الفصل التاسع عشر نشاط يسوع

الفصل التاسع عشر
نشاط يسوع
3: 7- 12

إهتم مرقس بالاجمالات التي فيها يلخّص وجهة من وجهات حياة يسوع. هي مت اجمالات تتوقف عند نشاط يسوع، عند مصير يسوع، عند علاقة التلاميذ بيسوع. كل اجمالة تتكرّر في بداية القسم وفي نهايته فتلخّص الوضع وتلفت الانتباه إلى شخص يسوع، وترسم التوجيه الجديد الذي يعرضه على تلاميذه. نستطيع أن نعطي القسم الاول العنوان التالي: اقتراب الملكوت ومجيء يسوع (1: 14- 3: 6). إنه يبدأ بإجمالة تقدّم يسوع وهو يعلن الملكوت (1: 14-15). القسم الثاني يتوسّع حول قطبين: سر الملكوت، يسوع واخصاؤه (3: 7- 6: 6 أ). وتأتي في بداية هذا القسم إجمالة تلخّص نشاط يسوع وسط الجموع على شاطىء البحيرة. هذه هي الاجمالة التي نتوقف عندها في 3: 7- 12.

1- اجمالة في انجيل مرقس
إن 3: 7-12 تدخلنا في حقبة جديدة من نشاط يسوع، وتوسّع الإطار: لم تعدُ الجموع تتراكض إلى يسوع من الجليل وحسب، بل "من اليهودية وأورشليم وأدومية وعبر الاردن ونواحي صور وصيدا". فمن خلال منطقة كفرناحوم والجليل يتطلّع مرقس إلى العالم الوثني، وهكذا يشدّد على البعد الشامل لرسالة يسوع وتلاميذه (هم حاضرون هنا في آ 7، 9 ويتميّزون عن الجموع، رج 1: 32- 34). ويصوَّر عمل يسوع كمجترح معجزات هنا كما في 1: 32- 34 (أحضروا إليه جميع المرضى) بشكل أشفية وطرد شياطين. وبشكل أوضح مما في 1: 34 الم يدع الشياطين يتكلّمون لانهم عرفوه) هناك حديث حول سر يحيط بشخصه. أعلنته "الأرواح النجسة" إبن الله، فحاول يسوع أن يسكتها، ولكن عبثاً كما يبدو. هنا يبدو هدف الانجيلي بشكل أوضح: يريد أن يدلّ على أن يسوع يعمل كابن الله. في 1: 24 يحدّث الممسوس يسوع على أنه "قدوس الله"، وهكذا يستعيد مرقس عبارة من التقليد. وفي 3: 11، وفي مقطع من تدوينه، استعمل لقب "إبن الله"، الذي بدا له أكثر وضوحاً وموافقة (رج 15: 39). إن استعمال هذا اللقب في مقطع تدويني يدلّ على اهتمام الانجيلي بهذا الموضوع.
أجل، إن يسوع يعمل كابن الله، ولكن هذه الصفة لا يدركها الجميع خلال رسالته على الأرض. لهذا يرفض أن يكشفها، ولكنه لا يستطيع أن يمنع الناس من استشفافها من خلال أقواله وأعماله.
ألف مرقس هذه الاجمالة (3: 7- 12) كما ألّف غيرها من الاجمالات (1: 32- 34؛ 6: 53-56). ما كان هدفه حين ألّفها، وما كان البعد الذي قصده حين جعل هذه الاجمالة في هذا الموضع من انجيله؟
نحن هنا أمام صورة أكثر وضوحاً من 1: 32- 34. نحن أمام صورة عن السرّ المسيحاني عن "الابيفانيا الخفية" للمسيح. ولكن مرقس يعبّر عن هذه "النظرية" كما في مقاطع أخرى من انجيله، فيضمّ في المقطع الواحد مواضيع تتضارب في الظاهر: طلب يسوع العزلة، ولكنه لم يتمكّن من أن يفلت من الجموع التي سحرتها معجزاته. يريد يسوع أن يخفي مسيحانيته، ولكن الشياطين يعلنونها رغم كل شيء.
سنتفحّص هذه الاجمالة في جوّ المفارقة التي تحدّثنا عنها: من جهة، أراد يسوع أن يبقى "متخفياً" حول هويّته الحقيقية. ومن جهة ثانية هناك "الدعاية" التي يتحملّها رغماً عنه من قبل الناس والشياطين. وهكذا نقسم هدْه المقطوعة قسمين: علاقة يسوع بالجموع (آ 7- 10)، علاقة يسوع بالشياطين.
ولكن قبل التوسّع في هذين القسمين، نتساءل عن موقع الجليل في إنجيل مرقس. إنه موضع لاهوتي أكثر منه جغرافي. ننطلق من 14: 28 (يقول يسوع لتلاميذه: متّى قمت أسبقكم إلى الجليل) ومن 16: 7 (قال الملاك للنسوة: إذهبن وقلن لتلاميذه ولبطرس إنه يسبقكم إلى الجليل) اللتين تعلنان أن يسوع يسبق التلاميذ إلى الجليل بعد قيامته. لسنا هنا فقط أمام مجيء يسوع الثاني. بل أمام ظهورات القائم من الموت. ففي 16: 7 تضمّ نهاية مرقس في إيجاز جريء ثلاثة أبعاد في الزمن: ماضي الظهورات، مستقبل المجيء الثاني (باروسيا)، حاضر الرسالة "الجليلية". فبالنظر إلى هذه الرسالة، نفهم سائر المواضع التي يذكر فيها الجليل. إنها تنتمي كلها (ما عدا 6: 21: بيلاطس واعيان الجليل) إلى مقاطع أعاد مرقس تدوينها (1: 9، 4 1، 16، 28، 39؛ 3: 7؛ 7: 31؛ 9: 30؛ 15: 41). تسعة من هذه الايرادات العشر لكلمة الجليل في "الأخبار" نجدها في الفصول التسعة الأولى. أراد مرقس أن يبرز تعارضاً عنيفاً بين الجليل موطن المعجزات، وبين أورشليم مدينة السلطات اليهودية التي فيها سيتألّم يسوع.
ولكن الجليل في رؤية مرقس لا يوافق فيما بعد منطقة محدّدة في زمن يسوع أعطيت لهيرودس انتيباس سنة 4 ب. م وتميّزت عن مناطق واقعة شرقي بحيرة جناسرت. فحين دوّن الانجيل، وعلى أثر الثورة اليهودية التي انتهت بدمار أورشليم سنة 70 ب. م، إختفت هذه التقسيمات السياسية القديمة، وذابت في مقاطعة رومانية سُميت "سورية- فلسطين" (في 7: 26 يتكلّم مرقس عن سورية- فينيقية). هذا الوضع دفع مرقس إلى أن ينتقل من المدلول الجغرافي القديم للجليل، إلى مدلول لاهوتي، هو "جليل الأمم". فهو يرى أن الجليل الذي يضمّ مناطق تقع غربي بحيرة جناسرت وشرقيها ("دولة" هيرودس انتيبابس ودولة فيليس القديمتان) تحدّه فينيقية في الشمال الغربي والدكابوليس (المدن العشر) في الجنوب الشرقي. وهكذا صار الجليل الكبير جسراً بين منطقتين يسكنهما وثنيون. حمّلهما اسمه. بسبب طابعهما الوثني (فينيقية، دكابوليس) تثبّت لقبه الخاصّ "جليل الأمم". بعد هذا دلّت رسالة يسوع في الجليل على عمله لدى الأمم الوثنية... بل لدى جماعة رومة بواسطة التلاميذ الذين حملوا الإنجيل إلى "أقاصي الأرض" (أع 1: 8).

2- عزلة يسوع وهجمة الجموع (3: 7- 10)
ونعود الآن إلى 3: 7- 10 مع علاقة يسوع بالجموع.
يتكّرر الموضوع مراراً في مرقس، ولاسيّما في 1: 45 (كان الناس يأتون إليه من كل جهة) وفي 6: 31- 32 (فإن القادمين والذاهبين كانوا كثيرين). في المقطع الأول انتهى أمر يسوع بالصمت (1: 44 أ: إياك أن تقول لأحد شيئاً) بالنتيجة المعاكسة: "ما إن شُفي الأبرص وذهب حتى طفق ينادي في كل مكان ويذيع الخبر بحيث لم يعد في وسع يسوع أن يدخل مدينة في العلن". والمقابلة بين 3: 7- 10 و6: 31-33 هي أكثر وضوحاً. فأمام توافد الناس، أراد يسوع أن يأخذ تلاميذه الراجعين من الرسالة، إلى "موضع منعزل" (آ 31). إنطلقوا إلى هناك (آ 32)، ولكنهم لم يتمكّنوا من أن يمنعوا الناس أن يركضوا إلى هناك ويسبقوهم (آ 33). لم تشدد 3: 7-8 على موضوع عزلة يسوع. ولكن لائحة المناطق المختلفة أبرزت بصورة قوية وملموسة شهرة يسوع. نحن لا نكتشف حالاً ما يريد مرقس أن يقوله بتعداد المناطق هذا. لا نستطيع القول إن هذا التعداد يدلّ حقاً على مناطق مارس يسوع فيها حقاً رسالته. فالتقليد لم يحتفظ بأي تذكّر لنشاط يسوع في أدومية. تقول 7: 24، 31 إن يسوع مارس عملاً رسولياً في نواحي صور وصيدا. ولكن الشرّاح يقولون إن هاتين الجملتين هما من تدوين مرقس. أتراه فكّر في مناطق أقامت فيها الجماعات المسيحية ساعة تدوين الانجيل، أو في مدى انتشار البرنامج الرسولي؟ مهما يكن من أمر، إن الانجيلي يتجاوز حدود اسرائيل. وإذ يورد مرقس أسماء مناطق وثنية، فهو يريد أن يبيّن البعد الشامل لرسالة يسوع على الأرض.
نقدّم هنا ملاحظتين. الأولى، لا تُذكر السامرة في هذه اللائحة (رج لو 3: 1-2 حيث لا تذكر السامرة أيضاً). ربما لأنها لم تكن قد دخلت بعد في مدى الانتشار الرسولي ساعة دوّن الإنجيل. وقد يكون لوقا تبع عمل الرسل. هل اعتبر لوقا السامرة على حدود العالم الوثني فلم يرد أن يذكرها قبل أعمال الرسل؟ ربما.
والملاحظة الثانية: لا تتوقّف نظرة مرقس عند الأرض المقدسة، ولا عند الأراضي المحيطة بها، ولا عند الشعب اليهودي الذي جاء يسوع يجمعه. تحدّث مرقس (ومثله لوقا) عن مناطق يسكنها كلها أو جزءاً منها أناس يهود. وترك جانباً السامرة على أنها لم تكن جزء من "اسرائيل" التقليدي. هنا نشير إلى أن نشاط المعمدان لم يصل صداه إلاّ إلى اليهودية وأورشليم (1: 5).
"أوّن" مرقس المشهد الذي أورده (3: 7- 10) وربطه بنشاط الكنيسة الرسولي. وحدّد السبب الذي لأجله جاء الناس إلى يسوع: "سمعوا أنه صنع (بوياين). ينطبق هذا الفعل في مرقس على نشاط يسوع. لاسيّما في 5: 19، 20 (ما صنع الرب اليك، ما صنع إليه يسوع) حيث يدلّ على شفاء مجنون الجراسيين بيد يسوع ويكوّن موضوع الاعلان الرسولي. وفي 6: 30 يتحدّث النص عمّا صنع التلاميذ: قاموا برسالتهم وشفوا المرضى (13:6).
"سمعوا بكل ما صنع". نحن أمام عبارة من اللغة الرسولية: فالكرازة هي التي تجتذب الناس إلى يسوع (أقبلوا إليه، جاؤوا إليه). كما أن في 1: 45 كانت نتيجة ما أعلنه (كاروسو) الأبرص الذي شفي من خبر، أن الناس جاؤوا إلى يسوع من كل مكان. فكنيسة مرقس ما زالت تسمع اليوم بما صنعه يسوع، وإليه تأتي من كل مكان.
وفي النهاية يشدّد النص على تجمّع الشعب حول يسوع، وتأثير يسوع على هذا الشعب. يشدّد النص أيضاً على الأشفية التي صنعها يسوع في ذلك الوقت، والتي تشكّل في حدّ ذاتها كرازة وتعليماً. كان الناس قد سمعوا "خبر المعجزات" فيما ما مضى، ولكن لا يروي النصّ أية معجزة هنا (عكس ما في 1: 32- 34). عرف الناس أنه شفى الكثيرين فتهافتوا عليه. إن الأشفية التي تمّت بلمس يسوع، قد حصلت قبل أن يصعد يسوع إلى القارب لئلا يزحمه الجمع.
يرى بعض الشرّاح أن الوجهة العجائبية وجدت هنا كخلفيّة تنبّهنا إلى السحر الذي لا يقاوم على الجموع. ونزيد: لا شكّ في أن مرقس لا يورد هنا أية معجزة جديدة، بل يشير إلى معجزات اجترحها يسوع في السابق. غير أننا نقول في الوقت عينه، إن مرقس يبرز استمرارية قدرة يسوع العجائبية وحضورها الآن في الكنيسة: فالجموع التي تتراكض إليه من الجليل، ترمز إلى مؤمني الجماعات المسيحية الذين يأتون إلى يسوع بعد أن سمعوا بما صنع، يأتون لينعموا في حياتهم الحاضرة بعمله الخلاصي. فهذا "العمل" لا ينتمي إلى ماضٍ قد زال، بل يتواصل اليوم في إعلان الإنجيل.
وهناك وجهة أخرى في هذا الاجمالة نودّ أن نشدّد عليها. قدّم مرقس استباقاً في حياة يسوع عن الخبرة الرسالية في الجماعة. وفي الوقت عينه حافظ على المسافة بين يسوع والجموع. فهي لا تعرف بعد من هو: لا تعرف هويته التي أفصح عنها الشياطين، هويته التي لا تنحصر في معجزاته، وإن ظهرت عبر هذه المعجزات وحرّكت الجموع. من هنا هذا التوالي الذي أشرنا إليه أعلاه بين عزلة يسوع وشعبيّته. نقرأ في آ 7 أنه "اعتزل" (انصرف). ولكن الجموع تتراكض إليه من كل مكان، تتزاحم حوله لكي تلمسه، بل هي تكاد تسحقه (آ 9- 10). غير أن يسوع لا يتركها تفعل. نقرأ في آ 9: "أمر تلاميذه أن تلازمه سفينة" (تكون في تصرّفه). إذن، هو يتهرّب من الناس، ويمنعهم من أن "يلمسوه". وهكذا يضع حدوداً لنشاطه العجائبي.
إن موضوع "اعتزال" يسوع عند "شاطىء البحر" وتوافد الجموع قد قرّب هذه الاجمالة (3: 7- 12) من مقدّمة تكثير الخبزات الأول. وكذا نقول عن موضوع السفينة، فهو يقرّبنا أيضاً من هذه المقدّمة (6: 31- 33) حيث انطلق يسوع وتلاميذه إلى "موضع منعزل"، يكونون فيه على انفراد (آ 32). فهنا وهناك، ساعدت السفينة يسوع على تجنّب ضغط الجموع (في 3: 10 و 6: 31). نحن هنا مرة أخرى أمام ملاحظة أخذها مرقس من التقليد (رج 4: 35- 36؛ 6: 45- 46)، ولكنه أعاد استعمالها في منظار تدوينه الخاصّ.
هناك من يعتبر 6: 31-32 من تأليف مرقس، فيظنّ في الوقت عينه أن مرقس إستعمل عناصر تقليدية مشتّتة. وتكون 6: 32 أحد هذه العناصر. ثم إن 3: 9 تهيّىء الطريق أمام 4: 1. ففي المقطعين، يعود النصّ إلى الكاتب. ولكن في 4: 1 ليس استعمال السفينة هو هو: فهي تتيح ليسوع بأن يعلّم الجموع (4: 1-2: ركب سفينة وكان يعلّمهم). نحن هنا أمام تحويل لموضوع أولاني نجد شهادة عنه في 6: 32، والذي بحسبه تُستعمل السفينة لكي تحمي يسوع من زحمة الناس.
إن مقدّمة تكثير الخبزات الأول هي من تدوين مرقس، وموضوع السفينة يدلّ أساساً على المسافة بين يسوع والجموع (في 4: 1 كما في 3: 9 و6: 32). في البداية، لا يريد يسوع أن يقطع كل اتصال مع الجموع: "جعل يعلّمهم أشياء كثيرة بأمثال" (4: 2). ولكن بعد ذلك، سوف ينعزل ويحتفظ بتفسير الأمثال "للذين يحيطون به مع الاثني عشر". فـ "سرّ الملكوت" ليس في متناوله "الذين من الخارج" (رج 4: 10- 12).
نلاحظ في هذه القرائن الثلاث التي تتحدّث عن السفينة، أن التلاميذ يتميّزون تميّزاً واضحاً عن الجموع ويشاركون يسوع في اعتزاله (3: 7، 4: 10؛ 6: 31- 32). فهم وحدهم قد اختيروا "ليكونوا معه" (3: 13). هم وحدهم قد شاهدوا معجزتَي يسوع على البحر: ساعة هدّأ العاصفة (4: 35 ي)، وساعة مشى على البحر (6: 45 ي).
هل ينسب مرقس إلى الجموع فهماً خاطئاً ليسوع؟ هل يحسّ يسوع نفسه مجبراً على الابتعاد عن استغلال "سحري" لقدرته من جهة الجموع؟ هناك من يجيب بالنفي ويقول: إن التوازي بين خبر النازفة (5: 24 ي) واجمالة 6: 55 ي التي ترتبط به، لا يجعلنا نعتقد أن الناس اعتبروا يسوع فقط مثل ساحر ومجترح معجزات. ففي الحالتين، نال الناس الذين "لمسوه" لا الشفاء وحسب، بل "الخلاص" والحياة الأبدية. وإذا كان يسوع قد ابتعد عن الجمع، فهذا لا يتضمّن حكماً يقلّل من اعتبار الحماس الشعبي. ولكن هذا التفسير لا يرضي الجميع.
لا شكّ في أن مرقس يستلهم خبر النازفة ليصوّر تصرّف الجموع التي تزحم يسوع، والمرضى الذين يريدون أن "يلمسوه" لكي يشفوا. ولكن لا يجب أن نعتبر حالة مرضى الاجمالة في 3: 9- 10 صورة طبق الاصل عن حالة النازفة. فإن "إيمان" المرأة يُذكر بشكل واضح وينال لها "الشفاء" (آ 29) و"الخلاص" (آ 34: إيمانك خلّصك؛ رج 10: 52). غير أن مرقس لا يستعيد في اجمالته هذا العنصر الأساسي. نحن لا نستطيع أن نهمل هذا "الاستبعاد"، ولا نظنّ أنه جعل على مستوى واحد إيمان النازفة ومبادرة الجموع، مسيرة "الخلاص" وشفاء المرضى.
إذا عدنا إلى المستوى التقليدي للخبر، فإيمان المرأة بيسوع وبقدرته الشفائية، لا يتضمّن إشارة كرستولوجية، لا يعبّر عن اعتراف بمسيحانية يسوع كما يراها مرقس ويتوسّع فيها في 8: 27-9: 1. فالانجيلي يرى أن المخلَّص الحقيقي هو الذي يعرف أن يسوع هو "المسيح" (8: 29). وفي المعنى الذي يفهمه يسوع نفسه (8: 31)، أي: حين يحمل صليبه على خطى يسوع (8: 34)، حين يقبل أن يخسر حياته من أجله ومن أجل الإنجيل (8: 34). هذا ما لا تستطيعه الجموع، لأنها تجهل مسيحانية يسوع. وتسارعُها للذهاب إليه من أجل لمسه وانتزاع أشفية منه، يدلّ على مسيحانية يسوع دون أن يدلّ على وعيها لهذ المسيحانية. إذن، هي لم تصل بعد إلى مستوى الإيمان.
هذا ما يريد الإنجيلي أن يعلّمه لقرّائه. فإن كانت الجموع المتقاطرة من الجليل وسائر المناطق، تدلّ مسبقاً على جماعة المؤمنين، غير أنها لا تتماشى معها بشكل من الأشكال في رؤية مرقس. فالاعتراف الحقيقي بمسيحانية يسوع ليس ممكناً حتى للتلاميذ، إلا بعد موت يسوع وقيامته (رج 9: 9). إذن ردّة فعل الجموع هي ملتبسة هنا كما أمام معجزات يسوع: إن مسيحانية يسوع قد كُشفت، وجاء البرهان عنها ساطعاً في نظر الانجيلي وفي نظر قرّائه، إلا أنها ستظلّ خفية على الجموع خلال حياة يسوع على الأرض.
كل هذا لا يفرض حكماً يقلّل من قيمة الجموع لدى مرقس. فهو يرينا إياها تتسارع لتستفيد من معجزات يسوع، كما يريها مستعدة لسماع تعليمه (1: 21 ي؛ 2: 1- 2، 13؛ 3: 32- 35، 4: 1 ي؛ 6: 34؛ 10: 1؛ 11: 18؛ 12: 12، 37). فالجمع بعيد كل البعد عن السلطات اليهودية التي أعلنت بسرعة عداءها ليسوع (2: 6 ي...). ولكن هذا الجمع لم يصل إلى شخصية يسوع الحقيقية، ولم يرَ فيها "المسيح" (8: 29) و"ابن الله" (15: 39). وحين الدخول إلى أورشليم، أعلنت الجموع يسوع "ذاك الآتي باسم الرب" (11: 9). ولكن عظماء الكهنة سيقنعونها بان تطلب من بيلاطس اطلاق برأبا وصلب يسوع (15: 11-14).
وتقديم مرقس للجمع بهذه الطريقة، لا يدهشنا ولا يتضمّن أية قساوة خاصة. هذا ما نفهمه حين نقابله مع موقف مرقس من التلاميذ: هم رفقاء يسوع ومرسلوه. يشاركونه في سلطان شفاء المرضى وطرد الشياطين (3: 13-19؛ 6: 7-13). "سرّ الملكوت" أعطي لهم (4: 11)، ويسوع فسرّ لهم أمثاله (4: 34). كانوا كلهم أو بعضهم شهوداً حصريّين لبعض الأحداث التي تدلّ على قدرة يسوع أو كرامته (4: 35- 41؛ 6: 45- 52؛ 9: 2- 10). ورغم كل هذا، أبرز مرقس (أكثر مما فعل للجمع) عماهم، عجزهم عن أن يفهموا معلّمهم (6: 51- 52؛ 7: 17-18؛ 8: 14- 21). وبعد أن أعلن بطرس أن يسوع هو "المسيح" (8: 29)، لم يتورّع مرقس من التشديد على جهل التلاميذ لمسيحانية يسوع، ومتطلّبات اتباع يسوع في طريق آلامه (8: 31 ي؛ 9: 30 ي؛ 10: 32 ي). وأخيراً، وفي وقت الآلام، سنجد تلميذا (يهوذا) يخونه (14: 10- 11). وأعلن الباقون أمانتهم له (14: 29- 31) ولكنهم وقت الشدّة تركوه وهربوا (14: 52)، وبطرس أنكره (14: 66- 72).

3- سرّ يسوع وكشف هذا السرّ بفم الشياطين (3: 11- 12)
أ- الشياطين يعرفون من هو يسوع
إذ أراد مرقس أن يصوّر تصرّف الشياطين تجاه يسوع، عاد إلى لغة أخبار التقسيم (أو: طرد الشياطين). تحدّث عن الأرواح النجسة (1: 23، 26، 27؛ 3: 30؛ 5: 2، 8، 13؛ 6: 7؛ 7: 25؛ 9: 25). غير ان إجمالة مر 3: 11-12 لا تتحدّث عن أي تقسيم قام به يسوع ولا عن أي ممسوس. في سائر الأمكنة، يحافظ مرقس على التمييز بين الشياطين وضحاياهم. أما هنا فلا نرى إلا الشياطين ويسوع، ثم، إننا نجد في الشقّ الأول صيغة فعلية تدلّ على عمل حدث مرة وعبر. أما في آ 11- 12 فالافعال هي كلها في صيغة الماضي، وهذا ما يعطي طابع الاستمرارية والتكرار للمجابهة بين يسوع والشياطين.
إن الشياطين يعرفون من هو يسوع. وهذا ما نجده في أخبار تقليدية عن طرد الشياطين، تنتمي إلى العالم الهلنستي أو العالم اليهودي. في هذا النمط من الأخبار نجد حرباً بين المقسِّم والروح النجس: كل واحد منهما يحاول أن يتلفّظ باسم الآخر لينتصر عليه. هذا هو الوضع في 1: 25: وجّه الشيطان كلامه إلى يسوع وسماه "قدوس الله" محاولاً أخذ المبادرة وتجريد يسوع من قوته. في 3: 11، بدّل مرقس الموضوع تبديلاً تاماً: فالشياطين لا يحاولون أن يواجهوا عمل يسوع، بل أن يكشفوا شخصيته الحقيقية: "أنت إبن الله". يجب أن نفسّر هذا اللقب انطلاقاً من مجمل الإنجيل، وهو يعبّر عن إيمان الكنيسة الأولى (1: 1؛ 15: 39).
يأتي بعد هذا، الأمر بالصمت: لا يريد يسوع أن يعرفه أحد، يعلن شهرته (آ 2). إن القرائن المباشرة لا تعطي السبب. ولكنها تبرز ردة فعل من يسوع ضد صراخ الشياطين، على مثال ما في آ 9- 10 حيث يلجأ يسوع إلى السفينة بسبب الجموع التي تزحمه. نجد التوتّر نفسه الذي وجدناه أعلاه بين معطيات لا تتوافق في الظاهر. ونقدّم تفسيرين عن إرادة يسوع بالإعتزال.
ب- تفسير أول: لا ظهور للمسيحانية قبل الأوان
هناك تفسير أول لما ينسبه الإنجيلي إلى يسوع من إرادة الاعتزال والتخفّي، نكتشفه انطلاقاً من الموضع الذي تحتلّه الإجمالة في مخطّط الإنجيل. إنها في بداية 3: 7-6: 6 الذي موضوعه يسوع والتلاميذ والذي يتحدّث عن "قطع العلاقات" بين يسوع من جهة، وأخصائه واليهود من جهة ثانية. فالموضوع يظهر منذ 3: 7 أ: "وأعتزل يسوع مع تلاميذه". وهم في 3: 9 يحعلون السفينة بتصرّفه، فيبتعدون معه عن الجمع. وحالاً بعد الاجمالة، سبقوم يسوع باختيار "الاثني عشر" "ليكونوا معه" (3: 14). إن ذات العلامة الوثيقة بين يسوع والتلاميذ تنكشف في مقطوعة الناصرة حيث سيُرذل يسوع من قبل أهل بلده (اختلف مت 12: 15؛ 13: 53 عن مرقس 3: 7؛ 6: 1، فلم يذكر التلاميذ).
حدّد عدد كبير من الشرّاح القسم الثاني من انجيل مرقس (3: 7-6: 6 أ). وفيه يسيطر أحد المواضيع: تكوين مجموعة "الاثني عشر" حول يسوع (3: 14). هم سينفصلون بشكل واضح عن الجموع، ويتبعون يسوع في اعتزاله عنها. تضامنوا معه ساعة رفضت عائلته واهل بلده أن يؤمنوا به (6: 1- 6 أ؛ رج 3: 21) وساعة اتهمه الكتبة بتحالف مع بعل زبول، رئيس الشياطين (3: 22- 30). نالوا تعليماً على انفراد، فدخلوا في "سر الملكوت" الذي لا يصل إليه "الذين من الخارج" (4: 10- 12؛ رج 4: 33- 34).
ولكن يجب أن لا نشدّد فقط على هذه الوجهة من القسم الثاني (3: 7- 6: 6 أ). من جهة، إن موضوع اعتزال يسوع وحواره الخاص مع تلاميذه يعود مراراً في مواضع آخرى من الإنجيل (مثلاً، 6: 31- 33). من جهة ثانية، إن هذا الموضوع لا يرد باستمرار في هذا القسم: فيسوع يواصل كلامه وعمله بشكل علني، وهناك أشخاص ليسوا من الاثني عشر يدلّون على موقف إيجابي تجاهه: هناك غيرة مجنون الجراسيين (5: 18- 20، أخذ يذيع ما صنع إليه يسوع)، وإيمان النازفة (5: 34). مقابل هذا، هناك عجز التلاميذ عن فهم الامثال (4: 13) وقلة إيمانهم خلال تسكين العاصفة (4: 40).
أما المثل اللافت فهو الحدث الذي يرد في 3: 31-35 (قرابة يسوع). فيه يسمّي مرقس "الجموع" "أولئك الذين جلسوا حوله بشكل حلقة" (آ 32- 34) فدلّوا على أنهم قرابته الحقيقية. وذلك تجاه "أمه واخوته" "الذين أرسلوا إليه يدعونه"، وظلوا "خارجاً" (آ 31- 32؛ رج 4: 11). لا نجد هنا أي تلميح إلى التلاميذ (عكس مت 12: 49) ولا إلى "الاثني عشر". يبدو أن مرقس يرتبط ولا شكّ بتقليد سابق حيث حلقة الناس الجالسين حول يسوع والمكوّنين عائلته الحقيقية، لا تتماهى مع "الاثني عشر". نلاحظ أن 4: 10 تتحدّث عن "الذين حوله مع الاثني عشر". وهكذا نكون أمام مجموعة أوسع من "الاثني عشر". في 4: 34، لن يتحدّث مرقس إلاّ عن التلاميذ الذين ينعمون وحدهم بالشرح الذي يقدّمه عن الامثال.
أما الصمت الذي "فرضه" يسوع على الشياطين، فنحن نفهمه في موازاة مع اعتزال يسوع. ولكنه ليس خاصاً بالقسم الثاني (3: 7- 6: 6 أ) حيث أن نجده بعد هذا. مثلاً، لا يُسكت يسوع مجنون الجراسيين حين يناديه "إبن الله العلي" (5: 7).
يجب أن نلاحظ أيضاً التعارض مع الاجمالة الأولى: في 1: 34 ج، "لم يسمح يسوع للشياطين بأن يتكلّموا، لأنهم عرفوه". ولكن يبدو هنا أنهم لم يتجاوزوا أمره ولم يكشفوا سرّ شخصيّة يسوع، وهو سرّ يفلت من البشر. نحن هنا أمام وحي مستبق ولكن خفي. وهو لن يجد له صدى لدى الجمع، ولا معنى له إلاّ لقارىء الانجيل المؤمن. ونستطيع أن نقول الشيء عينه عن الصمت الذي فرضه يسوع على الشياطين بعد فوات الأوان: فأمره لا يتوخّى أن يمنعهم من نشر مسيحانيّته، بل من إظهارها على حقيقتها. فيسوع هو حقاً من يعلنون هويته، ولكنه لا يريد أن يؤكد ذلك ولا أن يُعرف كذلك إلا في ساعة الآلام (14: 62؛ 15: 39).
ج- تفسير ثان: لاهوت إبن الله المتألّم.
هنا نصل إلى التفسير الثاني عن اعتزال يسوع وفرضه الصمت على الشياطين. إنه لاهوت مرقس عن حياة يسوع، إبن الله المتألم. ففي الجزء الأول من الإنجيل (1: 1-8: 26) دلّ يسوع على مسيحانيته من خلال عدة "ابيفانيات سرية" شكّلت اجمالة 3: 7- 12 مثالاً لها. في النهاية، عرف التلاميذ وحدهم من هو يسوع (8: 27-30). ولكن يسوع فرض عليهم الصمت أيضاً حول شخصه (8: 30). وطوال الطريق الذي قاده إلى أورشليم (8: 27- 10: 52)، عرفّهم وحدهم إلى ضرورة آلامه. ولكنهم لم يستطيعوا أن يدخلوا في هذا المنظار. وسوف تنتهي حالة اللافهم عندهم بعد موت يسوع وقيامته. لا يورد مرقس أي ظهور للقائم من الموت فيه يفتح يسوع عيون التلاميذ ويفهمهم معنى آلامه كما في لو 24: 5، 31. ففي نظر مرقس، إن حدث قيامة يسوع يتحقّق في أن أعماله وأقواله التي ظلّت غامضة وغير مفهومة خلال حياته على الأرض، قد وجدت تأوينها الكامل ومدلولها التام في كرازة الإنجيل بفم الكنيسة.
إن مر 3: 7-12 يدلّ على نظرة الانجيلي التي بحسبها لا تُفهم مسيحانية يسوع ولا تُعلن إلا انطلاقاً من آلامه وقيامته. وما دام وقت الافصاح عنها لم يأت، يعتزل يسوع الجموع التي تجتمع حوله. وما دام لم يُعرف بعد كابن الله المتألم، فهو يمنع الاعلان عنه أنه إبن. ومن الممكن أخيراً أن يكون الانجيلي قد أراد في 3: 7- 12 أن يحذّر قرّاءه من صورة ناقصة عن يسوع. فتجمّع الشعب يرمز إلى الكنيسة، وصراخ الشياطين يدلّ على إيمانها. ولكن الخطر يقوم بأن لا ترى فيه إلاّ إبن الله الذي يجترح المعجزات، لا إبن الله المتألم. في هذه الحالة قد ينفصل يسوع عن الكنيسة كما انفصّل في الماضي عن الجموع ومنعها من أن تعلنه.
خاتمة
هذه الاجمالة التي درسناها (3: 7- 12) هي تكثيف للمرحلة الأولى من انجيل مرقس: إن كلمة يسوع تدحر قوى الشرّ. شهدت على نفسها بالأعمال فدلّت في الوقت عينه على ما في القلوب من التباس والتواء. وبما أن الله يدرك الإنسان في جذور كيانه، فالإنسان يخاف مثل هذا "القرب"، فهو يستبعد الله من طريقه. هناك تعارض لا بدّ من التعمّق فيه. حدّد الكتبة والفريسيون موقع الكلمة على مستوى الجدال. أما يسوع فولج بها إلى القلوب. من أين جاءت قوتها، وبالتالي كيف تساعد الإنسان على البلوغ إلى الإيمان؟
واعتزل يسوع الجموع. هذا لا يعني أنه تراجع أمام هجمات الفريسيين والهيرودسيين المعادية. ولكن حين "تراجع" واختفى، حرّك في القلوب بحثاً عميقاً. لم يسمح للجموع بأن تزحمه من الخارج وحسب. بل هو يريد أن يعلّمها، وهذا ما سوف يعمل (4: 1).
إن إعتزال يسوع، وتحفّظه بالنسبة إلى الجموع، وفرضه الصمت على الأرواح النجسة، كل هذا يرتبط بعزمه على أن يترك هذه الحركة تسير مسيرتها ولا تتوقّف. هذه الحركة سوف تقود يسوع إلى الموت (رج 3: 6). فمخطّط الله لا يُدرك. بل هو يدركنا. فيا ليتنا نفهم كيف يدعو البشر للدخول إلى سرّه

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM