسة الله التي يمثّلها يسوع، وخطيئة الإنسان التي قد تصبح مكراً وحيلة ورفضاً لله. ظلّ الكتبة والفريسيون على مستوى الجدال، وشدّدوا على الأمور الخارجية، على الطاهر والنجس بحسب الشريعة. أما يسوع فقد ولج إلى القلب الذي منه يخرج الخير كما يخرج الشرّ مثل الفسق والسرقة والقتل والزنى والطمع والغش... (7: 20- 22). ولجت كلمته إلى الأعماق، فيبقى على الإنسان أن يعرف كيف يصل إلى الإيمان.
بدأ مرقس فأرانا كيف اعتزل يسوع الجمع (7:3)، وذهب إلى شاطىء البحر الذي بدا لنا حتى الآن كموضع النداء لاتباع يسوع. فعلى شاطىء البحر دعا التلاميذ الأربعة الأولين (16:1)، كما دعا لاوي بن حلفى (13:2). بل هناك على شاطىء البحر تبعه "جموع كثيرة". ليس فقط من الجليل بل من المناطق السبع (رقم الكمال التي هي مناطق الأزمنة المسيحانية. يقول أش 27: 12- 13: في ذلك اليوم يلتقطكم الرب واحداً فواحداً من مجرى نهر الفرات إلى وادي مصر. في ذلك اليوم يُنفخ في بوق عظيم فيجيء المشتتون في أرض أشور والمشرّدون في أرض مصر فيسجدون للرب في الجبل المقدس وفي أورشليم. ويقول زك 9: 10 إن سلطان الملك المسيحاني سيكون من البحر المتوسط إلى الخليج الفارسي، ومن نهر الفرات إلى أقاصي الأرض (رج مز 7:72- 11). هذا هو العالم المعروف في ذلك الزمان. ويسوع الذي هو المسيح، قد أرسل إليه. وسيذهب لا هو بنفسه، بل بواسطة رسله الاثني عشر (والرقم 12 هو عدد الكمال ويدلّ على رقم الألوهة، الذي هو 3، الذاهبة إلى أربعة أقطار الأرض).
إعتزل يسوع عند جانب البحر ولوقوفه بجانب البحر معناه. هو اعتزال الحارس الذي يراقب موج البحر الذي يدلّ على الشر. هو لا يهمه عداء الفريسيين والهيرودسيين، بل عداء عالم الشر الذي يهدّد سفينة سمعان بطرس (التي تدلّ على المسيحيين الآتين من العالم اليهودي) وهذه السفينة الأخرى (التي تدلّ على المسيحيين الآتين من العالم الوثني) (رج لو 7:5). إعتزل يسوع الجمع طالباً أباه في الصلاة (35:1- 37). واعتزل أيضاً الجموع التي تزحمه طالبة المعجزات والآيات. فهو يريدها أن تطلب شيئاً آخر، أن تطلب التعليم (4: 1) على مثال عائلة يسوع الحقيقية.
ولكن هذه الجموع بقيت على المستوى الخارجي، فتصرّف يسوع كما تصرّف الأنبياء قبله: جمعوا حولهم تلاميذ. إكتشف أشعيا أن هذا الشعب قد رفض مياه شيلو التي تدلّ على مواعيد الرب، وفضّل ما يقدّمه التحالف البشري. هم لا يريدون الله والملك الذي أرسله الله إليهم. فماذا سيفعل النبي؟ نال أمراً من الرب بأن يتوجّه إلى تلاميذه: "أدّوا الشهادة (وثيقة بأقوال النبي)، واحفظوا التعليم الذي سمعتموه" (أش 8: 16). وهكذا فعل إرميا الذي سلّم كلمته إلى تلميذه "باروك". وسيكون لتلاميذ الأنبيار دور كبير في تدوين الأقوال النبوية وتطبيقها على الوضع المستجدّ بعد موت النبي. وهكذا فعل يسوع. اختار تلاميذ وأرادهم أن يدخلوا في سرّه.

2- اختيار الاثني عشر
تزايد طلب الناس على يسوع، توافدوا عليه من كل مكان وزحموه، فاحتاج أن يصعد إلى السفينة (تمثّل الكنيسة) ومن هناك يعلّم الجمع. يتحدّث النص عن "جمهور كبير" (7:3) وقد جاؤوا من المناطق السبع التي ترمز إلى البشرية كلّها. كثُر الناس فوجب على يسوع أن يختار له مساعدين يقاسمونه سلطته ومسؤوليته في حمل الكلمة. هذا ما فعله موسى بناء على نصيحة يترو حميه. "وقف الشعب أمامه من الصباح إلى المساء"، فأخذ يقضي له (خر 13:18). ولكن حميه أشار عليه أن يختار من الشعب رجالاً أكفاء ويوليهم على الشعب (آ 21). وهذا ما سيفعل الرسل يوم تكاثر عليهم العمل، فبدأ "اليونانيون" يتذمّرون. إختاروا السبعة لكي يعينوهم (أع 6: 1- 6).
ابتعد يسوع عن البحر وصعد إلى الجبل. لا نتساءل هنا عن اسم هذا الجبل، ولا نحاول أن نحدّد موقعه. فالجبل عند مرقس يدلّ بشكل خاصّ على مواضع الوحي الخاص (6: 46؛ 9: 2، 9؛ 11: 1؛ 3:13؛ 14: 26). أما البحر فيبدو كموطن المحنة والواقع الإنساني المؤلم.
على الجبل "دعا يسوع إليه الذين أرادهم". إتخذ المبادرة في خلق حركة تنطلق من شخصه. وما يشدّد على هذه المبادرة هو التكرار لعبارة "أقام منهم". في (آ 14: أقام) اثني عشر. في آ 16: أقامهم (أما كلمة اثني عشر فغائبة لدى شهود عديدين)، وقد زيدت على ما يبدو بتأثير من لو 13:6.
ان الرقم 12 يرتبط بوضوح بعدد أسباط اسرائيل الاثني عشر. حملوا أسماء أبناء يعقوب واجتمعوا حول جبل سيناء ليقطعوا عهداً مع الله (خر 4:24؛ رج تث 1: 23؛ يش 3: 11؛ 2:4...). وأعطى يسوع هؤلاء الاثني عشر أسماً: هم الرسل. هذا اللقب سيعود أيضاً في مر 6: 30 (اجتمع الرسل وأخبروا يسوع بكل ما عملوا وعلّموا). إنهم مرسلون، حاملو رسالة. وتحدّدت وظيفتهم حالاً: "ليكونوا معه" (3: 14). وهكذا يستطيع أن يرسلهم "ليعلنوا"، أن يعطيهم "سلطاناً" لكي يطردوا الشياطين. هاتان الكلمتان حدّدتا عمل يسوع في المرحلة الأولى (1: 39: وطاف يبشّر في مجامعهم ويطرد الشياطين). إذن، سلّمهم يسوع كلمته الخاص وولاّهم سلطته العجيبة (1: 21،27: تعليم جديد؛ 2: 10: سلطان غفران الخطايا).
حين دعا يسوع رفاقه الأوّلين على شاطىء البحيرة، وعدهم بأن يجعل منهم "صيادي بشر" (17:1)، وها هو الوعد بدأ يتحقّق: فلقد تكوّن الاثنا عشر فصاروا جماعته. أما اللائحة التي نجدها في أماكن أخرى مع اختلافات (مت 10: 2- 4؛ لو 6: 14- 16: أع 1: 13)، فهي تدل على اهتمام الكنيسة الأولى بأن تثبت تأسيسها بيد يسوع نفسه.
سمعان هو بطرس في متّى وفي لوقا أيضاً، لا في سفر الأعمال. يرد اسم اندراوس حالاً بعد بطرس في متّى ولوقا وأع. أما في مرقس، فيفصل بينهما يعقوب ويوحنا. ثم إن لهذين الأخيرين لقب "إبني الرعد". نجد تداي في متّى ومرقس. أما في لو وأع فنجد: يهوذا بن يعقوب. سمعان هو الكنعاني أو القانوي أي الذي من قانا والغيور (من قنا في العبرية).
هناك ثلاثة رسل أعطاهم يسوع أسماء جديدة، فمنحهم في شكل من الأشكال شخصية جديدة. هذا ما صنعه الرب في ابرام. أي: الأب رفيع. قال له الله: سيكون اسمك ابراهيم (أو: ابراهام) أي: أب جمهور كبير (17: 15- 16). واسم يعقوب يتبدّل فيصبح اسرائيل أي الله يسهّل (تك 35: 10). كان يعقوب ذلك المحتالة الماكر، فغيّر له الرب طريقة حياته، وغيّر له في الوقت ذاته اسمه. وأعطى الرب اسماً لابني أشمعيا (3:7؛ 3:8- 4) ولأولاد هوشع (3:1 ي). وفعل يسوع الشيء عينه مع تلاميذه. سمعان صار بطرس أو الصخر. وابنا زبدى صارا ابني الرعد بسبب طبعهما العنيف (54:9)، بل بسبب الزخم النبوي في كرازتهما (لو 54:9).
هناك يعقوب بن حلفى مثل لاوي بن حلفى (14:2) الذي يسمّيه الإنجيل الأول: متّى. ويتفرّد متّى فيقول: متّى العشّار (لا تذكر هذه الصفة في مر، لو، أع). سمعان هو الغيور في المعنى اليهودي وفي المعنى المسيحي. أما في المعنى اليهودي، فهو واحد من هؤلاء المدافعين عن شريعة الله. وقد كان بولس منهم. قال في دفاعه: "كنت غيوراً على خدمة الله" (أع 3:22- 5، 18- 20؛ رج غل 1: 13- 14، 23؛ فل 3: 5- 6): "في الغيرة أنا مضطهد الكنيسة، وفي التقوى حسب الشريعة أنا بلا لوم".
وهناك يهوذا (يوضاس) الاسخريوطي. قد يكون من قرية "قريوت" القريبة من شيلو في أرض يهوذا (يش 25:15؛ عا 2:2). وقد نكون أمام إشارة إلى طبعه الكذّاب (خرّط). وقد تدلّ الكلمة على التزامه السياسي "سيكاريوس، حامل السيكا أي الخنجر الصغير. ويبدو أن ما يفرض نفسه هو اللغة الآرامية: يشكر يوته الذي يعني: الذي أسلمه. هذه اللغة التي تطبّق مراراً على يهوذا تدلّ على تعصّبه ضدّ كل من يتجاوز الشريعة ولو كان معلمه نفسه. كما نشير في هذا المجال أن لفظة "غيور" التي طبّقت على سمعان، يجب أن تفهم في المعنى الديني لا في المعنى السياسي. وإلاّ طبّقنا على زمن محدّد فكرة مأخوذة من زمن آخر. فالغيور في المعنى الوطني هو الذي قاوم الرومان خلال الحرب اليهودية التي انتهت بدمار أورشليم سنة 70 ب. م.
وهكذا أخذ يسوع هؤلاء الرجال كما هم، مع خصائص كل واحد منهم. فلا ننظر إليهم نظرة مثالية وكأنهم كانوا منذ البداية "قدّيسين": ومن هؤلاء الأشخاص المتنوّعين، إنطلق يسوع لكي يبني كنيسته بالحجارة التي وصلت إلى يده.

3- حياة الاثني عشر
أ- جبل الاختيار
وصعد يسوع إلى الجبل... لا يشير الإنجيليون بشكل واضح إلى جبل سيناء أو جبل صهيون، إلاّ أن مكانة هذين الجبلين في الفكر اليهودي وتقواه، قد أثّرت ولا شك على فكرة الجبل، سواء جبل التجلّي، سواء الجبل الأخير (مت 16:28: الجبل الذي عيّنه يسوع)، جبل الزيتون أو هذا الجبل الذي عليه اختار يسوع تلاميذه. جبل مجهول الاسم بالنسبة الينا، ولكنه جبل رمزي. نحن أمام عهد جديد على جبل سيناء جديد مع موسى جديد هو يسوع المسيح.
الجبل هو المكان الذي فيه يعتزل يسوع الجموع ليكون وحده مع تلاميذه، أو لكي يصلّي. الجبل هو مكان نصعد إليه. إذن هو صورة عن صعود نحو الله: جبل سيناء، جبل الهيكل... لا يذكر النص الذي ندرس صلاة يسوع. ولكن النص الموازي عند لوقا يذكر الصلاة (6: 1: قضى ليلته في الصلاة). وكذا نقول عن مرقس نفسه في 46:6 (قبل السير على المياه: ذهب إلى الجبل ليصلي)؛ 14: 35.
يبدو أن ذهاب يسوع إلى منطقة التلال المحيطة بشمالي البحيرة، قد حدّدته نيّة يسوع بأن يعيد تركيز رسالته التي هدّدها ضغط الجموع. واختيار التلاميذ يجد هنا موقعه الطبيعي.
ذكّر يسوع تلاميذه (يو 15: 16) أنه هو الذي اختارهم. ولم يختاروه هم. نحن هنا في خطّ العهد القديم، حيث التزام البشر هو ثمرة مبادرة الله، وحيث الله هو الذين يقطع العهد (تك 15: 17 الله هو الذي مرّ بين قطع الذبائح عبر النار التي ترمز إليه). وحتى عند مرقس حيث الحدود ليست دوماً واضحة بين الجموع والتلاميذ، جاء وقت اختار فيه يسوع من بين الذين تبعوه، أولئك الذين اختارهم وأرادهم أن يكونوا معه.
إن حدث التلاميذ الأربعة في 1: 16- 20، يجعلنا نفترض أننا لسنا أمام نداء جماعي. فكل واحد دعي باسمه. بل نحن أمام تنظيم الاثني عشر في مهمتهم الرسولية. جعلهم يسوع اثني عشر رسولاً. خلق مجموعة محدّدة، وخلقها بشكل رسمي، وحدّد لها مهمتها.
لم يقرّر هؤلاء الرجال أن يضعوا نفوسهم تحت إمرة معلّم، ولا أن يتعلّقوا بتعليمه. إنهم دعوا (بروسكاليوماي). نتذكر هنا "دعا" (كاليو) الذي يرتبط بلفظة "اكلاسيا" (الكنيسة) (نشير إلى أن لفظة كنيسة لا ترد في الأناجيل إلاّ في مت 18:16؛ 17:18). ويرتبط الرقم 12 بقبائل اسرائيل. هذا يعني أننا نجد في هذه المجموعة نواة الجماعة المسيحانية التي لا يمكن أن تتصوّر مجيء المسيح خارجاً عنها داخل العالم اليهودي.
ب- لماذا هذا الاختيار
إختار يسوع الاثني عشر لكي يكونوا معه (رج 18:5: مجنون الجراسيين). تفرّد مرقس فأشار إلى هذه النقطة التي تميّز إنجيله. فهذا الإنجيل يعطي التلاميذ مكانة هامة، بحيث إننا لا نجد يسوع مرة واحدة بدون تلاميذه. هنا نكتشف حاجة يسوع إلى الصداقة، وإلى طلب العون من البشر. لم يتبع متّى ولوقا مرقس في هذا السبيل. فهما لا يبرزان، كما فعل مرقس، مكانة التلاميذ في حياة يسوع، كما أنهما لم يبرزا عدداً من التفاصيل البشرية حول شخص يسوع.
ومن الواضح أيضاً أن هذه العبارة (ليكونوا معه) تدلّ على نية المعلّم بأن يعطي لنفسه معاونين، وهذا ما تدلّ عليه الكلمات التالية. يكونون معه، أي "يتربّون" على يده، يأخذون التعليمات الخاصة التي تتطلّبها المهمة التي يسلّمهم إياها. وإن كان التلاميذ يحتلّون مكانة مرموقة عند مرقس، فنحن لا نجد في الإنجيل الثاني تعاليم عديدة تعنيهم. هذا يعود إلى شكل كتاب تبدو فيه العناصر التعليمية أقل من العناصر الإخبارية. ولكن لا ننسى أيضاً أن الحدود بين التلاميذ والاثني عشر، بل بين التلاميد والجموع ليست واضحة عند مرقس كما هي عند متّى (ق مر 34:8؛ مت 24:16).
أرسلهم لكي يكرزوا. أعطاهم سلطاناً على طرد الشياطين. مهمة الرسل هي امتداد لمهمة معلّمهم. وهنا يستعمل فعل "كاروسو" للمرة الأولى لهم. هو يدلّ في المعنى العام على تصريح احتفالي وعلني للبشرى، على إعلان لمجيء الملكوت ونداء إلى الخلاص. أما التعليم فسيأتي بعد ذلك.
سيتوضح مضمون مهمتهم واشكالها في 6:6- 13. والتمييز بين هذه المهمة ومهمة يسوع نجدها في لفظتين: ابوستالو (أرسل)، اكسوسيا (سلطان). هذا لا يعني أن هاتين اللفظتين لا تعنيان يسوع. فهو يتكلّم في 27:9، عن "الذي أرسله". وشدّدنا في 1: 22، 27؛ 2: 10 على أن سلطته جاءت من الله. ولكن الطابع الفريد ليسوع يعود إلى أنّه ينقل إلى الآخرين ما يستطيع الله وحده أن يعطيه. وإن كان هناك من نقل سلطة بين إنسان وإنسان فهي تتمّ بوساطته وحضوره.
لا شكّ في أن مرقس يفكّر هنا برسالة الكنيسة، وليس فقط بمهمة الاثني عشر. ولكن بعد الفصح، كما قبل الفصح، فهذا "السلطان" لا يتأكد إلاّ إذا كان التلاميذ معه وفيه.
وهناك فرق آخر بين رسالة يسوع ورسالة تلاميذه، وهو يرتبط بما هو في سرّ دعوته العميق: موته. فعزلة يسوع في آلامه، والواقع الذي يبرزه مرقس عن التلاميذ: يكونون حاضرين بنيامهم وهربهم ونكرانهم وخيانتهم. كل هذا يدلّ على أنهم لم يقاسموه وجهة مهمة من رسالته. ولكن التنبيه والنداء اللذين أعطيا في 34:8- 38 سيقولان للتلاميذ إنهم يستطيعون أن يشهدوا لعمق حياة معلّمهم، بحياتهم وموتهم.
نلاحظ برنامج العمل الذي يعطيه يسوع لهذه الجماعة الأولى: إعلان الكلمة، طرد الشياطين. إنه يرسلهم إلى إخوتهم وبالتالي إلى معلّمهم الذي يبقون معه لكي يتموا مهمتهم. لا يتحدّث النداء عنهم، عن طهارة يحافظون عليها، عن خلاص شخصي يؤمّنونه لنفوسهم، عن استحقاق يأملون به. كل هذا يُعطى مجّاناً، يُعطى بعد ذلك. أو إن الرسول المأخوذ بغيرته الرسولية لا يعود يفكّر بنفسه، بل يستسلم كلياً إلى يد معلّمه: حياتي هي المسيح والموت ربح لي.
لن نجد في الإنجيل شيئاً عن "واجبات الانسان تجاه نفسه". فيسوع لا يجمع أناساً ليقتلعهم من مخاطر العالم، ليعمل منهم كنيسة من "القديسين"، ليعطيهم تعليماً باطنياً يكشف لهم أسرار الله فيعزلهم عن الآخرين. هو يجمعهم لكي يرسلهم. لا يذكر خلاصهم. لقد اختيروا وأرسلوا من أجل خلاص الآخرين، وعندئذ يتخذ خلاصهم شكله ويتمّ.
هذا ما يقودنا بعيداً عن الجماعات اليهودية في أيام يسوع، بل عن عدد من الجماعات المسيحية. فقد عرف تاريخ الكنيسة مراحل شدّد فيها الناس على الاهتمام بخلاص الانسان، باقتناء الفضائل، بالاماتات التي نصنعها. قد نجد جذور كل هذا في الإنجيل، ولكن الهدف الأول للرسالة هو ارتباط بيسوع ومهمّة لدى الآخرين تجعل المرسل "لا ينام" بسبب هم الرسالة. "الويل لي إن لم أبشّر".
ونشدّد أخيراً على القول إن الكلمة والعمل لا ينفصلان الواحد عن الآخر. فيرى بولس إحدى العلامات التي تميّز رسالته في الآيات والمعجزات والعجائب (2 كور 12: 12). ومسألة استمرارية خدمة الشفاء وطرد الشياطين، ما زالت تُطرح في الكنيسة. في أي حال، المعجزة تبقى كلمة الله التي تحدّثنا اليوم. وحين تصبح وسيلة تدلّ على قوة المسيحي في محيط يسيطر عليه. وحين تصبح تعويضاً عن حضور مسيحي وشهادة مسيحية صارت باهتة. وحين تصبح تعبيراً عن حاجات نفسية وجماعية أو لا سمح الله طلباً للكسب، كل هذا يفقد المعجزة طابعها الحقيقي: إنها أولاً وآخراً كلمة الله الحاضرة في حياة الانسان. وهذه الكلمة لا تتوجّه فقط إلى العاطفة أو الشعور الشخصي. إنها تتوجّه إلى المؤمن وتفهمه أنه سيأتي يوم تكون الكنيسة الجامعة والكنيسة المحلية علامة عن حضور الله في العالم. "طوبى للذين لم يروني وآمنوا".
ج- مصير التلاميذ
الرسل هم اثنا عشر. وقد أورد مرقس في البداية اسم الثلاثة الأول الذين هم أقرب التلاميذ إلى يسوع. وهكذا فصل اندراوس عن أخيه بطرس (رج أع 1:13). نجد لقب سمعان هنا للمرة الأولى وبطريقة منطقية، أما يوحنا فتفرّد باستعمال لقب "سمعان بطرس". لا يتّفق التلاميذ على الوقت الذي فيه سمّي سمعان "بطرس" (مت 18:4؛ 18:16؛ مر 18:3؛ لو 5 :8؛ 14:6؛ يو 1 :40-42).
أعطى يوحنا لسمعان لقب "كيفا" وترجمه بطرس. نجد في اليونانية لفظة "بتروس" كاسم جنس (حجر، صخر) واسم علم. كما نجد "بترا" في معنى صخر (من هنا البتراء). فاللفظتان تدلاّن على القساوة والصلابة. لماذا سمّى يسوع سمعان بطرس، مع أنه لم يدلّ دوماً على الثبات اللازم، وهذا ما يلومه عليه بولس (غل 2: 11- 14). كان في المقدمة وتكلّم باسم التلاميذ ولكنه تسرّع بعض المرات. ولكننا نقول انه سمّي بطرس لأن طبعه "كالصخر" لا ينكسر. وخصوصاً لأن عليه سيبني يسوع كنيسته.
تحدّثنا عن ابني الرعد اللذين طلبا من الرب ناراً على قرية سامرية لم ترد أن تستضيف يسوع. وهنا تلاميذ آخرون وردت أسماؤهم مرة أو مرات عند الإزائيين أو في الإنجيل الرابع. لا شك في أن الجميع تكلّموا عن يهوذا. وهناك بعض الأسماء لا نعرف عنها إلاّ اسمها في هذه اللائحة.
ما نلاحظه هو الحيّز القليل الذي أعطي لهؤلاء الرجال في الأناجيل، الاختلاف في بعض الأسماء، حضور خائن بينهم، اختيار الجماعة الأولى لمتتيا (أع 1: 15 ي) ليكون الرقم 12 كاملاً، تسمية البعض باسمهم (بولس وبرنابا هما رسولان، أع 14: 24). ومع هذا، فيسوع هو الذي أسّسهم وأرادهم أن يكونوا اثني عشر. هذا ما وجده الإنجيليون، وهذا ما أوردوه وإن وجدت بعض الاختلافات الطفيفة بينهم، وإن لم يحصلوا على معلومات عن كل رسول من الرسل.
وحاول التقليد المسيحي أن يعوّض عن صمت العهد الجديد. فجعل اندراوس يبشّر أخائية وغيرها قبل أن يستشهد في باتراس مصلوباً. وذهب فيلبس إلى فريجية وسقيطية ومات مصلوباً في هيرابوليس (منبج). ووصل توما إلى الهند... لم يقل الإنجيل شيئاً عن هؤلاء "الرسل". هذا لا يعني أنهم لم يكونوا أصدقاء أمناء ليسوع، وخدّاماً فاعلين في الجماعات المسيحية. ولكن هذا الصمت يجب أن يعلّمنا أن هناك أشخاصاً لا تكاد تُعرف اسماؤهم في جماعاتنا، مع أن الكنيسة تعيش من خدمتهم وصلاتهم. وحين جعل التقليد لكل رسول منطقة من مناطق العالم، شدّد على أن الاثني عشر انطلقوا إلى العالم كلّه كما قال الإنجيل (مت 19:28؛ مر 15:16). وإذ جعل منهم كلهم شهداء مجيدين، أظهر انهم حقاً حملوا صليبهم وساروا على خطى المسيح: لا تلميذ أفضل من معلمه، ولا عبد أفضل من سيده

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM