الفصل الثامن والثلاثون: مرض حزقيّا وشفاؤه

الفصل الثامن والثلاثون

مرض حزقيّا وشفاؤه

منذ ف 36، نقرأ التاريخ كمثل يوضح نتيجة النبوءة الإشعيائيَّة. دخلت أورشليم في مناخ الثقة بالله، فنجت من الكارثة التي حلَّت بالمدن العديدة في الشرق، فبدت كأنَّ سنحاريب لم يحاصرها. وما عاشته العاصمة ها هو الملك يعيشه: اتِّكال تامّ على الربِّ في بساطة مؤمنة، تشبه بساطة داود. مرض حزقيّا وشُفي فصار رمزًا لأورشليم التي "شفاها" الربُّ كما شفى ملكها. ورد هذا الفصل في قسمين: مرض حزقيّا (38: 1-8). جاء الكلام في إطار نثريّ. أمّا صلاة حزقيّا (آ10-20) فجاءت شعرًا مع مقدِّمة (آ9) تعدُّنا لسماع صلاة ذاك المريض، وخاتمة تبرز الدواء الذي أمر به إشعيا لشفاء الملك (آ21-22).

38: 1-8 مرض حزقيّا

نقرأ خبر مرض حزقيّا في سفر الملوك الثاني (20: 1-11) مطوَّلاً، وفي سفر أخبار الأيّام الثاني (32: 24) موجزًا ودون الإشارة إلى تدخل إشعيا. فأخبار الأيّام تبرز الوجه الكهنوتيّ، أمّا التاريخ الاشتراعيّ (الذي يتضمَّن يش، قض، صم، مل) فيبرز دور الأنبياء في حمل الكلمة الفاعلة في الشعب كما في الأفراد بدءًا بالملوك. نتذكَّر دور صموئيل في حياة شاول ومسح داود ملكًا، ودور ناتان في مسيرة داود، وإيليّا مع أخاب...

"في تلك الأيّام". لا تحديد في الزمن. المهمّ في الخبر لا توقيت محدَّد، بل ربط مرض الملك وشفائه بنجاة المدينة (آ6). إن هو مات ماتت المدينة، وإن هو عاد إلى الربّ، عادت المدينة. وهكذا كان تدخُّل إشعيا تنبيهًا من أجل ترتيب "البيت". لهذا كانت الصلاة (آ2) والبكاء (آ3) وترتيب البيت يقابل ترتيب أورشليم. وذاك ما حصل في عودة إلى الاتِّكال على الربّ.

"يا ربّ، اذكر..." (آ3). إذا كان الموت عاقبةَ الخطيئة، فالبرّ يجد مجازاته في حياة طويلة، مديدة. وهكذا بدأ حزقيّا يعرض مسيرته أمام الربّ: الأمانة (ا م ت) ردًّا على أمانة الله تجاه سلالة داود. والأمانة هي الثبات في الاتِّكال على الله. وإنَّ "ا م ت" تعني أيضًا الحقّ والعيش في الصدق وبعيدًا عن الكذب. وهذا ما توضحه العبارة التالية: قلب سليم. فالقلب هو مركز النوايا والعمل، وإذا كان سليمًا (ش ل م) لا غشَّ فيه، رضي الله عنه. وأخيرًا، فعل الملك "هـ ط و ب"، الحسن في عيني الربّ، وهكذا تميَّز عن الملوك العديدين في إسرائيل وفي يهوذا. قال سفر الملوك الثاني مثلاً عن يوآحاز، ملك إسرائيل إنَّه "فعل الشرَّ في نظر الربِّ" (13: 2). وعن آحاز: "لم يكن صالحًا في نظر الربِّ إلهه" (16: 2). ولمّا وصل إلى الكلام عن حزقيّا، قال: "وعمل القويم في نظر الربِّ كجدِّه داود" (18: 3). وبيَّن ماذا فعل، فقيل فيه: "لم يكن له مثيل في جميع ملوك يهوذا، لا من قبل ولا من بعد" (آ5).

شابه تهديد حزقيّا هنا ما نقرأ في سفر الرؤيا من كلام إلى "ملاك كنيسة أفسس": "تركت محبَّتك الأولى... فتُبْ وعُدْ إلى أعمالك الماضية" (رؤ 2: 4-5). وملك أورشليم بدأ يتردَّد بين الاتِّكال على الربّ والاتِّكال على مصر، ومثله أورشليم. فهو لا يستطيع أن يفعل مثل الملك أخاب وشعب إسرائيل. قال لهم إيليّا: "تعرجون بين الفرقتين" (1 مل 18: 21). يومًا تمضون إلى الله، ويومًا تمضون إلى البعل. فالثقة تكون كاملة بالربّ أو لا تكون، ولا مجال للتردُّد مع الربّ .

هنا تدخَّل إشعيا بأمرٍ من الربّ (آ4). ذكر "إله داود". إنَّه الإله الأمين على مواعيده (2 صم 7: 16). وأعلن أنَّه سمع صلاته ورأى دموعه. هنا يضيف سفر الملوك الثاني (20: 5): "وها أنا أشفيك، وبعد غدٍ ستصعد إلى هيكل الربّ". أمّا الخبر في إشعيا فترك هذا الوعد مفتوحًا: "ما هي العلامة أنّي أصعد إلى بيت الربّ؟"

وَعدان أُعطيا لحزقيّا: امتداد حياته خمس عشرة سنة، نجاه المدينة وحمايتها. وعدان يترافقان مع فعلين: أنقذ (ا ص ي ل ك). أنقذك أنت. ثمَّ "أحامي" عن هذه المدينة. وأعطى الربُّ علامة منظورة، قريبة، فدلَّ على خلاص يأتي بعد وقت من الزمن: "أرجع ظلّ الدرجات". هنا إمكانيّتان: إمّا نحن أمام ساعة شمسيَّة، وإمّا نحن أمام سلَّم يصل إلى العلِّيَّة. ليس المهمّ التفصيل، بل الآية التي تدفع المؤمن إلى تثبيت الثقة بالله . إذا كان يقدر أن يأمر الشمس فتتراجع، ألا يقدر أن يَشفي مريضًا أو يخلِّص مدينة من يد ملك؟ نشير هنا إلى ما نقرأ في سفر الملوك الثاني. طلب النبيّ من حزقيّا أن يختار: أن يتقدَّم الظلّ أم يرجع عشر درجات (20: 9). وكان جواب الملك: "دعْه يرجع عشر درجات". وصلّى إشعيا إلى الربِّ "فتراجع الظلّ إلى الوراء عشر درجات على الدرج الذي بناه الملك آحاز" (آ11).

38: 9-22 صلاة حزقيّا وشفاؤه

"كتابة" (م ك ت ب). في مز 16؛ 56... نقرأ "م ك ت م". هو "مزمور" لا نقرأه في سفر الملوك الثاني. ولكنَّه يشبه عددًا من المزامير (6؛ 30) خلال احتفال في هيكل أورشليم، يعرض المريض ضيقه أمام الربّ (آ10-15): "أنا قلت". ذاك هو القسم الأوَّل. وفي القسم الثاني (آ16-20)، يشكر المريضُ الله على إحسانه.

"أنا قلت" (آ10). "أمضي". فلا عودة من "الشيول" أو "مثوى الأموات". فهناك لا حياة، أو شبه حياة. الجميع سواء كانوا أبرارًا أو أشرارًا يقيمون معًا مثل "الخيالات" بعد أن نساهم الله. وهم لا يستطيعون بعدُ أن يسبِّحوه ويمدحوه. نتذكَّر أنَّ العهد القديم لم يعرف الحياة السعيدة في الآخرة : فالجزاء يكون في هذه الدنيا: الصحة والعمر الطويل إذا كنتَ بارًّا، والمرض والموت الباكر إذا كنتَ شرّيرًا.

"في عزِّ أيّامي". في أفضل أيّام حياتي، أيّامي الهادئة. يُحرَم المؤمن من اثنين: لن يرى الربّ، لن ينظر إنسانًا. يصبح وحيدًا، معزولاً، منغلقًا على نفسه. هناك يتوقَّف كلُّ شيء. لا حركة، لا كلام. كلُّ شيء يتوقَّف (ح د ل).

"مسكني" (آ11). أو: داري (د و ر ي). أو حياتي. وتأتي الصور: كما الخيمة تقتلعها الريح، هكذا حياة المريض. وتحدَّث بولس الرسول عن "خيمتنا الأرضيَّة" التي تتهدَّم (2 كو 5: 1). ولكنَّه أضاف حالاً: "لنا في السماء بيت أبديّ بناه الله غير مصنوع بالأيدي". حياتنا على الأرض مهدَّدة. ذاك ما شعر به حزقيّا خصوصًا في هذا المرض الذي ألمَّ به. والصورة الثانية، الخيط الذي يقطعه الحائك الذي يعمل على النول. وكم تدوم حياة الإنسان؟ يومًا بنهاره وليله. كذا قال المزمور: "في الصباح ينبت ويزهر، وعند المساء يذبل وييبس" (90: 6). فحياة الإنسان تشبه عشب الحقل.

"صرختُ". في العبريَّة: ش و ي ت ي: تسوَّيتُ مع الأرض، غابت عنّي الحياة، صار كلُّ شيء سواء عندي. ولماذا وصل إلى هذه الحالة؟ لأنَّ الربَّ "كالأسد هشَّم عظامي" (آ13). ويكرِّر ما قاله من قبل: "تفنيني"، ولا تحتاج إلى أكثر من يوم بنهاره وليله. ومن هو الإنسان؟ سنونة، حمامة. الأولى تزقزق. وهناك قراءة ثاينة: سنونة، دوري (عصفور). لأنَّ لفظ "سنونة" في العبريّ هو "س و س" الذي يعني الفرس أيضًا. والحمامة تهدل، تنتحب (أ ه ج ه). ولكن من يسمع؟ يصرخ المريض مع المزمور: "رفعتُ عينيَّ... وأنا أنتظر المعونة". وها هي لا تأتي. "اكفلني". أريدك كفيلاً لي. "عربونا: ع ر ب ن ي"، كن عرّابي، "عرِّبني" كما تقول لغة العرب، أي أعطني العربون. هكذا كان صراخ أيّوب: "روحي تلفت، أيّامي انطفأت، القبور لي... كن ضامني" (أي 17: 1، 3).

"بماذا أتكلَّم" (آ15). هي آية فيها ينتقل المصلّي من حالة إلى حالة، حيث يشبه أيّوب الذي نادى الربّ وناداه وانتظر الجواب: "قلتُ كلَّ شيء، ليت القدير يسمعني!" (أي 31: 35). وحزقيّا ينتظر جوابًا من الله والمرارة في داخله: "ماذا أقول لكي يجيبني؟ فهو الذي فعل لي".

مع آ16 يتبدَّل الوضع من اليأس والمرارة إلى الرجاء. "أ د و ن ا ي. ع ل ي هـ م": السيِّد (يحنو) عليهم. على أحبّائه. هو ذاك الطير الذي ينام على بيضه فيخرج منه الحياة. "ي ح ي و". هم يحيون بعد أن وصلوا إلى حافَّة الموت. كانت آ16أ قولاً نبويًّا، عاد بعدها المصلّي الذي فهم أنَّ الربَّ يعيد إليه الحياة مع فعلين: شفى (ح ل م، أعاد العافية) وأحيا. ثلاث مرّات ورد كلام عن "الحياة". فالربُّ لا يريد الموت لأحبّائه، بل أن يحيوا معه.

في آ17 نعرف أنَّ الربَّ غفر للملك خطاياه. "طرحها وراء ظهره"، ما عاد يهتمُّ بها. لا مجال بعدُ للمرارة بل للسلام والخلاص. ونلاحظ فعل "تعلَّق" (ح ش ق). المؤمن يتعلَّق بالربِّ ويطلب منه المعونة. أمّا الآن، فالربُّ تعلَّق بالمؤمن ومنعه من السقوط. لهذا قالت الترجمات: "حفظت حياتي من الهاوية". وجاءت المقابلة بين عالم الموت وعالم الحياة. في عالم الموت، ترد ثلاثة أفعال مع النفي. على الأرض، نحمد الله، نهلِّل له (أو: نسبِّحه)، نترجّاه. هذا النشاط الذي يربطنا بالله، يغيب كلَّ الغياب في الشيول أو مثوى الأموات. صار الشيول شخصًا يفعل أو لا يفعل وكذلك الموت. والفئة الثالثة هم الذين ينزلون إلى البئر (ن و ز ل ي. ب و ر). وتأتي كلمة "ا م ت" التي تعني "الأمانة" و"الحقّ" (آ18). في آ19، يتكرَّر اللفظ: الحيّ، الحيّ. هناك حياة الجسد. ولكن هناك حياة الروح والتعلُّق بالربِّ الإله. تلك هي الحياة الحقيقيَّة. في هذا قال لنا الربُّ يسوع: "لا تخافوا من الذين يقتلون الجسد... بل خافوا بالحريِّ من الذي يقدر أن يهلك النفس والجسد كليهما في جهنَّم" (مت 10: 28). ما يهمُّ يسوع الحياة الثانية، الحقيقيَّة. لهذا نبَّه سفر الرؤيا كنيسة سميرنا "من الموت الثاني" (رؤ 2: 11). أجل، الحيّ والحيّ وحده يحمد الله.

هذا ما يفعل حزقيّا اليوم، لأنَّه حيّ. فإن مات، من يمدح الله بعد، والمزمور يقول: "الأموات لا يهلِّلون للربّ، ولا الهابطون إلى أرض السكوت" (115: 17). ويطلق المؤمن صرخته إلى الربّ: ماذا تستفيد من موتي؟ أنت تخسر! "ففي الموت لا ذكر لك، وفي القبر من يحمدك" (مز 6: 6).  ذاك هو وضع حزقيّا. ثمَّ إذا متُّ أنا، من يخبر أبنائي بأمانتك، بحقِّك (ا م ت). أما هو دور الأب بأن يعلِّم أولاده؟ "أيُّ نفع لك من دمي، من موتي، من هبوطي إلى الهاوية"؟ (مز 30: 10).

الربُّ خلَّص عبده (تخليصي، لا خلاصي )، فوجب عليه أن يمضي إلى الهيكل فيشاركه الجميع في المديح والغناء: أغنياتي نغنّي. لا في وقت محدَّد، بل كلَّ أيّام حياتنا. نلاحظ هذا الانتقال من المتكلِّم المفرد (أغنياتي أنا) إلى المتكلِّم الجمع (حياتنا، نحن). نحن هنا في إطار ليتورجيّ. الملك يغنّي فينتقل غناؤه إلى الجماعة. حياته امتدَّت ومعها امتدَّت حياة الجماعة، خصوصًا حين نجت أورشليم من الأشوريّين.

وتمَّ شفاء الملك بدواء بسيط نصح به إشعيا. فلم يبقَ للملك سوى الصعود "إلى بيت الربّ". في 2 مل 20: 8، نقرأ الكلام عن الشفاء قبل طلب العلامة. فالإطار مختلف بين إشعيا وسفر الملوك الثاني. هنا، جاءت العلامة تدعو الملك لكي يجعل ثقته بأنَّه يُشفى. على مثال ما فعل جدعون قبل الذهاب إلى الحرب: طلب علامة (سقوط الندى، وعدم سقوطه على الجزَّة) لكي يعرف إن كان الله يخلِّص بني إسرائيل على يده (قض 6: 36). أمّا في إشعيا، فالصعود إلى الهيكل جاء بعد صلاة حزقيّا، والكلام عن حقِّ الله وأمانته.

بدا إشعيا في ف 38 حاملاً كلام الربّ: دوره مهمٌّ في تفسير مشيئة الله. أعطى علامة للملك فكفل له أنَّ الله يحقِّق وعده له. وحزقيّا بدا رجل الصلاة التي فيها استعاد ثقته بالربّ، فجاء شفاؤه مقدِّمة لشفاء أورشليم ولخلاصها من الموت على يد العدوِّ الأشوريّ.


Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM