الفصل السابع والثلاثون:خلاص أورشليم

 

الفصل السابع والثلاثون

خلاص أورشليم

خاف حزقيّا وفعل كما فعل موظَّفوه، فمزَّق ثيابه وأرسل وفدًا إلى إشعيا يطلب الصلاة. طمأن النبيّ الملك (37: 1-9أ). وجاء سنحاريب مرَّة ثانية يهدِّد أورشليم (9ب-13) فلجأ حزقيّا إلى الصلاة (آ14-20). هنا تدخَّل إشعيا وذكَّر الملك بقدرة الربّ المحرِّرة (آ21-35). وهكذا كانت نهاية سنحاريب وخلاص العاصمة (آ36-38).

37: 1-9أ وسمع الملك

ما الإجراءات التي اتَّخذها الملك؟ اختلف عن آحاز والده، الذي راح يتفقَّد الحصون وبرك المياه تحسُّبًا لحصار يمكن أن يطول. لجأ إلى التوبة والصلاة في بيت الربّ. لا معونة له إلاَّ في الله. وصوت الله هو إشعيا. لهذا أرسل الملك أعوانه إلى النبيّ وهم في لباس المسوح، وعرض عليه الوضع الخطير الذي تعيشه المملكة. كلُّهم خائفون، لا النبيّ، لأنَّه ليس وحده، بل وضع يده بيد الربّ، وفمه يوصل كلام الله إلى الشعب.

ثلاثة ألفاظ تصوِّر الحالة: ضيق (ص ر ه)، تأديب (ت و ك ح ه) وإهانة (ن أ ص ة). هناك "الضرر" الذي يدلُّ على الشدَّة والضيق وسوء الحال. وهذا ما يدفع الإنسان إلى الصراخ والصراخ الشديد (الصرَّة في العربيَّة). وجاءت الصورة القاسية: الجنين الذي استعدَّ للخروج من حشا أمِّه ولا يقدر على الخروج (رج هو 13: 13). أجل، الوضع ميؤوس منه في أورشليم.

"لعلَّ الربَّ يسمع" (آ4). إذا كان لا يسمع، فليس بإله، بل صنم. فالربّ يسمع ويتدخَّل في الوقت المناسب، فهل نرفع أيدينا إليه أم إلى غيره؟ وفي أيِّ حال، موفد ملك أشور لم يعيِّرنا نحن، بل "عيَّر الإله الحيّ". ألا يدافع الربُّ عن نفسه؟ أينتظر أن ندافع عنه؟ وما يلفت النظر هو أنَّ حزقيّا قال: "الربُّ إلهك". هل هو إله إشعيا وحده؟ أم إله الملك أيضًا وإله الشعب كلِّه؟ هل يتهرَّب حزقيّا كما سبقه آحاز الذي لم يرغب في أن يجرِّب الربّ؟ ربَّما أراد حزقيّا أن يشدِّد على العلاقة الحميمة بين الربِّ ونبيِّه.

هل بقي الوقتُ الكثير لكي يتأخَّر الربّ ولا يتدخَّل؟ ماذا بقي من يهوذا؟ "خيمة في كرم، كوخ في مزرعة" (1: 8). بعض حبّات من العنب: ألا يريد الربُّ أن يحفظ البقيَّة الباقية؟ بلى. وماذا ينتظر إشعيا لكي يرفع الصلاة إلى الربّ ويتشفَّع على مثال صموئيل؟ وتكلَّم النبيّ ودعا الملك إلى عدم الخوف: فالأشوريّ يسمع خبرًا فيعود إلى بلاده وهناك يموت (آ7).

ظنَّ حزقيّا أنَّ الخلاص أتى من مصر، لأنَّ ملك أشور ابتعد عن لخيش مركز القيادة، وهاجم لبنة (تلّ الصافي ). يبدو أنَّ الملك المصريّ ترهاقة أراد أن يساعد أورشليم، ولكنَّه تراجع سريعًا بعد أن خسر الكثير من مركباته وفرسانه، على ما تقول الحوليّات الأشوريَّة. مسكين هذا الملك الذي ما زال يتطلَّع إلى العون البشريّ. ولكنَّه خُدع!

37: 9ب-13 لا يخدعك إلهك

لا، ليس الله هو من يخدع حزقيّا، بل الحاشية التي تحيط به وتتطلَّع دومًا إلى خلاص يأتي من الجنوب، من مصر. ما إن حلم حزقيّا، حتّى صحا من حلمه لدى وصول رسل الملك الأشوريّ.

وكيف خدع الربُّ ملكَه؟! حين أقنعه بأنَّ أورشليم لن تسقط. ذاك كلام أشور. وعاد يذكر عجز الآلهة الذين لم يستطيعوا أن يدافعوا عن مدن اتَّكلت عليهم! جوزان الواقعة على الخابور في العراق، حرّان القريبة من الموصل، رصف القريبة من تدمر،...

37: 14-20 صلاة حزقيّا

في آ1، جاءت ردَّة الفعل عند حزقيّا واضحة: لبس المسح... أمّا هنا فاكتفى بقراءة الرسالة (أو: الرسائل) وحملها إلى أمام الربّ. ثمَّ أطلق دعاء إلى يهوه صباؤوت في عبارات تقليديَّة، ليكفِّر عن تجاديف ملك أشور. "الجالس فوق الكروبيم"، فوق الملائكة. فمن يقدر أن يصل إليه؟ "الإله وحدك". لا إله غيرك. إله لا في يهوذا وأورشليم فقط، بل "في كلِّ ممالك الأرض". إذًا، هو إله مصر وأشور وكلِّ ما يمكن أن يُدعى من البلدان. والصفة الرابعة: "صنعتَ السماوات والأرض". لا قسمًا من الأرض، ولا الأرض فقط، بل الكون كلَّه: السماوات والأرض. ذاك هو فعل الإيمان الذي يفتتح الكتاب المقدَّس: "في البدء خلق الله السماوات والأرض" (تك 1: 1). لم نعد هنا أمام إله وطنيّ، أمام إله شعب من الشعوب، بل إله جميع الشعوب[RK2] . كلُّهم يخضعون له، وسوف نرى كيف ينسحب سنحاريب دون أن تسقط أمامه أورشليم!

بعد هذه العبارات المدائحيَّة، يدعو الملك الربَّ في أربعة أفعال، إلى السماع في فعلين (أمل أذنك، اسمع)، وإلى النظر في فعلين أيضًا (افتح عينيك، انظر). ثمَّ يعود فعل السماع: اسمع كلام سنحاريب. فكأنِّي برسول يحمل خبرًا إلى ملكه. هكذا بدا حزقيّا يلفت انتباه الله ويذكِّره بقدرته وأفعاله السابقة.

ويقابل الملك بين الآلهة والإله الواحد: الآلهة دُمِّرت، أُحرقت بالنار، لأنَّها خشب وحجر. لهذا رفض الله أن يُصنَع له تمثال أو صورة (خر 20: 4). فهو الإله الخفيّ، المستتر، الذي لا يقع تحت الحواسّ. ما نراه من الله أفعاله. فماذا يستطيع الملوك أن يفعلوا تجاهه؟ فهو القدير القدير. وكيف يعرف الجميع "أنَّك أنت الربّ وحدك"؟ حين تخلِّصنا. تلك هي العلامة التي لا تخطئ. وهكذا كما شهدتَ لقدرتك في عبور البحر، تشهد لقدرتك الآن.

37: 21-35 هكذا قال الربّ

وتدخَّل إشعيا في جواب على صلاة حزقيّا، فجاء القول النبويّ على سنحاريب كما يلي: المقدِّمة: استهزأت أورشليم بتهديداتك (آ22-23). عبارتان متوازيتان: ابنة صهيون، ابنة أورشليم. هي المدينة المقدَّسة. هي "البتول" (ب ت و ل ة). أو: العذراء التي تكرَّست لتكون خطيبة الربّ، في خطِّ ما نعرف من كلام هوشع حول اتِّحاد الربّ بشعبه، كما العريس بعروسه.

تهديدات سنحاريب. وُجِّهت على الله، ولكن، ما قيمتها؟ (آ24-25). أعلن أنَّه وصل إلى جبل لبنان، قطع أرزه وسروه. نتذكَّر أنَّ الجبل يدلُّ على موطن الآلهة، والأرز عنوان عظمته. ثمَّ أعلن أنَّه دخل مصر، ولكنَّ هذا ليس بصحيح. "المياه" المذكورة هنا هي "المياه الغريبة" كما قال مخطوط قمران، التي لا يصل إليها أحد. ثمَّ إنَّ "النيل" الذي هو "إله" يمنح الحياة لمصر. تحدَّاه ملك أشور، كما قال، وداسه بقدميه. جاء اللفظ في صيغة الجمع: "ي أ ر ي".

ظنَّ سنحاريب أنَّه سيِّد نفسه، فإذا هو آلة في يد الربّ يحرِّكها كما يشاء (آ26-28). فالمشروع مشروع الله والملوك ينفِّذونه. ثمَّ إنَّ الربَّ يعرف كلَّ تحرُّكات سنحاريب: جلوسك، خروجك، دخولك (آ28). الخاتمة: سيأتيك العقاب بسبب وقاحتك (آ29): يعامَل كما يعامَل الثور الذي يقوده سيِّده إلى العمل (خزامة في أنفك)، أو الفرس مع الشكيمة في شفتيه. وهكذا انتهى القول النبويّ ضدّ سنحاريب بالتهديد: "أردّك في الطريق الذي جئت به". أنت لا ترجع لأنَّك لست سيِّد نفسك، بل أنا أعيدك إلى بلادك.

بعد القول على سنحاريب، تأتي العلامة (آ30). الآية (هـ أ و ت). ولكن ننتظر إلى السنة الثالثة. بسبب وجود المجتاح والفوضى التي يترك وراءه. ويعود الخبر في منظار شبه مسيحانيّ مع ألفاظ مثل "نجاة" (ف ل ي ط ت، أي ما أفلت من الموت)، "الباقية" (ن ش ا ر ه)، "بقيَّة" (ش أ ر ي ت) وأخيرًا "ف ل ي ط ه". وينتهي هذا الكلام مع عبارة اعتدنا عليها (9: 6): "غيرة ربِّ الجنود تصنع هذا". هو الربُّ يغار على شعبه ويهتمُّ بما تبقّى منه (آ32).

والقول الأخير على ملك سنحاريب الذي ينكر أن يكون هذا المجتاح حاصر أورشليم (آ33-34). هو لن يدخل المدينة: أَكرامةً لملكها؟ كلا. أَكرامةً لشعبها؟ كلاّ. والسبب؟ "لأجلي" (ل م ع ن ي). كرامة الربّ ومجده على المحك. ثمَّ كرامة داود (مز 89: 29). لا، لن يدخل سنحاريب أورشليم ولن يدمِّرها. هل دفع حزقيّا جزية باهظة؟ ربَّما.

37: 36-38 انسحاب الجيش الأشوريّ

تحدَّث هيرودوت (2: 141) عن هجمة الجرذان ممّا يدلُّ على الوباء الذي ترك الجثث على الأرض. أمّا النصُّ الكتابيّ فذكر "ملاك الربّ" (تك 19: 13) الذي ضرب جيش أشور، كما سبق له وضرب أبكار مصر (خر 12: 23). وكان حديث عن ثورة على الملك أجبرته على العودة إلى بلاده. وسوف يموت في هيكل "نسروخ". فإنَّ إلهه لم يقدر أن يحميه. نشير هنا إلى أنَّ سنحاريب توفِّي سنة 681 أي عشرين سنة بعد أحداث أورشليم (701 ق.م.). بالنسبة إلى الكتاب المقدَّس، لا صعوبة في ضغط الوقت . المهمّ أنَّ حياة هذا الملك هي في يد الله، وكذلك موته.


 

[RK2]فكرة لاهوتية هامة جداً لأنها تظهر فكرة الشمولية في إشعيا.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM