الفصل التاسع والثلاثون الحياة الدينية في فلسطين على عتبة المسيحية

الفصل التاسع والثلاثون

الحياة الدينية في فلسطين
على عتبة المسيحية

أ- مسيرة طويلة
عبر هذه المسيرة الطويلة تعرّفنا إلى ولادة شعب العهد ونموّه. فقبل أن تتوضّح بنيته بقيادة موسى، إنطبع بشخصية الآباء وإيمانهم، تأثّر بإبراهيم واسحق ويعقوب. وحوالى سنة 1200، وبعد التخلّص من العبودية، تكوّن في مجموعة أقامت في أرض كنعان مع يشوع والقضاة.
عرفت القبائل والعشائر تدريجياً خبرة التوحيد من أجل حياتها، وفرضت نفسها على المدن الكنعانية. في تلك الحقبة أخذت تتداول تقاليد شفهية تسلّمها العبرانيون من الآباء.
نظّم داود حوالي سنة 1000 مملكة اسرائيل ويهوذا. جعل من عشائر متحالفة أمّة قوية في عصرها، مع أورشليم كعاصمة سياسية ودينية، وبدأت التقاليد الشفهية تتكون و "تتدوّن". روى التقليد اليهوهي خبر الأيام الماضية ليلقي بضوئه على الأيام الحاضرة.
ولم تطل أيام المملكة التي بناها داود. فقد انشقّت بعد موت خلفه سليمان. ثم زالت مملكة اسرائيل سنة 721 ومملكة يهوذا سنة 587. في ذلك الوقت قام الانبياء، فحكموا على أعمال الملوك والشعب وتصرّفاتهم باسم إله العهد.
وتكوّن في منفى بابل بحثٌ ديني عميق، وطريق جديدة وواضحة تفهم الشعب أن الله يريد ديانة القلب، لا الشفاه واللسان. لقد ساعدت العودة إلى يهوذا بعد سنة 538. ساعدت الكهنة والحكماء ومعلّمي الشريعة على تنقية حياة الشعب وآماله، وعلى المحافظة على وحدته. بعد سنة 330، إجتاحت الحضارة اليونانية البلاد فدفعت المؤمنين الى التأكيد على الطابع الفريد لإلههم، لإيمانهم، لشريعتهم وسط الأمم الوثنية، حتى لو كلّفهم ذلك بذل دمائهم.

ب- الحياة الدينية
1- قلب الإيمان
"اسمع يا اسرائيل، الرب إلهنا هو الرب الواحد. فأحبّ الرب إلهك بكل قلبك وكل نفسك وكل قدرتك. ولتكن هذه الكلمات التي أنا آمرك بها اليوم في قلبك. إفرضها على بنيك وكلّمهم بها إذا جلست في بيتك، وإذا مشيت في الطريق، وإذا نمت وإذا قمت..." (تث 6: 4- 7).
فالمؤمن يردد هذا النص كل يوم. هذه هي صلاته وقلب ايمانه. إنه يؤمن أن الله هو وحده خالق السماء والارض. يؤمن أن الله هو سيّد تاريخ الكون. وإذ أراد أن يخلّص البشر اختار له شعباً. عقد عهداً مع هذا الشعب لتتبارك به كل أمم الأرض. وأعطاه شريعة "كلمة الوصايا". وسكن وسط شعبه في الهيكل، وهو المكان الذي اختاره ليقيم فيه اسمه (تث 12: 5).

2- الرجاء المسيحاني
إن الإيمان بإله يسود على التاريخ، ولّد لدى المؤمنين رجاء بيوم يزول فيه الشر والشقاء. فالانتظار المسيحاني يتخفّى وراء "رجاءات" مختلفة ومطبوعة بظروف اجتماعية متنوّعة. بعضهم انتظر قائداً يطرد الرومان ويعيد مملكة داود. وآخرون رغبوا في كاهن يطهر الهيكل، أو في نبي مثل موسى، ورأت فئة اخرى أن الله سيتدخل بنفسه ولا يحتاج إلى وساطة. ورأت إحدى الجماعات أن المسيح يدل على جماعة الأبرار، على بقية اسرائيل.
نحن هنا أمام انتظار شعبي. لهذا، لما أعلنت كرازةُ يوحنا المعمدان تدخّلَ الله الحاسم، حرّكت الجموع. سيلتقي يسوع بهذا الرجاء، سيعيش منه، سيكشف عنه: "لقد اقترب ملكوت الله" (مر 1: 15). ولكن الطريقة التي بها حدّد موقعه في هذا الانتظار، قد جدّد معناه وقسم السامعين.

3- المؤسسات الدينية
بانتظار تحقيق هذا الرجاء في يسوع المسيح، ستعبّر نظم اسرائيل عن ايمان الشعب في حياته اليومية. ونتوقف عند اثنين: الهيكل والشريعة.

أولاً: الهيكل
بعد العودة من المنفى، إتخذ الهيكل (وبالتالي الكهنة) أهمية كبرى. ليس الكهنة اناساً اختاروا الخدمة الدينية في الجماعة لانهم سمعوا نداء. لقد وُلدوا كهنة، والوظيفة تنتقل من الآب إلى الابن. تقوم مهمتهم بأن ينظموا العبادة والذبائح في الهيكل. هم يعيشون من هذا العمل بفضل التقادم والعشور. ستزول المؤسّسة الكهنوتية مع زوال الهيكل سنة 70 ب. م.، وستزول معها الذبائح.
إعتاد اليهود أن يأتوا من كل مكان ليحجّوا إلى الهيكل في الأعياد. ففي عيد الفصح تستقبل اورشليم 120000 من الحجّاج، ساعة كان سكانها 55000، وحفلات الحج هي مناسبة لذبائح عديدة تقدّم مديحاً لله، أو تكفيراً عن خطايا الشعب. وعلى كل يهودي، سواء أقام في فلسطين أم لا، أن يدفع ضريبة الدرهمين (تساوي أجرة عمل يوم واحد) مرة كل سنة. كما عليه أن يدفع العشور عن مداخيله. فإذا جعلنا كل هذا مع ما يدخل من الذبائح، نرى أن الهيكل يمتلك مالاً كثيره يديره الكهنة.

ثانياً: الشريعة
إسرائيل هو شعب الشريعة. والشريعة المكتوبة هي التوراة بالمعنى الحصري أو أسفار موسى الخمسة. وهناك الشريعة الشفهية وهي موضوع شروح وتفاسير متواصلة في حلقات الاتقياء من فريسيّين وكتبة، حول المجمع وفي بيوت التعليم. تُعرض الشريعة على الشعب كمثال حَياة سامِ ومؤات للحياة المشتركة والتضامن والعدالة. وهي تدفعه إلى حبّ القريب، وإلى الاحسان للفقراء. ولهذا اجتذبت عدداً كبيراً من الوثنيّين الذين اشمأزّوا من عالم لا أخلاقي يحيط بهم، فطلبوا حياة أفضل. صاروا من المتّقين (خائفي الله) أو من المرتدّين.
ولكن قد تصبح الشريعة شكليات فارغة أو شريعانية متزمّتة لا تقيم للانسان وزناً. فتجعل جماعة "الأبرار" تنغلق على ذاتها وترفض الآخرين. هذا ما نراه لدى الفريسيّين والاسيانيّين. وقد التقى يسوع خلال حياته بهؤلاء الذين "تعبّدوا" للشريعة وكانوا قاسين على إخوتهم. أما يسوع فعلّم ان السبت (الفريضة الثالثة في الشريعة) هو للانسان وأنه يريد الرحمة قبل كل شيء

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM