الفصل الخامس والعشرون:نشيد الشكر لله في وليمة مسيحانيَّة

الفصل الخامس والعشرون

نشيد الشكر لله في وليمة مسيحانيَّة

دينونة عادلة أزالت قوَّة المتكبِّرين وقدَّمت ملجأ للمساكين. فلا يبقى سوى الشكر ونشيد الانتصار. عندئذٍ يدعو الله البشريَّة كلَّها إلى وليمته، ولا يَنسى موآب نفسها بعد أن اتَّضعت تحت يد القدير: جاء النصّ في قسمين كبيرين: فعل الشكر (25: 1-5)، الوليمة من أجل جميع الشعوب (آ6-12). أمّا القسم الأوَّل فتوزَّع على مقدِّمة (آ1) وامتداحًا للربِّ على المدينة المدمَّرة (آ2-3) وامتداحًا له على حماية البائس. والقسم الثاني ينشد الربّ الذي يولم وليمة للشعوب (آ6-9) ويسحق موآب المتكبِّرة بحيث تستطيع هي أيضًا أن تشارك في العيد (آ10-12).

25: 1-5 نشيد الشكر

يبدأ النشيد بالنداء إلى الربّ. وذلك كما في المزامير. يهوه. الربّ القدير. إلهي. هي علاقة خاصَّة بين المؤمن وربِّه. لم يقل الربُّ الإله، وكأنَّه ذلك البعيد، بل جعل ضمير المتكلِّم المفرد. فناداه كما ينادي أباه وأمَّه. "أرفعك" (ا ر و م م ك). أنت الرفيع المتعالي، وتصرُّفك يختلف عن تصرُّف البشر. الملك يجلس على عرش عالٍ، أمّا أنت فعلى عرشٍ عالٍ رفيع، بحيث يصبح الملوك موطئَ قدميك. "أحمد اسمك". أي أحمدك أنت، واسمُك هو حضورك وعملك، والسبب هنا، كما في مزامير المديح، يبدأ بالأداة "ك ي" لأنَّ، ويأتي فعل "صنع" (ع ش ه). صنع الربُّ أربعة أمور: العجيبة. العمل الذي نعجب الله لأنَّه فوق مقدور الإنسان. ثمَّ "مقاصد" أو "مشاريع" اعتبرت بعيدة (م ر ح وق) فصارت معك قريبة ونحن نراها بعيوننا. والأمر الثالث: أمانة (أ م و ن ه). فأنت الإله الأمين، الثابت وتعمل اليوم ما عملت في الماضي. نجَّيتَ الشعب في مسيرة الخروج، وتنجِّيه في موكب العودة من السبي البابليّ. وأخيرًا، الله هو "أ م ن". يعطي الأمان والهدوء والسلام.

فالمؤمنون يحتاجون ذلك في قلب الدمار الذي تعرفه المدينة (آ2-3) وفي قلب الظلم الذي يصيب المساكين. هو كلام على "مدينة" (ع ي ر) تدمَّر دمارًا تامًّا. تصبح رجمة (ج ل) ولا أمل في إعادة بنائها. هذه المدينة هي حصينة. ومع ذلك تضحي "ردمًا" (م ف ل ه): نتفًا تُرمى أرضًا. لا فائدة منها لبناء جدار. أخيرًا هي "قصر الغرباء" (ز ر ي م). أو "قصر الأشرار إذا حلَّت الدال محلّ الراء (ز د ي م) بحسب اليونانيّ asebôn. قيل هذا الكلام عن أورشليم (32: 13-14) مع الألفاظ عينها، مع تشديد على دمار مدينة محصَّنة وقصر حصين داخل القلعة. يمكن أن تكون أورشليم حيث أقامت الحامية الغريبة بعد احتلالها، وأن تكون السامرة بعد أن احتلَّها سرجون الأشوريّ. ويبدو أنَّ لفظ "ز ر ي م" ينطبق بشكل خاصّ على البابليّين في عملهم ضدَّ أورشليم (إر 51: 51؛ حز 7: 21؛ مرا 5: 2) وضدَّ صور (حز 28: 7-10). نشير هنا إلى أنَّ الفرس دمَّروا بابل في أيّام أحشويروش سنة 485، وعزم الإسكندر المقدونيّ أن يعيد بناءها سنة 331، ولكنَّه توفِّي قبل أن يحقِّق مقصده، سنة 323، فلبثت هذه العاصمة العامرة مدينة صغيرة، قبل أن تسقط تحت ضربات الفراتيّين Parthes

في آ2، كان سبب آخر لتعظيم الله (لأنَّك جعلت...). وفي آ3 جاء التعظيم للربِّ من عند شعب قويّ، هو الشعب البابليّ، وعرفت المخافةَ المدينةُ التي ظلمَت الأمم العديدة. وهي بابل أيضًا. أجل، حين قُهرت بابل، قدَّمت المجد للربّ، شأنها شأن يهوذا.

ولماذا فعل الربُّ ما فعل ببابل القويَّة؟ لأنَّه يحامي عن الوضعاء (آ4)، الأذلاّء (د ل)، المحتاجين. وترد صورتان: الربُّ هو ملجأ البائس في العاصفة. الربُّ هو الظلّ الذي يقي المسكين من الحرِّ. ذُكر هنا "الحائط" للكلام عن سور ضعيف، سور أورشليم. فهل يحميها من هجمة "العتاة"؟ بل الربُّ هو الذي يحمي مدينته، لا أسوارها مهما ارتفعت. العاصفة تأتي من الغرب، ضمنيًّا مصر. والحرّ يأتي من الشرق، ضمنيًّا أشور أو بابل. إذ يُذكر الغيم أو السحاب، نفهم ما فعله الربُّ لشعبه في الصحراء (خر 13: 21: عمود سحاب): جعل لهم السحاب ظلاًّ يقيهم حرَّ النهار. الغرباء (ز ر ي م) هم هنا، والعتاة (ع ر ي ص ي م) معهم. وقد يكون الغرباء هم العتاة. الضجيج انخفض، والغناء ناله العناء فذُلّ وصمت. وهكذا أذلَّ الله "القويّ" (بابل)، وأمَّن الحماية للضعيف (أورشليم .

25: 6-9 وليمة للشعوب

هي وليمة كتلك التي أعدَّتها الحكمة في أم 9: 2-5. فذبيحة السلامة تتمُّ في أيّام العيد (خر 24: 11). والعيد يكون على هذا الجبل، جبل أورشليم (آ7). ومن يدعو إليه؟ ربّ الجنود، الربّ القدير (كما في اليونانيَّة). ويدعو "جميع الشعوب"، لا شعبًا واحدًا (2: 2-3). وهذه الوليمة الكونيَّة تفتتح عهدًا جديدًا (55: 1-2) يجد كماله في وليمة الملك كما نقرأها في الإنجيل الأوَّل (مت 22: 1-14).

ترد عبارة "على هذا الجبل" ثلاث مرّات (آ6، 7، 10). على هذا الجبل يولم. وعن هذا الجبل يُزيل "الحجاب" الذي يغطّي الوجوه بحيث لا ترى ولا تفهم (29: 10-12). كما يمكن أن يكون هذا الحجاب علامة الحزن والحداد، كما نقرأ في آ8. ولا يكتفي الربُّ بأن يكون ناظرًا ولا يعمل شيئًا، لا يجعل يده في جيبه (مز 74: 11)، بل يحلُّها فتستقرُّ على الجبل وتفعل: بُلعَ الموت (زال سريعًا) فما بقي له من وجود. مُسحَت الدموع عن كلِّ الشعوب، فلم يعُدْ موضع للبكاء. نُزع العار عن الشعب فاستطاع أن يرفع رأسه وينشد. وكلُّ هذا لأنَّ الربَّ تكلَّم. لا اتِّكال على قوانا، بل على كلمة الله.

"ويُقال في ذلك اليوم" (آ19). هي بداية نشيد الشكر، كما في 24: 6، مع عبارة مشابهة، كما في 12: 1. ونحن لا ننسى أنَّ الهتاف للملك الجديد يترافق مع الذبائح والولائم (1 صم 11: 15؛ 1 مل 25: 1). "ها هو إلهنا". هكذا كانوا يهتفون لله ملكًا (مز 93: 1؛ 97: 1). في هذه الوليمة تتكرَّر كلمة الرجاء والانتظار، وتنطلق صرخة البهجة والفرح، بسبب الخلاص الذي نالوه.

25: 10-12 موآب المتكبِّرة

عاش شعب يهوذا الوضاعة، فنال الخلاص بعد أن دعاه الله إلى وليمته. فلماذا لا تتبع موآب المتكبِّرة جارتها؟ أما ترى "يد الربِّ" وقدرته على الجبل المقدَّس؟ فماذا تنتظر؟ وبما أنَّها تأخَّرت، فالربُّ سوف يفعل. يحوِّلها إلى "دمن ودمان"، أي إلى زبل (م د م ن ه). هذا اللفظ يقابل اسم مدينة في موآب: مدمين (إر 48: 2). تمدُّ موآب يدها فتدلُّ على التحرُّكات السياسيَّة، ولكن دون طائل. فتشبه من يسبح ضدَّ التيّار، وفي النهاية تغرق.

"م ب ص ر": حصن. هذا ما قرأنا عن المدينة الحصينة في آ2. "م ش ج ب" هي المدينة المرتفعة (26: 5). التي لا يطالها العدوّ، كلُّ هذه المناعة تسقط. ثلاثة أفعال يقوم بها الربّ: أخفض ما كان عاليًا فاستطاع الجميع أن يصعد إليه. ثمَّ: حطَّ، أي أنزل، أهبط، أذلَّ. وأخيرًا، ألصق بالتراب. أين كانت موآب وأين صارت؟ صُوَرٌ نقرأها في 26: 5. تلك هي فلسفة إشعيا: لا مجال للكبرياء والترفُّع. من جهة يقول مز 10: 8: "عيناه تراقبان الضعيف". ومن جهة أخرى، نقرأ في مز 66: 7: "عيناه تراقبان الأمم، فلا يتشامخ المتمرِّدون".


Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM