الفصل السابع والعشرون:الربُّ وكرمته

الفصل السابع والعشرون

الربُّ وكرمته

بعد أن يدمِّر الربّ العدوِّين الكبيرين لشعبه، يعود إلى كرمته فيدعوها إلى التوبة ويعدها بالمصالحة. فالرجوع إلى الربّ أمرٌ ممكن، لأنَّ الربَّ هو إله الغفران وإن أمرَّ الشعب في محنةٍ تنقِّيه من زغله وأدناسه. في ذلك اليوم (27: 1) يتدخَّل الله، وفي ذلك اليوم (آ2-5) نتأمَّل الربَّ وكرمته. وفي المستقبل (آ6-9) يمرُّ يعقوب في المنفى قبل الغفران. وإن ضُربت المدينة (آ10-11) ففي ذلك اليوم (آ12-13) يعود المنفيّون من الشمال والجنوب، من أشور ومن مصر، ويسجدون كلُّهم للربّ "في الجبل المقدَّس، في أورشليم".

27: 1 في ذلك اليوم

"يفتقد"، يعاقب الربّ. مع ف 27 تنتهي دورة العقوبات في ف 24-27 (رؤيا إشعيا)، وهي 24: 1-6، 16-23؛ 26: 20-21؛ 27: 1. في هذا النصِّ الأخير يُدمَّر الوحشان: لاويثان والتنّين، واللذان يرمزان إلى المياه الجارفة والفوضى والشواش. ارتبط هذان الوحشان بالبحر (51: 9-10)، ورُبطا قبل عمليَّة الخلق وتنظيم الكون. في العهد القديم نرى الله ينتصر على قوى الشواش هذه، على لاويثان (مز 74: 14) على التنّين (51: 9؛ أي 26: 13). لاويثان هو الملتوي. وتنّين البحر يبدو مثل حيَّة كبيرة في عا 9: 3.

هذه الرموز ترتبط بالواقع التاريخيّ. لاويثان يقابل التمساح رمز مصر، مثل التنّين في 51: 9. كما نتذكَّر الوحوش في سفر دانيال (ف 7). يرى النبيّ الوضع الحاليّ كأنَّه الشواش القريب من العدم، ونهاية العالم تبدو بشكل انتصار الله على هذا الشواش، ممّا يدعو إلى خليقة جديدة.

27: 2-5 في ذلك اليوم

"غنّوا، أنشدوا" الكرمة المشتهاة، الحلوة. هذا النشيد يتجاوب مع نشيد المدينة القويَّة (26: 1-6): الحماية التي يمنحها الربّ. ثمَّ السور والسلام. ونقابل هذا المقطع مع 5: 1-7. في 27: 2-5، الربُّ يسقي كرمته "في كلِّ لحظة" (آ3) ولا يمنع عنها المطر وحسناتِه كما في 5: 6. هو يحميها ويمنع عنها كلَّ ما يؤذيها (آ3). أمّا في 5: 5، فيفتح فيها ثغرة بحيث تُصبح مداسة. في 27: 4 يقتلع الربُّ الشوك والحسك، وفي 5: 6 يتركهما ينبتان. والمفتاح في هذه المقابلة، العبارة التالية: "ليس لي غيظ" (27: 4). لم أعد غاضبًا على كرمتي. أمّا في 5: 5، فأعلن الربُّ عقابه بشكل احتفاليّ. منذ الآن لن يعاقب الربُّ الشعب كلَّه بسبب خياناته للحقِّ والعدل (5: 7) ولكنَّه يتدخَّل بقوَّة (الهجوم، الحرق، 27: 4) ضدَّ الخطأة في الجماعة (الشوك والحسك). أمّا الذي يتقبَّل حماية الله من أعداء الخارج والداخل، ويطلب السلام معه، فيعرف خيرات الخلاص.

"أنا حارسها" (آ3). ثمَّ يقول: "أنا أحرسها. أصونها (ا ص ر ن ه)، أصرُّها، أجعلها كالصرَّة في حزامي فلا يطالها أحد. وفي آ5، يرد السلام مرَّتين: سلام مع الله، أي نحن نسالم الله بعد أن نكون عاديناه. في آ4، الشوك هو "ش م ي ر" اللفظ القريب من السامرة (ش م ر و ن). وفي آ5، السلام (ش ل و م) اللفظ القريب من "ي ر و ش ل م" (أورشليم)

27: 6-9 في الأيّام الآتية، في المستقبل

يعقوب هو أبو القبائل الاثنتي عشرة. وربَّما يدلُّ هنا على مملكة إسرائيل فقط. قطعت المملكة ودمِّرت السامرة، ولكن بقيت الجذور، وسوف يأتي الزهر والغلَّة... وهكذا تبدو السامرة شجرة مثمرة بعد أن تركت أوثانها ونالت الغفران. قيلت شروط الخلاص والسلام (آ4-5)، وها هي تنطلق من جديد، ناسية ما وراءها من المآسي (آ7-11).

هل ضرب الربُّ "يعقوب" كما ضرب "ضاربيه"، أي الأشوريّين؟ هذا لا يمكن أن يكون، والله لا يعاقب شعبه كما يعاقب الأمم الوثنيَّة. لا شكَّ في أنَّه طرد أهل السامرة "في يوم" طلعت فيه ريح الشرق. مثل هذه الريح تحمل معها الكارثة والوجع. فالريح الشرقيَّة حملت معها الجراد على مصر (خر 10: 13). وهذا ما حصل للسامرة. ولكنَّ الريح الشرقيَّة تتحوَّل بيد الربِّ على الأعداء ضررًا وعلى شعبه خيرًا. أتت الريح الشرقيَّة، فانشقَّ الماء وصار البحر يابسة (خر 14: 21). ولكن عند إقبال الصباح، عاد البحر كما كان (آ27).

غير أنَّ تلك الريح فعلت يومًا وتوقَّفت. دلَّت على غضب الله. ولكنَّ غضب الله لا يدوم أكثر من يوم. أمّا رحمته فإلى الأبد. فإن كان بولس الرسول قال لأهل أفسس أن لا تغيب الشمس على غضبهم (أف 4: 26)، أما يكون الله كذلك بعد أن طُلب منّا أن نقتدي به كالأبناء الأحبّاء؟ (آف 5: 1).

"يكفَّر ذنب يعقوب". يُمحى، يُغفر. وفي هذا الغفران، يترك أصنامه وشعائر عباداته ليعبد الإله الواحد، بحسب الوصيَّة السينائيَّة: "لا تصنع لك تمثالاً منحوتًا... لا تسجد له..." (خر 20: 4-5). وذُكرت هنا مرَّة أخرى "أشيرات" أو الأوتاد المكرَّسة، و"مسلاّت" التي ترمز إلى عبادة الشمس، فتبعد الإنسان عن عبادة الله الواحد (17: 8).

27: 10-11 المدينة الحصينة

كانت كذلك. أمّا اليوم فهي أشبه بقرية. لم تأتِ إليها الوحوش (مثل بابل، ف 13)، ولكنَّها أصبحت مقفرة ومتروكة للمرعى. هكذا صارت السامرة بعد مرور الأشوريّين. لا أشجار مثمرة، بل يابسة تصلح لأن تكون بعض الحطب توقده النساء. والسبب: شعب بلا فهم. لم يتبيَّن طريق الربّ. هذا الكلام الذي قيل في السامرة يمكن أن يُقال في كلِّ مدينة، ولهذا فهو تنبيه لأورشليم التي سيصيبها سنة 587-586 ما أصاب السامرة سنة 722-721.

من ضربه؟ الربُّ الذي صنعه. وكيف يدمِّر إنسان ما صنعه؟ لأنَّه صار إناء لا ينفع. فلا بدَّ من صنع غيره. ثمَّ الربُّ هو "مصوِّر" شعبه و"جابله" (ي ص ر). هنا نتذكَّر الفعلة النبويَّة في إر 18: 1ي: "أنتم بيدي مثل هذا الطين". وأين الرحمة؟ رفض الربُّ أن يرحم. صار الشعب "لامرحومًا" كما قال عنه النبيّ هوشع (1: 6). والربُّ لا "يتحنَّن" بعد. ولكن اللامرحومة، اللامحبوبة، ستصبح فيما بعد محبوبة.

27: 12-13 في ذلك اليوم

وهكذا يأتي يوم فيه يتدخَّل الله. هو لا يحدِّده لكي يترك الرجاء والانتظار في القلوب. يعمل الربُّ عمل الفلاّح: "يخبط" (ح ب ط). أي يضرب الزيتون ليجني الحبّات الباقية. ثمَّ "يلتقط" حبّات القمح وعناقيد العنب، "واحدًا واحدًا". يهمُّه أمر كلِّ واحد ولا يريد أن ينسى أحدًا. يمضي في كلِّ الأرض المعروفة: من مجرى النهر (الفرات). يسير في محاذاته، لأنَّ المنفيّين كانوا هناك في أعمال الزراعة (مز 137). ويصل الربُّ إلى وادي مصر.

وفي ذلك اليوم (آ13) ينفخ بالبوق. لا أيِّ بوق، بل ببوق عظيم ليجمع المنفيّين من الشمال والجنوب، من أشور ومصر: الذين في أشورية هُجِّروا من أرض الربّ، والذين في مصر طُردوا أو هربوا. ما همّ. فكلُّهم يجتمعون على الجبل المقدَّس. على هذه الصورة الحلوة تنتهي رؤيا إشعيا حيث نفهم أنَّ التاريخ هو في يد الله، الذي يوجِّه كلَّ شيء لخير الذين يحبّونه. أمّا الرافضون فيلبثون في الظلمة البرّانيَّة التي اختاروها.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM