الفصل السابع والثلاثون من عالم النبوءة إلى عالم الرؤى

الفصل السابع والثلاثون

من عالم النبوءة إلى عالم الرؤى

نتوقّف في هذا الفصل عند نصّين يدلاّن على. تيارين عرفتهما التوراة: نص نبوي نقرأه في اشعيا الثالث، وهو يشدّد على روح الله الذي ينزل على النبي، بانتظار أن يطبّقه المسيح على نفسه. ونصّ جلياني (يرتبط بعالم الرؤى) نقرأه في دانيال. إنه يحدّثنا عن ابن الانسان الآتي لخلاص الشعب. سيكون هذا اللقب هو الذي يفضّله يسوع ويجعله خاتمة حياته في الاناجيل الازائية: "سترون ابن الانسان جالساً عن يمين الله القدير، واتياً مع سحاب السماء" (مر 14: 62).

أ- روح الرب عليّ (أش 61: 1- 11)
1- موقع النصّ
نحن هنا في مجموعة "أشعيا الثالث". ينتمي النص إلى نواة المجموعة المكوّنة من 57: 14- 21؛ 60- 62؛ 65: 16- 25؛ 66: 6- 14. يشكّل ف 60 و62 المحور الذي يحيط بالفصل الذي ندرس. إنه الأهم في هذه النصوص.
يصوّر ف 60 و62 الاشعاع الجديد الذي تكوّنه أورشليم وصهيون (التلة التي بني عليها الهيكل الثاني) على الشعوب الذين جاؤوا يحجّون ويحملون تقادمهم. لمذا انقلبت الأوضاع؟ من الذي سيجعل هذا "الانقلاب" ممكناً؟ نجد الجواب في ف 61.

2- تصميم النصّ
نجد هنا ثلاثة أقسام:
أولاً: آ 1- 4
يتكلّم شخص عن نفسه فيصوّر المهمة التي نالها من الرب (في الماضي، آ 1) من أجل اناس يعيشون (اليوم) في الشقاء والضيق (آ 1- 3 أ). ويأمل لهم بوضع جديد (آ 3 ب- 4).
ثانياً: آ 5- 9
يتوجّه هذا الشخص إلى سامعيه فيقدّم لهم المستقبل الذي يهيّأ لهم (آ 5- 7، 9). هذا هو عمل الله الامين دوماً على عهده (81).
ثالثاً: آ 10- 11
نعود إلى صيغة المتكلم. من يتكلم؟ الشخص أو السامعون الذين يعبّرون عن فرحهم أمام البرنامج الذي عُرض عليهم.

3- تفسير النصّ
هناك عدد من الصور والتلميحات لا بدّ من تحديد معناها وبُعدها.

أولاً: المهمة (آ 1- 4)
يصف المتكلّم مهمته بألفاظ مأخوذة من "أشعيا الثاني": "روح الرب عليّ" (41: 1) هو رسول "خبر مفرح" (40: 9؛ 41: 27؛ 52: 7). "يعلن التحرير للأسرى" (42: 17؛ 49: 9)، وهو يريد أن "يعزّي" (40: 1).
إذن، يبدو أنه يتابع عمل سابقه الذي حاول في نهاية المنفى أن يعيد الأمل إلى المنفيّين الذين رأوا انتصارات كورش. تألّف سامعوه من أشخاص "بائسين" (49: 13). ولكنه يسمّيهم "المحزونين" (57: 18؛ 66: 10) وأناساً "انسحقت قلوبهم وتواضعت أرواحهم" (أش 57: 15). رغم العودة من المنفى ورغم إعادة بناء الهيكل، فالناس ما عادوا يصدّقون شيئاً. فمواعيد أشعيا الثاني لم تتحقّق، وأورشليم والهيكل لم يستعيدا مجدهما السابق.
فلا بدّ من تحرير هؤلاء الناس مرة ثانية. لا من المنفى بل من اليأس والقنوط. حقّق كورش "كمسيح الرب" (45: 1) التحرير الأول. وقد كلّف كاتب ف 61 بأن يقوم بالتحرير الثاني: "جعل الرب منّي مسيحه" (آ 1). عليه أن "يعلن سنة رضى الرب" أي السنة التي فيها يستعيد العبيد حريتهم بحسب شرائع اسرائيل (لا 25: 10؛ حز 17: 46؛ إر 34: 8- 16).
وبعد صورة التحرير تأتي صورة الّلباس. فالمحزونون يتركون لباس الحداد ويلبسون ثياب العيد: هذه علامة تحوّل داخلي وحماس يتجدّد من أجل مشروع يقومون به (آ 3 أ).
وهنا كصورة أخيرة: صورة الغرس. دلّ القلع (اقتلاع الأشجار) في التوراة على الكارثة، على المنفى. ويدلّ الغرس على العودة من المنفى والتشبّت في أرض وُلدنا فيها (ع 91: 13- 15؛ إر 24: 6).
وأخيراً يتوضّح ما يُنتظر من سامعين نالوا العزاء: أن يعيدوا بناء البلاد، أن يرفعوا الانقاض (آ 4). هذا الوعد الذي تحدّث عنه أشعيا الثاني (44: 26- 28) لم يتحقّق بعد كله. فعلى هؤلاء الناس الذين تحرّروا من يأسهم أن يحقّقوه.

ثانياً: نظرة إلى المستقبل (آ 5- 9)
تتوقف النظرة الى المستقبل أولا عند الامكانيات الاقتصادية التي كانت ناقصة في ذلك الوقت (62: 8- 9؛ 65: 21- 22؛ حج 1: 6- 11؛ 2: 15- 19)، ولكنها ستتأمّن بفضل هبات الأمم وعملهم (آ 5- 6؛ 60: 5- 6؛ 10، 16). وبعد أن يتحرّر السامعون من ضغط الأمور
المادّية، يستطيعون أن يتكرّسوا كلياً لخدمة الرب الليتورجية في الهيكل (آ 6 أ).
رأى أشعيا الثاني اسرائيل يعبر وسط الأمم شعباً يشهد لحضور الرب الفاعل في التاريخ (43: 10، 12: 44؛ 8). أما هنا فيقوم بوظيفة الشهادة بواسطة الهيكل وبتشّتت اليهود وسط الشعوب الأخرى (آ 9). والعار المضاعف الذي كان عقاب المنفى (40: 2) لن يهدّد العائدين الذين خافوا منه (آ 7). فهم سينالون (آ 8 أ؛ 62: 11) الجزاء الذي وعد به أشعيا الثاني (40: 10؛ 49: 4): تأكدوا أن الرب لم يتركهم، بل ظلّ دوماً أميناً لعهده (آ 8 ب؛ 55: 3).

ثالثاً: جواب السامعين (آ 10- 11)
نفهم هاتين الآيتين كجواب السامعين للبرنامج المستقبلي الذي عُرض عليهم. إستعادوا بعض الصور (لباس الفرح، الغرس) ليصوّروا الحماس الذي يثيره "خبر مفرح" (بشرى) سمعوه من قِبل الرب.

4- الوضع التاريخي
من هو الذي يتكلّم؟ شخص يقدّم نفسه على أنه النبي. لقد نال روح النبوءة. غير أننا نلاحظ أن تعليمه يرتبط بالهيكل والليتورجيا، وأن وظيفته الكهنوتية مهمّة في نظره (آ 6، 10 ب). قد نسميه "نبي العبادة" على مثال حجاي. إذا كان حقاً قد "كرّس" (في آ 1: "جعل الرب مني مسيحه" حيث كلمة "مسيح" تعني الممسوح والمكرّس بمسحة الزيت)، فيكون هذا النبي عظيم الكهنة (قبل المنفى، كان الملك وحده يُمسح. بعد المنفى غاب الملك، فحلّ محلّه الكاهن الأعظم ومُنح المسحة. رج زك 4: 14 ويشوع الكاهن الأعظم).
فإذا كان رئيس الجماعة، نفهم أنه يستطيع ان يعلن سنة تحرير العبيد، كما نفهم أهمية الوظيفة الكهنوتية في تعليمه. ولكن، في فصل تكثر فيه العبارات المصوّرة، نكون أكثر فطنة إن احتفظنا بمدلوله رمزي للفظة "مسيح" وعبارة "سنة رضى الرب" (إن شريعة تحرير العبيد كل خمسين سنة، حسب لا 25: 10، تعود إلى ما بعد المنفى ولم تطبّق أبداً).
صوّر ف 60 و62 الاشعاع الجديد الذي ستعرفه أورشليم وصهيون، وكان هدف هذه الرؤية تشجيع جماعة العائدين الذين خابت آمالهم أمام الهيكل الصغير، وقلقوا من المستقبل الاقتصادي، وحُرموا من أملهم باستقلال وطني. فمن يؤمّن لصهيون هذا الاشعاع الجديد؟ لن ننتظر هذا التبدّل من عمل تاريخي يرتبط بكورش "المسيح" أو بعطف السلطات الفارسية. فعلى الجماعة نفسها أن تأخذ مصيرها بيدها، وتتجاوز وضاعتها ويأسها، فتبدأ العمل بإعادة بناء البلاد (آ 4). حين يعمل الانسان من اجل ازدهار صهيون فهو يعيد إليها إشعاعها، ويساعدها على التجاوب مع دعوتها كشعب كهنوتي (خر 19: 6) وكشاهد للرب وسط الأمم.
هذا هو البرنامج الذي وافق عليه السامعون وتحمّسوا له.
لقد طبّق يسوع على نفسه (لو 4: 16- 21) نصق أش 61: 1- 2. فالبشرى (أو: الانجيل) التي يحملها يسوع تقوم بأن يدعو البشر (حتى الذين يعيشون على هامش المجتمع) ليأخذوا مصيرهم بيدهم ليعملوا في بناء ملكوت الله. غير أن جواب سامعيه كان الغضب والرفض: "جاؤوا به إلى حافة الجبل الذي كانت مدينتهم مبنيّة عليه ليلقوه منها".

ب- إبن الانسان (دا 7)
يدخلنا دا 7 في القسم الثاني من الكتاب. هو نصّ جلياني يكشف آخر انتصار لله ولمؤمنيه في نهاية التاريخ. أما إطار دا 7 فهو اضطهاد انطيوخس الرابع ابيفانيوس.

1- تصميم النصّ ومضمونه
نقرأ النصّ قراءة أولى. يروي لنا دانيال رؤية رآها في أيام الملك بلشصّر (آ 1).
* في آ 2 تبدأ الرؤية. رأى دانيال أربعة حيوانات طالعة من البحر. الأول هو أسد بجناحي نسر. والثاني هو دبّ. والثالث هو نمر. أما الحيوان الرابع فسرّي ورهيب بقرونه العشرة ثم بقرن حادي عشر كله صلف وكبرياء.
* في آ 9 ظهر شيخ تحيط به آلاف الكائنات وتخدمه. جلس على كرسي القضاء فباد الحيوان الرابع وصار وقوداً للنار. وزال سلطان الحيوانات الثلاثة.
* في آ 13 وصل كائن مثل ابن انسان. نال الملك الدائم على كل الشعوب.
* في آ 15 إستعلم دانيال عما رآه فقيل الله: الحيوانات الأربعة هي أربعة ملوك. وقديسو العلاء سيأخذون الملك منهم. أراد دانيال أن يعرف شيئاً آخر عن الحيوان الرابع. فرأى في رؤية جديدة، القرن الحادي عشر (في الحيوان الرابع) يحارب "القديسين"، إلى ان يحكم لهم الشيخ الطاعن في السن (آ 15- 18).
* وعرف دانيال أن القرن يمثل ملكاً يتفوّق بشرّه على سائر الملوك. سيجدّف على الله، ويتسلّط على "القديسين" ثلاث سنوات ونصف السنة، ثم يدمر ويباد (آ 19- 27).
فبعد مقدمة (آ 1)، نجد رؤية دانيال (آ 2- 14) وتفسير الرؤية (آ 15- 27) تفسيراً أول (آ 16- 18). ثم نقرأ رواية لاحقة (آ 19- 22) وتفسيراً لاحقاً (آ 23- 27). واخيراً الخاتمة (آ 28)..
نفهم من خلال الصور أن سلطانا يحلّ محل سلطان آخر. كانت الممالك في أيدي ملوك سافكي دماء، فأعطيت (بعد دينونة الله) إلى جماعة "القديسين" (آ 18) بعد أن تحمّلوا محنة الاضطهاد.

2- التعليم الذي نستخلصه
نقرأ النصّ قراءة ثانية ونقابله مع ف 8- 12 وحلم ف 2. فالحيوانات تمثّل ممالك متعاقبة: بابل، ماداي، فارس، يونان، والقرن الحادي عشر هو أنطيوخس ابيفانيوس. أما المحنة فهي اضطهاد سنة 169- 164. كان التفسير في آ 15- 27. ولكن دخلت فيه رؤية ثانية (آ 16- 18) مع تفسيرها (191- 22). دوّن النص قبل اضطهاد انطيوخس، وكمّل سنة 164 ساعة تدوين السفر بصورة نهائية. فزاد الكاتب في ذاك الوقت ما يتعلّق بأنطيوخس والاضطهاد الديني.
يمثّل الشيخُ الله نفسه. فهو بدينونته يعيد السلطان إلى شعبه، إلى "القدّيسين". ستنتهي ممالك هذا العالم وستحلّ محلّها خليقة متجدّدة حيث يكون القديسون "هيكل الرب".
وتبقى صورة "ابن الانسان" غامضة. نراه في الرؤية كأنه شخص فرد (آ 13). ولكن المُلك يُعطى في التفسير (آ 18، 22، 27) إلى "قديسي العلي". يجب أن نعرف أن الرؤية تقدّم تمثلاً رمزياً "في السماء" (أي: في عالم الله) لأحداث تحصل على الارض. فالملائكة الذين هم في خدمة الله في العلى، يمثلّون الشعوب التي على الأرض. كما أن الحيوانات التي في العلى تمثّل الممالك التي على الأرض. وصورة ابن الانسان قد تدلّ على الملاك ميخائيل (10: 21؛ 12: 1) ممثّل القديسين.
من أين جاءت كل هذه الصور؟ جاءت صور الملائكة من عالم بابل وفارس. صور البحر والحيوانات هي جزء من الأخبار البابلية على أصول العالم. إستفاد دانيال من كل هذا وأدخله في نظرته. غير أنه جعله في خدمة الله الواحد، سيّد التاريخ والشعوب.

3- مصير دا 7 في الجماعات التي تقبّلته
سنة 164 ق. م.، فهم القرّاء التعليم الذي قدّمه دانيال: واستقبلوا نجاح الثورة المكابية كعلامة مسبقة لتدخّل الله الحاسم.
وظل المؤمنون يقرأون الكتاب ويؤوّنونه بالنظر إلى الظروف التاريخية الجديدة. في زمن يسوع المسيح، رمَزَ الحيوان الرابع إلى الامبراطورية الرومانية. هذا ما نجده عند فلافيوس يوسيفوس، في أسفار الرؤيا المنحولة، وعند المسيحيين في رؤ 13: 1 ي.
وحملت صورة "ابن الانسان" تفاسير عديدة بسبب الوجهة السرية التي فيها. صارت بين اليهود إحدى الصور عن المسيح المنتظر. ووجد يسوع في آ 13- 14 الألفاظ التي تعبّر عن رجائه في ساعة الآلام (مر 13: 26؛ 14: 62). وسيكتشف المسيحيون في يسوع "ابن الانسان" الذي يتمّم عمل الآب ويدشن في مجده ملكوت الله.
أجل، كان دا 7 مهماً جداً للمسيحيين. فقد وجدوا فيه اللغة التي بها عبّروا عن إيمانهم بالمسيح مرسل الله، وعن رجائهم بعمله الخلاصي

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM