الفصل الثامن والثلاثون كتابات أخرى

الفصل الثامن والثلاثون

كتابات أخرى

نتوقّف في هذا الفصل عند قسمين كبيرين: النسخة الأخيرة للبنتاتوكس أو أسفار موسى الخمسِّة. ثم التاريخ الكهنوتي الذي جمع في أيام الفرس وثائق عديدة قبل أن يقدّم لنا لوحة واسعة تبدأ ببداية الكون وتصل بنا إلى نهاية الزمن الفارسي.

أ- البنتاتوكس
نحن هنا أمام قراءة أخيرة للأحداث التي أسّست شعب الله. وُضعت في كتاب واحد، ثم قسمت خمسة كتب ليسهل استعمالها في الليتورجيا. لهذا سُميّت البنتاتوكس (بنتا: خمسة، توكس: درج أو لفيفة) أو أسفار موسى الخمسة (أسفار الشريعة الخمسة).

1- وضع التقاليد في إضمامة واحدة
إمتلك شعب إسرائيل قبل المنفى مجموعات من التقاليد التاريخية والدينية. فالتقليدان اليهوهي والالوهيمي جُمعا بعد سقوط السامرة سنة 721. وفي أيام الملك يوشيا 622، أعلن تث في نشرته الأولى شريعة الدولة، ثم زاد عليه كاتب التاريخ الإشتراعي أموراً عديدة. وخلال المنفى، تكوّن وتوّضح التقليد الكهنوتي الذي انطلق من خبر البدايات إلى وصول الشعب على عتبة أرض الميعاد، فجمع شرائع قديمة حافظ عليها كهنة أورشليم. وحين كلّف عزرا سنة 398 بترتيب شريعة الدولة، زاد على ما وجده شريعة القداسة وشرائع عبادية أخرى عمل بها كهنة الهيكل الثاني، منها: شريعة الذبائح (لا 1- 7)، شريعة الطهارة (لا 11- 16)، شريعة الأعياد (عد 28- 29). وجعل إصلاحات وزيادات في هذه الشرائع لكي تكون المساواة تامة بين العائدين من المنفى وأولئك الذين ظلّوا في البلاد.
وضُمّت هذه المجموعات المختلفة بتأثير عزرا وتمّ إندماجها في وحدة متكاملة سماها اليهود "توره" أي شريعة. وقسموها خمسة كتب. لهذا سمّاها اليونانيون: بنتاتوكس، وأعطوا كل سفر إسماً يتوافق ومعناه: التكوين، الخروج، اللاويين، العدد، التثنية.
إن نشر البنتاتوكس أو الأسفار الخمسة في الحقبة الفارسية هو حدث كبير جداً. إنه "دستور" الشعب اليهودي. هو يميّزه كشعب الله أي شعب مختار منذ العهد بين الله وإبراهيم، شعب محرّر ومنظمّ مع موسى ليكون في العالم شاهداً على وحي الله الحي، شعب حرّكه موسى والأنبياء والكهنة بعده ليسمع كلمة الله الحاضرة دائما في تاريخه.
إلى هذا "الدستور" سيعود الشعب اليهودي باستمرار ليحافظ على وحدته وعلى إيمانه رغم تشتّته وضياع إستقلاله. مكانة البنتاتوكس غير مكانة سائر اللفائف البيبلية. وسيُقرأ دوماً ويفسَّر ويؤوَّن في المجامع حسب ما فعله عزرا (نح 8: 1- 8) يوم قرأ التوراة بشكل علني. تجمّد نصه فما عاد يحمل التغيير. ولكن التفاسير ستعطينا ما يسمى الترجوم أو ترجمة النص ترجمة حرة في اللغة الأرامية.

2- الوجوه الكبرى في البنتاتوكس
حين ضم البنتاتوكس التقاليد المختلفة في كتاب واحد، أبرز بشكل خاص وجه إبراهيم وموسى.

أولاً: إبراهيم
يبدو إبراهيم "أب المؤمنين". صارت حياته كلها مسيرة الإيمان. دعاه الرب فترك بيته دون أن يعرف هدف طريقه (تك 12: 1)، وصل إلى كنعان فآمن بمواعيد الله: أن يكون أباً لشعب كثير كرمل البحر، مع أن لا ولد له (تك 15: 1- 6). أن يمتلك أرض كنعان هو ونسله، حين يقيم فيها كبدوي غريب (تك 15: 7- 18). ومع أنه وامرأته إجتازا عمراً لا يستطيعان فيها أن ينجبا أولاداً، إلأ أنّه ما زال يؤمن بميلاد قريب لإبن له (تك 18: 1- 15).
وحين يُولد إسحق، إبن الموعد، يستعد إبراهيم لكي يقدّمه ذبيحة بناء لأمر الله. ولكن الله يمسك له يده، ويؤسّس مواعيده من جديد على طاعة إيراهيم غير المشروطة (تك 22: 1- 19). وهكذا جُعل "أبو المؤمنين" في أصل الشعب العبراني. ولن يستطيع أبناؤه أن ينتموا إليه إلا إذا قاسموه إيمانه.

ثانياً: موسى
موسى هو وسيط بين الله والشعب. وتظهر هذه الوساطة أولاً في المهمة التي تلقاها من الرب بأن يكون أداة خلاص لشعبه فينتزعه من عبودية مصر (خر 3)، وينجيّه من الجوع والعطش في البرية (خر 15: 24- 17: 6) ليقوده إلى حدود كنعان.
وتظهر هذه الوساطة أيضاً في وظيفته كمشترع: فهو ينقل إلى الشعب شرائع الرب ووصاياه التي هي أساس العهد (الميثاق) (خر 20: 1- 17؛ 20: 22- 24: 9). ولكن موسى هو وسيط بشكل خاص حين يمثّل الشعب أمام الله (خر 19؛ 20: 18- 21؛ 24؛ عد 12: 1- 16؛ تث 23- 31)، أو حين يتشفع إلى الله من أجل الشعب (عد 14: 10- 25؛ خر 32: 7- 14؛ تث 9: 18- 29).
ووظيفة موسى كوسيط أو متشفع دخلت في قلوب المؤمنين على عتبة المسيحية. فقد قال إبن سيراخ إنه كان محبوب الله (سي 45: 1). وقالت الترجمة السبعينية: "إن الرب كلّم موسى وجهاً لوجه كما يكلّم الإنسان صاحبه" (خر 33: 1).

3- الأسفار الخمسة
لكل سفر من الأسفار الخمسة وجهه الخاص. وهو يبرز بطريقته الأحداث التي أسّست شعب الله.

أولا: سفر التكوين
إسمه في العبرية "براشيت" (هي أول كلمة) أي: في الرأس. في البدء.
هو كتاب البدايات. يحدّثنا بتعابير مصوّرة عن ولادة العالم والبشرية (ف 1- 11). ثم من بعد نداء إبراهيم، يقدّم لنا ولادة شعب الله المقبل عبر آبائه (ف 12- 50). وينتهي في مصر حيث وجدت القبائل العبرانية لها ملجأ. ما يشرف على هذا الكتاب هو وجه إبراهيم.

ثانياً: سفر الخروج
إسمه في العبرية "شموت": هذه أسماء بني إسرائيل.
يبدأ بأعلان السخرة التي فرضها المصريون على العبرانيين، ثم تأتي ولادة موسى وتحرير الشعب الذي يحتفل بعيد الفصح (ف 1- 15). وتبدأ مسيرة طويلة بقيادة موسى الذي يوجّه شعبه إلى لقاء الرب في سيناء، وينقل إليه شرائع الرب ووصاياه (ف 16- 40). هذا السفر هو قبل كل شيء الموضع الذي فيه يكتشف الشعب خلاص الرب.

ثالثاً: سفر اللاويين
واسمه أيضاً سفر الأحبار. في العبرية: "يقرا": ودعا الله موسى وكلّمه.
يعود إسم الكتاب إلى قبيلة لاوي التي إليها انتمى الكهنة. وهو مجموعة شرائع دينية توضح شعائر تقديم الذبائح (ف 1- 10)، تؤمّن الطهارة (ف 11- 16) والقداسة (ف 17- 27) في شعب مدعو لكي يلاقي الله القدوس على مذبحه وفي حياته الدنيوية.

رابعاً: سفر العدد
إسمه في العبرية "بمدبر": في البرية كلم الرب موسى.
يبدأ سفر العدد بإحصاء الشعب وتعداده (ف 1- 9). وهو يورد الأحداث المختلفة التي توزّعت مسيرة الشعب في البرية (ف 10- 25). وحين وصل موسى إلى حدود أرض موآب، أعطى تعليماته من أجل إحتلال الأرض واقتسامها (ف 26- 36).

خامساً: سفر التثنية
واسمه أيضاً: تثنية الإشتراع. في العبرية: "إله هدبريم": إليك الكلمات التي قالها موسى.
يتضمّن سلسلة من خطب موسى. قبل الدخول إلى أرض كنعان، حذّر شعبه من نسيان الرب (ف 1- 11، 27- 35). هذه الخطب هي الإطار لمجموعة الوصايا (ف 12- 26) التي تبدو بشكل تكملة يعطيها موسى لشرائع البرية. إن تث هو "الشريعة الثانية". وهو ينتهي بوصية موسى وموته تجاه أرض الموعد (ف 31- 34).
إذن، يتوقّف البنتاتوكس قبل أرض الميعاد. لماذا؟ هناك أسباب: لكي يقنع السلطات الفارسية بأن لا هدف له بأن يحتلّ كنعان مرة ثانية. كان لموسى إسم كبير في زمن عزرا، فتوّقفت الأحداث المؤسّسة عند موته. دلّ المنفى والشتات أن الشعب يستطيع أن يعيش خبرة إيمان إبراهيم وموسى دون وجوده على أرض له.
لم يكتمل البنتاتوكس، بل ظل كتاباً مفتوحاً، من يتمّه؟ المؤمنون في العهد الجديد على خطى يسوع.

ب- التاريخ الكهنوتي
دوّن اللاويون التاريخ الإشتراعي على ضوء سفر التثنية التشديد على أهمية الأرض التي يحتفظ بها الشعب إن كان أميناً لربه، موحَّداً في وجوده. وأراد الكهنة أيضاً أن يدوّنوا تاريخهم، فربطوه ببداية الكون وأوصلوه إلى ما بعد الزمن الفارسي. بدأوا بالنهاية، فقدموا آخر الوثائق، وعادوا إلى الوراء يبرزون وجه أورشليم بهيكلها، وجه داود وسائر الملوك الذين اعتنوا عناية خاصة بالإصلاح الديني.

1- مجموعة الوثائق التاريخية
إن سفري عزرا ونحميا اللذين سيعطيهما المؤرخ الكهنوتي شكلهما النهائي، هما مجموعة وثائق تعود إلى الحقبة الفارسية. نجد فيهما تقارير عن مهمة أوكلت بها السلطات الفارسية نحميا وعزرا. دُوّنت هذه التقارير بصيغة المتكلم المفرد (كنت أنا في قصر شوش، نح 1: 1؛ رج عز 7: 27- 9: 15؛ نح 1- 7؛ 10؛ 12: 27- 13: 31). أو بصيغة الغائب المفرد (إجتمع الشعب وقال لعزرا، نح 8: 1؛ رج عز 7: 1- 10؛ 10؟ نح 8- 9). وزيدت وثائق رسمية مختلفة: لائحة العائدين (عز 2؛ نح 7: 7- 72؛ 12: 1- 26)، إحصاء لسكّان أورشليم والأرياف (نح 11: 3- 36)، مراسلة دبلوماسية (عز 4: 26- 6: 12)، قرارات ملكية (عز 1: 2- 4؛ 7: 11- 26). كل هذه الوثائق الرسمية تتيح لنا أن نتعرّف إلى تشعّب الإدارة الفارسية وإلى تعامل الجماعة اليهودية تجاهها من أجل المحافظة على حقوقها.
رافق هذه الوثائق المختلفة عددٌ من الصلوات (عز 9: 6- 15؛ نح 1: 5- 11) وليتورجيات التوبة (نح 9) واحتفالات الفرح التي تتوزّع عودة الحياة إلى البلاد، وأعمال الشعب ومجهوداته (عز 3؛ 6: 16- 22؛ 12: 27- 43). وهذا المزيج بين الصلوات والوثائق التاريخية يبيّن أن الجماعة وعت أهمية المبادرة فيها لكي تتجاوب ومخطّط الله في شعبه. هيكل أعيد بناؤه، شعائر عبادة كما في الماضي، كتاب شريعة حاضر في المجامع. تلك هي علامات حضور الرب الفاعل في شعبه.

2- عمل "المؤرخ"
نعني بالمؤرخ ذلك الذي دوّن "التاريخ الكهنوتي". بعد أن نتحدّث عن إطار التأليف، نتعرف، إلى آثاره وهي أسفار الأخبار وعزرا ونحميا.

أولاً: إطار التاريخ الكهنوتي
بعد وصول الإسكندر بقليل، إنفصل السامريون إنفصالاً تاماً عن الجماعة اليهودية في أورشليم، وبنوا لهم هيكلاً (يزاحم هيكل أورشليم) على جبل جرزيم. أخذ الخصمان مواقعهما وقدّما البراهين التي تسند موقفهما. تعلّق السامريون بكتب موسى الخمسة (بنتاتوكس أو توره) كما "دوّنها" عزرا الكاتب. في ذلك الوقت، قام رجل من أورشليم وأعاد كتابة كل تاريخ شعبه. أراد أن يبيّن أن هيكل أورشليم هو الهيكل الشرعي الوحيد، لأنه بُني كما أراده داود.
ووزّع عمله في كتابين (هما اليوم أربعة أسفار) هما ثمرة هذه القراءة الدينية الجديدة للتاريخ: كتاب الأخبار (1 أخ، 2 أخ) وكتاب عزرا نحميا (عز، نح). من هو الكاتب؟ نجهل إسمه ولهذا نسميه "المؤرخ". إنه ينتمي إلى أعيان أورشليم، إلى الكهنة الذين يهمّهم بهاء ليتورجية الهيكل.
إستعمل أكثر من عشرين مرجعاً دوّنت قبله. بعضها معروف لأنها جزء من التوراة (كتاب صموئيل، كتاب الملوك). وبعضها الآخر ضاع. حين نقابل بين مراجعه وما تركه لنا، نرى أنه أعاد كتابة المعلومات التي أخذها. بدأ فألغى صفحات كاملة (مثلاً، تاريخ مملكة إسرائيل بعد الإنفصال سنة 933، خطايا داود). وكيّف أخباراً أخرى فجعل داود خالق ليتورجية الهيكل كما تُمارس بعد المنفى. وزاد تفاصيل ملموسة تدلّ على ما يميّز عصره من اتجاهات (1 أخ 22: 2، 19).

ثانياً: مضمون التاريخ الكهنوتي
* سفرا الأخبار
- 1 أخ 1- 9: خبر داود بشكل أنساب، أي أسماء تعود إلى آدم. تبرز قبيلة يهوذا التي خرج منها داود، وقبيلة بنيامين التي في أرضها بُني الهيكل، وقبيلة لاوي الكهنوتية.
- 1 أخ 10- 29: حياة الملك داود وأعماله.
2 أخ 1- 9: حكم سليمان وبناء الهيكل.
2 أخ 1- 36: حياة ملوك يهوذا حتى المنفى سنة 587.
وهكذا قدّم المؤرخ أوسع تاريخ في التوراة كلها، فأتاح للجماعة أن تكتشف جذورها. رأى في الملك داود صورة عن ملك الله، وجعل من هيكل أورشليم علامة حضور الله وحبّه لشعبه. كما أعتبر أن الجماعة الحالية ما زالت تعيش ذات التاريخ المقدّس الذي عاشه الشعب قبل المنفى. ولكنه إذ يستعيد التاريخ السابق، يدعو الشعب إلى الأمانة لشريعة أعطاها الله في الماضي لنعيشها اليوم.
* سفرا عزرا ونحميا
- عز 1- 6: العودة من المنفى وإعادة بناء الهيكل مع زربابل.
- عز 7- 10: عزرا يطهرّ الشعب من النجاسات الخارجية (طرد النساء الغريبات).
- نح 1- 6: إعادة بناء أسوار أورشليم بإدارة نحميا.
- نح 7- 13: أحداث مختلفة حدثت في تلك الحقبة.
يبقى كتاب عزرا ونحميا المرجع الوحيد لكي نتعرّف إلى تاريخ ومشاكل جماعة يهودا بعد العودة من المنفى. إنّه يلقي ضوءاً على الصعوبات الداخلية (نح 3: 33- 4: 17)، على وضع اليهود في بداية التسلّط اليوناني.
وتمسّكت الجماعة الصغيرة الأمينة بما يساعدها على الحياة، ساعة لم يعُد لها إستقلال سياسي: الهيكل، رمز حضور الله (عز 5- 6)، كتاب الشريعة (نح 8- 9). قد تكون الشريعة قاسية مثلاً في منع الزواج من نساء غريبات، ولكنها ينبوع أمانة وفرح. كانت أساس العالم اليهودي ولا تزال، قبل أن ينفحها يسوع بروح جديدة فتتوحّد كلها حول وصية المحبّة

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM