الفصل الحادي والعشرون يسوع وأهل بيته

الفصل الحادي والعشرون
يسوع وأهل بيته
3: 20- 35

"وجاء يسوع إلى البيت"، بيت بطرس، بيت الكنيسة. وجاء إليه أهله وأقاربه بالجسد وهم يريدون أن يوقفوه عند حدّه. ولكن هؤلاء ليسوا أهل بيته. أمّه وإخوته هم الذين يعملون بمشيئة الله. وهؤلاء يدافع عنهم يسوع ضدّ الشيطان. بل هو يدخل إلى "بيت" الشيطان ويقيّده لأنه أقوى منه.

1- تأليف النصّ
هذه المجموعة المؤلفة من آ 20-35 تتألّف من حدثين متداخلين الواحد في الآخر: خبر عن أقرباء يسوع تقطعه اتهامات كتبة اورشليم ضدّ يسوع (آ 22- 30). بهذا الأسلوب الأدبي المعروف لدى مرقس (رج 5: 21-43؛ 11: 11- 21؛ 14: 1- 11)، يدعونا الإنجيلي لكي نبحث عن الرباط الذي يجمع بين هذين الحدثين.
أ- يسوع والشيطان (آ 22- 30)
قدّم مرقس تعليم يسوع حول ملك الشيطان كجواب على أقوال الكتبة: "فيه (يمتلكه) بعل زبول، وهو برئيس الشياطين يطرد الشياطين" (آ 22). غير أن جواب يسوع لا يوافق كل الموافقة هذا الإتهام، لأن كلمته لا تتطرّق إلى أصل سلطانه. ولكن الأمر يختلف في تدوين متى (12: 27-28) وتدوين لوقا (11: 19- 20) اللذين يلمّحان تلميحاً مباشراً إلى اتهام الكتبة. عندهما نجد الجواب الفعلي ليسوع. قال مت 12: 28: "إذا كنت بروح الله أطرد الشياطين، فملكوت الله حلّ بينكم" (رج لو 11: 20). هل جهل مرقس قول يسوع هذا، أو هل أغفله لأنه لا يتوافق مع موضوع السرّ المسيحاني؟ التفسيران معقولان.
تشكّل آ 27 في مرقس قولاً منفرداً رُبط بالسياق السابق عبر التعليم الذي يتضمّن، وعبر كلمة "بيت" التي لعبت دور الكلمة العاكفة (آ 25). هنا لا ننسى أن الكلمة عينها نقرأها في آ 20 (عاد إلى البيت) ونجدها بشكل متضمن في آ 31-35.
تكوّن آ 28-30 قولاً ثالثاً مستقلاً. إذن، جمع مرقس هنا ثلاثة تعاليم ليسوع حوله ملك الشيطان، وأعطاها مقدمة هي اتهام الفريسيين.
ما أراد متّى ولوقا إلا أن يحافظا على متتالية مرقس (3: 22-26). فاستفادا من الفاصل بين 3: 26 و3: 27 ليعيدا القول حول أصل سلطان يسوع (بروح الله). ثم زاد لوقا آية من تدوينه ليجعل التسلسل منطقياً: "تقولون إني ببعل زبول أطرد الشياطين" (11: 18 ب).
وجواب يسوع في مز 3: 23 ب- 26 يوازي في معناه مت 12: 27-28 ولو 11: 19-20. من المعقول أن تكون هذه الكلمات قيلت في ظروف مشابهة.
دوّن مرقس المقدّمة (آ 23 أ: فدعاهم وكلّمهم بأمثال) والخاتمة (آ 30: وبهذا الكلام ردّ على الذين قالوا: "فيه روح نجس") اللتين لا نجدهما في متى ولوقا. ثم إن يسوع لم يعتَد أن يجمع حوله الكتبة. ويتحدّث النص عن أمثال. نحن هنا في المعنى الواسع لكلمة مثل. ولكن المقابلة مع 4: 11 تدعونا إلى أن نرى في آ 23 أ إعلاناً عن خطبة الأمثال، وعن موضوع مختلف درجات التعليم حسب استعدادات السامعين.
ب- السياق التاريخي
وجّه يسوع منذ بداية رسالته نداء خاصاً إلى بعض الناس. آمنوا به ثم تبعوه. هم تلاميذه. بطرس، اندراوس، يعقوب، يوحنا... وترك قرية الناصرة وجاء يقيم في كفرناحوم فوصل إشعاعه إلى الجليل كله.
يبدو أنه اتخذ له في كفرناحوم مقاماً في بيت بطرس (رج 1: 29؛ 2: 1). ويذكر مرقس هذا "البيت" وهكذا يسميه. فيه منح يسوع حسناته الزمنية (1: 30- 34). فيه قدّم تعليمه (2: 1- 2؛ 3: 20، 33- 35؛ 9: 28، 33؛ 10: 10). إن بيت بطرس هذا قد صار بيت يسوع وبيت التلاميذ. إنه صورة عن الكنيسة.
وتراكضت الجموع فيما بعد، فلم يعد هؤلاء المدعوون الأربعة يستطيعون أن يلبّوا حاجات هذا الموج المتنامي من المرضى والسامعين. فوسّع يسوع حلقة "أصحابه". إختار "إثني عشر" ليكونوا معه، ليعينوه، وسلمهم بعض سلطاته ومنها طرد الشياطين (3: 13- 19). ورغم ذلك، ما إن عاد إلى "البيت" حتى تسارع الناس، فما عادت الأيام تكفي لاستقبالهم. "تعذّر عليهم أن يأكلوا" (3: 20).
إن سحر شخصية يسوع قد حرّك تياراً شعبياً قوياً. وهكذا انتشر خبره في كل البلاد فوصل إلى أورشليم كما وصل إلى الناصرة. فهل تستطيع سلطات أورشليم أن تبقى لا مبالية أمام هذا التحرّك الذي قد يقود إلى ثورة تبرّر تدخّل الرومان؛ وهل يستطيع أهل يسوع أن يبقوا مكتوفي الأيدي و"ابن القبيلة" قد "فقد صوابه"؟!

2- يسوع وبعل زبول
لقد أتمّ يسوع معجزات عديدة لكي يشكّ أحد بأمره. ولكنهم تساءلوا لا عن حقيقتها، بل عن مدلولها. وطرح أهل الناصرة السؤال بوضوح: "من أين له هذا؟ وما هذه الحكمة المعطاة له وهذه المعجزات التي تجري على يده" (6: 2؛ رج11: 28)؟
الجواب بسيط بالنسبة إلينا اليوم: هذا السلطان العلوي الحقيقي لا يأتي إلا من الله. أما بالنسبة إلى اليهود فلم يكن الأمر هكذا. فهناك جوابان ممكنان: قد يأتي هذا السلطان من الله. وقد يأتي أيضاً من الشيطان. مال الناس البسطاء إجمالاً إلى الحلّ الأول فتراكضوا جماعات جماعات (1: 32- 33؛ 2: 1- 3؛ 3: 7- 8، 20). أما الكتبة وعظماء الكهنة والشيوخ ورؤساء المجمع والفريسيون فمالوا إلى الحلّ الثاني: رأوا أن سلطان يسوع هو سلطان الشيطان الذي يقيم فيه (رج يو 7: 20؛ 8: 48؛ مت 10: 25). وبين هاتين الفئتين نجد الجهّال والموسوسين: رأوا فيه نبياً قديماً قد قام: إيليا، ارميا، أو أحد الأنبياء (6: 14- 15؛ رج 8: 28). أما هيرودس فاعتقد أن يسوع هو يوحنا المعمدان الذي قطع له الملك رأسه: "قد قام من بين الأموات" (6: 16).
أ- يسوع وإبليس
هذا لا يعني أن الشعب لم يكن يعتقد بالشيطان. بل كان ينسب إليه عدداً من الأمراض (رج لو 13: 16؛ أع 10: 38). ففي نظر اليهود، تدلّ حالة الممسوسين العديدين لا على وجود الشيطان وحسب، بل على سلطانهم وعملهم في البشر (مت 4: 8-9؛ رج لو 4: 5-6). ولقد وجد الناس في الفصول الأولى من سفر التكوين تفسيراً لهذا السلطان (رج حك 2: 24؛ يو 8: 44؛ 2 كور 11: 3، 14- 15). وإن قوة الشيطان كانت قوية، فتحدّثوا عن "ملكه". ويسوع نفسه لم يكذّب هذه النظرة، بل أخذ بها مراراً في تعليمه. وهذا ما تشهد له الأناجيل الإزائية، كما يشهد الإنجيل الرابع (يو 12: 31؛ 14: 30؛ 16: 11) الذي يسمّي الشيطان "أركون هذا العالم"، رئيس هذا العالم.
يرى اليهود أن قوة الشيطان لا تُقلب ولا تُغلب إلا بقوة المسيح. ونجد جذور هذه الفكرة في خبر الخطيئة "الأولى"، لأن الكاتب الملهم لم يرد أن يفصل بين إعلان العقاب وإعلان الخلاص. بل جعلنا نفهم أن نسل المرأة سوف يلعب دوراً إيجابياً في النصر على الحية، أي على الشيطان (تك 3: 15)، ولكننا سننتظر القرنين الأخيرين ق. م. لنرى أسفار الرؤيا تتوسّع في فكرة مواجهة بين المسيح وإبليس (رج دا 2: 31- 45، صورة التمثال الذي أسقطه حجر صغير هو المسيح). ولكن ستبقى الممالك المعارضة لملك الله (في النصوص الجليانية) مماثلة للممالك السياسية. وهذا ما نجده بصورة خاصة في وصيات الآباء الإثني عشر.
وتوسّع مرقس في موضوع الصراع بين يسوع وإبليس، وموضوع قدرة يسوع. منذ بداية الإنجيل الثاني، تحدّث يوحنا المعمدان عن الذي يأتي بعده وسمّاه "أقوى" منه (1: 7). وحين ظهر يسوع سمّي ابن الله الذي حلّ عليه الروح. وهذا الروح سيدفع يسوع إلى مواجهة إبليس. ولا يتوقّف مرقس مطوّلاً على تجارب يسوع. بل يكتفي بالقول إن إبليس قد فشل، غير أن تقليد متّى ولوقا يعطينا تفاصيل أكثر. وإذا عدنا إلى "رواية" متّى، رأينا أن التجربة الثالثة تدلّ على الطريقة التي بها ينتقل الملك على العالم كله: ينتقل من يد إبليس إلى يد المسيح. جرّ الشيطان يسوع وعرض عليه أن يسلّم إليه الملك شرط أن يخضع له، يعترف به سيداً له (مت 4: 9). إن يسوع ينال الملك على العالم كله، ولكن بطريقة أخرى.
وأول الأعمال القديرة التي أتمها يسوع هو طرد الشياطين (1: 22-27، 33). وهكذا دلّ يسوع على أنه "الأقوى"، حين قاوم وسوسات الشيطان، وانتزع منه "عباده". ويبدو أن الشياطين تفوّقوا على البشر فعرفوا معنى فشلهم وأعلنوا: "ما لنا ولك، يا يسوع الناصري؟ هل جئت لتهلكنا" (1: 24)؟ "ما لنا ولك يا ابن الله؟ هل جئت إلى هنا لتعذّبنا قبل الوقت" (مت 8: 29؛ رج مر 1: 33؛ 3: 11- 12)؟
قدّم مرقس بطريقته الخاصة ردّة فعل الشياطين. ولكن أقوالهم تدلّ على الدرس الذي نجده في الأناجيل: إنتصار المسيح أكيد. لقد بدأت الحرب ولكنها لم تنتهِ بعد. وشفاء المتشيطن الذي يقع في داء الصرع مسألة صعبة. ما أراد الروح النجس أن يخرج بسرعة. هذا ما يشدّد عليه الأناجيل الثلاثة. لا ننسى أن هذا الحدث يتمّ بعد الإنباء الأول بالآلام ومحاولة بطرس أن يبعد يسوع عن الطريق التي رسمها له الآب (قال يسوع لبطرس: "إذهب خلفي يا شيطان". بطرس يعمل عمل الشيطان). وإذ جعله الإنجيليون هنا، دلوا على أن المعركة ستكون شرسة. ولن تنتهي إلا بتحقيق ما جاء يسوع يعلنه: موت وقيامة: فالولد مرّ في "موت" قبل أن ينهض (يشفى)، قبل أن يقوم (9: 26-27).
وظهر قدرة يسوع أيضاً بالتعليم التي يعطيه بسلطان (= بقدرة)، وذلك من خلال أعماله وتصريحاته: هو يغفر الخطايا (2: 5- 12). يسمّي نفسه سيد السبت (2: 28)، ويثبّت كلامه بمعجزاته.
ولا يكتفي مرقس بأن يؤكّد قدرة يسوع ويظهرها فاعلة. بل يساعدنا على اكتشاف معنى كل هذه الأحداث. حاول الشيطان أن يخبر عنه لكي يكون هذا الإعلان حاجزاً له. ولكن يسوع فرض عليه الصمت. فهو الذي سيكشف عن سره تدريجياً "وفي الأمثال" (3: 23). إن تقسيماً واحداً، بل عدة تقسيمات لا تمثّل إلا انتصاراً جزئياً. أما البعد الكوني لطرد الشياطين الذي تمّ بيد يسوع، فسنكتشفه من خلال حواره مع "الكتبة".
إتهموا يسوع (3: 22)، فلم يجبهم مبرّراً نفسه. بل حذّرهم من التجديف على الروح القدس عبر خيارين (مت 12: 27- 28؛ لو 11: 19- 20): إن طردت الشياطين ببعل زبول أو بقدرة الله، فانتبهوا: "ملكوت الله حلّ بينكم". إذا كان بروح الله الذي تقبّله في الأردن، فطردُ الشياطين هو علامة مباشرة عن مجيء الملكوت. وإن كان برئيس الشياطين، فهذا يعني أن مملكته انقسمت على نفسها.
ب- ملكوت منقسم (آ 23-26)
قدّم يسوع صورتين متوازيتين فدعا محاوريه لكي يكتشفوا من خلال تقسيماته علامة الملكوت، ويستخلصوا النتائج: إذا انقسمت مملكة إلى حزبين متنافسين، ماذا يحصل؟ وإذا انقسم بيت (أو عائلة) أو عائلة ملكية حيث تحاول كل فئة أن تستولي على السلطة، فماذا يحصل؟
الجواب على السؤالين الأولين واضح. والتطبيق على الثالث يتم بلا صعوبة: يطبّق المثل على حالة خاصة: إذا انقسم "بيت" الشيطان- أو بعل زبول (رئيس الشياطين)، سيسقط كبيت تشقّقت جدرانه. صارت نهاية ملك الشيطان قريبة. "كيف يمكن للشيطان أن يطرد الشيطان؟... إذا ثار الشيطان على ذاته وانقسم، فهو لا يثبت" (آ 23 ب، 26). هكذا يكون الوضع إذا كان يسوع يطرد الشياطين بواسطة بعل زبول. لقد انتهى ملكه. هذا ما يعتقده الكتبة، ولكن اعتقادهم لا منطق فيه.
نجد هنا بشكل غير مباشر تعليماً أعطي واضحاً في مت 28:12 ولو 11: 20 (إذا كنت بإصبع الله أطرد الشياطين، فملكوت الله أقبل عليكم). هل نستطيع أن نكتشف الصورة التي استعملها يسوع؟ هل نحن أمام مثل شعبي؟ الأمر ممكن. ولكن يبدو أن يسوع استلهم صورة التمثال الضخم والمركّب في سفر دانيال (ف 2). إن التمثال يدلّ على كلّ الممالك العظمى المعادية لشعب الله. إنها مخيفة مثل جليات، وسريعة العطب مثله. جزء من أساسه حديد والجزء الآخر تراب. هي مملكة قوية في جزء وضعيفة في جزء آخر (هذه هي مملكة الإسكندر الكبير التي قسمت بين قوّاده). سيمتزج الجزئان ولكنهما يسقطان معاً. في زمن هؤلاء الملوك أقام إله السماء مملكة لن تدمّر أبداً... وهي ستزيل سائر الممالك (دا 2: 41- 44؛ رج 4: 22- 29؛ 5: 26- 27؛ 9: 4).
إستعاد مرقس موضوع انقسام أعداء ملكوت الله في الخطبة الاسكاتولوجية (13: 8: تقوم أمة على أمة، ومملكة على مملكة). وهذا الموضوع هو أقدم من سفر دانيال. فهو يعود إلى خبر برج بابل الذي هو أول رمز للمالك التي لا تخضع لله: "كان لهم لغة واحدة وكلام واحد. قال الرب: ننزل ونبلبل (نقسّم) لغتهم... فشتّتهم الرب من هناك على وجه الأرض" (تك 11: 1- 8).
تجاه انقسام الممالك المعادية، هناك الوحدة التي هي عطية مسيحانية تميّز ملكوت الله: لقد جاء المسيح يصالح البشر مع الله، وبعضهم مع بعض. جاء ليجمع أبناء الله المشتتين "فتكون الرعية واحدة والراعي واحداً" (يو 10: 16). جاء يجمع البعيدين والقريبين ويهدم الحاجز الفاصل (أف 2: 14).
ج- مثل الرجل القوي (آ 27)
لعبت لفظة "بيت" دور كلمة عاكفة بين مثلين. هنا لا يعني البيت العائلة الملكية، بل بيتاً من البيوت. وسيعود الموضوع عينه مع صورة البيت في مثل آخر يورده متّى فيما بعد (مت 12: 43-45: أرجع إلى بيتي، يقول الروح) ولوقا حالاً بعد هذا المقطع (لو 11: 24- 26).
ويصور يسوع رجلاً يدخلا البيت "بالكسر والخلع". يا لروح المداعبة. فهو نفسه السارق. هو الذي ينهب ويسرق. فيستخلص تارة تعليماً عن مجيء الملكوت بصورة مفاجئة (مت 24: 43: في أية ساعة يجيء اللص)، وطوراً درساً عن "أموال الأرض التي لا نعرف كيف نحافظ عليها من السرقة" (مت 6: 19- 20؛ رج 12: 30).
والفكرة الأساسية في المثل هنا، هي قدرة (يسوع). يصوّر يسوع هجوماً على بيت. لا يتصرّف السابق بالحيلة، بل بالقوّة والعنف. يلتقي صاحب البيت مسلَّحاً، فلا يهرب منه، بل يطرحه إلى الأرض ويقيّده. هو يحتاج حقاً الى الشجاعة ليهاجم "رجلاً قوياً". ويزيد لوقا: "رجلاً قوياً ومسلحاًَ" (لو 11: 21). ويقدّم ملاحظة أخلاقية: "كان واثقاً بسلاحه" (11: 22)0 الرجل القويّ هو إبليس. وقد وضرب ثقته في نفسه. هل يكون المسيحي مثله؟ كلا.
يشير مرقس إلى "السارق" بصورة خفرة. يجب أن نستنتج فكرته. هكذا كان المثل في التقليد الأولاني: "لا يقدر أحد أن يدخل بيت رجل قوي...". يبدو أن الشخص الرئيسي هو الرجل القوي. صحّح متّى النص وجعل السارق في المقام الأول. قالت: "كيف يقدر أحد أن يدخل بيت رجل قوي ويسرق أمتعته..." (مت 12: 29)؟ وسيكون لوقا أكثر وضوحاً: "عندما يحرس الرجل القوي... ولكن إذا هاجمه رجل أقوى منه وغلبه..." (لو 11: 22). الرجل الأقوى هو المسيح قاهر الشيطان. إذا قابلنا الشيطان مع الإنسان بدا قوياً جداً، وبدا سلطانه ثابتاً. فالعالم هو بيته، هو ملكه الذي يخصّه. ولكن علامات الأزمنة تكشف عن دينونة. ان سلطان الشيطان يتأخّر. سيُطرَد تبّاعه. قد حُكم عليه منذ الآن فخسر كل ما يملك.
إن للحقيقة التي يعلمها يسوع في هذه الأمثال بعداً كونياً. وستعود هذه النظرة في خبر خاص بلوقا، وسيتوسّع به يوحنا. حين عاد السبعون (أو: 72) من الرسالة، أخبروا يسوع فرحين: "يا رب، حتى الشياطين خضعت لنا"! أجابهم يسوع: "رأيت الشيطان يسقط من السماء كالبرق" (لو 10: 17-18). ويقول يوحنا: جاء يسوع، لا ليحمل بعض الخطايا، لا ليحمل خطايا العالم، بل ليرفع خطيئة العالم، ويطرد رئيس هذا العالم خارجاً (خارج هذا العالم الذي كان بيته ومملكته) (يو 1: 29؛ 12: 31؛ 14: 40؛ 16: 11). إنه يحمل الخلاص إلى العالم، إلى البشر (4: 42). إن ملكوت الله يحل محلّ ملكوت إبليس. غير أن هذا "الإنقلاب" لن يتمّ من دون حرب هائلة: هذا، يدلّ عليه مثل البيت الذي دخله "الأقوى"، دخله يسوع المسيح.

3- الذين في الخارج والذين في الداخل
أ- الكتبة
كان السؤال خطيراً حول جذور سلطان يسوع. نوقشت مراراً خلال حياته العلنيّة وكانت موضوع جدال. فالنتيجة مهمة. وطُرح السؤال عينه على يوحنا المعمدان (يو 1: 19-28؛ رج مر 11: 30)، ولكنه لم يكن بذات الأهمية. فمتطلّبات يوحنا لا تتجاوز متطلّبات موسى. وأقواله لم تكن أقسى من أقواله الأنبياء الأقدمين. أما متطلّبات يسوع فتذهب بنا بعيداً. إن تعليمه يبتعد عن تعليم الكتبة من جهة مضمونه ومن جهة الطريقة التي بها يُعطى (1: 22، 27). ثم إن هذا التعليم تثبته معجزات عديدة وخصوصاً طرد الشياطين. لقد تهدّدت سلطة الكتبة، وتوجّهت الجموع إلى يسوع (رج مت 5: 20 ي).
وأرسلت لجنة تحقيق إلى أورشليم (ق يو 1: 19-28)، لا لتدرس الوضع، بل لتحكم مسبقاً. فبدأت تعمل لتقتلع من قلب الجموع ثقتها بيسوع: قد حلّ فيه بعل زبول لا شيطان عادي، بل رئيس الشياطين ومعه جنوده. إذن، هو رجل خطر. إذا كان يطرد الشياطين فهذا يعني أنه أداة في يد رئيس الشياطين، ولا يعني أنه يتمتعّ بسلطان شأنه شأن الأنبياء الحقيقيين (3: 22).
وقال مرقس: كان هؤلاء المرسلين من الكتبة (رج 7: 1؛ مت 15: 1). هل نأخذ هذه اللفظة في المعنى الدقيق؟ يتحدّث متّى عن الفريسيين (12: 24؛ رج 9: 34). ويكتفي لوقا بعبارة مبهمة: "لكن بعضهم قال" (11: 15). يبدو أن مرقس يذكر الكتبة مراراً، ومتى الفريسيين، ويذكر لوقا وحده معلّمي الشريعة (ما عدا مت 22: 35). أما يوحنا فيقول عادة: اليهود. لقد كان لكل إنجيلي تسمية خاصة يدلّ بها على خصوم يسوع، على الرؤساء الدينيين إجمالاً: عظماء الكهنة، الكتبة، الشيوخ، الفريسيون... هذه الألفاظ قابلت شيئاً محدّداً لقرّاء متّى. أما قرّاء مرقس الآتون من العالم الوثني، فتكفي لفظة "كاتب" (أي: متعلّم، مثقّف) لتدل على "رؤساء اليهود" (رج مت 11: 25).
أولاً: نبي صادق أو نبي كاذب
لم يقرّ الكتبة بعلامات رسالة يسوع (لم يريدوا أن يروها على حقيقتها) وحسبوها معجزات شيطانية. ما رأوا في يسوع إلا "ساحراً ودجّالاً" (رج يو 7: 12: يضلّ الجميع؛ مت 27: 36). رأوا فيه نبياً كاذباً مثل كهنة بعل الذين وعدوا الشعب بسلام مزيّف وخيرات سرابية، فأبعدوهم عن العهد، ومالوا بملوكهم عن الأمانة للرب. مثل هؤلاء الكهنة، هؤلاء الأنبياء الكذبة، قد حاربهم الأنبياء الحقيقيون ولقد أعطت الشريعة مقاييس تساعد على تمييز الأنبياء. أما الكتبة ففسّروها بطريقتهم الخاصة.
* حسب تث 13: 2-6، كل نبي يقود إخوته إلى عبادة الأوثان هو نبي كاذب. يجب أن يُقتل. بما أن يسوع لا يشرح الشريعة مثل الكتبة مشدّداً على الممارسات الخارجية. بما أنه يقدّم "تعليماً جديداً" (1: 27)، لا يمكن أن يكون إلا مخالفاً للشريعة (يو 9: 29)، فهو يستحقّ القتل. ولكن يسوع أعلن أنه ما جاء لينقض الشريعة وأقوال الأنبياء بل ليكمّلها (مت 5: 17). غير أن الكتبة اعتبروا نفوسهم المدافعين الحقيقيين عن الشريعة وعن حقوق الله (2: 6-7؛ 7: 15؛ 9: 14). إعتبروا أنه يجب أن نلتصق بالشريعة فنضع ثقتنا في أعمالنا، لا في أعمال يسوع التي تدلّ على رسالته. لهذا عادَوا يسوع وأرادوا قتله.
* كان المقياس السابق غامضاً. فزادت الشريعة قولاً آخر: النبي الحقيقي هو الذي يرسله الرب نفسه (مت 18: 9-10). ولكن كيف نتحقّق من هذا الشرط؟ على النبي أن يبيّن صدق رسالته بالآيات: إما بمعجزات يجترحها (خر 4: 1- 9؛ 1 مل 18: 36-40). وإما بإعلان أمور ستتحقّق فيما بعد (تث 18: 21-22؛ إر 28: 9؛ حز 332: 33: عندما يصدق كلامك، يعلمون أن نبياً كان بينهم). كم مرة تحدّى اليهود يسوع بأن يعطيهم آية تدلّ على رسالته (8: 11-13؛ مت 12: 38- 39؛ 16: 1- 4؛ يو 2؛ 18؛ 4: 48؛ 6: 30...). لقد أعطى يسوع عدداً من الآيات. لهذا حين طلبوا منه رفض طلبهم. فالله يقدّم الآية كعطية مجانية، وإلاّ صار اليهودي مثل الشيطان حين جرّب يسوع وطلب منه أن يحوّل الحجر إلى خبز.
ثانياً: تجديف على الروح القدس.
أعطى يسوع آيات، ولكنهم جعلوا هذه الآيات تعارض يسوع ولا تساعده. نسبوها إلى بعل زبول. وهكذا انغلقوا على الخلاص الذي قدّمه الله إليهم. لقد جدّفوا على الروح القدس الذي به يتمّ يسوع المعجزات (مت 12: 28).
كل خطيئة حتى التجديف (مع أن التجديف يُعاقب بالموت حسب الشريعة، خر 22: 27؛ لا 24: 11- 16) تُغفر، إذا عرفنا في يسوع مرسل الله وطلبنا غفرانه. قد ننكر يسوع، ولكننا نستطيع أن نخلص إذا تبنا (14: 72، لو 22: 61). ولكن إن رفضنا أن نؤمن بيسوع، فنسبنا إلى روح نجس (يمتلك يسوع) أعمالاً يتمّها بالروح القدس، نجدّف على الروح القدس. وهكذا نستبعد نفوسنا من الخلاص، لأن يسوع هو الوسيط الوحيد (1 تم 2: 5)، ولأن لا خلاص خارجاً عنه (أع 4: 12).
ب- أهل يسوع (آ 21، 31-33)
تحرّك أهل يسوع، كما تحرّكت سلطات أورشليم، لما وصل إليهم من أخبار. من كفرناحوم (رج لو 4: 23). ولم تكن ردّة الفعل راضية عن يسوع. فهو في نظرهم قد أضاع رشده. إندفع بمواهب الشفاء، فلم يعد يعرف أن يضع حدوداً لنفسه. وقرّروا أن يمسكوه ويعيدوه إلى الحياة العادية، إلى "القبيلة". مرة أولى، وساعة كان يسوع إبن 12 سنة، أفلت يسوع من والديه في أورشليم خلال حجّ الفصح. طرحت أمه عليه سؤالاً فقدّم جواباً سرياً. ولكنه عاد إلى الناصرة يعيش حياة عادية لصبيّ خاضع لوالديه (لو 2: 41- 51). ولكن هذه المرة...
إنه متهوّس. قد فقد صوابه. لم يعد يمتلك نفسه. إن مرض يوازي بين ما قاله أهل يسوع وما قاله الكتبة: "إنه ممسوس. قد امتلكه شيطان" (آ 22). إن يسوع قد تحمّس فوق العادة، وقد يسبّب هذا الحماس ضرراً عليه وعلى "القبيلة". فلا بدّ من إيقافه.
فذهبت أم يسوع "وإخوته" إلى كفرناحوم. كلنا يعرف أن كلمة أخ تعني أيضاً ابن العم وإبن القبيلة. مثلاً، يقول ابراهيم للوط ابن أخيه: "نحن رجلان أخوان" (مك 13: 8)، ويقول تك 14: 14: "لما علم ابراهيم أن أخاه (أي: إبن أخيه) في الأسر". في مت 13: 55 نعرف أن يعقوب ويوسف هما من إخوة يسوع. وفي مت 27: 56 هما أبناء مريم التي ليست أم يسوع (رج 8 : 2- 3؛ ويذكر مت 13: 56: أخوات يسوع).
ويروي مرقس انهم وصلوا إلى كفرناحوم، فوجدوا المكان مزدحماً: تعذّر عليهم أن يدخلوا حيث كان يسوع (رج 2: 2 وشفاء المخلّع). ونقلوا الخبر إلى يسوع من فم إلى أذن: "أمك وإخوتك في الخارج يطلبونك" (آ 32). أرسلوا إليه يستدعونه.
لم يقل لنا الإنجيل إن كان يسوع لبّى نداءهم أو رفضه. لا شيء يمنع من أن يكون رافقهم إلى الناصرة بعد أن قال ما قالت من أقوال عن الذين هم عائلته الحقيقية. ففي مت 13: 54-58 نعرف أن يسوع عاد إلى الناصرة وأخذ يعلّم في المجمع. ويذكر الإنجيلي في هذا المقطع أمه وإخوته وأخواته. ويلمّح لوقا إلى معجزات اجترحها يسوع في كفرناحوم قبل ذهابه إلى الناصرة. "إعمل هنا في وطنك ما سمعنا أنك عملته في كفرناحوم".
ج- الذين هم في الداخل
إن الجواب الذي وجّهه يسوع إلى "أمه وإخوته"، يتحمّل مدلولاً سلبياً الست أمي، لستم إخوتي). وإذا توجَّه إلى "الجالسين حوله" فهو تعليم إيجابي (آ 32، 34). فالجلوس على الأرض حول شخص، يدلّ عند اليهود على جلوس التلاميذ حوله معلمهم. هكذا جلس شاول (بولس) عند قدَمَيْ جملائيل فتعلّم لديه (أع 22: 3). وهكذا جلست مريم عند قدَمَيْ الرب يسوع تستمع إلى كلامه، فكانت تلميذة حقيقية (لو 10: 39). وهكذا كان أهل الناصرة يسمعون إلى يسوع وهو جالس (لو 4: 20؛ رج مت 23: 2؛ 26: 55).
واستفاد يسوع من هذا الظرف (مجيء أهله) فأعطى تعليماً شدّد على أهميته حين طرح السؤال بشكل مثل: "من هي أمي؟ من هم إخوتي" (آ 33؛ ق 18:10)؟
"وأجال يسوع نظره في الجالسين حوله...". أشار مرقس مراراً إلى نظر يسوع. نظرة حزن وغضب (3: 5؛ 11: 11). نظرة محبة (10: 21؛ رج 1 صم 1: 11؛ لو 1: 48). نظرة مراقب (5: 32؛ 12: 41). نظرة من يريد أن يُعطي وزناً لأقواله (10: 23، 27). إستعاد مت 19: 26 ما قاله مر 10: 27. أما لو 6: 10 (= مر 3: 5) فتحدّث عن نظرة يسوع دون أن يقوله مثل مرقس: نظرة غضب وحزن. وسوف يتفرّد لوقا (22: 61) فيذكر نظرة يسوع إلى بطرس بعد نكرانه له: "فالتفت الرب ونظر إلى بطرس".
نظرة يسوع هنا هي نظرة محبة وحنان. فالذين يحيطون به هم أم وإخوة وأخوات. قال يسوع: "من يعمل مشيئة الله هو أخي وأختي وأمي" (آ 35). حين أطاع يسوع أباه، دلّ على أنه ابن الله (مت 4: 3- 10). بهذه الطريقة عينها نكون أبناء الله، نكون إخوة وأخوات يسوع المسيح، الإبن البكر. ونحن نعمل مشيئة الله حين نؤمن بيسوع مرسله وابنه والمخلّص (يو 6: 29).
لقد كشف يسوع عمق الرباطات التي تجمعه بالذين يعملون مشيئة الله. نحن أمام مشاركة في حياة الله الآب (قال مرقس: مشيئة الله. قال متّى: مشيئة الآب). إن كلماته عن ضرورة الولادة الجديدة تكمّل هذا التعليم وتعطيه كل قوّته وكل واقعيته (يو 3: 3- 5؛ رج 1: 13؛ تي 3: 5). وهكذا كشف لنا يسوع وسيلة نتّحد فيها به بشكل أعمق مما برباطات الولادة بحسب الجسد.
لا يقول مرقس إن أم يسوع وإخوته لا يعملون مشيئة الله. ولكننا لا نستطيع إن ننكر أنّه جعل معارضة بينهم وبين الذين يحيطون به. واستعمل مرتين بشكل واعٍ عبارة لها معناها الدقيق في الكنيسة الرسولية: "الذين من الخارج". إنها تدلّ على الذين ليسوا مسيحيين. مثلاً، يقول بولس لمسيحيّي تسالونيكي: "تكون سيرتكم حسنة عند الذين هم في الخارج" (1 تس 4: 12). ويقول لمسيحيّ كورنتوس: "أما الذين من الخارج فليس لي أن أدينهم" (1 كور 5: 12). وفي كو 4: 5: "أسلكوا بحكمة تجاه الذين في الخارج" (رج 1 تم 3: 7). إن أم يسوع وإخوته "يقفون خارجاً (آ 31). "هم هنا خارجاً" (آ 32). أما التلاميذ فهم في الداخل وهم يسمعون. هؤلاء (ومنهم الإثنا عشر) يؤمنون به ويعينونه في رسالته. أما أولئك فلا يؤمنون به ويضعون الحواجز أمام رسالته.
وسيعود مرقس فيما بعد إلى هذه القسمة، قسمة الناس أمام يسوع. قال يسوع للذين هم حوله مع الإثني عشر: "لكم أعطي سر ملكوت الله. أما الذين هم في الخارج، فيسمعون كل شيء بالأمثال" (4: 11).
لم يلغِ متّى تمييز مرقس بين الذين هم في الداخل والذين هم في الخارج. بل أقحم بين جواب يسوع إلى الكتبة ووصول أهل يسوع، قولاً يبرز القسمة: "من ليس معي فهو ضدّي" (مت 12: 30). ولكنه أغفل مقدمة مر 3: 20- 21 التي طرحت سؤالاً صعباً. واستشفّ لوقا نتائج قد يستخلصها القارىء عن دور مريم، فصحّح سابقَيه. ألغى "ها هم" (امي وإخوتي) من مر 3: 34، فلم يعد يستثني أمه وإخوته من عائلة يسوع الحقيقية. وحوّل عبارة "من يعمل مشيئة الله"، فصارت: "الذين يسمعون كلام الله ويعملون به" (لو 8: 21). ومن أفضل من مريم سمع كلام الله وتجاوب معه؟ ثم إن هذا المقطع ارتبط بمثل الزارع فتبدّل إطاره.
ولكن يبقى خبر مرقس هنا. وهو يطرح سؤالاً صعباً. ولا نستطيع أن نتهرّب من فصل أم يسوع عن إخوته. فالنص واضح: "جاءت أمه وإخوته" (آ 31). غير أن مرقس لا يدين أم يسوع وإخوته، بل يشدّد على ما يقدّمه المسيح للمؤمنين. فتلميذ يسوع يسكن معه ويقاسمه حياته. لن يكون رفيقه وحسب، بل عضواً في عائلته، عائلة أبي يسوع المسيح (مت 50:12).
إن مرقس يعرف أن أم يسوع وإخوته صاروا تلاميذ يسوع. إنه يعرف مكانة إخوة يسوع في كنيسة العنصرة (أع 1: 14؛ 1 كور 9: 5؛ غل 1: 19). وهل جهل مكانة مريم عند الصليب (يو 19: 25)؟ وهو يجبرنا على تصوّر إيمان مريم إيماناً نما وكبر. هي لم تفهم حالاً. بل ستفهم تدريجياً. ولماذا لا نعتبر أنها خافت على ابنها من السلطات الدينية والسياسية، فأرادته أن يعود إلى البيت في الناصرة؟ وحين تسمع كلمة الله وتتمّ مشيئته، ستتّحد في إيمان يشعّ شيئاً فشيئاً. وهكذا ستجد أمومتها بُعداً جديداً بانتظار أن تصير أم الكنيسة.

4- في حياة الكنيسة
أ- الحرب باقية
قال الشياطين ليسوع: "هل جئت لتهلكنا" (1: 24)؟ لقد أتمّ يسوع رسالته، فحارب ضدّ الشيطان خلال حياته العلنية (أع 10: 38: يشفي جميع الذين استولى عليهم إبليس). وجاءت القيامة فكرّست انتصاره (يو 16: 33). غير أن الخصم لن يقهر بشكل نهائي إلا في نهاية الأزمنة. وبعد يسوع، سيتابع تلاميذُه الحرب (لو 22: 36: السيف علامة الحرب التي لم تنتهِ ضد قوى الشرّ) وهو متيّقن أنهم نالوا النصر بواسطة الرب، وأنهم نالوا سلطات أعطاهم إياها. لقد اختار يسم ع الإثني عشر وأرسلهم ليبشّروا وأعطاهم سلطاناً ليطردوا الشياطين (3: 14- 15). وهذا السلطان سيكون أولى العلامات التي ترافق المؤمنين بعد ذهاب يسوع (17:16؛ ق يو 35:13).
ولكن العدوّ لا يبقى مكتوف الأيدي: هو يحاول أن يضع العراقيل إمام الكارزين بالإنجيل. حاول أن يمنع بولس من الذهاب إلى تسالونيكي (1 تس 2: 18: أردنا أن نجيء اليكم فعاقنا الشيطان). وزرع الزؤان في حقل ربّ البيت (مت 13: 39). وانتزع الكلمة المزروعة في قلب البشر المتقلّبين (4: 15). إنه المجرّب (1 تس 3: 5) وسبب الشكوك. وهو يحاول بكل الوسائل أن يفصل عن المسيح أولئك الذين تعلّقوا به بالإيمان.
ب- في رومة
حين دوّن مرقس إنجيله، كانت رومة (الأمبراطورية الرومانية) تضطهد الكنيسة. مات بطرس وبولس. وسعى المضطهدون إلى جعل المسيحيين يجحدون إيمانهم. صارت رومة القوية والمسَيطرة على "كل المسكونة" (لو 2: 1) المملكة العدوة لملكوت الله. هذا ما تتوسّع فيه أسفار الرؤى.
فعلى المسيحيين أن لا يخافوا ولا يضعفوا: يسوع هو الأقوى. إذن، سيكونون هم أقوياء. غير أن بعضاً سيسقطون، سيجحدون. ولكنهم لم يخسروا بعد كل شيء: إن تابوا غُفر لهم هذا التجديف.
وينقسم البشر أمام الضيق. فالإيمان بالمسيح يقسم أعضاء العائلة الواحدة: منهم من يكون مع المسيح، ومنهم من يكون ضدّ المسيح وضدّ المسيحيين (مت 10: 34-36). سيتمزّق التلاميذ في لحمهم ودمهم (لو 2: 35: سيف الأحزان)، ولكن يجب أن لا ييأسوا. بل يتذكّرون أن يسوع نفسه لاقى المقاومة في بلدته نفسها (6: 1- 6) وبين أهله وأقاربه (20:3-21).
والمسيحي الذي ترفضه عائلته، سيجد عائلة أخرى (3: 33-35) يرتبط بها برباطات أعمق من رباط الجسد. وسينال مئة ضعف في هذا العالم (10: 29- 30). لهذا سيكون الاضطهاد مكافأة (10: 30). مكافأة وعد بها المسيح بطرس (يو 21: 18-19). هي المكافأة السميا لأنها توحّدنا بالمسيح.
من خسر عائلة، حصل على عائلة أفضل. من خسر حياته من أجل المسيح ربحها (8: 35). من خسر بيتاً نال أمتن منه. لقد صار بيت بطرس في كفرناحوم "البيت"، بيت يسوع، هذا البيت الذي فصل بين الذين هم في الخارج والذين هم في الداخل. هذا البيت هو رمز الكنيسة التي سيكون بطرس أساسها (مت 16: 18)0 البيت هو تلك الكنيسة التي بناها بطرس في رومة، هي الجماعة المسيحية التي تقاوم قوى الشر والموت، والتي لأجلها كتب مرقس إنجيله.

خاتمة
لا تزال المعركة حاضرة. وهي تتخذ أشكالاً مختلفة: إضطهاد مفتوح هنا. إضطهاد خفي يستعمل كل الوسائل من مال ومضايقة، ووعد ووعيد. والمسيحي يعرف أين هو العدو (1 بط 5: 8) فيقاومه. لن يكون إنتصاره طرداً لشيطان، ولكنه يكون إنتصاراً حقيقياً. وهو يستقي ثقته من الإيمان بالمسيح القائم من الموت. ويجده في الكنيسة عائلته وأهل بيته

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM