الفصل الحادي عشر: داود الجديد وعودة الفردوس

الفصل الحادي عشر

داود الجديد وعودة الفردوس

مع هذا الفصل ينتهي "كتاب عمانوئيل" الذي برز في ثلاث محطّات. الأولى (7: 10-17) حيث "العذراء تحبل وتلد ابنًا وتدعو اسمه عمانوئيل" (آ14). والمحطَّة الثانية (9: 1-6) حين "ولدٌ وُلد لنا، ابن أعطيَ لنا" (آ5). وهنا المحطَّة الثالثة والأخيرة (11: 1-9) تعلن الأزمنة المسيحانيَّة: فرعٌ من نسل داود يوجِّهه روح الله فيقيم مملكة العدالة والسلام، لا على الجبل المقدَّس فقط (آ9)، بل بين الشعوب والأمم (11: 10).

ويتوزَّع الفصل الحادي عشر في ثلاثة مقاطع: داود الجديد، عودة الفردوس، العودة الكبرى.

11: 1-5 داود الجديد

"ويخرج قضيب" (آ1) "ح ط ر" من "جذع يسّى". يسّى هو والد داود (1 صم 16). هو الجذع الذي منه يخرج غصن. هي بداية جديدة بعد الدمار الذي حلَّ بالبلاد حين اجتاح سنحاريب 46 مدينة بقراها وضمَّها إلى ممالك أشدود وعقرون وغزَّة (في فلسطية). كما مضى صموئيل إلى بيت يسّى واختار داود، ها هو الربُّ نفسه يمضي إلى هناك، يعود إلى "الأصول"، إلى الجذور (ش ر ش، في العاميَّة[RK1] : شلوش الشجرة). نستطيع أن نتحدَّث عن "شجرة العيلة" والربُّ أخذ فرعًا أو غصنًا وأنماه لكي يكون الملك العتيد، داود الجديد.

"روح الربّ" (آ2) يحلُّ عليه، كما حلَّ على شاول بشكل موقَّت، ثمَّ على داود (1 صم 16: 13-14) بشكل نهائيّ وصولاً إلى ابن داود. صفات الروح ستّ وهي تقابل الحكمة المشخَّصة في أم 8: 12-14[RK2] . من نال الصفات مارس الوظيفة الملكيَّة ولاسيَّما العدالة. أضاف النصّان اليونانيّ واللاتينيّ صفة سابعة هي "التقوى"، وهكذا كان كلام عن "مواهب الروح السبع" أي ملء مواهبه.

نلاحظ فعل "حلَّ" (ن ح ه). ارتاح، وأراد أن يقيم فيه. أعطاه الفهم فحكم وميَّز، أعطاه القرار فاستشار وتصرَّف بقوَّة (ج ب و ر ه) مثل "جبّار". وأخيرًا أعطاه صفة دينيَّة تجعله يعرف الربَّ ويعيش في مخافته. مثل هذه المخافة تقود إلى المحبَّة.

حين "يخاف الملك الربَّ" (آ3) يعرف كيف يمارس العدالة، لا بحسب الظواهر. هو الفعل العبريّ "ه ر ي ح و": راحته في مخافة الربّ. وهناك صورة ثانية: يتنشَّق (الرائحة في العربيَّة) مخافة الربّ، فإن هي غابت، اختنق. إذا كانت هذه المخافة عطيَّة من الربّ، فالعدالة أيضًا (1: 26)، ذاك ما طلبه سليمان في بداية حكمه (1 مل 3: 9): ش ف ط: أن يقضي، يمارس القضاء. مثل هذا الملك يكون "حاكمًا كاملاً". لا يتوقَّف عند ما يراه، فالنظر يغشّ. ولا عند ما يسمع، فالاتِّهامات الكاذبة عديدة وشهود الزور كثيرون.

من يحتاج إلى العدالة؟ الأغنياء والأقوياء؟ كلاّ. فهم الذين يظلمون الفقراء والضعفاء. لهذا نرى هذا الملك الجديد يهتمُّ "بالأولاد" الذين ليس لهم من يدافع عنهم. يهتمُّ بالبائسين العائشين على هامش المجتمع ولا سلطة في أيديهم. لفظان مهمّان: العدل والإنصاف. حين تمارَس العدالة بهذه الطريقة يعمُّ الازدهارُ البلاد. هذا يعني أنَّه يوقف الظالم عند حدِّه "ويميت" الشرّير (ر ش ع) المنافق. أيمضي الملك مع الأقوياء على الفقراء كما قيل في 8: 2؟

"الإزار" (أ ز و ر) هو لباس الجنديّ الماضي إلى الحرب، والمنطقة التي يعلِّق بها سلاحه. يتكرَّر اللفظ مرَّتين ليقول إنَّ هذا هو السلاح الوحيد: البرّ والأمانة. البرُّ هو الصدق والتصرُّف بحسب وصايا الله، والأمانة تعني الثبات في العدالة، بحيث لا يحكم اليوم عكس ما حكمه البارحة. نتذكَّر هنا أنَّ الملك كان الحاكم والقاضي، فيمكن أن نتصوَّر السلطة التي يملك. في وقت من الأوقات حسبوا نفوسهم "آلهة" كما يقول المزمور 82، ولكنَّ المرتِّل نبَّههم: "لكنَّكم مثل الناس تموتون" (آ7). "حتّى متى تقضون جورًا وترفعون وجوه الأشرار" (آ2) وتكونون بجانبهم "على المساكين واليتامى"؟

11: 6-9 عودة الفردوس

في سفر التكوين نجد صورتين تدلاّن على الفردوس. في الأولى، يبدو "آدم" ملكًا، وأمامه تمرُّ جميع الحيوانات العائشة على الأرض، وطيور السماء (تك 2: 19). هو يسود عليها، وما من واحد يسود على الآخر. فالكتاب سبق وقال: لا تُؤكَل اللحوم، بل الأعشاب (تك 1: 30). ولكن بعد الخطيئة؟ والصورة "الخياليَّة" الثانية نراها في الفلك (تك 7: 1) أو سفينة نوح: كلُّ ما فيه نفسٌ حيَّة أقام مع نوح وما تعدَّى واحدٌ على الآخر. ولكن بعد الطوفان تبدَّل الوضع بحيث إنَّ الإنسان يقتل الإنسان (تك 9: 5). والحيوان أيضًا إن قتل إنسانًا "طالبه" الله.

في هذا الإطار تأتي اللوحة التي يرسمها إشعيا. الوحوش من جهة والحيوانات الداجنة من جهة ثانية: الذئب، النمر، الشبل، الدبَّة (هي أشرس من الدبّ كما يقال)، الأسد، الصلّ، الأفعوان. كلُّ هذه تؤذي الإنسان والحيوان. وتجاه الحيوانات المفترسة، تأتي الضعيفة: الخروف، الجدي، العجل، البقرة... ويُذكر الإنسان الضعيف: الصبيّ، الرضيع، الفطيم. هي البراءة التي لا تحمل سلاحًا. هم الصغار الذين قال لنا عنهم يسوع: ما تعملونه مع إخوتي هؤلاء الصغار معي تفعلونه[RK3] . ونضيف خيرًا أو شرًّا. تحكم بالعدل للضعيف تحكم ليسوع، تجود على الفقير تجود على يسوع.

حلَّ السلام بين الحيوان وما يرمز إليه، والسلام بين الحيوان والإنسان. تلك حالة من السعادة يستعيدها إشعيا في 65: 25: "الذئب والحمل يرعيان معًا، والأسد سيأكل التبن كالبقر. أمّا الحيَّة فالتراب طعامها". والعداوة القديمة مع الحيَّة زالت: "يمدُّ الفطيم يده على جحر الأفعوان".

"لا يسيئون ولا يُفسدون" (آ9). كيف يكون ذلك؟ لأنَّ الملك يبيد جميع الأشرار من الأرض ويقطع من مدينة الربِّ كلَّ فاعلي الإثم" (مز 101: 8). مدينة الربِّ هي أورشليم. و"جبل قدسي" هو جبل الهيكل وما فيه من قداسة. هناك "معرفة الربِّ" لا معرفة الخير والشرّ كما كان في بداية الخلق مع وجود الحيَّة الجهنَّميَّة، وهذه المعرفة تمتدُّ إلى الأرض كلِّها ولا تكون محصورة في مكان من الأماكن. هذا ما يذكِّرنا بكلام إرميا حول "عهد جديد": "أجعل شريعتي في داخلهم وأكتبُها على قلوبهم" (إر 31: 33) عندئذٍ "يعرفونني من صغيرهم إلى كبيرهم" (آ34). أي يتَّحدون بي فيكونون لي شعبًا وأكون لهم إلهًا.

لا شكَّ في أنَّ نقطة الانطلاق كانت حزقيّا وما وُضعت  فيه من آمال. غير أنَّ النظرة واسعة جدًّا بحيث لا يستطيع إنسان، مهما عظم أن يمقتها. فالله وحده يفعل.

11: 10-16 العودة الكبرى

في هذه القصيدة، تُذكَر الشعوب والأمم، كما يكون كلام عن المشتَّتين الذين يجتمعون "من أربعة أطراف الأرض". أمّا ما جعلها هنا فالإشارة إلى "أهل يسّى" الذي استلهم 11: 1، الذي هو راية (ن س) تسير في إثرها الشعوب (آ10). نحن أمام سلالة داود، لا أمام ملك من ملوك يهوذا. هو "الأصل" (ش ر ش)، لا فرع من الأصول، يكون مركز تجمُّع في أورشليم التي تنال المجد العظيم.

"السيِّد يعيد يده ثانية" (آ11). يمدُّها ليفعل كما سبق له وفعل في مسيرة الخروج (10: 26). هو الفادي الذي يدفع الثمن لكي يجمع بقيَّة شعبه. الفعل هو "ق ن ه"، اقتنى، امتلك. صاروا له لا للآلهة الغريبة. خسر الربُّ شعبه، صار لغيره، وها هو يستعيده. ولكن من أين يشتري المشتَّتين من شعبه؟ أشور، مصر، فتروس (صعيد مصر)، كوش (النوبة أو جنوب مصر)، عيلام (الأرض العالية. هي اليوم في إيران مع شوش عاصمتها)، شنعار (أرض بابل)، حماة (على العاصي)، جزائر (أو: جزر) البحر، أي المدن الساحليَّة حيث بيع الكثير من اليهود (يوء 4: 6). الربُّ هو الراعي الذي يجمع قطيعه مهما كلَّفه ذلك من تعب.

ذاق إسرائيل المنفى ويهوذا التشتُّت، فكان التقارب والمصالحة بين الشمال والجنوب وزالت العداوة (هو 2: 2؛ مي 2: 12). لا انقسام بعد اليوم بل اتِّحاد على الأعداء المشتركين. ذاك كان الوضع في زمن داود (2 صم 8: 12)، وهكذا يعود مع داود الجديد.

وهنا تأتي المعجزة المضاعفة، في مصر وفي أشور. في مصر. خليج البحر يصبح جافًّا فيمرُّ المشتَّتون كما مرُّوا مع موسى خلال مسيرة العبور: "فدخل بنو إسرائيل في وسط البحر على اليابسة، والماء سورٌ لهم عن يمينهم وعن يسارهم" (خر 14: 22). وفي أشور، النهر أي نهر الفرات ينقسم إلى سواقٍ سبع. وهكذا يستطيع المنفيّون أن يعبروه، كما عبروا نهر الأردنّ مع يشوع: "وقفت المياهُ المنحدرة من فوق... وعبر الشعب مقابل أريحا" (يش 3: 16)، "على اليابسة" (آ17).

ولكن كيف المسيرة في البرِّيَّة؟ سيكون "مسلك" (م س ل ه) أو: "سكَّة" للعائدين من أشور. وما الذي يؤكِّد لنا ذلك؟ الله الذي فعل في الماضي يفعل الآن. حين صعد الشعب من مصر، كانت الطريق سالكة أمامه نهارًا وليلاً. إمّا بواسطة السحاب اتِّقاء لحرِّ الشمس، وإمّا بواسطة النار من أجل الدفء والنور في الليل. "وكان الربُّ يسير أمامهم نهارًا في عمود سحاب ليهديهم في الطريق، وليلاً في عمود نار ليضيء لهم" (خر 13: 21).

هل يضلُّ الطريق من يهديه الربّ: ل ن ح ن م: ليقودهم إلى الناحية التي فيها ينطلقون. لولا الربُّ القدير، لما "عرفوا أن يسيروا في هذا القفر العظيم" (تث 2: 7). وماذا يشكِّل صحراء سيناء بالنسبة إلى الصحراء السوريّ؟ تارة كان الربُّ في مقدِّمة المسيرة، وطورًا الملاك (خر 23: 23). وفي العودة من المنفى سوف يقول عزرا: "وكانت يد إلهنا علينا، فأنقذنا من العدوِّ والكامن في الطريق" (عز 8: 31).

للوهلة الأولى نحسُّ وكأنَّنا في إطار إشعيا الثاني (ف 40-55) مع العودة من المنفى البابليّ (43: 5-6؛ 25: 14-17؛ 49: 11-13). ولكن لماذا نريد أن نحصر نبوءة إشعيا في حقبة معيَّنة. فتلاميذه أعادوا قراءتها ووسَّعوا معانيها. والمسيحانيَّة التي عرفناها مع "عمانوئيل" تطوَّرت وتكيَّفت مع ظروف جديدة. وفي أيِّ حال بقيَت مؤسَّسة على ثقة بسلالة داود ولا شيء يضعفها. لهذا كان أصل يسّى الذي منه يخرج المخلِّص راية يجمع الله حولها، لا شعبه وحده، بل شعوب الأرض كلِّها.

 


[RK1]أية عامية؟

[RK2]ملاحظة جيدة!

[RK3]الشاهد في العهد الجديد؟

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM