الفصل السادس والعشرون: بين مدينة ومدينة، بين طريق وطريق

الفصل السادس والعشرون

بين مدينة ومدينة، بين طريق وطريق

قسمان في هذا الفصل. الأوَّل (26: 1-6) يصف مدينتين. واحدة يسود فيها العدل والسلام، والثانية مدينة الكبرياء والطمع. واحدة هي قويَّة، والأخرى ذاهبة إلى الخراب. هذا يعني طريقًا وطريقًا: طريق الأبرار وطريق الأشرار (آ7-21).

26: 1-6 المدينتان

هو نشيد (ش ي ر) جديد في "أرض يهوذا"، يقع في امتداد ما سبق. في 25: 6-9 نشيد الثقة. وفي 26: 1-6، نشيد الشكر تنشده المدينة القويَّة: هي أورشليم التي تقابل مدينة موآب، المدينةَ المرتفعة التي تُحطّ وتلتصق بالأرض. مدينة أورشليم لا تخاف، لهذا تبقى أبوابها مفتوحة: لا يدخلها العدوّ، بل الشعب البارُّ الأمين. وبما أنَّها أمينة، منحها الله الأمان تجاه المدينة القويَّة بقوَّة البشر (2 صم 20: 15)، مثل لخيش مثلاً التي كان لها سورٌ أوَّل وسورٌ ثانٍ، كما بيَّنت الحفريّات، فأورشليم سورُها الربُّ وفيه تجعل ثقتها، لأنَّه الصخر الذي لا تقوى عليه الدهور والآباد (ع و ل م ي م).

عندئذٍ يدعو النبيّ شعب أورشليم لكي يجدِّد هذه الثقة ليستحقَّ الحماية المنشودة. هو الملجأ لشعبه، والدمار للمدينة التي تحسب نفسها في الأعالي. ذاك كان الوضع في عبور البحر: كان الليل ظلمة من جهة، ونورًا من الجهة الأخرى، بحسب ترجمة سيماك. والبحر كان طريقًا على اليابسة للعبرانيّين وخلَّع دواليب مركبات المصريّين.

مدينة موآب كانت مترفِّعة فحطَّها الله، فبدت مثل فارسٍ سقط عن صهوة جواده فعضَّ التراب. ومن يدوس هذه المدينة؟ البؤساء، المساكين، أي شعب أورشليم.

أورشليم مدينة مفتوحة. هكذا ستكون أورشليم العتيدة، كما نقرأ في 60: 11: "وتنفتح أبوابك دائمًا، نهارًا وليلاً لا تُغلَق". واستعاد سفر الرؤيا هذه الصورة وأضاف: "لم يَعُدْ ليل فيها" (رؤ 22: 25). بما أنَّها مضاءة بنور الله، فلا حاجة إلى إغلاق أبوابها عند حلول الظلام.

26: 7-21 الطريقان

تبدو آ7-14 بشكل مزمور من مزامير الحكمة، فتقدِّم تأمُّلاً في الطريقين، كما في المزمور الأوَّل. أوَّلاً، طريق "الصدِّيق"، البارّ مع التوازيات المعهودة: طريق (أ ر ح) وسبيل (م ع ج ل) أو مسار. ثمَّ الاستقامة والطريق الصادقة. بعد ذلك، النفس والروح، ممّا يدلُّ على حياة باطنيَّة عميقة. وأخيرًا، في الليل ووقت الصمت، تجاه في داخلي والعودة إلى الذات. والنتيجة: تحقيق أحكام الله لكي يتعلَّم سكّان المسكونة. فالتدخُّلات الإلهيَّة تتوخّى تربية الأمم، كما سبق لها وربَّت شعب يهوذا وإسرائيل. وهكذا ينتهي الشطر الأوَّل (آ7-9) من هذا المزمور الطويل.

في آ10-11، نقرأ الشطر الثاني الذي يصف الشرّير أو المنافق. فمع أنَّه نال رحمة، وتحنَّنَ (ي ح ن) الله عليه فمنحه نعمَه، إلاَّ أنَّه لم يتعلَّم شيئًا، فبدا مختلفًا عن سكَّان المسكونة الذين تعلَّموا. كشف الله له جلاله، ولكنَّه لبث يصنع الشرّ. هو لا يرى ولا يريد أن يرى. وإن حصل فرأى، فلخزيه وللعقاب الذي ينتظره: الخزي حين يرى ما ينال الصدّيق من الربّ، والعقاب حين يحسُّ بالنار التي قد تنقِّيه فترجعه إلى الله.

الشطر الثالث (آ12-13) يتحدَّث عن مصير البارّ: السلام أو الحياة ببركة الله. كلُّ ما نعمل هو عطيَّة من الله، بل هو يعمله فينا ولنا. فلماذا نهتمُّ بعد ذلك إذا كنّا في الله "نحيا ونتحرَّك ونوجَد" (أع 17: 28). استوى (ب ع ل و ن و: تصرَّفوا مثل بعل، مثل السيِّد) علينا سادة (أ د ن ي م). هي إشارة إلى ملوك غرباء (عار شعبه، 25: 8)، ولكنَّهم سوف يزولون. فليسوا بخالدين لا هم ولا آلهتهم، كما يزول اسمُهم فلا يعود يذكرهم أحد. أمّا اسم الله فيبقى إلى الأبد.

مصير الأبرار مع الربّ. أمّا الأشرار، فلا قيامة ولا ذكر لهم. فينتظرهم الدمار والعقاب (آ14) عاقبهم الربّ فما عادوا يظهرون على الأرض. هم "أشباح" (ر ف ا ي م).

بعد هذه الاعتبارات، عاد النبيّ إلى تفسير التاريخ. فتذكَّر أوَّلاً الأيّام المجيدة، حين كان الله يحمي شعبه ويمنحه النموَّ والازدهار (آ15). والآن، هو الضيق يسيطر مع أنَّنا طلبناك وعرفنا أنَّ كلَّ هذا لتأديبنا (آ16). وبالرغم من كلِّ ما تحمَّل الشعب، فهو لم يحصد الخلاص، بل الريح. وفي أيِّ حال، سكّان يهوذا هم هم وما ازدادوا عددًا. والقلَّة القليلة تقيم في أورشليم. ذاك هو الوضع بعد العودة من المنفى البابليّ سنة 538 ق.م.

ونقرأ آ19 الذي استعاد شطرُه الأوَّل آ14: "مائتوك يحيون، جثَّتي تقوم". قالت آ14: لا أمل للأشرار بالقيامة؛ في آ19، يعرف الشعب أنَّ المستقبل مفتوح على الرجاء بالرغم من المحن التي يمرُّ فيها. والقيامة المنتظرة تُستقبل بفرح: استيقظوا ورنِّموا يا ساكني التراب. هم يُولَدون من "دنيا الأشباح". تتذكَّر النبوءة هنا ما رأى حزقيال (ف 37)، وتتطلَّع إلى قيامة رمزيَّة، فالأمَّة سوف تستعيد حرِّيَّتها.

ويأتي الكلام عن "الطلّ" (ط ل)، عن الندى، ندى الأنوار. فالندى والنور هما رمز الحياة والسلطة التي تعطي الحياة. نقرأ في مز 133: 3: "ومثل ندى حرمون النازل على جبل صهيون، هناك أوصى الربُّ بالبركة والحياة إلى الأبد". وفي مز 36: 10: "ينبوع الحياة عندك، وبنورك نعاين النور". وأنشد هوشع بفم الربّ: "أكون لبني إسرائيل كالندى، فيزهرون كالسوسن ويمدّون جذورهم كلبنان" (هو 14: 6). أجل، من الموت تطلع الحياة، وبعد الظلمة يأتي النور.

وموتاك أو "مائتوك" هم الذين ماتوا من أجل الربّ، فما تخلَّوا عنه. ماتوا لأجله ويقومون بقدرته. على مثال ما نقرأ في سفر دانيال: "كثيرون من الراقدين في تراب الأرض يستيقظون" (دا 12: 2). هكذا قرأ آباء الكنيسة هذه الآية على ضوء العهد الجديد، ولاسيَّما الرسالة الأولى إلى أهل كورنتوس (ف 15).

إنَّ آ20-21 مع 27: 1 تأتي في امتداد 25: 8 فتعلن عقاب أعداء الربّ الذي ينتهي بمقتل الوحشين العظيمين لوياثان والتنّين. هو عقاب على الأرض وعلى البحر، فيبقى على شعب الله أن يختبئ حتّى يمضي غضبُ الله.

"امضِ" (ل ك ). هي دعوة إلى الشعب لكي يترك "الساحة" ويدخل إلى بيته الذي هو أورشليم بهيكلها. "أغلقْ مصراعك" أو مصراعَيْ بابك. في خبر الطوفان، أغلق الله نفسه باب السفينة (تك 7: 16). فنوح بارّ وبالتالي لا يصيبه الغضب الإلهيّ. وفي عيد الفصح، لا يخرج العبرانيّون من بيوتهم في الليل (خر 12: 22-23). فالمهلك يمرُّ.

"يهوه خارج". هو يحاسب سكّان الأرض (ف ق د) كما قرأنا في 24: 1-6. والأرض "تكشف دماءها". كانوا يخفون القتلى الذين يمكن أن يطلبوا الانتقام. كما نتذكَّر هنا ما فعل قايين فقال له الربّ: "دم أخيك يصرخ إليَّ من الأرض" (تك 4: 10). لا مجال بعد اليوم لإخفاء الدماء حين يعبر الربُّ فيكشف القلوب والضمائر.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM